43

Mustafa Nahhas

مصطفى النحاس

Genres

ولا ريب في أن حالة كهذه إذا أصابت زعيما كانت نقمة ووبالا عليه، والواقع أن ذلك مشاهد عند الزعماء الذين وصلوا إلى الزعامة عقب نزاع طويل على بلوغها، ومجالدة عنيفة شاقة في سبيل الصعدة إليها، وقد نسمع هؤلاء في بعض أحاديثهم يقولون: «لقد حاربت لكي أصيب ما قد أصيب، فليخض الآخرون جميعا المخاض ذاته، وليقاسوا ما كنت مقاسيه»، أو «العنف والجهد والدأب تفيدهم وتجدي عليهم»، أو «إذا نحن دللناهم ولايناهم وتسامحنا معهم، أفسدناهم أي إفساد»، وذلك كله ونحوه يحمل عارض «الساديزم» أو الحالة التي نعنيها، حالة القسوة التي يظهر بها بعض الزعماء، والجبروت الذي يجنحون إليه في معاملة الذين يقودونهم، ومسلكهم إزاء الناس وحيال الجماهير.

ولا خفاء في أن هذا المسلك سيئ النتائج وخيم العاقبة، أو عقيم خال من النفع والفائدة؛ لأن القسوة في التدريب، والعنف في المرانة، لا يؤديان ما يؤديه الإشراف الرفيق، والتوجيه الحكيم، والرياضة الطيبة الصالحة.

ومن أسلحة هذا الأسلوب الخطر في عنفه وقسوته وشدة وقعه سلاح «التهكم والسخرية»، وهو سلاح يجد فيه بعض الزعماء السرور والرضى والاغتباط مع أن أثره في نفوس الأتباع والمقودين سيئ للغاية منفر، عامل على الانفضاض والكراهية، وقد رأينا رئيس هيئة كبيرة يدفع إلى أحد مرءوسيه بمهمة لتنفيذها قائلا له: «إليك عملا تستطيع أن تتمه في عشر ساعات، ثم لم يكد الرجل ينصرف من حضرته حتى التفت إلى بعض الجالسين إليه فقال: إن هذا العمل لا يمكن أن ينتهي قبل أربع وعشرين ساعة، ولكن من الخير له أن يحاول محاولة الشياطين ليرى كيف هو صانع ...!»

ويوم يجد الزعيم منتهى الفرح من مشهد آلام الأشياع والأعوان وعذابهم وبلائهم، ولم يعد هو يقاسمهم إياها، أو يشاطرهم نصيبا منها؛ يصبح مركزه في خطر من محتمل ثورة النفوس عليه، وانتقاض الجماعة على زعامته.

ومن المحقق أن كل إنسان نزاع إلى رسم صورة في خاطره للشخصية العظيمة التي يريد احتذاءها، أو يبغي مشابهتها، فإذا ما اختلفت هذه الصورة المتخيلة مع الحقائق التي يراها الناس عيانا، كان هذا الاختلاف خطرا سيئ النتائج، وكلنا - ولا ريب - قد عرف أشخاصا أقزاما منتفخي الأوداج، يعطون أنفسهم أهمية وخطرا أكثر مما لهم؛ لأنهم يتمثلون أنفسهم كنابليون، وقد شوهد هذا في موسوليني وحركاته ومسلكه إزاء أصحابه وأشياعه، وفي متبداه على الجماهير، وخطراته ومشيته بين أسمطة الحشود الحاشدة حول مواكبه.

وكلنا كذلك عرف أناسا يتمثلون أنفسهم «دون جوان»، ويحسبون أنهم «سحرة» النساء وسباءو قلوبهن، وغزاة أفئدتهن، وآخرين يتراءون أو يحبون الظهور على الناس خطباء مفوهين كجوريس أو دي فاليرا أو لويد جورج أو سعد زغلول؛ فلا يكون بينهم وبين هذه الصور التي يبتغون تقليدها غير الغنة ومشابهة الجرس، واستخدام اللوازم، ثم هم بعد ذلك أعجز المقلدين.

ولعل علاج هذه الحالة هو في رياضة النفس على معرفة قيمتها الحقيقية باكتشاف أسباب هذا النقص فيها، ومواجهة الحقائق وإن لم تألم من صدمتها، فإن مواجهتها حقيقة بأن تروض المرء على قبول قيمته، والسكون إلى ما يسرته الطبيعة له في هذه الحياة.

الزعامة والزعماء في النظام الديمقراطي

لا يتيسر لأحد في النظام الديمقراطي؛ أي في البلد الذي يسوده الروح النيابي، ويقوم الأمر فيه على قواعد الدستور، أن يكون زعيما وطنيا، ما لم يكن في الوقت نفسه سياسيا في رياضة العقول واجتذاب القلوب وعظم التأثير في الأذهان.

وهذا الرأي يسترعي النظر إلى ما هو معروف عن النظام النيابي مشاهد فيه، محس بالنسبة إليه، وهو أن الزعيم يواجه في الواقع حائلا عظيما عجيبا في ذاته يقف له في الطريق يمنعه الوصول إلى أوج المكان الذي يطل منه على الجميع، وهذا الحائل هو أن كل فرد يعتبر نفسه صالحا طيبا كفوا كالآخر تماما، وأن الجميع متساوون نظراء أمثال من هذه الناحية، فمن يبغ أن يبلغ الزعامة فيهم يتحتم عليه أن يدلل على أنه أحق بالقيادة من الآخرين.

Page inconnue