الأولمبيا وما على شاكلتها من أماكن السرور هي ما يسميه الفرنساويون والإنجليز معا
Music Halls .
مكان فسيح جدا ويكاد يغص بالناس، ويظهر على وجوه الكثيرين أنهم أجانب، وبالرغم من أننا في الدور الأول أي بعيدين عن ضجة الواقفين في الممشى، ومن أن المرسح ممتلئ بالفتيات لبسن ثيابهن البيضاء القصيرة، ويتداخلن بشكل جميل كأنهن عصافير الجنة، ومن أن الموسيقى تسري بنغماتها الشجية المتباطئة فيتملئ بها الجو الممتلئ بالدخان والزفير، بالرغم من ذلك كله ومن تحديق الناس عيونهم إلى جهة الراقصات يرقبن حركات أرجلهن الغريبة وأيديهن المشيرة كل لحظة في ناحية، وإلى مجموعهن يموج به المرسح في حركة منتظمة لذيذة، فلم ين صاحباي عن التغامز والضحك من غير سبب أعرفه.
أخيرا سألاني حين انتهى الفصل ونزل الستار: هل سترجع إلى الدار وحدك؟ - لماذا؟ وهلا سنرجع جميعا معا كما جئنا معا - كأنك لا تفهمنا، فليس هذا ما نقصد. - أما أنا فراجع وحدي وقد يحزنني أن لا أكون معكما. - ربما لا يحزنك أن لا تكون معنا وحدنا، ولنا أمل أن ننال السرور بأن تكون في جمعيتنا.
كنا في هذه اللحظة نتدرك السلم إلى صحن المكان، ولم نكد نسير خطوتين حتى قابلنا مجيء الناس وذهابهم في كل جهة وإلى كل ناحية، فوقفنا نحن ووضع أحد صديقي يديه في جيبي ردائه، وجعلنا ندير بصرنا ويبدي كل محلوظاته، وشغلني عن الحديث منظر جماعة من الشبان ومعهم ثلاث فتيات وهم يضحكون جميعا ضحك الجنون، فلما رجعت طرفي إذا صاحباي يبتسمان وإذا على مقربة منا فتاتان واقفتان تتغامزان، ثم لتجرا حديثا بيننا وبينهما، قالت إحداهما لصاحبتها: أي لغة يتكلم هؤلاء ... أليست غريبة بل مضحكة؟
فابتسم لها صديقي الذي لم يضع يديه في جيوبه وأجاب: قد أفهم يا ستي أنها غريبة، ولكن ما سبب أنها مضحكة؟ وبهذا اتصل حديث طويل باهت.
هاته التي سألت تبلغ ما بين خمس وثلاثين وأربعين سنة، وهي طويلة عريضة تشغل حيزا عظيما من الفراغ، وثوبها (الدكلتية) ينم عن صدر ضخم وعن أصلي ثدييها البائن انهدالهما، بالرغم من أن حزامها العالي يرفعهما لشديد ارتفاعهما كأنهما هضبة من اللحم - البارد لا شك - كذلك ينم أسفل ثوبها كله عن كتلة قليلة النظام، ولكن خديها الممتلئين المتقن دهانهما وعينيها الزرقاوين يداريان بقية شكلها بعض الشيء.
وبعد قليل ابتدأت الموسيقى من جديد، تصدح هذه المرة بدقات قوية تهز القلب والجوانح، فتسلل الناس مسرعين إلى أماكنهم ورفعت الستار عن أحد قصور الجنان، قصر فخيم تحيط به النعمة من كل جانب.
كانوا يمثلون حياة سلطانة شرقية في ديوانها، وقد قام من حولها الجواري لابسات أقمصة سائبة من الحرير الأبيض، وهن جميعا يحكين في حركاتهن المتباطئة تلك الحياة المكسال التي يتصور الغربي عن الشرقي، وما أسرع ما انقلبت دقات الموسيقى من جديد فأخذت هي الأخرى تترنم في نغمات ساكنة متشابهة تلائم حركات الجواري الجميلات وتكاسهلن.
واجتمع حول السلطانة من دواعي الترف الخامل ما لا يحرص على أقل حركة، ومن حين لحين تبدو عليها علائم التناؤم.
Page inconnue