ومن ذلك الحين اختلف طاغور وغاندي في وجهة النظر ومنزع التفكير، وهو خلاف خطير، بل اختلاف فكري بين رجلين عظيمين، لم يجعلا له أي أثر في احترام كل لصاحبه وإعجابه به؛ وإنما ظلا على الرغم منه يتبادلان الإكبار والاحترام؛ اختلاف جوهري كان محتوما أن يفرق بينهما أبد الدهر، افتراق الفيلسوف عن القديس، أو افتراق بولص عن أفلاطون.
شاعر الهند الأكبر رابندرانات طاغور.
لقد كان طاغور ينظر دائما إلى غاندي كقديس أو ولي، ويعده أسمى من تولستوي، وأبهر منه ضياء، ذاهبا إلى أن غاندي صادق الطبيعة، نقي من الشوائب، بسيط للغاية، بعيد من التكلف؛ بينما الأمر عند تولستوي غير ذلك، فإن كل شيء عنده هو الثورة المزهوة المتكبرة ضد الزهو والكبرياء، والكراهية حيال الكراهية، والشدة ضد الشدة؛ أي أن كل شيء عند تولستوي عنيف قوي صارخ، أما غاندي فكل شيء عنده وديع هادئ ساكن رهيب السكينة والجلال.
وقد كانت نية طاغور حين غادر فرنسا عائدا إلى الهند أن يؤيد غاندي صادق التأييد، ويظاهره على أمره بإخلاص، ولكنه بعد ثلاثة أشهر لم يلبث أن أذاع رسالة عنوانها «نداء الحق» كانت هي الإيذان بالفراق بين الزعيمين، وإن كان قد استهلها بأبدع مديح في غاندي وإبراز فضله.
وبقي غاندي أيضا محبا لطاغور لم يتغير عليه، ولم يتنكر له، وإن اختلفا مذهبا وتباينا تفكيرا، وإنك لتشعر من كلمات غاندي أنه لا يحب أن يدخل في جدل أو مهاترة مع طاغور، وكان غاندي إذا رأى بعض الأصدقاء يريد أن يغير قلبه على صاحبه، بترديد أقوال فيه أو ألفاظ صدرت منه، يأمره بالكف عن ذلك ويشرح ما لطاغور من فضل عليه.
ولكن كان الخلاف محتما أن تتسع شقته ويترامى مداه، فمن سنة 1920 وطاغور ينعى على غاندي انصراف فيض حبه وإيمانه العظيم نحو السياسة ولتحقيق أغراضها منذ وفاة «تيلاك»؛ ولا يخفى أن غاندي في الواقع، ومما أسلفنا عليك من أمره، لم يدخل ميدان السياسة متهللا متفتح القلب لدخوله، راضيا مغتبطا بالاشتراك فيه؛ وإنما وجد الهند بعد رحيل «تيلاك» قد خلت من زعيم سياسي، وكان لا بد من أحد يتقدم ليشغل مكانه، ففعل ذلك بالضرورة، وهو يعلم أن السياسة كالحية الكبرى، من تلتف بجسمها عليه فلا فكاك له.
ولكن طاغور كان ينتقد غاندي حتى على قبوله العمل السياسي مكرها مضطرا، وقد كتب في سبتمبر سنة 1920 يقول: «إننا بحاجة إلى كل القوة المعنوية التي يمثلها مهاتما غاندي، والتي لا يستطيع أحد في العالم سواه تمثيلها»، وإنه لمن تعس الهند أو سوء حالها أن كنزا غاليا كهذا يلقى فوق ظهر سفينة ضعيفة واهية كالسياسة لتتعرض أبدا للطمات الأمواج ومتقاذف العواصف ومتدافع التيارات والشهوات؛ بل إن ذلك لنكبة خطيرة في الواقع وحادث جد مؤلم للهند التي يعتقد طاغور أن رسالتها هي «إيقاظ الموتى وبعثهم إلى الحياة من جديد بجذوات النفس وحماسة الروح»، فهو لذلك يأسف أشد الأسف على تبديد هذه الموارد الروحية الزاخرة في مشاكل ومسائل وقضايا ليست لها قيمة إذا هي نظر إليها على ضوء الحقيقة المجردة المطلقة، وهو يرى من الجريمة تحويل القوة الروحية إلى قوة مادية.
وهذا هو ما أحسه طاغور حين بدأ غاندي ينادي إلى «عدم التعاون»، وحين ثارت القلاقل أو أثيرت باسم «الخلافة» وحين وقعت مذابح «البنجاب»؛ لأنه كان يخشى من نتائج هذه الحملة وفعل هذه الدعوة في نفوس الجماهير السريعة البادرة القابلة للالتهاب كهشيم الحصاد والحطب اليابس، وكان يريد ويود لو أن العقول انصرفت عن طلب الانتقام وحب التشفي والعيش على الأحلام والأماني والآمال في خلاص من الظلم هيهات أن يتم، وإنصاف هو بعض المستحيل، إلى نسيان الماضي، والإغضاء عن مظالمه ومساويه، لبذل الجهود كلها في تربية روح جديدة للهند، وإذا كان طاغور قد أعجب بتعاليم غاندي وحمية روحه واستجابته لمبدأ التضحية بالذات، فقد كان يكره العنصر «السلبي » الذي تنطوي عليه فكرة عدم التعاون، بل كان يتراجع وينزوي مستنكرا متأففا مشمئزا من أي شيء يحمل معنى «السلب»، وينطوي على النفي من أية جهة فيه أو ظل له.
وقد بعثه هذا إلى المقابلة بين المبادئ الإيجابية التي تنماز بها ديانة البراهمة التي تقول بقبول مسرات الحياة ومناعمها ولكن بعد تنقيتها وتطهيرها، وبين الروح السلبية التي تحويها «البوذية» التي تقول بإنكارها وقمعها وزجرها والانقطاع الكلي عنها إلى عيش التبتل والتنسك.
وكان جواب غاندي أن الرفض في هذا ضروري كالقبول، والسلب فيه حيوي كالإيجاب، وأن التقدم الإنساني إنما يتم ويقع باجتماعهما واشتراكهما معا، وأن الهند قد فقدت قوة المناداة «بلا» فجاء هو ليرد إليها ما فقدته، وإن استئصال العشب والكلأ هو في وجوبه وضروريته كالحرث والزرع.
Page inconnue