انتهى هذا الفصل وما بعده وأحسنت الصدفة أن جعلتني أرجع وصاحباي معا كما أتينا معا.
29 أغسطس
قضيت النهار مع ب. في فانسن، وهي ضاحية تقع على بعد خمسين دقيقة في الترام من باريس، وقد أخذنا ترامنا من عند اللوفر.
نزلناها ونحن أجهل ما يكون بها، وبعد شيء من التردد فيما نريد أن نعمل سألنا بعض أهلها عن غريب ما فيها، فأوحى إلينا بأن ندخل إلى كنيستها، لكنا لم نكد نعبر بابا كبيرا يبين منه ميدان فسيح حتى سألنا الحارس عما لو كان عندنا تصريح بالدخول. تصريح بالدخول! لا.
فدلنا بلطف على غرفة رئيسه الذي أعطانا إذن المرور بعد أن أخذ أسماءنا وعنواننا على أوراقه، خرجنا من عنده فذهبنا إلى «الدنجن». «الدنجن» هو الحصن الذي كان يسجن فيه المجرمون السياسيون في عصر الملوك، بناء شامخ عالي البناء، دخلناه وارتقينا جوفه درجا حلزونيا عنيفا في الصعود عليه، وما زلنا به حتى وصلنا إلى الدور الثالث من الحصن، هنا قابلنا عاملا تفرجنا معه على ما في هذا الدور، أبنية معشقة أحجارها متين صنعها غاية في الإحكام وغرف ضيقة تشعر بالرهبة والمهابة، فإذا نطق محدث بكلمة سمعت دويها في المكان ورنين صداها بين جدرانه وكأنك تلمسها خارجة من نوافذه الضيقة التي تطل على ما حولها من الأبنية، وفي بعض تلك الغرف من البنادق شيء كثير.
صعدنا بعد ذلك حتى وصلنا أعلى البناء ونظرنا إلى ما حولنا فإذا البيوت بسقوفها المحدبة قد خضعت كلها صاغرة إلى جانب ذلك الحصن الرهيب، وكأنها في صمتها أمام الناظر من علويته هامدة ساكنة بالرغم مما في جوفها من الحركة الدائمة، والأشجار بورقها الأخضر توحي للناظر إليها وتهزها الريح قليلا بعض الأحيان، ويلمع عليها شعاع الشمس المحروقة في تلك الساعة من النهار، فإذا أنت مددت النظر إلى ما بعد ذلك راقتك المناظر المختلطة المختلفة المتعددة، فضاء من الأرض مسطوح وسقف عال آخر خاضع إلى جانبه على مرمى النظر، وقد التف في ثوب من الضباب، وصعد يطلب في الجو عنان السماء، ترى برج أيفل وكأنه يحدث الأباعد والأقربين بما يتناجى به سكان السماوات في عليين ... هو دائما حاضر هذا البرج الهائل، فحيث تكون تلمحه على الأبعاد الشاسعة يناديك ها أنا ذا أقامتني يد الإنسان لأكون موضع الجلال أمام عين الإنسان، وعلى مقربة منه تظهر قمة قبر نابليون وكأنها تنم عما تحتها من رفات ذات الرجل.
أخيرا هبطنا من ذلك المرتفع ووصلنا الأرض ولما نكد.
ثم أردنا أن نذهب إلى الكنيسة فصحبتنا خادمة الباب بمفاتيحها وأدخلتنا المعبد الصغير وجعلت تشرح لنا عما فيه، معبد جميل أقيم في القرن الخامس عشر بعد أن أقيمت الدنجن في القرن الثالث عشر، أجمل ما فيه مدخله والزجاج الملون الذي في نوافذه.
انتقلنا بعد ذلك من بين الحصن والمعبد والأبنية المختلفة الأخرى إلى غابة فانسن، وسرنا بين أشجارها الباسقة تظلنا أوراق الكثيرة التي لم تدع للشمس إلا قدر ما تنفذ أشعتها مجزأة لا تخافها العين ولا يخشاها محرور، وعلى العشب الناضر يجلس الكثيرون ممن يستعيضون اليوم راحة عن كد الأسبوع، وقل أن نجد إلا رجلا وامرأة أو جماعة من الجنسين معا، وكأنهم يرون أن رجوعهم إلى الغابات حيث الطبيعة لا تزال كما هى سليمة لم تمسها يد يدعوهم إلى أن يستكمل كل رجل نفسه بالمرأة التي أعدت الطبيعة لتقوم بهذه الوظيفة.
جلسنا في هذه الجنة اليانعة حتى تبدت الشمس هناك عند المغرب وتوجت هامات الشجر البعيد بنورها، ثم قمنا نتسلل بين هذه الجذوع القائمة فوق بساط العشب ونترك وراءنا رويدا رويدا الطبيعة البكر وبعض المتخلفين من الأزواج (couples)
Page inconnue