ومن النظريات التي تبدو صحيحة على وجهها ولكن ينبغي ألا تؤخذ بظواهرها فيما يتصل بالزعامة وعامل الوراثة - قولهم إن المثل يولد المثل، والنظير يخلف النظير، فإن النوابغ والعبقريين لا يتحتم دائما أن يولدوا وينتجوا نوابغ وعباقرة مثلهم، بل الواقع المشاهد أنهم أندر ما يفعلون ذلك، وقليلا ما تنحدر منهم أشباههم في هذا الناحية، وقد ينتج الآباء الصغار الشأن ذرية رفيعة نابغة متفوقة، وفي الحق أن كثيرا من عظماء الدنيا ونوابغ العالم كانوا أبناء لآباء أقل منهم شأوا ودونهم مكانة ورفعة، وإذا كان من الخطأ في الحكم أن يقال إن الأفراد الأفذاذ النوابغ لا بد من أن يكونوا نتاج آباء أفذاذ من قبلهم، فإن من الصواب والحق أن يقال مع ذلك إن نسبة كبيرة من النوابغ والمتفوقين كانوا نتاج آباء ممتازين لا من آباء من عرض الجماهير.
ومن النظريات الخاطئة أيضا القول إن ناموس الوراثة هو العامل الأكبر في شئون الناس وبنائهم وخليقتهم، وإنما يصح اتخاذ الوراثة كأحد الاعتبارات في بحث أصل العظيم ومنشأه ومنبته، ولكن لا يصح الغلو في تقدير أثره والاعتماد عليه في البحث والاستقراء كل الاعتماد.
لقد أسرف غالتون في تطبيق نظريته في الوراثة، فلا ينبغي أن نترسم أثره ونغلو غلوه، ولما كان من الأفراد من يولدون وينشئون من الأكواخ، ثم إذا هم يبرزون في الحياة بمقدرة خارقة للمألوف، ومواهب فوق مستوى الناس، كما أن فيهم من ينشئون في القصور، ويتربون في حجور النعماء؛ فمن الخير أن ننظر إلى منابت الزعامة والشخصية البارزة نظرة ديمقراطية، ونعتقد أن النوابغ كثيرا ما ينبتون من العامة وأشخاص الشعب والطبقات الدنيا في الجماعات والأمم والصفوف الخلفية في الحياة. •••
وقد ارتقى الطب الحديث أخيرا من ناحية إدراك علم واسع بأثر الغدد المختلفة في الجسم، وامتد البحث في تأثيرها إلى استقراء مفعولها في إنتاج الزعامة والنبوغ، وذهب العلماء الباحثون إلى أن في الجسم نحو اثنتي عشرة غدة تسمى «الهرمون» أو الغدد المهيجة؛ لأنها تهيج أو تنشط الأجهزة العضوية في البدن، فإذا أحدثت فيه نشاطا خارقا للمألوف، ساعد ذلك على النبوغ والتفوق، وإذا قصرت في إحداثه، أثرت في قوى الفرد ومبلغ نشاطه، كما أن زيادة نشاط الغدد يستتبع زيادة مقدرته على الأحداث وشدة تحمله للمجهود، وتدفع به إلى طريق ضبط النفس وقوة الإرادة والاضطلاع بالأعمال الجسام.
وأشهر هذه الغدد هي الغدة الدرقية، وقد سميت بالدرقية؛ لأنها تشبه الدرقة أو الترس، وإن لها لعاملا غير مباشر - وإن كان خطيرا - في تكوين الزعامة والنبوغ، ويتطلب الجسم مقدارا معينا من إفرازات هذه الغدة ليظل في حالته الطبيعية، فإذا قل أو نقص اضطرب الجسم تبعا لمبلغ القلة ومقدار النقص، وتحطم الزعيم أو النابغة وانهدم كيانه إذا لم يجد لهذا النقص في إفراز هذه الغدة سدادا عاجلا؛ لأنه يجلب الاضطراب العصبي، ويحدث سرعة التأثر والبادرة والهياج والانفعال، كما يفقد قوة الشخصية ويتحيفها ويهدمها هدما، ويعطل ملكة الاتزان التي تعد من صفات الزعامة والنابغين.
ويقرر الطب الحديث أنه لولا الغدة الدرقية، وعملها في الجسم لما كان هناك عمق في التفكير ولا ملكة تقدير الجمال، ولا ذكاء ولا فهم ولا إدراك، بل لا شيء مما تمتاز به النفس الحساسة أو الذهن الذكي الأصمع السريع الشعور.
وهناك غدة صغيرة تتصل بالغدة الدرقية، ومن وظيفتها إمداد الدم والخلايا بالمقادير الضرورية للجسم من الجير، فإذا قل الجير عن تلك المقادير حدث الاضطراب العصبي، وغلبت على الشخص سرعة التهيج والانفعال، ولا خفاء في أن هذه الأعراض والحالات لا تتفق مع صفات الزعامة ومطالبها الأساسية.
وفي الجسم كذلك غدد تسمى الغدد النخامية، وهي مستقرة في قاعدة المخ، وإلى عملها ينسب كثير من المزايا والصفات كقوة الإصرار وشدة العزم، وهما صفتان تبرزان في النوابغ والزعماء، ولإفراز هذه الغدد - وهو البلغم - تأثير مقو منشط لسائر أجزاء البدن كله وكافة أعضائه، ولا شك في أن لجوار هذه الغدد للمخ صلة بالنشاط العقلي ووفرته أو نقصه تبعا لمقدار إفرازها.
وإذا ما قل ذلك أفقد الفرد قوة ضبط النفس، وأحدث لديه نزوعا إلى الكذب والسرقة والإجرام؛ لأن للإفرازات النخامية أو البلغمية عاملا كبيرا في فضيلة الثبات وقوة الشخصية وغيرها من مزايا الزعامة وخواصها المتعددة.
وتعمل الغدد الأدرينالية القائمة فوق الكلية، بما تفرزه من الأدرينالين أو الكنظر، عملا مباشرا في إحداث النشاط والزعامة والنبوغ؛ لأن مادة الأدرينالين في أوقات الخطر، والحاجة إلى مزيد من المجهود، والحمل على النفس بالعمل الملح والدأب المتواصل، تزيد في مقدار السكر الذي يسري في الدم فتنشط الكريات الحمر، وتزيد حركة التنفس وعمل القلب؛ ولذلك يعطي الأدرينالين للمرضى كمنبه قوي في حالات الإغماء والغشية وضعف القلب وخفوت حركته.
Page inconnue