وخرف جورج الثالث في آخر أيامه، ولكن أيامه كانت أيام عز ونصر للإنكليز، ولولا ضياع الولايات المتحدة لعدت مدته أحسن المدات في تاريخ هذه الأمة العظيمة، وكانت نتيجة الانتصارات العديدة أن نفوذ إنكلترا اتسع وامتد وأملاكها زادت ومالها كثر وتجارتها فاقت الحدود حتى إذا ولي الملك جورج الرابع سنة 1820 كانت الدولة الإنكليزية في طليعة دول الأرض قوة واقتدارا وثروة وعلما ولم تزل على هذا إلى يومنا الحاضر. ومن أعظم الحوادث التاريخية في ملك جورج الثالث اتحاد أرلاندا مع إنكلترا واسكوتلاندا وصيرورة الكل مملكة واحدة تعرف باسم بريطانيا العظمى وأرلاندا في سنة 1801، وكانت أرلاندا إلى ذلك الحين خاضعة لإنكلترا تدير شئونها الداخلية على حدة فصارت جزءا من أجزاء المملكة الإنكليزية من ذلك الحين.
وكان جورج الرابع فاتر الهمة فلم يحدث في أيامه ما يستحق الذكر؛ لأن الدولة استراحت من الحروب وترقت في المعارف والصنائع وتوسعت في الامتلاك والاستعمار توسعا هائلا حتى صارت أكبر دول الأرض وأوسعها نفوذا وملكا. ومات جورج الرابع فخلفه وليم الرابع ملكا على بريطانيا العظمى فحكم سبع سنين وتوفي بلا عقب، وكانت وفاته بعد نصف الليل في قصر وستمنستر فاضطر رئيس أساقفة كانتربري أن يذهب في الحال حسب الأصول القديمة ليبلغ البرنسيس فكتوريا صيرورتها ملكة البلاد، ولما قامت الملكة من سريرها وعرفت الخبر بكت حزنا على عمها ثم سألت رئيس الأساقفة أن يصلي معها بطلب العون من الله فركع الاثنان وصليا، وكانت فكتوريا يومئذ في الثامنة عشرة من عمرها، وهي بنت الديوك أوف كنت شقيق وليم الرابع، وأمها من أميرات ألمانيا هي شقيقة ليوبولد الأول ملك البلجيك، عنيت بتربية فتاتها على أشرف المبادئ حتى إذا رقيت عرش إنكلترا كانت كل خصالها ممدوحة وفرحت بها الأمة فرحا كبيرا.
ملكة الإنكليز في صباها.
ولا حاجة إلى الإسهاب في تاريخ الملكة فكتوريا؛ فإن معظم حوادثه لم يبرح من أذهان الناس، ولكننا نقول إنها ولدت في 24 مايو سنة 1819 وهو يوم عيد السلطنة الإنكليزية، تحتفل به هذه الأمة في ممالكها ومستعمراتها كل سنة احتفالا عظيما، وصعدت العرش في شهر يونيو من سنة 1837، وكان تتويجها في تلك السنة من حوادث التاريخ الحديث التي تذكر إلى آخر الزمان، وقد اقترنت بابن عمها البرنس ألبرت صاحب إمارتي ساكس كوبرج وغوثا في ألمانيا سنة 1840، فعاشت معه 21 سنة رزقت في خلالها عدة بنات وبنين، فلما مات سنة 1861 حزنت عليه حزنا مفرطا تضرب به الأمثال وظلت على رثائه إلى آخر عمرها الطويل، وقد زوجت بنتها الكبيرة لإمبراطور ألمانيا السابق وابنها الثاني لعمة قيصر روسيا الحالي، واقترن بناتها وأولادها الآخرون ورزقوا الأولاد فأصبحت علاقات القربى رابطة لإنكلترا بمعظم دول أوروبا في أيامها، وحدث على عهدها من الحروب شيء كثير، من ذلك حرب القرم سنة 1854 اشتركت إنكلترا فيها مع دول أخرى لمحاربة روسيا وحرب ثورة الهند الكبرى سنة 1857 وحروب في الهند وإيران وأفغانستان والصين وأفريقيا الجنوبية والوسطى ومصر والسودان والحبشة وغيرها، انتهت كلها بفوز الأمة الإنكليزية واتساع سلطانها حتى قيل إن الشمس لم تغرب عن أملاك فكتوريا، وبلغ عدد الخاضعين لرايتها نحو 400 مليون نفس أو هم ربع سكان الأرض، ومساحة هذه السلطنة لا تقل عن 11 مليون ميل مربع، فهي أعظم السلطنات الحديثة والقديمة على الإطلاق.
ألبرت زوج ملكة الإنكليز.
ونمت إنكلترا في قواتها البرية والبحرية وفي متاجرها وصنائعها نماء عجيبا مدة حكم الملكة فكتوريا، وتحسن حال عمالها وفقرائها بما سن من النظامات المتوالية، وضمت الهند على عهدها إلى أملاك السلطنة وكانت قبلا ملك إحدى الشركات التجارية فلقبت على إثر ذلك بإمبراطورة الهند، وكانت حياة الملكة في داخل قصورها وأعمالها بين الناس مثال العفة والكمال والشرف والوطنية وحب الإنسانية فتعلق الناس على حبها تعلقا لا نظير له في تاريخ إنكلترا، حتى إنهم أقاموا الحفلات الكبرى سنة 1887؛ أي عام بلوغها سنة الخمسين من حكمها، وهو عام اليوبيل الذهبي، وأم لندن يومئذ ملوك وأمراء ونواب أمم ووفود لا تعد، ثم بلغت السنة الستين من حكمها بعد 10 سنوات، فأقاموا يوبيلا آخر أهم من السابق وأكبر، وظلوا في حفلاته الباهرة عدة أيام، وقد عمرت هذه الملكة ورأت من باذخ العز وآيات النصر وباهرات الحظ وإكرام الأنام ما لم ير الأولون والآخرون، وماتت في 22 يناير سنة 1901 بداء الانحلال الطبيعي فلبست أوروبا كلها الحداد عليها وأثرت وفاتها في الإنكليز تأثيرا شديدا، وخلفها في الملك جلالة نجلها الأكبر، وهو إدورد السابع ملك إنكلترا وإمبراطور الهند الحالي.
ولد في 9 نوفمبر من سنة 1841 ولا حاجة إلى القول إنه ربي أحسن تربية وشب على أشرف المبادئ، واقترن يوم 10 مارس من سنة 1863 بكريمة ملك الدنمارك السابق، وهي الملكة ألكساندرا صاحبة الشهرة الذائعة بالمحاسن وآيات الكمال الباهر، ورزق ثلاثة أولاد وثلاث بنات، فمات اثنان من الأولاد وما بقي غير ولي العهد الحالي، وهو الآن في الثالثة والأربعين من عمره، وله بنت وأربعة أولاد ذكور، وأما بنات الملك فكلهن في قيد الحياة، إحداهن زوجة الديوك أوف فيف من سراة إنكلترا والثانية بلا زواج والثالثة قرينة ملك نروج الحالي.
ارتقى الملك إدورد عرش أجداده في 22 يناير سنة 1901، وكان ذلك في خلال حرب البويز المشهورة، وقد حدث على عهده انقلاب في سياسة أوروبا تم أكثره بسعيه لصالح دولته، واشتهر من حوادث ملكه في الأوائل حادثة التتويج، أفردنا لها فصلا هنا نظرا إلى أهميتها وغرابة أدوارها وما في وصف مشاهدها من الفائدة للقارئين.
حادثة التتويج
لما رقى جلالة الملك إدورد السابع عرش إنكلترا عين يوم 26 يونيو من سنة ارتقائه موعدا لتتويجه، ودعا الملوك والأمراء ووفود الأمم لحضور حفلات التتويج المذكور من سائر الأقطار، وكان الوفد من قبل مصر يومئذ دولة البرنس محمد علي باشا نائبا عن سمو أخيه الخديوي وعطوفة مصطفى باشا فهمي رئيس الوزارة السابق نائبا عن الحكومة المصرية، وبدأت الألوف تتوارد على لندن من كل صوب والناس تستعد للتتويج وتنفق على الزينات، ولكن الأخبار جعلت تتوالى من 20 يونيو المذكور بأن جلالة الملك في حاجة إلى النزهة واستبدال الهواء، وكان جلالته ملازما لغرفته، خرج مرة في عربة مقفلة والناس يتلقون هذه الأخبار ولا يفقهون لها معنى حتى أعلن رسميا أن صحة الملك تستدعي عملية جراحية، وأنه لا بد من تأخير موعد التتويج إلى ما شاء الله، فكان لهذا الخبر دوي عظيم في أنحاء الأرض وخصوصا مدينة لندن؛ حيث أنفقت الأموال الطائلة في إعداد الأماكن اللازمة لرؤية موكب التتويج، هذا غير المنصات والمواضع التي أعدت للفرجة وبيع منها ألوف دفعت أجرها مقدما، على أن ذلك كله لم يحدث تأثيرا سيئا بل زاد القوم تعلقا بالملك، فكانوا يتهافتون لقراءة النشرة اليومية عن صحته في الصباح وفي المساء. ولما تم الشفاء للملك بعد هذه الحادثة المؤلمة عين يوم 30 يونيو سنة 1902 موعدا لتتويجه في كنيسة وستمنستر القديمة حيث يتوج الملوك القدماء فتم ذلك على النسق الآتي:
Page inconnue