فأما بعض الناس فإنما تكون تقدمة معرفته بالأشياء بالتجربة فيدفع عن نفسه مكروه ما تقدمت معرفته له وهم العامة وبعضهم تكون تقدمة معرفته بالأشياء بانتقال الأزمنة وحالات الطبائع فيتقدم في دفع المكاره بما تقدمت له معرفته وهم الأطباء وأما بعضهم فإن تقدمة معرفته تكون بقوة أفاعيل الكواكب في هذا العالم فيتقدم في دفع المكاره على قدر ما تقدم من معرفته به وهم المنجمون فأما الذين تكون تقدمة معرفتهم بالتجربة فكالعامة فإنها لما تقدم علمها بالتجربة بوقت الحر أو بوقت البرد تقدمت هي أيضا في التوقي والاحتراس منهما قبل هجومهما عليهم فأعدت للحر التبريد والمواضع الباردة وللبرد التسخين والمواضع الكنينة والأشياء الحارة ليدفع أذاهما عنهم بما يعدون لهما من ذلك وقد يرون في بعض الأوقات في السماء غيما مخيلا للمطر على قدر ما جر بوا وهم في السفر أو في الحضر فيتقدمون قبل مجيء المطر إلى المواضع التي تكنهم من المطر عند مجيئه أو يتقدمون في حمل لباس يكنهم من المطر عند كونه وإذا تقدم علم الإنسان أن عدوه يريد الهجوم عليه تقدم قبل ذلك الوقت في الاستعداد له بما يدفع عنه شر ذلك العدو عند هجومه عليه
فكل العامة لم يدفع ذات الشيء وحدوثه ولكنها حين عرفت بالتجربة على طول الأيام أو علمت ببعض الأسباب أوقات الأشياء التي تؤذيهم تحرزوا منها بما دفعوا به أذاها عن أنفسهم حتى لم ينلهم مكروهها لأن الذي علم أنه يكون الحر أو البرد أو المطر في وقت كذا وكذا فتحرز بالتقدم فيما يدفع مكروهه عنه قبل هجومه عليه فهو لم يدفع كون الحر ولا كون البرد ولا مجيء المطر ولكنه لما تقدمت معرفته به وبأوقاته بالتجربة احتال لدفع مكروهة ذلك الشيء عن نفسه فهذا وكثير مثله من هذا الجنس الذي يتقدم فيه معرفة العامة بالتجربة وقد يستعدون له قبل حدوثه وهجومه وقد يستعمل تقدمة المعرفة بالتجارب جميع الصناع في صناعتهم كأصحاب الزروع والغروس والرعاء والنساء القوابل ويتقدمون في التحرز من المكاره الذي يتخوفونها قبل هجومها عليهم
Page 152