وليس لهذه النفسية «المنكمشة» المنزوية من دواء ناجع غير تجديد الإيمان، وتقوية الثقة بالنفس، كما أن النجاح في أول مهمة من شأنه في هذه الحالات أن يأتي بعد ذلك بالعجب، ويبني المرء من جديد، ويخلقه خلقا آخر، ويرفع عنده من اعتداده بنفسه وإيمانه بقواه، فما هو إلا دور تردد ووسواس إذا عولج معالجة صالحة مناسبة، أعقبته أدوار يقين وثقة وإيمان واطمئنان ...
والمراد بتلمس الحجج والمعاذير هو الخيبة في عمل ما، ثم التماس التعليل لعمله، ومحاولة الاعتذار عن فعله، كما هو العجز عن تأديته، ثم الذهاب إلى اصطناع الشفائع عن تركه. وليس من شك في أن هذا النزوع يصبح خطيرا سيئ النتائج إذا هو جعل الشخص يخدع نفسه بأنه قد واجه الحقائق مواجهة صحيحة، في حين أنه في الواقع قد عمي عن خطر معقباتها وبالغ نتائجها، أو قد ترك أسباب حالة ما أو بواعث حادث من الحوادث من حساب اعتذاره، ومحاولة التشفع له، أو إيجاد الحجة لتبريره.
وليس معنى هذا كله سوى أن الفرد إنما يحاول إقناع نفسه بأن ليس على مسلكه من غبار، وأنه على صلات طبيعية بالناس؛ مع أنهم في الوقت ذاته قد يكونون على بينة من أن هناك ولا بد نقصا أو اختلالا أو اضطرابا في صلته بهم.
ونحسب الشواهد على هذا الانتحال للمعاذير غير المنطقية عديدة تتوارد على خاطر كل امرئ منا إذا هو فهم ما نقصد إليه، وأراد التمثيل له والتدليل عليه، فلا حاجة بنا إلى إيراد شيء منها، وإنما تجدر بنا الإشارة إلى النتائج التي تترتب على قيام هذا النزوع في نفوس بعض الزعماء، فمن ذلك أنه يجنح بهم إلى الرغبة دائما في تجاهل الحقائق الخطيرة، والعوامل الهامة عند التفكير في أمر ما، أو محاولة الوصول إلى قرار فيه؛ إذ معنى هذا أن الزعيم المتأثر بهذا النزوع يدرك ما يريد، ويفكر فيما يبتغي، ويتصرف كما يشاء، ثم يروح يستخدم الاعتبارات والبينات الموافقة الملائمة لتأييد ذلك التصرف الشخصي، ويزيد ذلك المسلك بذاته، كما أن هذا النزوع ينمي في نفسه الميل دائما إلى لوم الغير على المحاولات الخائبة التي لا ينبغي أن تكون اللائمة فيها على أحد سواه.
وكثيرا ما رأينا زعماء لا يعنون العناية الواجبة بتحديد مدى التبعات أو المسئوليات التي يخصون بها الذين من دونهم، ويوزعونها على الذين يعملون بإمرتهم؛ لأنهم وجدوا أن ذلك من شأنه أن يدعهم أطلق حرية، وأفسح مدى، وأوسع سبيلا، للإنحاء باللائمة على مرءوسيهم إذا لم يؤد أحدهم المهمة الموكولة إليه على النحو الذي يريدونه، والصورة التي يرتقبونها، ومن ثم قد شهدنا فريقا من الزعماء والقادة والمدبرين لا يميلون إلى تدوين قراراتهم أو مشيئاتهم كتابة؛ لأن ذلك يجعلها محدودة قاطعة واضحة المعالم والحدود غير تاركة سبيلا إلى التأويلات والتعللات التي قد يلجئون فيما بعد إليها تبريرا لتغيير قراراتهم، أو توجيه اللائمة حين الخيبة والإخفاق.
ولا يصعب على الزعيم أن يتوهم أو يوهم أن مجرد المشيئة هي التنفيذ في التقدير والاعتبار، أو معنى ذلك أن يذهب به الظن إلى أن تصريحاته بسبيل سياسته وكلماته الرنانة في إعلان حسن نياته، هي التنفيذ في ذاته والعمل نفسه والإنجاز سواء بسواء، وقد لاحظ الفيلسوف باكون «أن أصحاب السلطان هم بخاصة عرضة للتوهم بأن حسبهم هم التوجيه إلى الغاية دون احتمال تكاليف الوسيلة ومقتضيات الواسطة!»
والمشاهد في كثير من الأحيان أن فريقا من الزعماء في الأحزاب والهيئات الكبيرة قد اعتادوا أن يختفوا خلف أغلاط القادة المنفذين الذين من ورائهم، مدعين أنه بما أن ذلك كان من خطة الحزب أو سياسة الهيئة كما أعلنوها هم وصارحوا بها، فقد كانوا يعتقدون أن ذلك هو الواقع فعلا والحاصل تماما، فإذا ما تقدم الذين تولوا التنفيذ معترضين بأن الخطأ لم يكن من ناحيتهم ولكنه في مبلغ توجيههم؛ قالوا: لقد كان بابنا مفتوحا لكل صاحب فكرة أو متقدم برأي، وكان يجب أن يرجع إليهم قبل الإقدام التماس النصيحة.
والواقع أن الغالب على الزعامة التي من هذا الغرار أن حجتها الدائمة قولها: إننا أعرف من سوانا بما يصح وما لا يصح ونحن أخبر وأدرى، وفي هذه الحالة يغلب على الزعيم أن يكون منصرف الذهن إلى تقدير أصالة رأيه واستقامته وحكمة تفكيره، أكثر منه إلى خير الناس ونفعهم؛ أي أنه في ذلك إنما يعنى أولا بانتحال الشفيع عن الاستبداد بالرأي وإيجاد المعاذير عن تفرده بالسلطان.
ألا إن الزعيم الذي يغلو في تصور مبلغ التأييد الذي يملكه، ويسرف في الاعتقاد بخطر قضيته ومبلغ قيمتها في نفوس أمته، ويحسب النصر منه قريبا حتى ليجده عند أول زاوية وأدنى منعطف؛ هو زعيم لا يستطيع مواجهة الحقائق، وإنما هو في هذا الخيال البعيد خادع مخدوع، كثير الشفائع منحول المعاذير.
وإنما الواجب أن يكون في مجلس المشورة من الزعامة كل العناية والاحتفال في المواقف الدقيقة والمسائل الخطيرة بتدبر الحقائق ومواجهتها بأمانة وإخلاص حتى وإن لاحت كريهة مؤلمة، وبالصراحة والصدق في بحث الأسباب والعلل والأغراض ومحتمل النتائج، بل إن الزعيم العارف المأمون السبيل الحكيم في تصرفه هو الذي يعود إلى الشعب في المواطن العظيمة مستلهما شعوره، ملتمسا مشيئته، باحثا عن اتجاه تفكيره؛ فإن ذلك كفيل بأن يؤمنه العثرة، ويجنبه الزلل، ويسلك به أقوم المسالك، ويعرفه مزاج الناس ومبلغ استجابتهم لزعامته.
Page inconnue