وفي حياة سعد زغلول ومصطفى النحاس يتمثل هذا بكل جلاله، ويبرز بكل قوته، فقد توافرت في زعامتهما العناصر المناسبة لتكوين الزعامات تلبية لمقتضى العصر وحاجة الجيل ومطالب التوجيه، بل كانت السفينة بحاجة إلى الربان، فاهتدت إلى القبطان ...!
وليس من ريب في أن هناك أمثلة لزعماء متعددي الشكول والصنوف والألوان، ولكن الواقع المشاهد أن كل زعيم هو نتيجة اجتماع ظروف الزمن، ومهيئات الموضع، والمزايا النادرة فيه، والخواص الرائعة التي تصطفيه الجماهير من أجلها وتجتبيه، وليست واحدة من هذه جميعا كافية بمفردها لقيام الزعامة، ولا وجودها كفيلا بإظهارها، وإنما لا بد من التلازم فيها جميعا والاقتران.
الزعيم الخالد سعد زغلول.
وهذا من شأنه أن يجعل الزعيم مولى للشعب، وعلى عهد الجماعة الحريص الأمين، والمرشد الذي يهديهم إلى تأدية الغرض المطلوب، وبلوغ الهدف المقصود.
ومتى اجتمعت في الزعيم قوة الشخصية بقوة النفس الجياشة المتحفزة المعلنة عن ذاتها بسحرها الخفي وجلالها الباده، مع توافر قوة العزم لديه وصلابة التصميم على تأدية الرسالة التي يؤمن بها كل الإيمان، والمجاهدة في سبيل مثل عال يعتنقه أصدق الاعتناق؛ فإنه في الساعة المنتظرة واللحظة الواجبة ليقفز إلى الموضع الخليق به، والمكان المعد له في لوح الأقدار، وسياق الحوادث، ودورة الزمان.
ولكن ينبغي أن نفصل هذا الطراز من الزعماء المفرغين في قوالب البطولة النفسية عن طراز النابليونيين والطغاة والعسفة والجبابرة، أو معاشر الذين استبدت الأثرة بهم، وإن أبرزوا وجوها عديدة من الزعامة، ولكنهم تراموا على إجابة السلطان بالعدوان أو استضعاف الجماهير، والبغي على الجماعات، وانتهاز الفرص، واقتناص السوانح؛ غير أن أكثر هؤلاء - إن لم نقل كلهم - انتهوا إلى فشل ساحق وخاتمة سيئة.
وقد يريد هؤلاء الخير في بداية أمرهم، ويتوخون الصالح العام، ولكن شهوة السلطان وظمأهم إلى الطاعة عند الجماهير، ومخافة ضياع الأمر من أيديهم، تنتهي بهم حتما إلى الأثرة التي دفعت بهم، فيأبون إلا الحرص على السلطان والاحتفاظ بالنفوذ مهما كلفهم ذلك من ثمن، واقتضاهم من تكاليف جسام.
موسوليني - زعيم إيطاليا.
ولا تلبث الجماعة في النهاية أن تسائل نفسها: هل نحن حقا نستمد من هذا البطل القوة الدافعة والخدمة الجليلة التي كنا ننتظرها، والمجد القومي الذي كنا نحلم به؟ وهل هو حقا يخدم غرضنا ومصلحتنا، ولا يخدم أغراضه هو ومصالحه، ويشبع شهوته، ويرضي ذاته على حسابنا؟ وأكثر ما يكون الجواب العملي على هذه النجوى المخافتة قيام الجماهير على هذا الطاغية وإسقاطه من أوج مكانته بعد زوال الحلم الجميل الذي رفعه مكانا عليا.
ومهما تكن الدوافع التي تحفز الجماعات إلى المسير وراء هذا النوع من الزعامة الأثرة الغاشمة، فإن الحركات التي تنشأ منها وتبدو في بعض الأحيان بظاهر من الخير وأغشية من الإحسان، إنما هي هزات وقتية لا تلبث أن تزول فتستيقظ الجماعات من سكرتها على حقيقة مؤلمة، وتعاود سيرتها الأولى، فلا تسلم زمامها إلا في حدود مشيئتها ومطلق رضاها؛ ليكون الزعيم الذي ترتضيه هو رمز أمانيها والفرد الذي تتمثل فيه إرادة الجميع.
Page inconnue