المقدمة
النمسا
ألمانيا
الدنمارك
أسوج ونروج
فنلاندا
روسيا
الدولة العلية
سويسرا
هولاندا
Page inconnue
البلجيك
فرنسا
البورتوغال
إسبانيا
طريق إنكلترا
إنكلترا
إيطاليا
البابوية
الولايات المتحدة
معرض باريس العام
Page inconnue
الجزائر
تونس
مالطة
سورية ولبنان
بلاد اليونان
رومانيا
السرب
بلغاريا
المقدمة
النمسا
Page inconnue
ألمانيا
الدنمارك
أسوج ونروج
فنلاندا
روسيا
الدولة العلية
سويسرا
هولاندا
البلجيك
فرنسا
Page inconnue
البورتوغال
إسبانيا
طريق إنكلترا
إنكلترا
إيطاليا
البابوية
الولايات المتحدة
معرض باريس العام
الجزائر
تونس
Page inconnue
مالطة
سورية ولبنان
بلاد اليونان
رومانيا
السرب
بلغاريا
مشاهد الممالك
مشاهد الممالك
تأليف
إدوار إلياس
Page inconnue
عباس الثاني خديوي مصر.
المقدمة
من عادات الغربيين الحميدة أن سياحهم وسائحاتهم لا يقتصرون على اللهو والنزهة في رحلاتهم، بل إنهم يضيفون الفائدة العلمية والتاريخية إلى ذلك. ولهذه الفائدة لذة خاصة بها لا يدركها إلا من نالها؛ فهي لا تقل عن لذة التنزه وتسريح النظر في طلاوة الجديد. وهؤلاء ضيوف مصر من الإفرنج نراهم بين ظهرانينا في شتاء كل سنة، الواحد منهم لا يكاد يخرج من فندقه إلا متأبطا كتاب دليل مصر يستطلع منه شأن ما يزوره من آثار ومعالم هذه الديار كالأهرام وأبي الهول والقلعة وبعض المساجد الأثرية وسواها. وقد يسترسل في البحث والسؤال والتنقيب بحيث يرجع من زيارته مزودا من المعلومات عن نفائسنا ومفاخرنا وهو لم يستغرق من الزمان إلا أياما معدودة. مع أن الشرقيين قد يشبون ويشيبون في بلادهم وهم لا يعرفون عنها شيئا يستحق الذكر، وإن ذهبوا إلى البلاد الأجنبية فلا يقرنون النزهة بطلب الفائدة.
وقد التفت الغربيون ولا سيما الإنكليز والألمان إلى رغبة مواطنيهم الشديدة فيما ذكرنا من فوائد السياحات؛ فوضعوا كتاب دليل لكل قطر على حدته يكشف الحجاب عن معظم محتوياته؛ فراجت هذه الكتب عند القوم أيما رواج وألفوها فهم لا يستغنون عنها في رحلاتهم، وربما افتقدها أحدهم ساعة السفر قبل أن يفتقد كيس دراهمه وحقبة ثيابه.
وقد دفعتني الغيرة الوطنية إلى الضرب على هذا المنوال؛ فألفت منذ سنوات كتاب «مشاهد أوروبا وأميركا» على إثر رحلات لي ودونت فيه الشيء الكثير من الحقائق والخواطر. وبعد أن نفدت الطبعة الأولى من كتابي المذكور عزمت على إعادة طبعه مع زيادات في أصله وإضافة أشياء كثيرة عن الممالك والأقاليم التي لم تذكر فيه، ومعظمها يتعلق بالحوادث الكبيرة التي جرت بعد طبعه أول مرة؛ مثل وفاة الملكة فكتوريا وإفضاء العرش إلى ولدها الملك إدورد السابع، وتتويج ملك إسبانيا، ووفاة البابا لاون الثالث عشر وخلافة البابا بيوس العاشر له، والرسوم والتقاليد التي أجريت عند الوفاة والتنصيب، وانفصال نورويج عن السويد، ووفاة ملك الدنمارك وتتويج ولده، وزواج ملك إسبانيا، ووفاة ملك السويد وتتويج ولده، إلى غير ذلك من الحوادث المهمة التي اشتملت عليها الطبعة الأولى من الكتاب.
ثم عزمت على سياحات أخرى فزرت معرض باريس الأخير ومدينة فيشي المشهورة بمياهها والجبل الأبيض وبلاد المغرب - أي الجزائر ومراكش وتونس - وطرابلس الغرب، ووصفت أهم مدنها وصفا واضحا جليا، وكتبت مقدمة تاريخية لبلاد المغرب أتيت فيها على ذكر الدول التي تعاقبت على البلاد من الفينيقيين فالرومانيين فالفندال فالروم فالعرب فالأتراك، مع إيراد الأسباب لقيام وسقوط كل دولة. ثم بسطت الكلام في دخول الفرنسويين بلاد الجزائر ومحاربتهم للأمير عبد القادر مدة تزيد عن عشرين سنة. ثم عرجت على مالطة فوصفت تاريخها من أيام احتلها فرسان مار يوحنا بعد أن طردهم السلطان محمود الثاني سنة 1522 من رودس، ومحاربتهم فيها للعرب والأتراك والفرنسويين وأسباب احتلال الإنكليز لها.
وبعد انتهاء رحلتي في المغرب سافرت إلى بلاد اليونان فذكرتها وجبل لبنان فوصفت سلسلة جباله وعلوها، وذكرت أنهاره في منابعها ومصابها وطولها وتعداده ومذاهبه ومساحته وحكومته ومصايفه التي يؤمها كثيرون من القطر المصري. وتطرقت من ذلك إلى وصف مدن بيروت ودمشق وبعلبك وحمص وحماة وحلب، وفي العام الماضي قصدت بلاد البلقان فزرت رومانيا وسربيا وبلغاريا وذكرت أهم مشتملاتها، وجعلت لكل منها مقدمة تاريخية ترتقي إلى القرن الرابع للمسيح، وصدرت الكلام عن كل قطر بخلاصة تاريخية؛ حتى يقف القارئ على ما مضى ويدرك كثيرا مما يلي ذكره في وصف المشاهد والمعارض والآثار. وحليته بستين رسما جميلا لأعاظم الرجال والمشاهد؛ لكي تستعين البصيرة بالبصر في استيعاب المبنى وتصور المعنى. ولقد تحاشيت في عبارة الكتاب الإسهاب الممل والإيجاز المخل، فلم أدون في فصوله إلا الذي شهدته بعيني في خمس سياحات طويلة؛ حتى إني ضربت صفحا عن ذكر كثير من المشاهد المهمة لأني لم أرها رأي العين؛ مثال ذلك: أن في بطرسبورج عاصمة روسيا عشرات من القصور المنيفة ولكنني لم أكتب إلا عن ثلاثة منها وهي أشهرها؛ لأني ذهبت إليها وشاهدتها من دون بقية القصور، وكان هذا شأني في جميع السياحات، وقد سميته «مشاهد الممالك».
ولما كان سمو مولانا الخديوي المعظم عباس الثاني ذا منن على العلم والآداب؛ بدليل انتشار المعارف في هذا القطر على عهده، فقد جعلت الكتاب تقدمة لسموه تيمنا باسمه وإقرارا بفضله، وصدرته برسم ذاته الكريمة، فتنازل - حفظه الله - إلى قبول هذه التقدمة الوضيعة. والله أسأل أن يجعل خدمتي مقبولة لدى القارئين.
النمسا
خلاصة تاريخية
Page inconnue
معلوم أن هذه المملكة تضم الآن أمما شتى، لكل منها تاريخ خاص بها، فإن بوهيميا وبولونيا وبلاد المجر والنمسا وكرواسيا وغير هذه من أجزاء السلطنة النمسوية كانت مستقلة، ولا ينطبق تاريخها الخاص على تاريخ المملكة العام. وأما النمسا فاسم أطلق في أيام شارلمان على الممالك التي خضعت له حول نهر الدانوب ونهر الأنس في شرق أوروبا عرفت باسم أوستريا أو «أوسترك»؛ أي المملكة الشرقية، وكانت مؤلفة من معظم البلاد الواقعة الآن في حوزة ألمانيا والنمسا معا، وظلت تابعة لشارلمان وخلفائه حتى ضعف هؤلاء الخلفاء، وصار أمراء الممالك الألمانية ينتخبون الإمبراطور انتخابا، وكان الأساقفة في بعض الأحيان يقومون مقام الأمراء في الانتخاب، أو أن البابا يعين إمبراطورا للسلطنة الألمانية. وأشهر من انتخب لهذا المنصب بعد سلالة شارلمان هنري الأول ابن أمير بافاريا، ملك سنة 918 وأصلح أمورا كثيرة في البلاد، واشتهر بعده فريدريك الثاني الذي انتخب إمبراطورا في سنة 1212 وكان رجلا حازما عاقلا، مد سلطنته في الشرق والغرب وملك أكثر جهات إيطاليا، ولكنه كان عدو سلطة رجال الدين فحاربهم وحاربوه وانتهى الأمر بفوزهم عليه؛ لأن الناس كانوا في تلك العصور آلات في يد رجال الكنيسة. فلما مات فريدريك في سنة 1250 وقعت البلاد في اضطراب كبير وطمست أخبار عزها فلم يسمع لها بشيء يذكر إلا عام 1274 حين قام أمير من أشراف سويسرا اسمه رودولف هايسبرج، وعظم شأنه إلى حد أنه صار أميرا لأوستريا أو النمسا وهي يومئذ كما قلنا جزء من السلطنة الألمانية، وكان رودلف هذا عاملا في بلاط ملك بوهيميا فعسر على الملك أن يقر له بالإمارة وحاربه رودلف فانتصر عليه، واستتب له الملك فأورثه من بعده إلى بنيه، ولم يزل آل هايسبرج حاكمين في النمسا، وهم من أكبر البيوت المالكة في أوروبا الآن.
وظلت ألمانيا تحت سيادة آل هايسبرج إلى أن قام نابوليون الأول وجعل همه الأكبر تقسيم السلطنة الألمانية وتجزئتها حتى لا تنضم الأقوام الألمانية على فرنسا، فحارب بروسيا والنمسا حروبا متوالية قوض بها أركان السلطنة الألمانية في سنة 1806 حين أبدلت تلك السلطنة القديمة بسلطنة النمسا الحالية، ولقب الملك الحاكم يومئذ في فيينا من آل هايسبرج بإمبراطور النمسا على مثل ما هو اليوم. ولكن نابوليون حارب بلاد النمسا مرتين وانتصر عليها في موقعة أوسترليتز المشهورة سنة 1805، وفي موقعة واجرام سنة 1809. وبعد هذه الحروب اقترن بالبرنسيس ماري لويز ابنة الإمبراطور مكسميليان فصار حليفا للنمسا، وارتفع شأنها بين الممالك حتى إنها ضمت إليها في سنة 1815 بلاد لومبارديا والبندقية من أجزاء إيطاليا، وبلاد كراكوفيا في سنة 1847، ولكنها كسرت سنة 1859 في حربها مع فرنسا وإيطاليا فتخلت للدولة الإيطالية الحالية عن أملاكها في إيطاليا. وفي سنة 1866 شبت حرب مشهورة بينها وبين بروسيا بتدبير بسمارك الشهير فكسرت في تلك الحرب أيضا وتنحت عن الاتحاد الألماني حتى صارت بروسيا أكبر الممالك الألمانية ورئيستها.
وفي سنة 1867 أبرمت معاهدة بين النمسا والمجر على أن تكون المملكتان دولة واحدة لكل منهما نظام خاص بها واستقلال تام في الشئون الداخلية ويربطهما حكم الإمبراطور على المملكتين، فنتج عن هذا الاتحاد قوة كبرى للسلطنة النمسوية وجعلت السلطنة تنمو وتتقدم في أيامه حتى إن أوروبا اتفقت سنة 1878 في مؤتمر برلين على إضافة ولايتي البوسنة والهرسك إليها مؤقتا، وهما الآن من أجزاء السلطنة النمساوية بعد الذي اشتهر على إثر إعلان الدستور العثماني. وأبرمت معاهدة حربية بين روسيا وألمانيا والنمسا سنة 1879. ثم تنحت روسيا عن هذا التحالف فأبرمت المحالفة الثلاثية المشهورة بين ألمانيا والنمسا وإيطاليا، وهي باقية إلى اليوم؛ فزادت البلاد تقدما ونموا ونفوذا واتسعت متاجرها وارتقت درجة العلم في أنحائها.
فرانس يوسف إمبراطور النمسا.
كل هذا تم على عهد جلالة الإمبراطور فرانس يوسف الجالس على سرير النمسا الآن، وهو محبوب من الأمم الخاضعة له حبا شديدا، ولولا مكانته في النفوس وما له من المهابة لخشي على بلاده من التجزؤ والانقسام؛ لأن رعاياه كثيرو الأجناس والمذاهب لا يضمهم رأي غير الولاء لشخصه. ولد في 18 أوغسطس سنة 1830، وارتقى العرش بعد تنازل عمه في 2 ديسمبر سنة 1848، واقترن بالأميرة إليصابات ابنة الدوك مكسميليان البافاري سنة 1854. وقد قسم لهذا الملك أن يكون منغص العيش كثير الهموم؛ فإنه قتل أخوه مكسميليان في بلاد المكسيك، وسيجيء الكلام عنه في باب تريستة، وانتحر ابنه وولي عهده رودلف سنة 1888 فكدر صفو عيشه، ثم قتلت قرينته في جنيف في شهر سبتمبر سنة 1898 من يد فوضوي اسمه لوكيني، فتم بذلك كأس حزنه الشديد. وهو من أعظم ملوك أوروبا الحاليين مهابة وأكثرهم خبرة. ولما تم على ملكه ستون سنة في شهر مايو 1908 أقيمت حفلات عظيمة اشترك بها إمبراطور ألمانيا وأكثر ملوكها وأمرائها مع وفود من أمراء الدول الأخرى وسراتها، وعمت الأفراح كل أنحاء السلطنة النمسوية.
وقد أحصي سكان النمسا سنة 1906 فكانوا خمسين مليون نفس، ومساحتها 675887 كيلومترا مربعا، غير مساحة البوسنة والهرسك اللتين سبق ذكرهما.
تريستة
ركبت متن البحار من الإسكندرية في يوم راقت سماؤه واعتل هواؤه من شهر يونيو عام 1893، وكان بدء السفر على غير ما يوافق ذلك اليوم؛ لأن السفينة جعلت تتقلب وتميل ونحن لا نرى في البحر موجبا لهذه الحركة. فسألنا ربان الباخرة في ذلك، قال إنه بقية اضطراب فيما يلي سطح البحر من الماء من نوء مر، وإن الحال ستبقى على مثل ذلك خمس ساعات. وصح قول الرجل؛ فإنه لما انقضى الموعد الذي نوه به هدأ اضطراب السفينة وتبدت حلاوة السفر فتوارد المسافرون على ظهر الباخرة، واجتمعوا يتحدثون على عادة الناس في مثل هذه الأحوال. ومررنا في الطريق بمناظر شتى تستحق الذكر؛ منها جزيرة كريت المشهورة، رأينا جبالها الباسقة إلى ناحية اليمين في اليوم التالي من سفرنا، وسرنا بعد ذلك بين جزر متعددة من جزائر الأرخبيل الرومي مثل زانت وكلارنس وسفالونيا، فكانت الباخرة في بعض الأحيان تقترب من الأرض اقترابا يمكن المسافر فيها من رؤية مناظرها البهية وما فيها من كرم وزيتون وشجر كثير. ومن هذه الجزر المعروفة: كورفو مررنا بها في أواخر اليوم الثالث من بعد أن غادرنا الإسكندرية، حتى إذا كان صباح اليوم الرابع رست السفينة في مينا برندزي، وهي مدينة صغيرة في جنوب إيطاليا لا أهمية لها إلا أنها مرسى للبواخر ونقطة الاتصال بين الشرق والغرب في البريد؛ فهي ينقل منها وإليها البريد المتبادل بين أوروبا والشرق، وأخصه ما كان بين إنكلترا والهند، فتجولنا في جوانبها حينا ثم عدنا إلى السفر ووصلنا تريستة في اليوم الخامس.
وأما تريستة فهي أشهر مدن النمسا، ولها فوق شهرتها الحالية تاريخ قديم؛ فإنها وصلها الرومان في سنة 600 قبل المسيح، وبنوا بها المعاقل والحصون ثم خربها أتيلا، وطمست أخبارها زمانا حتى قامت السلطنة الغربية الجديدة على عهد شارلمان فتجددت أهميتها وألحقت بعد شارلمان بدولة البندقية؛ فاختلط أهلها بالطليان اختلاطا بقيت آثاره فيهم، وهم أو معظمهم يتكلمون النمسوية والإيطالية معا إلى هذا اليوم. وانسلخت عن إمارة البندقية سنة 1382 فضمت إلى سلطنة النمسا وجعلها الإمبراطور كارل السادس فرضة حرة أعفيت من الرسوم. ثم أصلحت فيها الإمبراطورة ماريا تريزا شيئا كثيرا كان من ورائه أن التجارة ما بين الشرق والغرب تحولت من مدينة البندقية إليها، والمدينتان متقابلتان في بحر الأدرياتيك. وهي الآن مقر تجارة النمسا البحرية مع الشرق، وفيها مركز شركة لويد للسفن البخارية المعروفة هنا. وفي تريستة وضواحيها من السكان نحو 180 ألفا أكثرهم من الطليان، ومنهم السدس مجر وخليط من الأقوام السلافية ونحو 5000 من الجنس الألماني، وألوف من أجناس شتى أوروبية؛ فهي من أكثر المدن إشكالا في نوع السكان. ولا يقل عدد السفن التي تدخلها في السنة عن 14000، منها 800 باخرة معدل محمولها مليون طونلاتة وربع، وصادراتها تبلغ في القيمة نحو 240 مليون فرنك، والواردات حوالي 300 مليون؛ ففي مينائها حركة كبرى بسبب هذه التجارة الواسعة. وقد أنفق على تحسين الميناء نحو ثلثي مليون فرنك، فجعلوا فيها الأرصفة الفسيحة تستقر البواخر والسفن إلى جوانبها، وأشهرها رصيف «سان كارلو» يمتد في البحر مسافة 350 مترا، والناس يقصدونه بعد العصر من كل يوم لمشاهدة تلك الحركة التجارية، والتفرج على أشكال السفن الذاهبة والآيبة، وهو من مناظر تريستة التي تستحق الذكر.
وفي هذا البلد ساحة مشهورة تعرف باسم الميدان الكبير في وسطها بركة من الماء فيها تمثال نبتون إله البحر، والإمبراطور كارل السادس الذي مر ذكره، وعمد ذات شعب تنار بالكهربائية، ومن حولها من الحانات المتقنة والقهاوي البديعة يجتمع فيها كل مساء خلق كثير، يدور بعضهم في جوانبها ويجلس البعض الآخر في هاتيك الحانات، والأنغام المطربة تعزف من وسط الميدان فيسمعها الناس في كل الجوانب، وإلى جانب هذه الساحة الرحيبة بناء المجلس البلدي والبورصة وشركة البواخر ومخازن جميلة وحانات كثيرة، ويمكن الوصول منها إلى شارع الكورسو، وهو كثير المخازن تباع فيها نفائس الأشياء إلى جانبيه، وفي آخره الحديقة العمومية تصدح فيها الموسيقى الأميرية كل مساء. وفيها من أنواع الزهر والشجر ومجاري الماء البهية ما يشرح الصدور، وإذا استمر السائر من تلك الحديقة شرقا وصل جهة في أقصى المدينة تعرف باسم بوسكوتو (معناه الغابة)، وهي عبارة عن حرجات فيها كثير من شجر الصنوبر، يتخلله مطاعم منظمة وحانات متقنة، وفيها تسمع الأنغام الشجية أيضا فتزيد ذلك الموضع المشهور بهجة وقيمة، ولا سيما أنه يتصل بجبل اسمه كاشاتورة ملئت جوانبه بشجر الصنوبر العطر وغيره، فكنا ونحن نرتقي قمته في طرق كثيرة التعرج نستنشق النسيم العليل يخالطه عطر الشجر المذكور، حتى إذا بلغنا القمة رأينا من دوننا القرى والعمائر والمزارع من كل جانب، ولمجموعها بهاء يقر الخواطر ويسر النواظر.
Page inconnue
وإلى الجهة الجنوبية من الميدان الكبير الذي ذكرناه متنزه القديس أندراوس في أقصى المدينة، يمكن الوصول إليه من الساحة الكبرى التي ذكرناها في الترامواي، طوله نحو ثلاثة أميال وإلى يمينه البحر من أوله إلى آخره، وفي طرفه الشمالي آكام كسيت بالشجر والزهر على اختلاف الأنواع، ولها طرق جميلة رصعت أرضها بالحصى أو فرشت بالرمل، وهي متنزه العائلات، ترى فيها الأولاد والبنات أفواجا يسرحون في تلك الجوانب الرحبة، وليس هناك من المساكن غير منازل قليلة لبعض أهل اليسار، وعلى مقربة منها معمل السفن النمسوية، دخلناه ووجدنا فيه أشكال العمل والترميم والصنع والتركيب، ثم عدنا إلى المدينة عن طريق ساحة جوزيبة، وفيها تمثال الإمبراطور مكسميليان ثم ساحة القديس جيوفاني، وفيها كثير من الأبنية الفخيمة.
ومن أشهر ما يذكر عن تريستة قصر عظيم يقصده كل مقيم في المدينة أو نازل بها؛ أريد به قصر ميرامار، بناه الأرشيدوك مكسميليان أخو إمبراطور النمسا الحالي، وأنفق مالا طائلا على زخرفه وإعداده حتى إذا تم له ذلك انتخب إمبراطورا لبلاد المكسيك في أميركا، فسار إليها وحكمها زمانا، ولكن قسما من أهلها ثار على حكومته وألف حكومة جمهورية انتصر زعيمها جوارز على الإمبراطور وأسره وأمر بإعدامه في سنة 1867. وكان مكسميليان من أمراء البحر في بلاده، والنمسويون يحبونه كثيرا؛ فأسفوا كثيرا لما أصابه وجعلوا قصر ميرامار تذكارا له يجلون ذكره. والقصر باق على مثل ما تركه صاحبه، وفي قاعاته الفخيمة رسوم الرجال والنساء الذين اشتهروا من آل هايسبرج، وهم البيت الحاكم في بلاد النمسا. وقد بني هذا القصر على مرتفع من الأرض وله حديقة غناء ومنظر من كل الوجوه بديع.
ويقرب من هذا القصر في ارتفاع مركزه كنيسة القديس جوستو قصدتها قبل مبارحة المدينة حتى أطل منها على كل الأنحاء فرأيت تريستة بكل أجزائها وضواحيها. بنيت هذه الكنيسة في القرن الرابع عشر موضع معبد روماني قديم، وفيها مدافن بعض المشهورين، منهم الأميرتان أدلايد وفكتوريا عمتا لويس السادس عشر ملك فرنسا الذي حصلت في أيامه الثورة الفرنسوية. هذا جل الذي يحسن وصفه في مدينة تريستة، وهي أول ما يمكن للشرقي أن يراه من مدن النمسا، فنتقدم منها إلى ذكر فيينا عاصمة السلطنة النمسوية.
فيينا
برحنا تريستة بعد الإقامة فيها حينا بسكة الحديد فطفقنا ندخل مواضع مختلفة المناظر بديعة الجمال، حتى وصلنا مدينة جراتز قاعدة ولاية أوستريا من ولايات النمسا، ولهذه المدينة شهرة بصنع نوع من البيرا يعرف باسمها. وفي الولاية غابات وحراج مشهورة غضيضة الشجر تقطع منها الأخشاب وترسل إلى سائر الأقطار. ويخترق جراتز نهر مور وقد بنيت منازلها على ضفتيه. تقدمنا منها بين هاتيك المناظر فرأينا في الطريق حصونا بناها النمسويون على عهد السلطان سليمان الثاني اتقاء لهجمات جنوده كما سيجيء، وقد هدم أكثرها الفرنسويون سنة 1809. ووراء هذه الحصون جبال ومرتفعات من الأرض يسير فيها القطار صعدا بسير رويد. وقد كان النمسويون أول من مد خطوط الحديد في مثل هذه الجبال سنة 1848، فإن الطرق هنا متعرجة ملتفة تشبه الكاف العربية في شكلها، فضلا عما فيها من اختراق الجبال والسير تحتها، فإن في هذا الخط وحده 15 نفقا تحت الأرض. وهذه الجبال تعد فرعا من جبال الألب المشهورة يبلغ ارتفاعها عند سمرين التي وقف القطار بها قليلا 2200 قدم، وكلها ملأى بالمناظر الفخيمة، زادها بهاء ورونقا اكتساؤها بحلل خضراء من شجر الصنوبر وغيره، وقد رصعت جنباتها بالمنازل المشيدة يقضي فيها كبراء النمسويين أشهر الصيف. ولا حاجة إلى القول إن السفر في قطار كهذا يصعد إلى قمة جبل شاهق من أغرب الأمور وأكثرها لذة؛ فإنك تدخل جوف الأرض والجبال من فوقك ثم تخرج فإذا أنت في سفح جبل وإلى جانبك الحقول والجداول والمنازل، ثم تصعد أعلى الجبل والقطار مسرع بك فكأنما أنت محلق في الجو تطير ومن دونك الأرض بواديها وسهلها وبقية ما فيها، وفي ذلك نزهة غريبة يعرفها الخبيرون. تلك مناظر الأرض ما بين تريستة ومدينة فيينا التي نحن في شأنها، والمسافة بينهما 16 ساعة في سكة الحديد لا يشعر المسافر بملل في خلالها.
وأما فيينا هذه فهي قاعدة سلطنة النمسا والمجر، ومن أشهر العواصم الأوروبية في حالها الحاضرة وتاريخها الماضي وعدد سكانها نحو مليوني نفس، واسمها القديم فندوما، وقد ورد ذكرها على عهد يوليوس قيصر القائد الروماني في القرن الأول للميلاد، ثم كثر تردد الرومانيين عليها بعد هذا، ومات فيها أحد قياصرتهم وهو ماركوس أوريليوس سنة 180، وظلت محطا لرحال الفاتحين من تلك الأيام حتى جعلها شارلمان حدا لمملكته في القرن التاسع للميلاد، فلما مات ألحقت بمملكة ألمانيا وانفصلت عن فرنسا وصار يحكمها دوكات النمسا حتى قامت العائلة المالكة الحالية على مثل ما ترى في الخلاصة التاريخية. وقد توالت النكبات على فيينا، ولكنها لم تؤثر عليها تأثيرا يذكر؛ فإنها حاصرها المجر سنة 1485 أربعة أشهر وفتحوها، ثم أنقذها منهم سنة 1490 مكسميليان الأول من آل هايسبرج وجعلها قاعدة المملكة النمسوية إلى اليوم، وحاصرها ملك بوهيميا مرة سنة 1619 فلم يفده الحصار، وتقدم عليها الأتراك مرتين: أولهما على عهد السلطان سليمان الثاني سنة 1529، والثانية على عهد السلطان محمد الثالث سنة 1582، وكان قائد جنودهم يومئذ الصدر قرا مصطفى باشا المشهور، فضيق على المدينة تضييقا شديدا، ولولا ورود النجدة إليها من بوهيميا تحت قيادة ملكها سوبيسكي لفتحها، وحاصرها نابوليون بعد ذلك على مثل ما تقدم في الخلاصة التاريخية، وكان هذا الحصار الكثير داعيا إلى بناء دائرة كبرى من الحصون داخل المدينة أبدلت الآن بشارع رنغ ستراس (ومعناه درب الحلقة لاستدارته) طوله نحو ميلين وعرضه 62 مترا، بني على نظامه الحالي سنة 1858.
خرجت مع الدليل من فندق متروبول الذي اخترت الإقامة فيه، وبدأت بشارع رنغ ستراس هذا، وهو أعظم شوارع فيينا، ليس في أوروبا كلها شارع بطوله تجتمع فيه محاسن البناء وغرائب الصناعة وأدلة العز والترف متوالية مترادفة مثل هذا الشارع العظيم في عاصمة النمسا؛ فإن فيه غير المخازن الجميلة والفنادق المشيدة والحانات المنظمة بناء البورصة والتلغراف والبوليس والمجلس البلدي والمرسح الإمبراطوري والمتحفين ومجلس نواب الأمة والأوبرا الكبيرة ووزارة الحقانية، وقصورا أخرى تدهش الأبصار بمحاسنها في كل جانب منه، وحديقة ستاد بارك، وغير ذلك من بدائع هذا الشارع العظيم. وقد قسم هذا الشارع أقساما ثمانية، أولها رصيف يمشي عليه الناس من بعد الأبنية المتقنة، ثم طريق للعربات يليه طريق للترامواي فطريق للجياد وراكبيها، وبعده خط من الشجر الجميل يزدان به وسط الشارع، ثم طريق للعربات وطريق للترامواي وطريق للجياد ورصيف للمارة؛ أي إن الشجر في وسط الشارع والطرق المختلفة صفان إلى جانبيه، صف من هنا وصف من هنا، وفي ذلك نظام يمنع الزحام والاصطدام، ومنظر لا تشبع العين منه ولو طالت مدة الإمعان.
ذكرنا في هذا الشارع بناء البورصة وهو عظيم الأركان شاهق الجدران في داخله قاعات شتى، بعضها للجلوس وبعضها للمطالعة، وبعضها للأشغال والمداولات والمضاربات والمبايعات وغير هذا مما يدور في جوانب ذلك البناء، وفيها من الحركة التجارية والجلبة الناشئة عن كثرة المركبات والمترددين ما يوجب الذهول ويشير إلى نشاط أهل المتاجر والمضاربات من المتمدنين.
وأما مجلس النواب فإنه قصر فخيم بني من سنة 1874 إلى 1884، طوله 143 مترا، ومنظره من الخارج يدل إلى الهيبة والوقار، يصعد إليه على درج عريض من الرخام الأبيض يتصل آخره برواق قام على عمد من الرخام أيضا، له شكل الهياكل اليونانية، ومن ورائه رواق آخر طويل قائم على 24 عمودا من الرخام الأحمر مذهبة تيجانها، وفي الجدران والسقف رسوم حوادث فيينا والنمسا التاريخية، والناس يجتمعون في هذا الرواق البهي ريثما تفتح أبواب القاعة الكبرى التي يجتمع فيها النواب للنظر في سياسة المملكة والجدال فيما يلزم لها من النظامات والقوانين، وفي تلك القاعة مقاعد أمام كل منها منضدة صغيرة للنائب الذي يقعد إليها ومنصة للرئيس وكتابه، ومواضع مرتفعة في جوانب القاعة خص بعضها بأعضاء العائلة المالكة والسفراء والبعض بالمتفرجين والزائرين أو بأصحاب الصحف وجماعة الأخبار، وغير هذا مما تراه في أكثر المجالس النيابية. وقد اشتهر نواب النمسا الحاليون بكثرة الأحزاب والانقسام، وما يحدث في وسط هذا المجلس الفخيم من الفتن والشحناء بينهم. وفي هذا البناء أيضا قاعة لمجلس الشيوخ مثل قاعة النواب في نظامها وغرف كثيرة للمداولات وللوزراء واللجنات التي يأمر المجلس بعقدها، ومطعم فاخر مستعد في الليل والنهار لتقديم ما يطلبه الأعضاء الذين يكثر بقاؤهم 24 ساعة متوالية في جلسة واحدة إذا طال الجدل واحتد الأعضاء بسبب أمر تختلف الأحزاب عليه.
وقصر الحقانية بني من 1875 إلى 1881، في وسطه تمثال القسطاس والعدل، وفيه غرف لمحكمة الاستئناف العليا وإدارة النيابة العمومية، وهو من الأبنية التي تستحق الاعتبار، وعلى مقربة منه المجلس البلدي وهو قصر طويل عريض، كمل بناؤه سنة 1883 بعد عمل 11 عاما، وأنفق عليه فوق ثلاثين مليون فرنك، وهو من أجمل المجالس البلدية في أوروبا وأعظمها، تولم فيه الولائم الكبرى، وتعقد الاحتفالات العظيمة في قاعات فسيحة بديعة يصعد إليها على درج من الرخام له عمد من المرمر المذهب، ولا يقل طول قاعة الولائم عن 150 مترا، ينيرها ثلاثة آلاف أنبوبة للنور لم أر لها نظيرا في قصر الإمبراطور ولا في غيره. ويقام فيها كل عام مرقص يشترك فيه أهل الترف والنعمة، ومن أمامها شرفة تطل على الشارع الكبير الذي نحن في شأنه. وأما القاعة التي يجتمع فيها أعضاء المجلس البلدي فعظيمة فسيحة، تشبه قاعة النواب التي ذكرناها في الوضع والنظام، وفي سقفها ثريا من الأنوار قيل إن ثمنها 160 ألف فرنك، وعلى جدرانها صور الرؤساء السابقين لهذا المجلس والمتوفين، وفي الدور الأسفل من هذا البناء الفخيم تحف ثمينة ونفائس تعد من أثمن ما في مدينة فيينا؛ من ذلك مكتبة عظيمة فيها من نوادر الكتب ما يفخر به أهل هذه المدينة، وقد جمعت بنوع أخص ما فيه تاريخ فيينا القديم والحديث، ومن ذلك أيضا آثار وتحف كثيرة وصور تاريخية تمثل الحوادث المشهورة، مثل هجوم الأتراك سنة 1529 وهم بهيئاتهم القديمة وملابسهم المعروفة، واستيلاء بونابارت على فيينا سنة 1805 و1809. وهنالك أيضا أدوات شتى كانوا يستعملونها للتعذيب فيما مر من الزمان، وهي باقية تدل على قسوة الأيام الماضية وحرية هذه الأيام، ورايات وأسلحة قديمة غنمها النمسويون في حروبهم الكثيرة، وغير هذا مما لا يمكن الإسهاب في شرحه.
Page inconnue
وأما التياترو الإمبراطوري المشهور فهو مثل أكثر ما في هذا الشارع من الآثار العظيمة جديد البناء، قام مكان مرسح قديم احترق برمته ومات فيه 2000 نفس، وهو أكبر حريق في المراسح العمومية حدث في الأيام الأخيرة. وقد أنفقوا على هذا المرسح الجديد وزخرفه وفرشه مالا طائلا ولا حاجة إلى القول إن فيه من السقوف المزخرفة والعمد المذهبة والجدران الملونة والفسحات المنظمة والذرى الفسيحة ما يستوقف الأنظار، وفيه نصب لمشاهير المؤلفين من أصحاب الروايات، مثل شاكسبير وموليير وشلر وغيرهم، وتضم قاعته الكبرى أكثر من ثلاثة آلاف نفس.
ولعل أشهر ما في هذه المدينة وأكثره نفعا للزائرين المتحفين العظيمين، وهما قصران بديعان بني أحدهما تجاه الآخر، وبينهما حديقة صغيرة وأمامهما الشارع الكبير الذي ذكرناه، فكأنما هما توأمان بنيا من سنة 1874 إلى 1889، وجعلا متشابهين في الوضع والشكل، فإن طول كل منهما 175 مترا وعرضه 77، ولهما أروقة قامت على عمد ضخمة بديعة الصنع، وفي الحديقة الصغرى ما بين القصرين نصب للإمبراطورة ماريا تريزا ملكة النمسا والمجر، وهي من أشهر ملكات هذه البلاد من آل هايسبرج. وقد أقام هذا النصب الإمبراطور الحالي في سنة 1888 على قاعدة من الرخام ارتفاعها 43 قدما، وفوقها تمثال الإمبراطورة وعلوه 19 قدما، وهو يمثلها في السنة الخامسة والثلاثين من عمرها باسطة ذراعها اليمنى، وفي يسارها صولجان الملك والقانون الذي سنه كارل السادس سنة 1772 بحصر الملك في البكر مثل قانون أكثر الممالك، وإلى جانب ماريا تريزا تماثيل المشاهير في الحرب والسياسة والعلم، وهم لا يقلون عن عشرين.
وفي المتحف الأول من هذين القصرين آثار تاريخية وتحف صناعية ورسوم ونقوش شتى لا يحصى عديدها، حتى إن فهرست هذه الأشياء ملأت ثلاثة مجلدات كبيرة فيها 30000 نمرة، ولكل قطعة في المعرض أو جملة قطع نمرة معلومة في هذه المجلدات، فإذا شاء المرء أن يطلع على ما في هذا المعرض العظيم كله لزم له أيام وأسابيع؛ لأن تاريخ الأمم - وبنوع أخص الأمم الخاضعة لسلطنة النمسا الحالية - جمع في تلك الآثار والنفائس. وقد قسم المتحف أقساما كثيرة ليسهل على الناس رؤية ما فيه، منها قاعات جمعت فيها آثار الفينيقيين الأول ومعبوداتهم، وإلى جنبها أروقة وقاعات ملئوها بآثار نينوى وآشور، وتلك الأصنام صنعت على شكل الحيوان، ولها أجنحة الطير ورأس البشر، كان الآشوريون يعدونها رمز القوة العقلية والبدنية ويضعونها في أكثر منازلهم والأماكن العمومية. ثم قاعة اليونان وفيها من رسومهم المتقنة وآثارهم ونقودهم ما نقتصر على الإشارة إليه. ومن ورائها قاعات التاريخ الروماني، وفيها صورة قياصرة رومية وتماثيلهم وشيء كثير عن القيصر ماركوس أوريليوس الذي مات في فيينا، وهنالك أيضا قسم خاص بالتاريخ المصري فيه أجسام محنطة وتمثال رعمسيس الثاني وأوزيرس المعبود القديم، وغير هذا مما يعرفه الذين رأوا بعض ما في متحف مصر، ولكن في ذلك المتحف تمثالا لأبي الهول المصري بأربعة رءوس، وهو بلا نظير في المتحف المصري.
ويلي ذلك قسم السلاح في هذا المعرض، وهو كبير عظيم الأهمية جمعت فيه أسلحة البشر من أول عهدهم بالقتال، أكثر ما فيه أسلحة النمسا وملابس قياصرتها وقوادها، وقد زاد رونق هذا القسم بما فيه من أسلحة الجركس والأرناءوط المحلاة بالذهب والفضة وبعضها مرصع بالحجارة الكريمة، وأشهرها ملابس إسكندر بك، وهو أمير ألباني نشأ في القرن الخامس عشر وأخذ أسيرا على عهد السلطان مراد الثاني، فربي على الدين الإسلامي في قصر السلطان حتى إذا كبر صار من قواد الجيش العثماني، ثم تآمر مع بعض الرجال واستعان بقوته على إرجاع ملك أجداده فتم له ذلك، ولم يمكن للسلطان أن يسترد ألبانيا منه مدة حياته ومات سنة 1467، ومن هذا القبيل سيف من الذهب للإمبراطور كارل الخامس وعصا الملك للإمبراطور فردينند الثاني، وغير هذا كثير كان ملوك النمسا وأمراؤها يهدونه للمتحف أو يتركونه إرثا له حتى اجتمع فيه كل هذه النفائس.
وصعدنا بعد رؤية هذا كله الدور الأعلى من المتحف على سلم كله من الرخام الأبيض، فوصلنا قاعات فسيحة بهية جمعت فيها الرسوم المتقنة من صنع أشهر الرسامين، وهي تزيد عن ألف صورة في عددها، وبعضها كبير يملأ الجدار كله، وقد قسمت هذه الصور الكثيرة حسب أنواعها، فترى في كل قسم منها الصور الفرنسية أو الهولاندية أو الإيطالية أو النمسوية أو غير هذا. وأما مواضيع هذه الصور فيعسر على الكاتب عددها؛ لأنها مختلفة كثيرة الأشكال، ولكن منها قسما كبيرا يمثل حوادث التوراة والإنجيل، وبعضها ثمين كثير الإتقان من صنع رفائيل المشهور وسواه، لا تقل قيمة الصورة الواحدة منه عن عشرة آلاف جنيه، وبعض هذه الصور خيالات وأوهام يختلقها المصورون لتمثيل هيئة الحب أو العفة أو البسالة أو السعادة أو غير هذا مما لا يحتاج المتفرج إلى شرح معه؛ لأن الرسم ناطق بالمعنى المراد. ولهذا النوع قيمة عند العارفين؛ فإن أشهر الصور الحديثة ما كان من هذا القبيل، وبعضها يدل إلى مناظر طبيعية زائدة الجمال، كأن تكون مناظر السحاب والشمس من وراء الغيوم أو مناظر الجبال والبحيرات والأودية، وأكثر ما يرى هنالك رسوم ضفاف الأبحر والبحيرات التي تسحر الناظرين بجمالها ويتمنى الرائي لو يمكن له أن يعيش في بقعة من الأرض جميلة مثل البقعة التي تشير إليها تلك الصورة، وبعض الرسوم تاريخية رأيت منها رسم واقعة بحرية كان أمير البحر النمسوي تجتوف يحارب فيها الطليان على مقربة من جزيرة ليسا سنة 1866، وفاز على أعدائه، وبعض المعارك التي جرت بين الفرنجة والسلطان صلاح الدين، ورسوم كثيرة لرودلف هايسبرج مؤسس العائلة الحاكمة في النمسا إلى الآن، وماريا تريزا التي أشرنا إليها كثيرا، وأشهرها رسم هذه الملكة حين قامت عليها فرنسا وبروسيا تريدان محاربتها بعد موت زوجها وفرت بابنها الطفل إلى بلاد المجر فاستعانت برعاياها المجريين على إرجاع الملك إلى ابنها، وعقد القوم مجلسا حافلا للنظر في أمرها، فلما انتظم المجلس جاءت وعلى ذراعها الطفل الصغير، وخطبت في أعيان المجر خطابا أثار حميتهم وحرك همتهم إلى نصرتها، ثم ختمت خطابها بالقول إن هذا ابن مليككم يا أبطالي فخذوه وافعلوا ما تريدون. حتى إذا انتهت من الكلام صاح الجمع قائلين: «لنمت جميعا من أجل ملكتنا ماريا تريزا.» ونصروها وأعادوا الملك إليها وإلى ابنها، وكانت ماريا تريزا من أعظم ملوك النمسا والمجر.
هذا مجمل ما في المتحف الأول. وأما الثاني تجاهه فإنه خص بالتاريخ الطبيعي؛ أي بالقديم والغريب من أشكال النبات والحيوان والجماد. ولهذا القسم بهاء القسم الأول وفخامته من حيث البناء، وهو ثلاثة أقسام، أولها لنوع الجماد وثانيها للنبات وثالثها للحيوان، وفي كل قسم أجزاء لما ظهر من هذه الموجودات في كل دور من أدوار الأرض الجيولوجية، فترى في قسم الجماد أحافير ومتحجرات شتى جاءوا بها من أقاصي الشرق والغرب، بعضها لا قيمة له إلا من حيث العلم بتاريخه القديم، والبعض كثير الجمال غالي القيمة. وقد جعلوا الدور الأول من البناء لقسم الحيوان، وأكثر ما ترى هنا وحوش مصبرة، وزحافات هائلة مثل الحيات الأميركية والهندية على أنواعها وبقية الأنواع الغريبة. والثاني للنبات وفيه غرائب يعسر وصفها أكثرها مصبر أيضا. والثالث للمتحجرات وبعضها جميل الشكل غريب النوع، والذين ينتابون هذا المعرض ويتعلمون مبادئ العلوم الطبيعية فيه ليسوا بالعدد القليل.
وذكرنا الأوبرا الكبرى، وهي من أحسن ما بني من نوعها، تضم خمسة آلاف نفس، وفي سقوفها وجدرانها ما لا يحصى من الزخارف ورسوم رجال الموسيقى، وقد بنيت ما بين عامي 1861 و1869. رأيت جوانبها الفخيمة وقاعتها الكبرى، حيث يجتمع الناس لسماع التمثيل والأنغام، وفي أعلاها ثريا هائلة المقدار لا يقل فيها عدد الأنابيب التي يخرج منها النور عن أربعة آلاف.
ويزيد هذا الشارع رونقا وبهاء أن فيه حديقتين، إحداهما حديقة فولكس أحاطوها بسور من الحجر والحديد، وفيها المطاعم والحانات والموسيقى، فهي يؤمها أهل فيينا مئاتهم وألوفهم عصاري كل نهار؛ لأنها في وسط المدينة، وأشهر منها حديقة ستاد بارك، هي من أعظم حدائق فيينا وأجملها، تشرف على شارع الحلقة وينتابها أهل الطبقة العالية من سكان فيينا، فهي ذات دروب نظيفة وجوانب بهية ومزروعات كثيرة الجمال ومناظر بالغة حد الإتقان والفخامة، تمر في جوانبها قناة من الماء ينصب في بحيرة صغيرة جمعوا إليها أكثر أشكال الطيور المائية، وغرسوا إلى جوانبها الأزهار من كل نوع وكل لون على شكل بديع النظام، حتى إنهم كتبوا بالزهر المختلف الألوان على أرضها اسم الحديقة وكلمات أخرى ، فكأنما أنت هناك على بساط من العشب، وفي البساط صناعة وكتابة وإتقان عجيب.
هذا أشهر ما يذكر في شارع الحلقة العظيم، وهو أجمل شوارع أوروبا وأحدثها نشأة وأكثرها مشاهد يتفرع منه دروب توصل إلى غيره من الشوارع الكبرى وما فيها من المشاهد المعروفة، مثل الشارع الموصل إلى كنيسة القديس أسطفانوس، وهي أشهر كنائس النمسا وأعظمها، بدئ في بنائها سنة 1300 وما زال الملوك ورجال الدين يزيدون في محاسنها إلى الآن، طولها 355 مترا والعرض 89، رسم شكلها مهندس اسمه جورك حكم عليه بالجنون لفرط ذكائه، ورسمه قائم في دار الكنيسة وهو في حالة السجن وبيده الآلات الهندسية، والكنيسة شائقة المنظر من خارجها بنيت على عمد من الرخام، وفي داخلها ما لا يمكن عده من آيات الإتقان، منها الهياكل الكثيرة بعضها قديم العهد، وفي جملتها هيكل بني سنة 1852 تذكارا لنجاة الإمبراطور الحالي من القتل. وفي ساحة الكنيسة مدفن لبعض القياصرة والكبراء، ولكن العائلة الحالية جعلت مدفن أفرادها في كنيسة الكبوشيين في فيينا، وهنالك دفن رودولف ابن الإمبراطور وإليصابات زوجته، وقد ذكرناهما في غير هذا الموضع، وإلى جانب الكنيسة الكبرى التي نحن في صددها برج عظيم ترى منه معظم فيينا وضواحيها.
وليس يبعد عن كنيسة أسطفانوس شارع جرابن، وله شهرة ذائعة؛ لأنه ثاني الطرق الكبرى في هذه العاصمة، وهو يحف الشجر بجانبيه، وفيه المخازن الملأى بنفائس الحاجات فترى جماعات الناس تقصده من كل جانب لمشترى بعض ما فيه. وهناك نصب للثالوث الأقدس أقيم في وسط الشارع على عهد الإمبراطور ليوبولد الأول سنة 1694 شكرا لله على زوال الطاعون من المدينة، ومن هذا الشارع يمكن لك الوصول إلى قصر الإمبراطور الذي يقيم فيه مدة الشتاء، دخلناه وراء القيم عليه، ورأينا من غرائبه المشهورة قاعة عظيمة للاستقبال، فيها 24 عمودا من الرخام، وقاعة الرقاد وفيها سرير كانت تنام عليه ماريا تريزا، وقاعة المرائي - دعيت كذلك لكثرة مرائيها - وفيها ساعة لا يلزم لها تدوير غير مرة في كل ثلاثة أعوام، وكان الناس ساعة خروجنا من هذا القصر متألبين عند مدخله يريدون التفرج على الكردينال، وهو يومئذ قام لأمر يقضيه في قصر الإمبراطور، فانتظرنا قدومه معهم ورأيناه بملابسه الأرجوانية وقبعته المثلثة الجوانب، ومن ورائه حشم ورجال الدين في عربات أخرى، حتى إذا توارى عن العيان سرنا من القصر إلى المكتبة الإمبراطورية، وهي من أكبر المكاتب العامة في الأرض، فيها نحو أربعمائة ألف مجلد، نصفها كتب خطية وكثير منها عربي مطبوع أو غير مطبوع، ومجلدات من أول عهد الطباعة، أكثرها ديني من أثمنها إنجيل كتب على جلد أحمر بالحروف الذهبية والفضية في أول القرن السادس، وكتب أخرى خطت على ورق مصنوع من شجر التوت وشجر النخل وغير هذا كثير، والناس من طلبة العلم وسواهم يقصدون هذه المكتبة ويدخلون قاعة المطالعة فيها بإذن خاص فيبحثون عن دقيق المسائل في كتبها القديمة، فإذا دخلت تلك القاعة أعجبت بما ترى من أدلة الاجتهاد وسيماء الوقار بين أولئك المطالعين.
Page inconnue
ويذكر بين مشاهد فيينا قصر الخزائن وهو مستودع للتحف الإمبراطورية القديمة والحديثة، لأكثرها شأن في التاريخ عظيم، من أهم ما يذكر بينها خوذة عسكرية من الفضة قدمها الشعب المجري للإمبراطور الحالي عند تتويجه ملكا للمجر سنة 1867، وفي داخلها أوراق مالية بنحو 750 ألف فرنك أوقفها الإمبراطور لإعانة أهل الحاجة من المجر. ومن ذلك التاج الإمبراطوري والصولجان وبقية الحلي التابعة للبيت المالك، منها ألماسة وزنها 133 قيراطا تقدر قيمتها بستين ألف جنيه كانت من جواهر شارل الجسور أحد ملوك فرنسا وراحت منه، ثم قيل إن فلاحا وجدها وباعها بفرنكين لأمير توسكانا وانتقلت منه إلى ملوك فيينا، ومن ذلك أيضا الوسامات المشهورة، منها وسام فيليس فيه 150 حجرا كريما في وسطها حجر وزنه 42 قيراطا، وتاج الإمبراطورة ماريا تريزا وفيه 548 حجرا ثمينا، وحلي وجواهر أخرى غالية القيمة أودعتها العائلة المالكة وسواها هذا المتحف، بعضها على سبيل الأمانة وبعضها هدية للمملكة، مثل ملابس شارلمان وتاجه وصولجانه، وغير هذا مما لا يحصى.
علمت أن فيينا يدخلها فرع من نهر الدانوب الشهير؛ فلهذا كانت محاسنها متفرقة ما بين قسميها الشرقي والغربي، وقد ذكرنا معظم ما يهم ذكره في القسم الغربي. وأما القسم الشرقي فأهم ما فيه ليوبولدستاد، وهو حي كبير من أحياء فيينا كله منازل مشيدة وطرق فسيحة ومخازن كبيرة، ومن أشهر مشاهده تمثال أمير البحر تجتوف الذي ذكرناه، والقوم يعتبرونه من أكبر رجالهم؛ لأنه أحيا الأمة النمسوية بانتصاره على الطليان مع تكاثر عديدهم، فهم اعتنوا بتمثاله وجعلوه على مدخل حديقة براتر المشهورة وجعلوا ارتفاعه 36 قدما، وهو على قاعدة تشبه مقدم السفينة صنعت من النحاس والبرونز، ومن تحتها رسوم خيل البحر تجرها وتذكر الناس بالنصر في تلك المعركة البحرية.
ولقد ذكرنا أن هذا التمثال في أول حديقة براتر، والحق يقال إن في فيينا حدائق كثيرة والناس يهتمون لحدائقهم ويجعلون لها شأنا خلافا لما تعودناه من إهمال الناس شأن الأزبكية في مصر مع أنها من أجمل الحدائق العمومية، وقد تضاهي الحدائق المشهورة في أوروبا ولكنها لولا الموسيقى الإنكليزية تصدح مدة وجيزة في بعض ليالي الصيف لما رأيت فيها شيئا من مظاهر الهيئة الاجتماعية، وحدائق براتر هذه مجموع حراج غضيضة غرست في أرض أريضة وغابات بهية تتخللها مروج من العشب شهية فلا تقل مساحة الكل عن أربعة آلاف فدان تقسم أقساما ثلاثة، أولها متنزه هوبت وهو شارع عريض جميل تمر به العربات عشرات ومئات، ويمر الناس مشاة أو على ظهور الجياد، ويحف بهذا الشارع غابات من شجر الكستنا تشرح بمنظرها الصدور، وفي وسطها مطاعم يلذ للآكل فيها الطعام وحانات للبيرا وسواها يقعد الواحد فيها فيسمع شجي الأنغام، وأكثر ما يكون اجتماع الخلق هنا في أيام الأحد أو يوم عيد الإمبراطور أو اليوم التالي لعيد الفصح، وهو هنالك بمثابة شم النسيم في القطر المصري، والقسم الثاني من هذه الحديقة يعرف باسم «فورويك»، وفيه ألعاب كثيرة من خيل خشبية تسير بالبخار وأراجيح ومشاهد شتى يجتمع أهل الطبقة الوسطى لمشاهدتها في كل حين ويقصدها أصحاب العائلات فيركبون أولادهم تلك الخيول الصناعية ويجارونهم على اللعب والضحك، وهنالك بحيرة صغيرة تجري عليها زوارق صغيرة للأولاد أيضا ويسيرها البخار وألعاب أخرى يلذ التفرج عليها ، وأولئك الصغار بملابسهم النظيفة يضحكون ويطربون.
وما زلنا نسرح الطرف بتلك المناظر حتى وصلنا بناء المعرض الذي أنشئ سنة 1872 وهو عظيم الارتفاع يشرف على تلك الغياض والحراج والمنازل إلى مسافة بعيدة بني من الخشب والحديد ومن ورائه سلم من الحديد ارتقينا ذراه حتى إذا وصلنا القمة رأينا فيينا وضواحيها من دوننا، والنهر ينساب انسياب الأفعى بين منازل مشيدة وغابات غضة نضرة وأودية بهية وهضاب منضدة بالزهر والبنيان الفخيم، ولا بد لكل سائح يريد أن ترسخ في ذهنه صورة المدن التي يزورها أن يطل عليها من موضع مثل هذا مرتفع، وقد كان هذا شأني في أكثر الأماكن فإني جعلت هذه النظرة الإجمالية خاتمة ما أردت رؤيته في فيينا، وقصدت من بعدها الضواحي التي يجيء ذكرها في الفصل التالي.
ضواحي فيينا
لضواحي فيينا شهرة تحاكي شهرة الضواحي التابعة لأكثر الضواحي المشهورة، ولا تزيد عنها في الأهمية غير ضواحي باريز البهية، من ذلك جبل كاهلبرج قصدناه صباح يوم في باخرة تقوم من ترعة الدانوب، وكان الناس يومئذ جماهير تتسابق إلى ذلك الموضع فسرنا في الباخرة هذه حتى بلغنا قرية نسدورف، وكان قطار سكة الحديد ينتظر القادمين إليها لينقلهم إلى أعلى الجبل في سكة كانت تختلف ما بين صعود ونزول وانحناء يمنة أو يسرة ودخول وخروج بين غياض الشجر الباسق ومروج العشب النضر، وأغرب من هذا صعود القطار في أكواع ملتفة إلى قمة ذلك الجبل والمناظر تتبدل من حين إلى حين فتتبدى الطبيعة بكل جمالها الساحر للقاعد في الرتل، وهو يتقدم صعدا إلى تلك القنة ومن دونه الحراج والبقاع والأودية فيحدث جمال ذلك المنظر فتنة في القلوب ويحيي في النفوس بهجة لا يوصف لها مقدار، وعلى مثل هذا بلغنا غاية المتفرجين، ودرنا بين الطرق المفروشة بالرمل نرى هنا مزارع بهية وهنا منازل مشيدة مطلية، وهنا حانات تجتمع الناس فيها والنفوس منهم رضية، وهنا مطاعم يتناولون فيها الألوان الفاخرة على صوت الألحان الشجية، والكل ناظرون إلى عاصمة النمسا وما يليها معجبون بما أوجده التحسين الصناعي فوق تلك البدائع الطبيعية.
ومن هذا القبيل قصر شونبرن، وهو مصيف الإمبراطور بنته الملكة ماريا تريزا وأقام فيه نابوليون مدة وجوده في هذه العاصمة، ومن مؤلمات الأحكام التي لا ترد أن ابن هذا الفاتح العظيم من امرأته الثانية، وهي ابنة إمبراطور النمسا، مات في الغرفة التي كان والده ينام فيها، وهي من غرف هذا القصر الفخيم، قصدتهذا القصر مع جماعة كثيرة من السائحين، فأتانا خادمه وأدخلنا بعض جوانبه، ولا حاجة إلى القوم إنه آية في الحسن والزخارف، وإن رياشه وبناءه وبقية ما فيه يليق بقيصر عظيم وملك بلاد كبرى، وفي جملة قاعاته واحدة تعرف باسم القاعة الصينية، كل رياشها حرير أسود مزركش بالقصب، وخشبها من اللك الأسود المصقول، وقاعة واسعة الجوانب للاستقبال والولائم الكبرى تضم فوق 1500 نفس، وفي القصر مكتبة خاصة بالإمبراطور وكنيسة صغيرة له ولأعضاء عائلته، وملهى صغير لمن ذكرنا أيضا، ومواضيع أخرى فائقة الإتقان كثيرة الجمال، ويلحق بهذا القصر حديقة أو هي مجموع غابات وحدائق كانت فيما مر من الأيام حراجا يصطاد الأمراء فيها الأيل والأرانب، فمشيت في طريق بهذه الحديقة يحف به جداران أو هما بالحقيقة صفان من الشجر تعرشت أغصانه، والتفت عروقه وعولجت بالمقراض حتى صارت مثل السور الأخضر طوله 322 مترا، وفي آخره بركة من الماء بديعة ووراؤها أكمة تغشاها الأعشاب السندسية، وفي أعلاه كشك بديع الصنع من الرخام النقي، وما زلت أسرح في هاتيك الطرقات البهية حتى بلغت معرض الزهر والحيوان، فأما الزهر فإنه جمع من أطراف الأرض وغرس هنا في حقول بديعة الترتيب، وبعضه لا ينمو إلا في الأماكن الحارة، فهم غرسوه داخل بيوت من الزجاج والنار توقد من تحت أرضه حتى يظل على النماء، فترى من أشكال النبات في تلك الحديقة ما يعجز عن وصفه قلم المتغزل بمحاسن الطبيعة، وأما الحيوانات فبينها في هذا الموضع كثير من كل غريب الطبع والشكل جاءوا به من أقصى الأقطار، ولكن معارض باريز ولندن للحيوانات أشهر من هذا المعرض وأكبر، وجملة القول إن هذه الحديقة من أعظم متنزهات فيينا يقصدها الناس لفخامة منظرها وحسن هوائها. وأما الذين يريدون اللهو والطرب فعليهم بحديقة براتر التي ذكرناها.
ومن هذا القبيل فيسلاو، وهي مجموع عمائر لأهل الترف والأكابر واقعة على جبل ارتفاعه 800 قدم، ولها شهرة بالخمرة اللذيذة، سرنا إليها بالقطار انتهى بنا إلى سفح الجبل، ومنه قمنا في عربة سارت صعدا إلى رأس الموضع، وفي تلك الجهات حمامات معدنية تفيد في تقوية الأعصاب والماء فيها بارد جدا يرش على الجسم من كل الجوانب رشا شديدا يكاد الرجل أن يقع من وقعه، وقد رأيت هنالك رجلا رومانيا من بخارست، قال لي إنه جاء تلك الحمامات مقعدا يسير على العكاز فتقوت أعصابه حتى صار يمشي بدونها، وبعد أن أقمت مدة في ذلك الموضع البديع عدت إلى فيينا بطريق بادن وهي بلدة مشهورة بحماماتها المعدنية تفيد في الأمراض العصبية وتشفي من داء الروماتزم، فالناس يأتونها من كل صوب بعيد للاستحمام في حماماتها الكثيرة، وأكثرهم يأتونها عن طريق فيينا.
بلاد المجر
قبل أن نتقدم إلى وصف بلاد المجر وعاصمتها بودابست لا بد من ذكر شيء عن السباحة في نهر الدانوب العظيم لشهرة مناظره وجمال غرائبه، فإني قمت في باخرة صغيرة اجتازت الترعة التي تتفرع من الدانوب إلى فيينا، فلما انتهت إلى النهر الكبير ألقت رحلها فتركناها ودخلنا باخرة أكبر منها سارت في صباح ذلك اليوم وظلت تمخر عباب النهر مدة ثلاث عشرة ساعة، ومرت على تسع عشرة محطة قبل أن تبلغ بنا عاصمة المجر، وفي أوائل الطريق قريتا أسبرن وأيزلن اللتان جرت فيهما المعارك بين النمسويين وجنود نابوليون الأول، وكانت جنود ذلك الفاتح العظيم قد عبر نصفها نهر الدانوب إلى الضفة اليسرى من النهر، فأضرم النمسويون النار في الجسر الذي يوصل بين الضفتين عند جزيرة لوبو وهجموا على النصف من جنود نابوليون فاضطروهم إلى التقهقر وكانوا 150 ألف راجل و30 ألف فارس و700 مدفع، واستحكاماتهم باقية آثارها إلى اليوم، على أن بونابارت عاد وعبر النهر من نقطة أخرى، واستأنف القتال فبطش بجيش النمسا وفل مواكبه وسحق قوته ودخل فيينا على مثل ما جاء في الشذرة التاريخية، وسرنا من ذلك الموضع إلى بلدة هنبورج وهي مشهورة بمعمل للدخان أنشأته حكومة النمسا على نفقتها، وعماله بنات عددهن ألف وخمسمائة، وتليها برسبورج، وهي عاصمة المجر من قدم يبلغ عدد سكانها 50 ألفا، وهذه هي المدينة التي جاءتها ماريا تريزا تستنجد أهلها من أبطال المجر على الأعداء فأنجدوها ونصروها على مثل ما تقدم معنا، ومنظر البلاد في هذه الناحية جميل والناس الذين نزلوا في هذه المحطة أو صعدوا الباخرة منها كثار لأهمية الموقع، فكنا هنا وفي كل مدة أخرى مدة السباحة في الدانوب نتطلع أبدا إلى ما حولنا من المشاهد، ونستعين بالآلة المقربة على ما بعد من الأماكن، ولطالما رأينا في الطريق جزرا بهية تمر الباخرات الذاهبة من أحد جانبيها والغادية من الجانب الآخر، وكلها خضرة تنفي عن القلب الحزن، وعمائر وضياع نظيفة تدل أراضيها على الخصب الوافر واعتناء الناس باستدرار ما فيها من الخير الكثير، وهم يسمون هذه الجزر بجزائر الذهب؛ لأن أرضها أريضة خصيبة وخيرها متدفق كثير.
Page inconnue
وبعد هذا مررنا ببلدة أسترجوم التي كانت مقر القديس أسطفانوس أول ملوك المجر في آخر القرن العاشر للميلاد، وكان أسطفانوس هذا أول من نشر الدين المسيحي في بلاده وما يليها، وعظمت أسترجوم من بعده فصارت مقرا للمتاجر الواسعة فلما أغار عليها التتر سنة 1241 امحت آثار عظمتها، وتقلص ظل تجارتها وعادت فانتعشت قليلا في أيام بيلا، أحد ملوك المجر، ثم استولى عليها العثمانيون سنة 1543 وهدموا كنائسها فلما انجلوا عن النمسا برحوا هذه المدينة أيضا فعادت إلى التقدم والنماء، وتقدمنا من هنالك إلى جزيرة جميلة تعرف باسم مرغريت، فما عتمنا أن أبعدنا عنها وتوارت هي عنا حتى أشرفنا على مدينة بودا في الضفة الشرقية من نهر الدانوب، وتجاهها مدينة بست في الضفة الغربية، ومن هاتين المدينتين تتكون بودابست عاصمة المجر، فرست الباخرة قليلا في بودا ريثما نزل منها من نزل، ثم تحولت إلى الضفة الأخرى، ونزلنا في مدينة بودابست في فندق اسمه أوتيل هنغاريا (المجر )، وهو منزل واسع فخيم فيه ثلاثمائة غرفة بني على ضفة الدانوب ومنظر النهر والمدينتين منه في الليل من أجمل ما اكتحلت بمرآه العين؛ لأن الأنوار الكثيرة من السفن في الماء ومن المنازل في الجانبين تنعكس على الماء، ويضاف إلى رونقها خرير الماء والحركة الدائمة في كل جهة، فتجعل لهذه المدينة منظرا من أهم المناظر.
بودابست:
وأما مدينة بودابست وعدد سكانها ثمانمائة ألف نفس فهي مجموع مدينتين كما علمت، يوصل بينهما جسر عظيم سنذكره وزوارق من كل نوع تروح وتجيء ما بين الضفتين في كل آن، وقد أسست هذه المدينة على عهد الرومانيين، فلما أخلوها سنة 275 للميلاد توطنتها قبائل الغوطة، ثم جاءها أقوام الفندال سنة 337، ثم وافاها الهون سنة 407 وكلهم من أهل أوروبا الأول، وتلاهم غيرهم حتى استولى عليها شارلمان في القرن الثامن وملكها المجر بعد وفاته، ثم غزاها التتر على عهد باتوخان حفيد جنكيزخان المشهور في القرن الثالث عشر، فلما خرجوا منها أصلح بيلا ملك المجر ما تهدم من معالمها، وعمل على إعادة عزها المتردم فدعا إليها الناس من كل جانب ورغبهم في السكن والإقامة فجاءوها من بافاريا وإيطاليا وجزائر الروم وبولونيا، ومن ذلك الحين نمت وتقدمت ثم عادت وتأخرت من بعد هجمات الأتراك؛ لأنهم أعملوا السيف في أهلها وأضرموا النار في جوانبها سنة 1526 وسنة 1541، وأقاموا فيها من بعد هذه السنة ستين عاما ثم برحوها بعد متاعب كثيرة، ولكنهم عادوا إليها سنة 1604، فانتقموا من أهلها وظلوا فيها إلى سنة 1686 فلما خرجوا اهتم ملوكها بإعادة رونقها حتى بلغت شأوها الحالي، وهي الآن ثانية مدائن السلطنة النمسوية، وسكان هذه البلاد 15 مليونا هم خليط من أجناس كثيرة كالألمان والمجر والسرب والرومان والسلاف والأرمن والبلغار وبقايا الأتراك والأرناءوط والفرنجة، ولكن المجر - وهم 6 ملايين عدا - يسودون سواهم سيادة تامة في هذه البلاد، وأكثر الأحكام والأعمال الكبرى في يدهم، وقد تفرد هؤلاء القوم بحسن الخلق وكرم النفس وسعة العقل وجمال المنظر، ولعلهم كسبوا جمال الوجوه من كثرة الاختلاط، فإن نساءهم جمعن المحاسن الشرقية إلى المحاسن الغربية ، فهن في طبقة ممتازة بين أهل الجمال ولا سيما في العيون النجلاء والوجوه البيضاء.
وأهم ما يذكر عن بودابست: شارع أندراسي، وهو أعظم شوارعها سمي باسم الكونت أندراسي السياسي المجري المشهور الذي تولى الوزارات ورأسها مرارا، وكان من أقران بسمارك ودزرائيلي في السياسة، والشارع طوله ميلان وعرضه 40 مترا، وأرضه مرصوصة بالخشب وأرصفته واسعة، وفي جانبيه أشجار جميلة من ورائها القصور والمنازل والمخازن البهية؛ حيث تباع الأبضعة الثمينة، وفي هذا الشارع بناء الأوبرا وهو من الأبنية الجميلة تم بناؤه سنة 1884، ويعمل الآن فيه نخبة من أرباب الموسيقى المجرية، وهي ذات شهرة في أوروبا ذائعة فقل أن يجتمع جوق للغناء، ولا يغني أحد الأنغام المجرية، وأكثر أنغامهم حماسية، وهي أقرب إلى الشرقية من سواها، كما أن المجر أقرب من سواهم في الطباع والعوائد والهيئة والأخلاق إلى الشرقيين من معظم الأوروبيين حتى إنهم ليعدون أمة شرقية في أوروبا، ولبعضهم أسماء لا تختلف كثيرا عن الأسماء العربية والتركية، ولهم ملابس قديمة العهد يفخرون بها إلى الآن في بعض الأحيان هي شرقية في زيها، وفي الشارع بناء عظيم لإدارة سكك الحديد المجرية والمتحف، ومعظم ما فيه من آثار ملوك المجر وقوادهم وأسلحة قديمة ونقود ورايات وملابس، وغير هذا مما يؤخذ منه تقدم هذه الأمة من عهد بعيد، وفيه أيضا مجلس النواب المجري، وهو حديث البناء بالغ الزخرف والرواء يزيد إتقانا عن مجلس النواب في فيينا عاصمة السلطنة، وقد أنفقوا عليه نحو مليوني جنيه، وينتهي هذا الشارع بحدائق غناء فيها القصور الباذخة، ومن هنا ركبنا الترامواي الكهربائي إلى الحديقة العمومية، وفيها الحانات والمطاعم والمتنزهات والبحيرات وكل ما راق منظره من الزهر والشجر، حتى إنهم وجدوا فيها مياها كبريتية تفيد في الروماتزم وأمثاله، فبنوا فوقها حمامات يقصدها المستشفون، ولها منظر جميل ونظام بديع، وأما الترامواي الكهربائي الذي أوصلنا إلى هذه الحديقة فيختلف عن الترامواي المعروف في مصر في أن العربات تستمد قوتها من أسلاك تحت الأرض متصلة بالخط الحديدي الذي تسير عليه العربات ، فلا حاجة إلى مثل ما نرى هنا من العمد والأسلاك الكثيرة فوق رءوس المارة. وأغلب الشركات في فرنسا وإيطاليا جرت على الطريقة المعروفة في مصر، وأما إسبانيا وهولاندا وإنكلترا فإنهم يضعون البطارية التي تتولد منها الكهربائية الدافعة للعربات في العربة الأولى من القطار، ويقال بوجه الإجمال إن الترامواي الكهربائي لم يشع استعماله في أوروبا إلى الآن وربما كان إقبال الناس في مصر عليه أكثر من إقبالهم في مدائن أوروبا، وأكثر ما يكون الترامواي عندهم في الشوارع المتباعدة عن مراكز المدن حيث يقل الزحام، وأما في الشوارع الكبرى حيث تكثر الحركة فيندر أن تسير قطارات الترامواي، وهذا يخالف الذي تراه في مصر حيث مدت خطوط الترامواي في شوارع ضيقة تكثر الحركة فيها، مثل شارع كلوت بك ومحمد علي والفجالة، وقد نشأ عن ذلك صعوبة في مرور الناس والعربات على ما يعلم الجمهور.
قلنا إن المجريين اشتهروا بالموسيقى المعروفة عنهم، والحق يقال إنهم اشتهروا أيضا بالرسم والنقش والتصوير والشعر فهم أهل ذوق لطيف؛ لأنهم أتقنوا الفنون الجميلة ومن أكبر آيات الفخر عندهم أن يشير المرء منهم إلى جد له اشتهر بالشعر أو بالتصوير، وقد قام بينهم مشاهير بهذه الفنون وقادة وساسة كثار حتى إنك كيفما سرت في هذه المدينة العظيمة ترى رسم كبير أو نصب شهير من رجالهم، وأهل بودابست أكثر العواصم الكبرى نصبا وتماثيل من هذا النوع، وهم يتفاخرون بجميع الصور والآثار الفنية القديمة، فإني عرفت عائلة من عائلات السراة عندهم اسمها أسترهازي كان أحد أفرادها يتردد على مصر كل شتاء وينفق فيها الأموال الطائلة حتى آل به الأمر إلى الحاجة، فباع ما عنده من نفيس الرسوم وفاخر الصور بالمزاد العلني، واشترت حكومة المجر ما عنده بنحو مليونين وستمائة ألف فرنك سنة 1865، ونقلتها إلى متحف فرانس جوزف للفنون الجميلة، وإني قصدت هذا المتحف ورأيت غرائب الصناعة فيه، وأعظم صوره دينية تمثل حوادث ذكرت في الإنجيل والتوراة، مثل هرب المسيح إلى مصر، وصورة إبراهيم وامرأته هاجر وغير هذا، وأكثر الصور المتقنة من صنع موريلو المصور الإسباني المشهور وبعض المصورين المجريين، وقد أطلقوا اسم فرانس جوزف على أشياء كثيرة غير هذا المتحف، منها شارع كبير يمتد على طول ضفة الدانوب إلى البورصة الجديدة وإدارة الجمارك، والناس يقصدون هذا الشارع البهي من كل جانب للنزهة والفرجة بعضهم على بعض، وللجلوس في الأماكن العمومية الكثيرة فيه، وهي تشرف على الدانوب، وينتهي هذا الشارع أو الرصيف عند الجسر العظيم المعروف بالجسر المعلق، سمي بهذا؛ لأنه بني بدون عمد أو دعائم ركزت في وسط النهر، رسمه أحد مهندسي الإنكليز، وأنفقت مدينة بودابست على بنائه ثمانية ملايين وربع المليون من الفرنكات، وهو من أجمل الجسور المعروفة في الدنيا وأكبرها وأشهرها، طوله 418 مترا وعرضه 30 قدما، وارتفاعه عن سطح الماء 42، وفي طرفيه من هنا ومن هنا عمال يتقاضون رسما طفيفا من كل مار عليه، ومنظر المدينة إلى الجانبين من ذلك الجسر كثير الجمال.
ومما يذكر بين مناظر بودابست جزيرة صغيرة على مقربة من المدينة اسمها مرغريت أنفقوا ألوف الألوف على رسمها وتنظيمها وتحسينها وجعلوها متنزها لأهل العاصمة فصارت من أجمل المواضع التي تنشرح الصدور لمرآها؛ لأنها واقعة في وسط النهر وكلها محاسن طبيعية وصناعية، فترى الناس ينتابونها في كل يوم ولاسيما في أيام الأحد والأعياد، وهم يأتونها في زوارق وسفن بخارية صغيرة تقوم إليها كل نصف ساعة، وفيها غير ما تعلم من البرك والحدائق والمطاعم والحانات الكثيرة خط للترامواي تجر عرباته الخيل يسير في طول الجزيرة بين صفوف الشجر وغرائب المنظر، ويسمع في جانبها الأنغام المجرية تصدح بها الموسيقى الوطنية، ورجالها متردون بالملابس المجرية القديمة فيلذ للناس كثيرا سماع أنغامهم، ويظهر الجمع لهم الاستحسان بالتصفيق في نهاية كل دور، وللملابس البحرية القديمة شأن عند هؤلاء القوم، وهي تعرف باللون الأخضر الغالب فيها؛ لأنه شعار الأمة المجرية، فبعضهم يلبسون القبعات الخضراء في الاحتفالات الوطنية دليل تحمسهم وتذكرهم شعار الوطن؛ ولهذا أضيف إلى راية النمسا خط أخضر بعد انضمام المجر إليها، وأكثر ما يكون لبسهم للقبعات الخضراء خارج بلادهم ليظهروا للملأ جنسيتهم .
وجملة القول إن جزيرة مرغريت هذه من أحلى ضواحي بودابست وأبهاها، قضيت فيها النهار بطوله حتى إذا خيم الغسق عدت إلى المدينة وشهدت تمثيل رواية مجرية قديمة في الملعب الكبير رأيت فيها صفوفا من البنات المجريات بالملابس العسكرية المجرية، وهي قبعات خضراء مذهبة وسراويل بيضاء وستر قصيرة حمراء مزركشة بالقصب، وقد حمل أفراد هذا الجيش الجميل الرماح وتقلدن السيوف وسارت واحدة منهن بارعة الجمال في الطليعة فكان لمنظرهن بهجة تفوق الوصف.
هذا كله في مدينة بست أو هي القسم الشرقي من عاصمة المجر، وقد مر بك أن الجسر العظيم موصل بينهما، وأن النهر تملأه الزوارق والبواخر التي تروح وتجيء بالناس في كل ساعة بين الجانبين. وأما بودا فإننا رأينا حال وصولنا أنها بنيت على مرتفع من الأرض سفحه عند النهر وقمته عالية تشرف على ما بعد من المناظر، فهم يصعدون من السفح إلى القمة في آلة رافعة مثل التي يستعملونها في البنايات، وهي عبارة عن غرفة برياشها ومقاعدها ترتفع بالقوة الميكانيكية أو تنزل فتستقر حيث يريد الناس، فلما قعدنا فيها مع القاعدين وبدأت بالصعود تأملنا مدينة بست وهي أمامنا من وراء النهر، فإذا بها تهبط وتدور، والحقيقة أننا كنا نصعد فيخيل لنا ذلك حتى إذا وصلنا آخر المسافة كانت المدينة تحت نظرنا من أولها إلى آخرها، وكان لذلك المنظر غرابة لا يزول ذكرها من الذهن، وفي بودا هذه قلعة قديمة كانت في يد الأتراك فلما خرجوا من بلاد النمسا والمجر بقي رجال هذه القلعة فيها ودافعوا عنها دفاع الأبطال مدة أربعة أشهر، فأظهروا ما اشتهر عن أمتهم من البسالة الغريبة، ثم سلموا لتكاثر العدد عليهم، ولم يجد الفاتحون في القلعة حين دخولها غير عدد قليل من هؤلاء الرجال، ولم تزل آثار الترك باقية في هذه المدينة حتى إن فيها جامعا صغيرا وفيه مقام للشيخ جول بابا، بني على تل جميل المنظر، وقد بقي الجامع والمقام على حالهما الأول باتفاق تم بين الدولة العلية ودولة النمسا حين خروج الأتراك من بودابست ، وللجامع خادم تركي يلبس لبدة بيضاء وعمامة بيضاء صغيرة، وبقية ملابسه تحكي ملابس المشايخ الأتراك. والمسلمون في بودابست يحيون مولد صاحب المقام في كل عام باحتفال يذكر، وبعضهم يأتون من الآستانة لحضور هذا الاحتفال، وللمجر علاقة بالدولة العلية تزيد عن غيرها؛ نظرا لما بين المملكتين من القرب والاتصال ولا سيما بعد أن وصلت فيينا بالآستانة عن طريق بودابست هذه بسكة الحديد، وهي متصلة أيضا ببقية أوروبا حتى إنه ليمكن السفر في عربة واحدة من باريز إلى الآستانة على هذا الطريق، ولم يتم هذا الاتصال إلا في سنة 1888، فكان الذين يزورون الآستانة قبل ذلك عن طريق بودابست، يسافر إلى بخارست عاصمة رومانيا ومنها إلى بلغاريا، حيث تقوم باخرة من فارنا في الحدود البلغارية إلى الآستانة.
ومن أهم ما يذكر في بودا قصر فخيم للإمبراطور يقيم به حين يجيء المدينة، ويستقبل كبراء المملكة ووزراءها ونوابها، وأما النواب فلهم مجلس خاص بهم على مقربة من الشارع الكبير في بست، وقد اشتهر نواب المجر ببلاغتهم وفصاحتهم وغزارة معارفهم، وقام من بينهم فطاحل السياسة مثل أندراسي وتاف وتتسا وغيرهم، وهم أحرار في مبادئهم السياسية يميلون إلى التقدم مع الزمان، وقد سنوا لبلادهم نظامات حرة كثيرة الفائدة يحسدهم على مثلها النمسويون.
وفي بودا أيضا المجلس البلدي للمدينة، وهو لا يختلف عن المجالس البلدية الأخرى في ترتيبه ونوعه، وفيها كنيسة مار متى المشهورة بنيت في القرن الرابع عشر تجاه المجلس البلدي، كان ملوك المجر يعدونها خاصة بهم، وقد توج الإمبراطور فرانس جوزف الحالي ملكا للمجر في هذه الكنيسة سنة 1867. والذي يمكن وصفه في بودابست كثير وهي - كما تقدم القول - مدينة زاهرة عامرة، أهلها ذوو يسار ونعمة، وليس فيها ما في غيرها من قلاقل أهل الفوضى وكثرة الأحزاب، وأهلها راقون متعلمون لهم ولع بالأمور المجرية وميل إلى وطنهم شديد، فلما انقضت مدة زيارتي لهذه المدينة البهية عدت إلى فيينا ولكنني اخترت هذه المرة سكة الحديد بدل النهر حتى أرى الطريقين ما بين المدينتين، والخط يجري بإزاء النهر في أكثر الأحيان، ويتباعد عنه في مواضع فيدخل آونة بعد أخرى بلادا كثير جمالها يضيق المقام عن وصف أحوالها.
Page inconnue
الحمامات المعدنية
معلوم أن بلاد النمسا اشتهرت بحماماتها المعدنية التي تقوي الأجسام وتشفي من بعض الأمراض، حتى إنها صارت ملاذ الأكابر ومصيف الأمراء يأتونها مستشفين أو متفرجين، وأشهر هذه الحمامات في مدينة كارلسباد سرنا إليها بقطار سكة الحديد من فيينا فوصلناها بعد 12 ساعة، وهي مدينة مشهورة لا يقل عدد الوافدين عليها كل سنة عن أربعين ألفا، يأتونها من كل حدب وصوب، وقد كثر ذهاب الناس من مصر إليها في الأعوام الأخيرة، واشتهر أمرها بين الكثيرين. وفي كارلسباد 14 نبعا للماء المعدني على أشكاله تختلف حرارته ما بين 26 و72 درجة بمقياس سنتغراد، قيل إن اكتشاف هذه الينابيع المعدنية كان بطريقة غريبة، هي أن الملك كارل الرابع خرج للصيد في أحد الأيام، وبينا هو يتأثر الأيل في هذه البقعة رأى كلابه تتوجع من حرارة الماء، فأمر بإرسال كمية منه إلى الكيماويين ليحللوه ويعلموا أمره؛ فعرفوا أنه يخالطه قلويات وأملاح تفيد الأبدان، واشتهر أمر هذه الحمامات بعد ذلك حتى كبرت المدينة ونمت من كثرة القادمين إليها، وفرضت المدينة ضريبة مقدارها عشرة فرنكات تتقاضاها من كل قادم للبلد، وتنفق مجموع هذه الضرائب على تحسين المدينة وتسهيل الإقامة وتوفير الراحة للقادمين، وقد بلغ دخل هذه المدينة في العام أربعمائة ألف فرنك مع أنها صغيرة لا يزيد سكانها عن خمسة عشر ألفا، ولكن فيها نحو 50 طبيبا مدة فصل الاستحمام يدلون المريض إلى النبع الذي يجب الاعتماد على مائه، وما يلزم له من الأكل والشرب وغير هذا من النصائح اللازمة. والناس يخرجون كل صباح إلى أماكن الاستقاء من الماء المعدني وفي أيديهم أقداح يتناولون الماء بها كل في دوره، وقد أوقفت البلدية رجالا من البوليس لخدمة الناس والمحافظة على النظام بينهم، وبنت أروقة وأبنية بديعة إلى جانبها يلجأ إليها الناس ويستريحون أو يقضون ساعات الفراغ وهم يسمعون الأنغام الشجية، وليس ينحصر دخل هذه الينابيع في الضريبة التي تتقاضاها الحكومة من القادمين، ولا في أجرة الحمامات ولكنهم يصدرون من مائها مقادير عظيمة في زجاجات معروفة إلى كل ناحية، فقد بلغ عدد الزجاجات التي تصدر من كارلسباد كل عام ثلاثة ملايين زجاجة، وتسعين ألف رطل من الملح يخرج من ماء الينابيع، وبعض تلك الينابيع يندفع الماء منه بقوة كبرى مثل نبع سبرودل يرتفع ماؤه 13 قدما عند خروجه ويصب في بركة نحو 33 مترا مكعبا كل دقيقة، ودرجة حرارته 72 سنتغراد، فيتناول الشاربون الماء مصا كمن يشرب القهوة أو الشاي، وأكثر الينابيع تجد فيها البنات يخدمن القادمين خدمة تنشرح لها الصدور، وهؤلاء الخادمات كثيرات أيضا في المطاعم والمتنزهات المحدقة بالمياه المعدنية في كل جانب، ولكل خادمة منهن نمرة تعرف بها، والمرء إذا فرغ من الاستقاء عند الصباح ذهب إلى المطاعم المذكورة، وبعدها دار في تلك المتنزهات الكثيرة، وأهمها جبال تحيط بالبلدة وكلها غياض غضة من شجر الصنوبر الباسق تفوح روائحه العطرة في كل جانب، وقد نظمت طرقات بديعة متعرجة للصعود إلى رأس تلك الجبال ووضعت المقاعد في الطريق يستريح عليها الناس، وعلقت في بعض الأشجار أيقونات لمن يريد الصلاة في الطريق، وأهم هذه الجبال جبل فرانس جوزف ارتفاعه 1637 قدما، وجبل أبير ارتفاعه 2000 قدم وغيرهما.
وأما المطاعم والفنادق في كارلسباد فكثيرة جدا، تكفي لكل الزائرين والنازلين وكلها تحت مراقبة الحكومة متبعة النظام الصحي، فلا أطعمة غليظة فيها ولا أفاوية حارة ولا فاكهة مضرة، وكل الأماكن العمومية في كارلسباد تقفل عند الساعة التاسعة من الليل، حتى إن المراسح تقوم بالتمثيل في النهار اتباعا لرأي الأطباء وعملا بما يفيد المستشفين، وهم الفريق الأكبر من زوار المدينة يأتونها من كل جنس وملة، وإني أذكر أني اجتمعت على مائدة واحدة للطعام برومي وفرنسوي وإنكليزي وبلغاري، ورأيت جماعة كثيرة من الوجهاء المعروفين في مصر.
ومن المواضع المشهورة بحماماتها المعدنية قرية جيسهبلر، يصدر من مائها المعدني مقادير وافرة إلى كل جهة، فيشربه الناس صرفا أو ممزوجا بالخمر، وهي تبعد نحو ساعتين عن كارلسباد، سرنا إليها من المدينة المذكورة في طريق كله غياض كثيفة لا يرى شعاع الشمس فيها من كثرة الشجر إلا في مواضع قليلة. وقد كانت أرض جيسهبلر هذه ملكا لواحد من أمراء النمسا، فلم يستفد منها شيئا وباعها لرجل ذي همة وذكاء اسمه الخواجة ماتوني، ما عتم أن ملك تلك الأرض حتى عني باستخراج مائها الشافي وجعل يصدر منه المقادير العظيمة، ويعلن في الجرائد عن فائدته ويسعى في تعميم استعماله حتى نال شهرة عظيمة، وأثرى الرجل وصار عنده مال طائل، فنقل بيته إلى هذه الجهة وقطع أشجارا كثيرة بنى محلها قصرا جميلا له ولعائلته، ومساكن للعمال الكثيرين الذين يشتغلون في تعبئة الزجاجات ماء وإصدارها إلى بقية الجهات، وهم مئات يعملون في الليل والنهار بعضهم يتلقى الماء من النبع، وبعضهم يملأ الزجاجات ماء وبعضهم يسد الزجاجة، وبعضهم يلصق عليها أوراقا باسم المحل وصاحبه، وبعضهم يضعها في الصناديق المعدة لنقلها حتى إذا ملئت الصناديق نقلت إلى الجهات الكثيرة، ومعظمها يرسل إلى البلاد الحارة، وهي تجارة رابحة دائمة لا وقوف لحركتها مدة العام بطوله، وقد بنى الخواجة ماتوني أيضا حدائق وفنادق للزائرين، وجعل هذه البقعة ذات أهمية كبرى، وسمي هذا الموضع بالميزاب؛ لأنه يدر الذهب على صاحبه كما يدر الميزاب ماء العين. والمكان بوجه الإجمال من أنسب الأماكن للاستشفاء؛ لأن هواءه نقي، والمناظر المحيطة به في الدرجة الأولى من البهاء والرواء.
ومن هذا القبيل أيضا مدينة ماريمباد تقرب من كارلسباد في شهرة ينابيعها المعدنية، وهي تفيد في تقليل السمن، وعلى مقربة منها بلدة اسمها فرانسس باد تزيد المستحمين بمائها سمنا، وأكثر الذين ينتابون هذه الحمامات المعدنية سيدات من اللواتي يعتنين بأجسامهن، فترى في ماريمباد جماعات منهن سمينات يشربن ماءها ويغتسلن ليذهب قليل من سمنهن، وقد جعل جلالة ملك إنكلترا يقصد هذه الحمامات كل سنة في العهد الأخير؛ فزاد إقبال الناس عليها زيادة كبرى، وأما السيدات اللواتي يجتمعن في فرانسس باد فيردن من ذلك اكتساب السمن، وقد كانت ماريمباد مجموع غابات وحراج من شجر الصنوبر وغيره فليس يخلو منه موضع إلا حيث قطع وأقيم في محله بناء. وأكثر أبنية المدينة جديدة وهي وافرة التنظيم والجمال، ولها شوارع فسيحة نظيفة وفسحات عدة يحيط بها كلها شجر الصنوبر تتضوع منه الرائحة المعروفة فتزيد المكان فائدة وجمالا، ويبلغ عدد الوافدين على ماريمباد 15 ألفا كل عام، ويصدر منها مليون زجاجة من الماء المعدني كل سنة إلى الخارج، ولهذه المياه شهرة واسعة، ولما استقر بنا النوى في هذه المدينة درنا نتفرج على مشاهدها الطبيعية وآيات جمالها، فجلست في قهوة اسمها قهوة جرلانديا بنيت فوق جبل يشرف على بحيرة طبيعية في سهل واسع الجوانب، وله منظر مفرط الجمال، وفيه الفتيات البوهيميات المشهورات بالرشاقة واللباقة يخدمن القاعدين في القهوة وهن لابسات الزي البوهيمي، وهو قبعة صغيرة على رأس الفتاة وصدر مكشوف وسواعد ظاهرة وجلباب قصير إلى ما تحت الركبتين بقليل، وقد علقت في أعناقهن سلاسل من الفضة، وهن يخدمن بنشاط وهمة تزيد في رونق ذلك الموضع وتتمم آيات حسنه وجماله، وقد زرت الينابيع المعدنية، وسرت تحت رواق عظيم الطول قائم على عمد كثيرة، وهو محل الاجتماع العمومي تصدح به الموسيقى، وعلى مقربة منه أناس من أهل البلاد يبيعون قطعا خشبية عليها نقوش وكتابات يجعلونها تذكارا لزيارة هذا المكان، أو أواني الخزف البوهيمي المعروف، وهي كثيرة في كل بلاد.
وبرحت هذه المدينة الجميلة قاصدا بلاد ألمانيا فعرجت على درسدن عاصمة مملكة سكسونيا، يقيم فيها ملك البلاد ووزراء دولته، وسكسونيا مملكة من ممالك ألمانيا المهمة عرفت بالتقدم في العلم والصناعة إلى الدرجة القصوى، ولعاصمتها المذكورة شهرة فائقة في معاملها ومدارسها العالية ومعارض الفنون الجميلة فيها، ويبلغ عدد سكانها نصف مليون نفس، وهي مبنية على ضفة نهر الألب الذي يشطرها شطرين متساويين ويزيد منظرها رونقا وحسنا، لا سيما وقد بنوا فوقه الجسور البديعة، أشهرها جسر أوغسطس طوله 400 متر وعرضه 13. وفي هذه المدينة 4 محطات لسكة الحديد تنقل منها المصنوعات السكسونية - ومن أهمها الخزف - إلى بعيد الأقطار، ويظهر منها ومن كل جهة أخرى في هذا البلد العظيم أثر الجد والنشاط على وجوه الأهالي، ويكثر مرور السفن والبواخر في نهر الألب مارة بين أحياء المدينة، وهي قاصدة أنحاء سكسونيا التي يرويها هذا النهر. ولقد شهدت فيها من القصور والمتاحف شيئا كثيرا لم أر حاجة إلى ذكره، فأتقدم إلى وصف بقية مدائن السلطنة الألمانية بعد شيء من خلاصة تاريخها.
ألمانيا
خلاصة تاريخية
إن دولة ألمانيا الحالية حديثة العهد، لم تبدأ على شكلها الحالي إلا في عام 1871، ولكن الممالك التي تتكون منها هذه السلطنة قديمة لكل منها تاريخ خاص بها، وقد كان أكثرها يعد في جملة الممالك الألمانية القديمة التي رأستها بلاد النمسا إلى أواسط القرن الأخير.
وأشهر ما يذكر عن ألمانيا أن أقوامها عرفوا بالبطش والبسالة في أيام الرومانيين، ولم يأتوا أمرا يذكر حتى قام شارلمان ونظم مملكته وخلفه ابنه لويس دبوناير، وهو الذي قسم مملكته الواسعة على أولاده في حياته، فأصاب أحدهم واسمه لويس الجرماني، أكثر الولايات الألمانية، ومن ذلك الحين - أي من سنة 843 - صارت ألمانيا دولة مستقلة، ينتخب ملوكها الأمراء والأعيان وأساقفة الكنيسة، وأكثر الذين وقع عليهم الانتخاب من العائلات المالكة، مثل عائلة شارلمان، وقام منهم ملوك اشتهر ذكرهم في التاريخ، منهم أوتو الكبير ملك من سنة 936 إلى 973، وهو رجل أكثر من الغزوات وحارب البابوات مرارا؛ فانتصر عليهم وجعل يعين من شاء منهم، ولكن الأمر انقلب بعد موته إلى ضد ذلك، فعلا شأن البابوات وصاروا يأمرون ملوك ألمانيا وينهونهم ويعزلون بعضهم ويولونهم، ويفرضون عليهم الغرامات وأنواع العقاب. وكان في جملة الذين اشتهروا من هؤلاء الملوك فريدريك بارباروسا ملك من سنة 1152 إلى 1190، واشترك في الحروب الصليبية، وكان له فيها المواقع المشهورة، أهمها واقعة قونية التي فتحها عنوة بعد قتال شديد.
Page inconnue
وظل أمراء ألمانيا ورؤساء الدين فيها ينتخبون الملوك واحدا بعد واحد حتى قام رودولف هابسبرج المشهور في سنة 1373، وهو الذي أسس الدولة الحاكمة إلى الآن في النمسا - وقد مر ذكره - فعظم نفوذه، وحصر الملك في عائلته فصار قياصرة ألمانيا كلهم من آل هابسبرج إلى أيام نابوليون، وزاد نفوذ آل هابسبرج زيادة كبرى في القرن الخامس عشر بسبب اقتران الأمير مكسميليان ابن الملك فريدريك الثالث بالأميرة ماري من آل بورغونيا، وتلا ذلك أن مكسميليان هذا صار إمبراطورا واقترن ابنه فيليب بالأميرة حنة ابنة ملك إسبانيا، فرزق الاثنان ولدا هو كارل الخامس ملك إسبانيا وإمبراطور النمسا المشهور الذي حدث الانقلاب الديني وقامت طائفة البروتستانت في أيامه، وهو الذي قيل إن الشمس لم تغرب عن أملاكه؛ لأنه فوق ما ملك في أوروبا كان معظم القارة الأميركية له، وقام بحروب عديدة مع فرانسوا الأول ملك فرنسا - ترى ذكرها في تاريخ الدولة الفرنسية - وتنازل كارل الخامس هذا عن الملك لابنه فيليب سنة 1556، فعاد أمراء ألمانيا إلى انتخاب الإمبراطور، واختاروا فردناند الأول من آل هابسبرج ثم تعاقب من بعده الملوك، ولا أهمية لأكثرهم.
وبينا هذه الحوادث تجري قامت قوة جديدة في ألمانيا هي أصل المملكة الألمانية الحالية، ذلك أن بروسيا كانت إلى ذلك الحين بلادا غير مشهورة تابعة لمملكة النمسا أو لمملكة بولونيا، ففي سنة 1415 اشتهر أمير من أمرائها اسمه فريدريك صاحب مقاطعة هوهنزولرن، وضم إلى أملاكه القليلة ولاية براندنبرج بإذن من ملك بوهيميا؛ فأسس بذلك دولة هوهنزولرن براندنبرج، وهي الحاكمة إلى الآن في بروسيا وألمانيا. وفي سنة 1535 صار صاحب براندنبرج أميرا لبروسيا تحت سيادة ملك بولونيا، وفي سنة 1608 صار صاحب بروسيا هذه أميرا من أمراء المملكة الألمانية الذين لهم حق انتخاب الإمبراطور، وهم يومئذ سبعة دوكات يلقبون بلقب «المنتخب»؛ تمييزا لهم عن الأمراء الآخرين الذين لم يحق لهم ذلك، فعظم من بعد هذا شأن بروسيا حتى إن فريدريك وليم - أحد أمرائها ويعرف باسم المنتخب الكبير - استقل بالأحكام في بلاده استقلالا تاما في سنة 1657، وحفيده انتحل لقب ملك سنة 1701، واشتهر باسم فريدريك الأول ملك بروسيا، ولما قام فريدريك الكبير في سنة 1740 وتولى مهام الملك كان لبروسيا شأن عظيم بين دول أوروبا، وعند ملكها خزانة عامرة بالمال والتحف، وجيش قوي منظم عدده ستون ألفا، فزادت قوة بروسيا وأملاكها في أيامه زيادة تذكر، وحدثت حروب مشهورة بسبب انقطاع الذكور من آل هابسبرج ووصول الملك إلى يد ماريا تريزا ملكة النمسا المشهورة، وكان فريدريك الكبير ملك بروسيا طامعا بزيادة الملك، فلما رأت ماريا تريزا ذلك منه أرضته بقسم كبير من بلاد سيليسيا في جنوب بروسيا، فامتنع عن محاربتها ورضي ببقاء الملك الألماني في يد آل هابسبرج وعقد معها ومع غيرها معاهدة أيكس لاشايل المشهورة في سنة 1748، فاشتهر من بعد هذه المعاهدة أن بروسيا من أقوى دول أوروبا، وصارت حليفة للنمسا بدل أن تكون تابعة لها في الاتحاد الألماني.
وفي سنة 1756 أحس ملك بروسيا بمؤامرة وتواطؤ ما بين ملوك روسيا والنمسا وساكسونيا على محاربته واغتصاب شيء من أملاكه؛ فجند الجيوش وبدأ يحارب الأعداء في كل جهة، واستعان بمحالفيه فاشتبكت أوروبا كلها بحرب طويلة دامت 30 سنة، وهي تعرف في التاريخ باسم «حرب الثلاثين سنة» عقد من بعدها صلح، أهم شروطه أن تبقى الأمور على مثل ما كانت قبل الحرب. ومات فريدريك الكبير هذا في سنة 1786 فورثه ابن أخيه فريدريك ولهلم الثاني، وكانت مملكة بروسيا في أيامه عظيمة الشأن تقدمت في العلم والصناعة وقام منها الفطاحل، مثل: لينتز وولف وكانت وجوبث وشلر، وهم من الفلاسفة الذين شادوا لبلادهم في ساحة العلم والقلم صروح الفخر العظيم، وحدثت في تلك الأثناء الثورة الفرنسوية فاهتزت لها عروش أوروبا، ومن ثم تحالفت النمسا وبروسيا وإنكلترا على محاربة فرنسا، فبدأت تلك المعارك الهائلة التي انتهت بموقعة واترلو سنة 1815 بين نابوليون من جهة وجنود أوروبا من جهة، وترى بيانها في تاريخ فرنسا. وقد كانت بروسيا خاسرة في أكثر المعارك التي حضرها نابوليون بنفسه واضطرت إلى قبول ما أراد من الشروط، وهو - على ما يظهر للأكثرين - كان يحسب حسابا كبيرا لاتحاد الأقوام الألمانية على بلاده، فلما انتصر على إمبراطور النمسا في معركة أوسترلتز وبدد جنود بروسيا في المعارك السابقة، ألغى الإمبراطورية الألمانية التي كان مركزها إلى ذلك الحين في فيينا، وصار إمبراطور ألمانيا يعرف باسم ملك النمسا فقط، واستقلت بروسيا من تلك السيادة الوهمية استقلالا تاما، وأنشئت ممالك أخرى ألمانية رأس بعضها إخوة نابوليون بونابارت وبعضها صنائعه، فتم بذلك المراد للفاتح الفرنسوي العظيم من تجزئة السلطنة الألمانية، وظل الحال على مثل هذا إلى يوم خذلانه على يد الإنكليز والبروسيين في معركة واترلو سنة 1815.
ولما رأت الأقوام الألمانية عند سقوط نابوليون أن مصلحتها تقوم بالانضمام عادت إليه في الحال فعقد في فيينا مؤتمر عظيم الشهرة في شهر نوفمبر من سنة 1815 حضره النواب من 37 مملكة وإمارة ألمانية، وقرروا فيه أن تتحد هذه الممالك والإمارات اتحادها الأول، وأن تكون النمسا مركز هذا الاتحاد الألماني في الجنوب وبروسيا مركزه في الشمال، وتظل كل مملكة أو إمارة حرة في شئونها الداخلية، وزادوا على هذا في سنة 1837 أنهم قرروا إبطال الرسوم الجمركية أو تخفيفها فيما بين هذه الممالك الألمانية؛ فتم بذلك الاتحاد الذي كانت فرنسا تخشى شره، ولكنه لم ينتج عنه شر لأوروبا، ولا سيما بعد أن تحاربت النمسا وفرنسا في سنة 1859، ولم تنتصر الممالك الألمانية للنمسا واضطرت هذه المملكة أن تسلم بعض أملاكها لإيطاليا عملا بشروط الطليان والفرنسيس الذين نصروهم في حروب الاستقلال الطلياني. وفي سنة 1860 اتحدت النمسا وبروسيا على محاربة الدنمارك فانتصرتا عليها وأخذتا منها ولايات شليسوج وهولشتين ولاونبرج، وكانت النمسا تحكم أولاهما وبروسيا تحكم الثانية والثالثة من بعد ذلك النصر حتى اختلفتا على بعض المسائل، وشهرت تلك الحرب المشهورة بينهما في سنة 1866، وكان البرنس بسمارك المعروف يدير سياسة بروسيا وقتئذ، والكونت مولتكي يقود جنودها فأحرز البروسيون نصرا عظيما على النمساويين، وملكوا منهم الأراضي، أخصها التي اغتصبوها من الدنمارك، وعلى إثر ذلك عقدت معاهدة في فرانكفورت بألمانيا، من مقتضاها إخراج النمسا من التحالف الألماني الشمالي، والاتفاق على أن تكون بروسيا رئيسة ذلك التحالف بدلها، ثم استولت بروسيا على مملكة هانوفر وغيرها فصارت مملكتها قوية واسعة، واشتهرت بقوة جيشها ومهارة قوادها، حتى إذا كانت سنة 1870 وانتصرت في حربها المشهورة على فرنسا لم يبق في أوروبا أعظم منها، فأعيدت الإمبراطورية الألمانية القديمة برئاسة بروسيا، وتوج ولهلم الأول جد الإمبراطور الحالي إمبراطورا لألمانيا في فرسايل في قصر ملوك فرنسا سنة 1871، بعد أن تم النصر لبروسيا، وعقدت شروط الصلح مع فرنسا، وبذلك بلغت بروسيا أوج العز وصارت مملكة ألمانيا التي ترأسها من أعظم ممالك الأرض وأقواها فنمت وتقدمت في الصناعة والتجارة تقدما يذكره الناس في كل حين مع الدهش والاستغراب.
وكان ولهلم الأول مؤسس هذه الإمبراطورية من الملوك العظام، تعلق الألمانيون على حبه وإكرامه حتى إذا مات سنة 1888 احتفلوا بدفنه احتفالا عظيما، وهم إلى الآن يذكرون أيامه وتقدم السلطنة على عهده، وخلفه ابنه فريدريك الثاني وكان يوم وفاة والده في سان ريمو من مدن إيطاليا مريضا بداء السرطان فجاء برلين وتولى مهام الملك بمساعدة البرنس بسمارك ونجله الإمبراطور الحالي، فما طالت أيامه؛ لأنه توفاه الله في شهر يونيو من تلك السنة، وحزنت ألمانيا لوفاته كثيرا؛ لأنه اشتهر بالفضائل وندبه الإنكليز أيضا؛ لأن قرينته كانت أكبر بنات الملكة فكتوريا، وقد ولد له ابنان هما، ولهلم الإمبراطور الحالي، وأخوه البرنس هنري أحد قواد الأسطول الألماني وعدة بنات.
غليوم الثاني إمبراطور ألمانيا.
واشتهر جلالة الإمبراطور الحالي بالحزم وسرعة الخاطر وحب التوسع في الملك، وهو من أمهر ملوك أوروبا الحاليين وأقدرهم، تقدمت ألمانيا في أيامه تقدما عظيما وملكت في الصين وأفريقيا الأراضي الواسعة وامتدت متاجرها وكبر نفوذها إلى حد لم تعرفه من قبل هذا الحين، وعدد سكان هذه السلطنة الآن 62 مليونا، وهي أشهر الدول في قوة جيشها البري، وثانية دول أوروبا في القوات البحرية وتجارتها نامية نماء لا نظير له في التاريخ الحديث.
برلين
هي عاصمة بروسيا وألمانيا معا، تعد ثالثة مدن أوروبا في العظمة والأهمية، ولكنها حديثة العهد لم يبدأ تاريخ عظمتها إلا من بعد منتصف القرن الماضي ويزيد سكانها عن مليوني نسمة، وكان في مكانها نهر على ضفتيه غياض وسهول خصيبة فلم تعمر إلا في القرن الثاني عشر حين سكنها بعض فلاحي الألمان وجعلوها مدينتين: واحدة إلى الضفة اليمنى من النهر، وهي برلين، والأخرى تجاهها وهي كولن، فاتحدت المدينتان سنة 1307 ودخلت في حوزة آل هوهنزلورن في القرن الخامس عشر، وصارت قاعدة إمارتهم في أواخره، وكان ذلك بدء تقدمها حتى إذا حدثت حرب الثلاثين سنة التي ذكرناها في فصل التاريخ وانتهت على ما يريد ملك بروسيا، زادت برلين أهمية وكثرت فيها الأبنية، وظلت على هذا التقدم وملوكها يزيدون محاسنها واحدا بعد واحد، حتى دخل هذا القرن وانتصرت بروسيا انتصاراتها الباهرة على الدنمارك والنمسا وفرنسا؛ فزادت أهمية عاصمتها زيادة كبرى، وأكثر ما فيها الآن من منظر فخيم وأثر عظيم يعد حديث العهد، ويدل دلالة قاطعة على نمو المدينة في السنوات الأخيرة من تاريخها، ولا سيما في الضواحي خارج بوابة براندنبرج؛ حيث بنيت أحياء جديدة برمتها فبلغت مساحة الشوارع 2500000 متر مربع، موزعة على خطوط لا يقل طولها عن 487 كيلومترا، وعدد العاملين بكنسها ورشها يزيد عن 1500 رجل و500 غلام.
والمدينة في منبسط من الأرض يشطرها نهر صغير اسمه سبري شطرين، ولها عدة مداخل أو (بوابات) قديمة العهد، أشهرها مدخل براندنبرج في القسم الغربي من المدينة، وهو يفصل ما بين برلين القديمة، والقسم الحديث منها علوه 21 مترا وعرضه 62، وفيه ثلاثة أبواب أو منافذ تفصل بينها عمد من الرخام، تمر في الباب الأوسط منها عربات البلاط الإمبراطوري والعائلة المالكة فقط، وللناس الجانبان الآخران، أحدهما للداخلين وثانيهما للخارجين. وفي أعلى بوابة براندنبرج هذه تمثال الظفر أقيم سنة 1871 تذكارا للنصر العظيم على فرنسا، وهو عبارة عن ثلاث أفراس من النحاس الأصفر صنعت كأنها تعدو مسرعة علامة التقدم السريع، ومنظرها بديع يستوقف الأنظار، وإلى كل من الجانبين بناء صغير، أحدهما مخفر للجنود والثاني مكتب للتلغراف، ولو وقف الإنسان عند بوابة براندنبرج هذه وألقى بنظره إلى الجهات المحيطة بها لرأى أفخم مشاهد برلين وأعظمها، فإن أكثر ما سيرد وصفه هنا يحيط بهذه البقعة أو يقرب منها؛ ولذلك اخترنا أن نجعلها بدء وصفنا لعاصمة الألمان العظيمة، وقد زاد هذه البوابة أهمية أنها واقعة في رأس شارع عظيم اسمه شارع أونتر لندن، ومعناه شارع الزيزفون طوله 1500 متر، وعرضه 60 مترا، وهو أقسام عدة، بعضها للمسير على الأقدام وبعضها للخيل والبعض للعربات على مثل ما تقدم من وصف الشوارع التي تضارع شرع الزيزفون هذا، وفيه أربعة صفوف من الشجر تزينه وتزيده رونقا وجمالا، وقد أطلق عليه اسمه المشهور بسبب هذه الأشجار. وفي هذا الشارع كثير من الأبنية الفخيمة ومنازل الكبراء والسفراء، وهو يبتدئ عند بوابة براندنبرج التي ذكرناها وينتهي في ميدان قام به تمثال فريدريك الأول.
Page inconnue
وفي أول هذا الشارع عند بوابة براندنبرج ميدان فسيح عظيم يعرف باسم «ميدان باريز»، وهو حسن الموقع، في وسطه بركة من الماء عظيمة وتمثال للمريخ إله الحرب عند القدماء، وإلى الجهة الجنوبية منه بناء عظيم هو قصر البرنس بلوخر ووراءه ناد كبير لضباط الجيش الألماني، في داخله القاعات والغرف والملاهي على أشكالها، ويليه قصر البرنس أرشم، وفي الجهة الشمالية من هذا الميدان سفارة فرنسا وغيرها من الأبنية إذا تقدمت في تلك الجهة رأيت أثناء سيرك شيئا كثيرا منها، مثل: وزارة الأديان وسفارة روسيا وهي لها واجهة بديعة الشكل من الرخام الأبيض النقي، ومن ذلك أيضا وزارة الداخلية وعلى مقربة منها معرض للأسماك والطيور والقردة دخلناه وهو مؤلف من طبقتين: في الطبقة العليا منهما بيوت من الزجاج للحيات على أشكالها أرسلت إلى هذا المعرض من الهند وأواسط أفريقيا وأميركا الجنوبية وغيرها من المواضع الحارة تراها غادية صادية وليس بينك وبينها إلا جدار من الزجاج المتين، هذا غير ما في البرك من أنواع السمك الجميل ما بين أحمر وذهبي وفضي ومرقط وملون بالألوان البديعة، جلب أكثره من البحار النائية أيضا إتماما لفائدة هذا المعرض، وقد صنعوا في ذلك المعرض مغارة كبيرة وعرة المنظر جلبوا إليها الشجر اليابس والحجر الكبير، ووضعوها على نسق يحكي نسق الطبيعة في جماله، وأدخلوا إليها من الطير أنواعا كثيرة تتنقل في جوانبها كأنما هي حرة في الخلاء ولها منظر كثير الجمال.
ويلي ذلك إذا استمر المتفرج على المسير في الجهة التي ذكرناها «الرواق القيصري»، وهو بناء ضخم شاهق، يخيل لك أنه مدينة صغيرة فيه مخازن ومطاعم ومكاتب كثيرة، وفيه أيضا معرض لتماثيل صنعت من الشمع، بينها تماثيل الأسرة الإمبراطورية والرجال العظام من أهل السياسة والحرب والشعر والعلم والصناعة والكل بهيئاتهم الصحيحة وملابسهم المعتادة، وقد أتقن الصنع فيها إتقانا عجيبا حتى إنه ليلتبس عليك التمييز بين الأحياء والتماثيل، وأذكر أني رأيت هنالك من هذا القبيل مائدة للطعام رتبت على النسق المعروف، وفيها الأطباق والأدوات وبعض الألوان وقد جلس من حولها الناس رجالا ونساء، وهم كمن بدأ في الطعام، ولولا جمود منظرها لحكمت أنهم يشربون ويأكلون، وفي هذا ما يراه القارئ من إحكام الصنع وإتقان العمل.
وفي وسط شارع الزيزفون قهوة بوير، وهي من أحسن حانات برلين يتسابق إليها الألوف لحسن مركزها وإتقان معداتها، ويقعد الناس فيها يتفرجون على المارة في الشارع الذي لم نزل في وصفه، وفي آخره ساحة رحيبة أقاموا فيها تمثال فريدريك الأول وحوله القصور والمنازل في جملتها: الأوبرا وقصر ولهلم الأول جد الإمبراطور الحالي، وقصر فريدريك الثاني والده، ودار المحافظة ونادي العسكرية والمكتبة العمومية والمدرسة الجامعة، أما التمثال فقد صنع من نحاس وقام على قاعدة ارتفاعها 14 مترا ولها أربعة جوانب، في الجانب الشرقي تماثيل لبعض أمراء ألمانيا، وفي الجانب الغربي رسم القائدين زيتن وسيدلتز، وهما أشهر من حارب مع فريدريك الأول، وفي الجوانب الأخرى رسوم المشاهير أيضا من الذين شادوا لألمانيا صروح العز والفخار.
وأما المكتبة العمومية التي ذكرناها فبناء عظيم، كتب على صدره من الخارج باللغة اللاتينية «غذاء للأرواح»، وفيها زهاء مليون مجلد من الكتب المطبوعة وعشرين ألفا من كتب الخط، في جملتها: كتابات وأسفار دينية قديمة العهد؛ ولذلك يؤم هذه المكتبة كل باحث وطالب للفائدة، فإذا دخلت قاعة المطالعة فيها رأيت هنالك هيئة الوقار والعلم، حيث يجلس الباحثون بعضهم وراء بعض، وليس بين تلك الجموع علاقة غير الشغف بالمطالعة والسكوت التام وتقليب الأوراق فيتجلى لك الاجتهاد والدرس العميق بكل وجوهه، ولا بد للذي يريد مطالعة كتاب نادر المثال من كتب هذه المكتبة أو مراجعة شيء فيها أن يطلب ذلك على ورق مطبوع في دائرة المكتبة، ويعين الكرسي الذي يريد أن يقرأ الكتاب فيه والزمان، فإذا جاء في اليوم التالي وجد الكتاب حيث يريد وأمامه الحبر والورق والأقلام فيعلق ما أراد، وفي ذلك تسهيل على الباحثين لا تخفى فوائده.
وتجاه هذه المكتبة الماهب أو الأوبرا، بني معظمها من الحديد والحجر حتى يقل خطر الحريق ما أمكن، ويمكن لألف وخمسمائة شخص أن يسمعوا التمثيل في قاعتها الكبرى، وقد أصيبت هذه الأوبرا كما أصيب غيرها بالنار، فأعادوا بناءها على مثل ما تقدم، وأكثروا من النوافذ والمخارج تسهيلا للفرار حين اضطرام النار، ولكن ذلك أصبح من الأمور النادرة الآن بعد أن عول مديرو المراسح على إضاءة أماكنهم بالنور الكهربائي ومنعوا التدخين في داخل المراسح إلا في قاعات معلومة أرضها من البلاط، وفيها خدمة يراقبون ما يلقيه الرجال من السجاير وسواها.
والنادي العسكري - الذي مر ذكره أيضا - من المشاهد المذكورة في برلين، وأنت تعلم أن ألمانيا دولة حربية عسكرية، وأن نظام جيشها نال شهرة فائقة حتى إن بعض الدول الشرقية، كبلاد الصين والدولة العلية واليابان، تستخدم الضباط الألمانيين لتدريب جنودها وتنظيم جيوشها، وللقيصر الحالي - ولهلم الثاني - شغف بالجنود ونظاماتهم وحركاتهم؛ فهو يستعرض الألوف منهم في كل حين، ويزور المخافر والثكنات مرارا في الشهر؛ فلهذا أصبح مركز العسكرية خطيرا في البلاد، وزادت أهمية هذا النادي وسواه وأصبح للضباط امتياز على بقية الناس في ألمانيا، والحق يقال إن دولة الألمان لم تزل على النسق القديم الذي كان متبعا في العصور المتوسطة فيما يخص الجندية؛ فإن قسوة الأحكام العسكرية واستبداد الكبير بالصغير في جيش ألمانيا جرت مجرى الأمثال، ولطالما انتحر الجنود، ورحل الأهالي إلى أميركا تخلصا من ظلم جاويش أو جور ضابط أو ثقل عمل شاق، هذا غير أن الضباط العسكريين لهم حق الدفاع عن شرفهم إلى حد أنه يجوز لهم قتل من يتعرض لهم بأقل إهانة، ولا يحاكمون على هذا المنكر ولا يعدمون، وقد حدث من هذا القبيل عدة حوادث في عهد الإمبراطور الحالي، ونجا الضباط القاتلون من طائلة العقاب بعلة أنهم قتلوا من قتلوا في سبيل المحافظة على الشرف العسكري.
وكل من يزور برلين يرى أهمية الجيش الألماني فيها وحركات جنوده الكثيرة، فإن الضباط والعساكر يخاطرون في كل الشوارع جماعات وأفرادا، والتمرينات العسكرية في ضواحي المدينة وأطراف المملكة الألمانية شاغلة للأذهان، يقصدها القواد والأفراد من كل جهة والمسافر في سكة الحديد الألمانية يرى فرق الجند منتقلة من موضع إلى موضع، وقد ملأت بعض السهول والبقاع بكثرتها؛ فإن جيش ألمانيا لا يقل عن ستمائة ألف في أيام السلم، ولا يزيده في العدد غير جيش روسيا.
وقد رأيت في هذا النادي من الأعلام والرايات شيئا كثيرا اكتسبه الألمان من الأعداء في حروبهم القديمة والحديثة كحربهم مع الدنمارك والنمسا وفرنسا، ومدافع غنموها من الفرنسيس في الحرب الأخيرة المشهورة وأسلحة قديمة العهد كالرمح والفأس والسهم وغيرها حديثة من أجمل أنواع المدافع والسيوف الجديدة، وهنالك أيضا قاعة كبرى فيها رسوم قلاع وطوابي ووقائع حربية تمثل الجنود والخيل والأماكن والأسلحة تمثيلا دقيقا، وقد صنعت كلها من الجبس، وفي جملة ذلك: شكل سيدان ومعركتها المشهورة، فإنك ترى تلك المدينة العظيمة بأسوارها وقلاعها ومنازلها وطرقها، وترى الجنود تتهيأ وتصطف لقتال الألمان في جانب، والفرنسيس في الجانب الآخر، والكل بملابسهم المعروفة وأسلحتهم الكاملة، والخيل لكل فرقة لها لون معروف، وقد صفت المدافع من أمام الجيش في الناحيتين، ووقف الإمبراطور الألماني مع قواد جنده في ناحية من الموضع وأمامهم فرقة هاجمة على المدينة هجوم الأسود الكواسر، فبعضهم أصابته رصاصة وبعضهم بتر ذراعه وبعضهم سال الدم من جسمه، ونحو ذلك مما يوهم الرائي أنه في معركة حقيقية لولا السكون السائد على ذلك المشهد الغريب.
وفي الدور الأعلى من هذا النادي قاعات للضباط، وغرف للمطالعة والكتابة، وفي أكثرها رسوم حربية وصور ولهلم الأول وبسمارك ومولتكي، وهم الثلاثة الذين رقت بروسيا بحكمتهم وعلمهم أوج العز وصارت رئيسة للسلطنة الألمانية العظيمة، والذين يختلفون إلى هذا البناء من الرجال العسكريين كثار العدد، وقد يتوهم الساذج من كثرة المشاهد العسكرية في هذه العاصمة أنها على أهبة الحرب، كما أن الغريب الذي يأتي باريس لأول وهلة يظنها في عيد عظيم لكثرة ما يرى من الهرج والمرج وآيات الحظ في تلك المدينة الزاهرة.
ويقرب من هذا النادي قصر الإمبراطور ولهلم على ضفة نهر سبري وصلناه من جسر عليه رسوم وتماثيل حربية من كل نوع، من ذلك تمثال رجل يقص حديث الحرب على غلام، وتمثال مارس إله الحرب يعلم شابا استعمال السلاح ويقلد شابا آخر سلاحه بعد أن أتم دروسه العسكرية، ويتوج جنديا ظفر في ساحة القتال وينشط آخر مجروحا على القيام محرضا له على مداومة القتال وغير هذا، وكان على باب القصر حين وصلت جماعة من السائحين في انتظار الإذن بالدخول، فلما فتح الباب دخله الجميع وراء حارس أخذنا إلى الدور الأول، وأدخلنا غرفة عظيمة قال إنها خاصة بالإمبراطور - وكان جلالته يومئذ غائبا عن برلين على عادته في أكثر أشهر الصيف - وهي الغرفة التي اشتهر عن ولهلم الأول جد الإمبراطور الحالي أنه كان يطل من نافذتها ليرى الجنود حين تروح وتجيء في الشارع أو حين تذهب للمناورات وتعود منها، وفي قاعة أخرى من هذا القصر الفخيم صور أفراد العائلة المالكة من آل هوهنزولرن صنعت بالزيت ووضعت في براويز مذهبة وكلها آيات في الحسن والإتقان، وقاعة أخرى تعرف باسم القاعة الذهبية فيها عمود من الفضة أنشئ تذكارا لإيجاد وسام الصليب الأسود، وفيها تمثال ولهلم الأول واقفا في معركة جرافلوت بفرنسا في الحرب السبعينية المشهورة، وقاعة النسر الأحمر تذكارا لإنشاء وسام النسر الأحمر الألماني، وفيها ذلك الوسام معلق على عمود بديع الشكل، وقاعة النسر الأسود، وهي مثل سابقتها في الغرض والوضع وقاعات أخرى كثيرة كلها ملأى بأفخر أنواع الرياش النفيس، وكان الحارس يقص علينا أقاصيص تلك الغرف وحكاية ما فيها من الغرائب والتحف حتى دخلنا قاعة الطعام، وهي فسيحة واسعة الجوانب بهية الشكل تشرح مناظرها الصدور، ويمكن أن يجلس إلى موائدها 450 شخصا لكل منهم كرسي جميل يمتاز عنه كرسي من الفضة خص بالإمبراطور الحالي، فهو يجلس إليه كلما تناول الطعام في هذا القصر، وقد أهدي هذا الكرسي إليه من مدينة برلين بعد جلوسه بقليل ، وأما عن قاعة الاستقبال أو البهو الكبير فحدث ما شئت وتصور من أشكال فخامته ما أردت، إنه يقصر الوصف عن محاسنه. ولقد أذهلني اتساعه ورياشه وزخارفه وأعجبت بفرشه النفيس وسقفه السحيق وما يحدث من صدى الأصوات فيه على اتساعه، وما يضيء فيه من نور المصابيح التي لا تعد، وما تنعكس صورته على المرائي من الرسوم البالغة حد الإتقان، وهي - بالإجمال - من أجمل ما رأيت بين القاعات العظمى في قصور الأمراء والملوك، وسرنا بعد هذا في القصر إلى القسم المخصص لجلالة الإمبراطورة، وفيه قاعة اسمها القاعة البيضاء كل رياشها من الحرير الفاخر الأبيض، وفيها 12 تمثالا جميلا من المرمر الأبيض أيضا تمثل ولاية براندبرج التي كانت أساس المملكة البروسية على مثل ما رأيت في فصل التاريخ. ويلي هذا القسم جانب من القصر جعل كنيسة للعائلة الإمبراطورية، وجدرانها من الرخام الأبيض المحلى بالذهب، وكذلك المصابيح والأعمدة والمقاعد وبقية ما فيها ولها قبة من الرخام الأبيض أيضا يزيد ماء الذهب جمالها ظهورا، والناس يرون هذه القبة البديعة من خارج القصر، وفي الهيكل من هذه الكنيسة أعمدة من الرخام أخذوها من مصر، وهي من شكل الرخام الذي صنعت منه أعمدة الجامع في قلعة مصر، وبعد ذلك رأينا قاعة الرسوم وفيها من الصور ما لا يعد ولا يعدد، أذكر منها: صورة بطرس الأكبر قيصر روسيا والقيصرة كاترينا الثانية والسلطان سليمان الثاني، ونابوليون الأول وولهلم الأول قيصر ألمانيا يتوج قيصرا في قصر فرسايل بفرنسا، وصورته وهو عائد إلى برلين بموكبه الحافل بعد النصر في سنة 1871، فوقف السياح طويلا يتحدثون عن تلك الرسوم وتركتهم حتى أزور المتحف.
Page inconnue
والمتحف هذا عظيم الشأن لما بذله الألمان في سبيل تحسينه وزيادة نفائسه، وهم أهل عزيمة وجد في المسائل العلمية، بلغوا في العلوم العقلية شأوا بعيدا حتى إن بقية الأوروبيين والأميركيين إذا أرادوا التعمق في الفنون الرياضية والعقلية والفلسفة على أشكالها قصدوا مدارس الألمان، والقوم يرسلون اللجنات العلمية في كل حين إلى الأقطار البعيدة لجمع الآثار التاريخية والمتحجرات والأحافير وغير هذا مما يفيد أهل العلم، وقد اشتهر من رجالهم عدد كبير بالاكتشاف، مثل شلمين الذي سيمر بك ذكره وغيره ممن جاب الأقطار النائية وراض الصعاب في مصر والشام والعراق والأناضول والهند وسواها؛ للبحث عن بقايا السابقين والعلم بما مر من تاريخ الأرض وسكانها، ولطالما دفعت إدارة هذا المعرض من المال ألوفا بثمن بعض معداته، وجادت بالشيء الكثير على الصور المتقنة، وهي لها عندهم وفي كل بلاد متمدنة شأن عظيم؛ لأنها نتائج القرائح المتوقدة والأفكار السامية تمثل للرائي الأفكار والخواطر الرفيعة والحوادث المؤثرة، فهي مثل الشعر الجيد وبقية الفنون الجميلة مهذبة للأفكار مرقية للعقول، ومع ذلك فإن أهل الشرق - ونحن في جملتهم - لا يهتمون لها، وقد ينفقون الألوف على فرش البيت ولا يشترون صورة ذات قيمة حقيقية بمال يسير خلافا للذين جروا في مضمار التمدن، فإن كبراءهم وأغنياءهم يجمعون في منازلهم من الصور الثمينة ما تبلغ قيمته المقادير الطائلة، والمتاحف - مثل متحف برلين - لا تضن بمال كثير في سبيل الحصول على صورة نادرة المثال أو ممتازة بإتقان الصنع والجمال، وهذا متحف برلين الذي نحن في شأنه دفع مليون مارك أو نحو خمسين ألف جنيه ثمن بعض الصور الزيتية، ولما ضاق نطاق المتحف عن كل ما ابتاعوه من التحف والنفائس بنوا متحفا آخر وصلوه بالأول بدهليز حتى صار طول البنائين معا 191 مترا والعرض 93.
ولو شئنا تعداد ما في المتحف من آثار آشور وبابل ومصر وفينيقية والروم والرومان وغيرهم من أهل الممالك الأولى لما أمكن البيان بغير التطويل الكثير، ولكننا نكتفي بهذه الإشارة إليها. ولبعض الآثار قيمة كبرى فإني رأيت تمثالا ليوحنا المعمدان يأكل عسل البر اشتروه بمائتي ألف مارك - والمارك قطعة ألمانية من الفضة تعدل الشلن في قيمتها - فيكون ثمن الأثر عشرة آلاف جنيه، هذا فضلا عما في تلك الخزائن الكثيرة من النقود، ما بين قديم وحديث وعددها لا يقل عن مائتي ألف قطعة، وأما قسم الصور في هذا المعرض، فقد مر بك كلام عن قيمته واعتناء القوم به وهو كبير كثير النفائس والغرائب غالي القيمة، فمن أمثلة سخائهم في إتمام غرائبه أنهم اشتروا له في سنة 1870 صورا كانت في منزل الكونت شويرمن بأربعين ألف جنيه، وأنت لو دخلته ترى في جوانبه من أشكال الصور الدينية ما يستوقف الأنظار، ويوهمك بعد طول التأمل أنك في أيام الرسل والأنبياء، فقد رأيت في جملة هذه الرسوم صورة موسى وقد عاد من الجبل فرأى قومه يعبدون العجل فألقى باللوحين اللذين كتبت عليهما الوصايا العشر إلى الأرض وكسرهما، وصورة مريم العذراء مع خطيبها وابنها هاربين إلى مصر، ثم هي جالسة تحت ظل شجرة تستريح من عناء السفر والطفل بين يديها، فذكرني ذلك المنظر بشجرة العذراء في المطرية، وهي التي يروى أن العذراء استراحت تحت ظلالها، ولما أضناها الظمأ تضرعت إلى خالقها أن يغيثها فتفجرت عين ماء معين أمامها وشربت منها مع الطفل.
هذا كله في المتحف القديم، وأما القسم الجديد منه ففيه الآثار القديمة وضعت في غرف خص بعضها بكل مملكة قديمة، وهنالك ترى في القسم المصري الأجسام المحنطة وأمثال قبور الفراعنة وأنواع البردي (البابيروس) كتبت عليها المواد الكثيرة، وأهمها قانون هورس معبود المصريين القدماء، كتب باللغة الهيروغليفية القديمة، ولهذه الكتابة قيمة عظيمة عند علماء التاريخ، وهنالك أيضا تماثيل الملوك والكهنة وآثار مصرية أخرى من كل نوع وضعت في غرف تمثل هيئة الهياكل والمنازل المصرية القديمة في وضعها وتلوينها، وقس على ذلك آثار بقية الممالك القديمة، وهي كثيرة في هذا المتحف العظيم.
وخرجنا من تلك الدار العظيمة فظللنا على المسير حتى وصلنا بناء المجلس البلدي، وهو ذو ثلاث طبقات بنيت من الطوب الأحمر وليس له رونق يزيد عما سواه، بل إنه لا يقاس بقصر المجلس البلدي في فيينا، وإن تكن قاعات فسيحة كثيرة الزخارف أذكر أني رأيت في بعضها صورة مؤتمر برلين، وهو أشهر ما عقد من نوعه في العصور الحديثة، كان السبب في اجتماعه حرب الروس والدولة العلية سنة 1876، وخوف أوروبا من امتداد المطامع الروسية بعد الانتصار، فقام بسمارك - وهو يومئذ وزير الدولة الألمانية - ودعا الدول إلى الاشتراك في عقد مؤتمر ينظر في مسائل الشرق ويقرر حالة كل مملكة وإمارة في جنوب أوروبا وشرقيها، ولبت أوروبا الدعوة فعينت كل دولة أكبر فطاحلها وكان بسمارك مندوب دولة الألمان مع غيره من الأكفاء وعين رئيس المؤتمر؛ لأنه عقد في عاصمة بلاده وهم يعطون الرئاسة لصاحب البلاد في كل مؤتمر من هذا القبيل، وكان النائبون عن إنكلترا يومئذ بيكونسفيلد وسولسبري، وعن روسيا غورتشاكوف وشوفالوف، وعن فرنسا وادنتون وأوليفيه، وعن الدولة العلية عمر باشا وسعد الله باشا، وكلهم من أشهر رجال السياسة في هذه الممالك العظيمة.
وتوجهت من هنالك إلى موضع مثلث فيه مشاهد سيدان ومعركتها المشهورة بالبانوراما أو النظارات المجسمة والمكبرة، وسيدان هذه مدينة في فرنسا انتصر فيها الألمان على ثمانين ألفا من جنود الفرنسيس كانوا تحت قيادة نابوليون الثالث إمبراطور فرنسا، فكان فوزهم فيها خاتمة الحرب، ولم يبق عليهم غير حصار باريس فساروا إليها وحاصروها وفتحوها؛ ولذلك ترى الألمان يذكرون واقعة سيدان معجبين متباهين وهم يحتفلون بعيد النصر في سيدان كل عام، وما اكتفوا بما أقاموا من معالم النصر وما رسموا من الصور والنقوش في كل موضع للدلالة على ذلك النصر، بل إنهم جعلوا يظهرون أدوار المعركة بهذه الصورة المجسمة هنا على هيئة يضطرب لها العقل ويجري الدم في عروق المتأمل ويقف الشعر في رأسه؛ لأنه إذا ما وضع عينه على تلك النظارات رأى سيدان والجنود الفرنسية والألمانية فيها تتقاتل قتالا تشيب لهوله النواصي وتندك من شدة وقعه الرواسي، فإنك ترى الجيشين في بدء الأمر وقفا يستعدان للقتال والنضال، وشجر الحور في طرق سيدان الكثيرة من وراء هذه الجنود الباسلة تبكي أوراقه الحسناء على الذي ترى أنه سيهرق من دم الإنسان، وأغصانه تتمايل كأنما هي سكرت من خمرة الحرب القادمة أو زاد بها الألم واشتدت عليها الحسرات من عدوان بني الإنسان؛ فجعلت تميل حرقة وتوجعا حتى إذا تم المنظر الأول ورأى المتفرج هاتيك الصفوف من الجند تموج وتضطرب فغرت مدافع الحرب فاها وتصاعدت كراتها القتالة، وثار دخانها من ألف موضع وموضع، ثم بدأ الجنود يطلقون الرصاص بعضهم على بعض وتصادمت هاتيك الجموع المسلحة وتلاطمت بنارها وسيوفها، فما ترى في تلك الساعة الدهياء غير صدر ينهال عليه الرصاص انهيال السيل، وعنق تدقه سنابك الخيل، ونار تقذفها المدافع وتتفرقع بين صفوف المقاتلين البواسل، فهنا جسم يتمزق ويتقطع وهنا فارس قد حصانه شطرين فوقع هو إلى الأرض يتألم من جراحه ويتوجع، وهنا فرقة من الجنود تصطدم بفرقة فتردي الرجال الرجال، وقد حجب بعضها قتام البنادق والمدافع، وقامت قائمة البلاد والهول، فما ترى كيفما قلبت النظر غير ويل في ويل في ويل، فإذا انتهيت من هذا واتضح لك بعد كل هذا البلاء أن معظم الخسران في جانب الفرنسيس ظهر لك جندي فرنسوي يحمل علما أبيض علامة التسليم وطلب الهدنة؛ فيقل الاضطراب وتهدأ الطلائع وترتد المواكب عن المواكب، وبعد قليل من المخابرة ومناظر لا محل لوصفها ترى نابوليون الثالث إمبراطور فرنسا قادما، وقد صغرت نفسه ولم يبق له في العز مطمع فيصل إلى حيث يلقى ولهلم ملك بروسيا الظافر في دائرة من رجاله العظام، وبعد مبادلة الرسوم المقررة يسلم نابوليون سيفه لولهلم علامة الخضوع، وينتهي بذلك دور حرب شابت لأخبار هولها الأطفال، ولسوف يذكر الناس أمرها على ممر الأجيال.
هذا جل ما يستحق الذكر من مناظر برلين التي يراها المرء على خط مستقيم أثناء سيره من حيث بدأنا ولا يضيع الزمان، وقد تقدم بك القول إن شارع الزيزفون الذي يوصل منه إلى كل هذه المشاهد يمتد من الشرق إلى الغرب، ويلي ذلك في كثرة الحركة والزحام شارع فريدريك الممتد من الشمال إلى الجنوب على مسافة 3300 متر، وفي هذا الشارع حانات ومخازن كثيرة ملأى بالأبضعة المختلفة، وأشهر ما يذكر منها مخزن الخواجا فابر صاحب معمل أقلام الرصاص المكتوب عليها اسمه، وهي مشهورة ومعروفة في كل بلاد، وأكثر منه أهمية شارع ولهلم، وهو من أهم شوارع هذه المدينة العظيمة يمتد أيضا من الشمال إلى الجنوب وفيه من القصور الباذخة والمنازل الفخيمة ما لا يمكن إلا ذكر بعضه هنا، من ذلك وزارة الحقانية والخارجية ورئاسة الوزارة وقصر لبسمارك وسفارة إنكلترا وقصور للأمراء ولحاشية الإمبراطور وغير هذا كثير، وفي وسط الشارع حديقة جميلة ينتابها الناس كثار العدد، وفيها غير الأغراس والبرك تماثيل القواد المشهورين ولا سيما الذين أحسنوا البلاء في حرب السبع سنين التي ذكرنا طرفا من حكايتها في الخلاصة التاريخية.
وليس ينحصر جمال برلين في شوارعها وحاناتها ومتاحفها، ولكن الضواحي المحيطة بها وهاتيك المصايف والمنازل لكبراء الناس وأمراء السلطنة الألمانية من أعظم ما يجب ذكره، فإني لما علمت ذلك خرجت من باب براندبرج المعروف في عربة، فوصلت في أول الأمر مجموع غابات وحدائق تعرف باسم تير جارتن أو حديقة تير، وهي - كما قلت - مجموع غياض وحراج وأغراس مساحتها ستمائة فدان، وقد أنشئت فيها الطرق بين صفوف الشجر والزهر والبحيرات البديعة تسبح فيها طيور الماء من كل جانب، وتسير الزوارق الصغرى تحمل أناسا يسيرونها بأيديهم بين هاتيك المناظر الساحرة والميادين الواسعة، قطعوا من موضعها الشجر وجعلوها متسعا للعب والرياضة، فمن لاعب بالاكر، ومن فاعل غير ذلك ترويضا للجسم، وهم يحفلون بالرياضة والألعاب البدنية علما منهم بفائدتها، ولعل الألمان في ذلك بعد الإنكليز شهرة، فإن شهرة الإنكليز بترويض الجسم واللعب على أشكاله واسعة في الخافقين.
وقد أقاموا في قسم من هذه الغابات مسرحا للحيوان غير الداجن ملأوه بأنواع النمر والسبع والضبع والدب والزرافة، وغير هذا مما نقلوه بالنفقات الطائلة من مواطنه القاصية، ولكل نوع من هذه الوحوش أماكن خاصة به، كما أن الطيور لها أقفاص كبرى يعرف شكلها كل من زار حديقة الجيزة في مصر، وهنالك بحيرات للحيوانات والطيور المائية وأبنية كثيرة للزائرين بعضها مطاعم وبعضها حانات قضيت فيها زمنا ثم برحتها إلى الأحياء المستجدة في تير جارتن، وهي مزدانة بأجمل المساكن والطرق وألطف البحيرات وأبهى الحدائق والأزهار يسكنها سراة الألمان وأصحاب اليسار من أهل برلين وهم كثار العدد وتنار أكثر جوانبها بالنور الكهربائي الساطع في الليل، فلا تعرف أهي أجمل في الليل أم في النهار.
ويذكر بين ضواحي برلين البهية قصر شارلوتنبرج بني سنة 1761 وكان مصيف آل هوهنزولرن من بعد أن صاروا ملوك بروسيا، وفيه مدافن لبعض الرجال العظام من هذه العائلة المالكة، أشهرها قبر ولهلم الأول مؤسس السلطنة الألمانية الحالية وجد الإمبراطور الحالي، وصلناه بعد سير طويل في العربة واجتزنا حدائق تير جارتن، فرأينا جماعة كثيرة في انتظار الإذن بالدخول حتى إذا جاء الموعد نزل الناس ووقف الألمان منهم عند ضريح الإمبراطور الكبير خاشعين متهيبين، تبدو عليهم علامات الوقار والاحترام لمؤسس مملكتهم ورافع لواء عظمتهم، وأكثرهم يذكرونه ويذكرون له الحسنات، فكان المشهد حول ذلك الضريح مؤثرا في النفس عظيم الدلالة على قدر المدفون ومعرفة الناس لفعاله شأن الكرام الذين يذكرون للمرء فعله ولا ينكرون.
ودعاني للعشاء في ذلك اليوم الموسيو هارتمان، الذي كان وكيلا لقنصلاتو ألمانيا الجنرالية في بيروت، وعرفته يوم زار اللاذقية للبحث عن الآثار القديمة ونزل ضيفا على المرحوم عمي يعقوب إلياس، وهو يومئذ فيس قنصل ألمانيا في اللاذقية، والموسيو هارتمان من علماء اللغات الشرقية توسع في درس اللغة العربية مدة وجوده في الشرق، فعين مدرسا لهذه اللغات في أكبر مدارس برلين الجامعة، وقد أراني نسخة من كتاب نهج البلاغة في خطب الإمام علي بن أبي طالب، أهداه إليه المرحوم الشيخ محمد عبده المشهور.
Page inconnue
وفي ذلك اليوم قضيت السهرة في ملعب للخيل (هيبودروم) ينتابه الألوف وتجري فيه الألعاب المدهشة على نغم الألحان، وأكثر هذه الفعال غرابة تقوم بها فتيات لهن خفة في الوثوب والحركات، أذكر أن فتاة منهن كانت تسوق ست أفراس وهي تثب من ظهر واحدة إلى الأخرى ولا تخطئ، وأخرى كانت ترقص على ظهر جواد يسير بها مسرعا ولا تهتز، وغير هذا كثير من الألعاب التي تحلو مشاهدتها في كل حين.
وزرت في اليوم التالي رجلا من مشاهير برلين اسمه الموسيو فون لاشان مدير المتحف التاريخي الثاني، كان معي له كتاب من صديقي المرحوم إسكندر كاتسفيلس فيس قنصل ألمانيا سابقا في طرابلس، وقد لقيت منه ومن حضرة قرينته كل ملاطفة وإكرام، وكانت السيدة تحدثني عما رأت من الأطلال والآثار في نواحي الموصل؛ حيث ذهبت مع زوجها حبا بالاطلاع والاكتشاف، ودعيت بعد ذلك منهما لقضية يوم الأحد في «بوتسدام»، وهي مدينة في ضواحي برلين عدد أهلها 50 ألفا؛ فلبيت الدعوة وسرت في القطار مع صحبي زهاء نصف ساعة، ووصلتها فإذا هي مجموع محاسن طبيعية وصناعية نسبتها إلى برلين كنسبة فرسايل إلى باريس، ترى في جميع جوانبها من بديع الزهر والشجر شيئا كثيرا، وفي وسطها بحيرات متسعة المجال تسير فيها البواخر الصغيرة وهي ملأى بالمتنزهين من أهل برلين وسواهم، ولا سيما إذا كان ذلك في يوم أحد أو عيد، وعلى هذا فالقطر الحديدية ما بين برلين وبوتسدام لا تقل عن خمسين في كل يوم، وقد كانت بوتسدام مسكنا لفريدريك الكبير ملك بروسيا الذي مر ذكره، أنشأ فيها الحدائق الغناء واعتنى بتلك المروج الفيحاء وشاد القصور الشماء، وفي جملتها قصر «سان سوسي»، ومعنى الاسم «خلي البال» إشارة إلى خلو أصحاب القصر من الشواغل، وهم يطلقون هذا الاسم على مثل هذه المصايف؛ حيث يقضي أمراء الزمان وقت الفراغ، وفي حديقة القصر غير غرائب الزهر والشجر برك اشتهرت بقوة ما يندفع من ماء أنابيبها، فإنه يصعد من بعضها إلى علو 39 مترا كأنما هو جبل من الماء صاعد ثم يهوي ويصب في بركة يحدث فيها لشدة وقعه اضطرابا وموجا كبيرا، وقد جرى الأمراء مجرى فريدريك الكبير الذي شاد القصور في بوتسدام وولع زمانا بسكناها فبنوا فيها فخيم المنازل هناك، رأينا في جملتها قصر أورانجري أو قصر البرتقال اشتهر بأغراس البرتقال، وضعت في براميل كبرى وقد صفت من حول البناء ولها رونق وبهاء، فإذا اشتد البرد عليها نقلوها إلى مواضع أدفأ في داخل المنزل، ومن ذلك قصر فريدريك الثالث والد الإمبراطور الحالي، مات فيه صاحبه فريدريك وأقامت فيه الإمبراطورة فريدريك والدة الإمبراطور الحالي إلى يوم مماتها، والقصر واسع الأنحاء كثير الجمال فيه مائتا غرفة، ولحديقته منظر تضرب به الأمثال، ومن ذلك قصر بابلسبرج بني على عهد فريدريك الكبير وزاده الملوك من بعده تحسينا، وفي حديقته بقعة تعرف باسم المطحنة سميت بذلك؛ لأنه لما بنى الملك هذا القصر كان في هذه البقعة مطحنة لفلاح بروسي فقير، فأراد الملك أن يشتريها منه، وامتنع الرجل ثم استدعاه الملك بعد أن فرغت الحيل في إقناعه وتهدده باغتصاب الأرض وبالعذاب إذا أصر على الإباء فلم يهتز الفلاح لهذا الوعيد، وقال للملك: «إن هذا يمكن إذا لم يبق في برلين قضاة»؛ فأعجب الملك بجرأة الفلاح وثقته بقضاة المملكة وترك المطحنة له على حالها كما رأيتها في ذلك اليوم، وأنعم عليه بجملة مال شأن الملوك العظام.
وبعد التنزه في غياض بوتسدام وهضابها وبحيراتها عدنا إلى منزل الموسيو فون لاشان في برلين، وقضينا السهرة عنده، وكان في جملة المدعوين بعض من أهل الأدب والمقام فأطلعنا صاحب الدار على رسوم عنده لبعض مدائن الشام، مثل: بيروت واللاذقية وجونية وطرابلس وسواها، ثم أرانا أشكالا من الجلد تمثل ألعاب «كراكوز» أو هي خيال الظل، وبينها رسوم عيواظ والمدلل، وقد أعجبت باعتناء هؤلاء القوم بأمور المشرق حين أراني المضيف رسالة من تصنيفه بالعلامات الموسيقية الإفرنجية في أغاني «الكراكوز»، وأسمعوني بعض هذه الأنغام فكأنني كنت في قهوة شرقية، وهنا غاية الاعتناء بالعلم ومثال التدقيق في جمع المعارف.
ودعينا إلى زيارة المتحف الذي يديره فون لاشان في اليوم التالي فذهبنا إليه ورأيت ما فيه من الآثار الألمانية التامة في كل فن ومطلب، هنالك مجموعة من الآثار النفيسة كشفها الأستاذ شليمان المشهور عند آثار تروادة، وقد ذاع ذكر هذا المكتشف وجاء مصر مرارا ليبحث عن قبر الإسكندر ذي القرنين ظنا منه أن الإسكندر دفن في مصر فلم يتوفق إلى اكتشافه. وفي المعرض من غرائب كل البلاد ما يقصر القلم عن وصفه، استوقف نظري منه ملابس كثيرة الحشو والزخارف لهنود أميركا الأصليين، وهي قديمة ضاع شكلها من بين الهنود الحاليين، وبطل استعمالها حتى إن فون لاشان قال لي إنه إذا أراد هنود أميركا الآن أن يعرفوا شكل أجدادهم الأقدمين وجب عليهم أن يأتوا برلين ويزوروا هذا المعرض ، حيث حفظت الأشكال الأولى على أصلها وغرابتها، وهنالك أيضا ملابس لثيودوروس ملك الحبشان الذي قتل في حربه مع الإنكليز سنة 1861، وكوبة كان يشرب الماء بها وآثار لا تحصى من أميركا وأفريقيا وآسيا، كلها أدلة على الاجتهاد والنشاط الذي امتاز به القوم الألمان، وهم - بلا ريب - من أهل الطبقة الأولى في العلم والصناعة، والتعليم عندهم إجباري حتى إنه يندر وجود واحد يجهل القراءة ومبادئ العلوم بينهم، على أنني لم أبرح برلين قبل أن أمتع النظر بمرآها جملة من مرتفع يسمى كروسبرج يطل عليها فقصدت أكمة مجاورة لها، ومعي الدليل والمنظار حتى إذا ارتقيت قمتها نظرت إلى الجنوب سهولا خضراء يزرعونها حنطة وغلالا، وإلى جانبها سهول يستعرض فيها الجيش الألماني وتجري المناورات العظيمة يرأسها الإمبراطور بنفسه، ويدعى إليها أكابر القواد من كل البلاد، وهنالك شجرة دلني إليها الدليل يقف تحتها الإمبراطور ساعة الاستعراض.
على مثل هذا قضيت أسبوعا في عاصمة الألمان العظيمة حتى إذا تم لي المراد من الدرس والفرجة برحتها في قطار قام ينهب الأرض نهبا في وسط حراج غضيضة وسهول أريضة في إقليم مكلنبرج، طورا يشق الأرض وتارة يسير على ضفاف البحيرات أو فوق الجسور حتى وصلنا الحدود الفاصلة بين بروسيا والدنمارك عند محطة «وارنموندا»، فسافرنا من هنالك في البحر زهاء ساعتين، ووصلنا بعدهما فرضة جدسر وهي مدينة دنماركية ركبنا فيها قطار سكة الحديد، ومررنا بعدها على عدة محطات آخرها محطة «دينجبونج»، وهناك وصلنا خليجا آخر لم يكن لنا بد من عبوره فعبرناه على طريقة غريبة لم أر مثلها قبل هذه المرة، ذلك أن القطار وقف على ضفة الخليج واتصل أوله بباخرة بحرية في الماء وفوق سطحها خطوط الحديد ليقف عليها القطار كأنما هي أرض مدت عليها الخطوط الحديدية، وسار القطار على مهل حتى صار كله فوق تلك السفينة فوقف وتحركت هي فسارت في الخليج حاملة للقطار حتى إذا وصلت البر من الناحية الثانية وقفت عند نقطة فيها خطوط الحديد للقطار فألقت رحلها ووقفت مكانها، ومن ثم تحرك القطار فسار من ظهر الباخرة إلى الأرض وظل سائرا في طريقه، فكان ذلك من أجمل ما رأيت في طريقي بين برلين وكوبنهاجن، وهي العاصمة التي وصلتها بعد سير 12 ساعة من برلين، وأما بقية المدائن الألمانية التي زرتها مثل كونستانس وستراسبورج ومايانس ووسبادن وفرانكفورت وكولون فترى الكلام عنها في فصل يجيء من فصول هذا الكتاب.
الدنمارك
خلاصة تاريخية
كان الدنماركيون أقواما متوحشة شأنهم شن الغارات على الممالك المجاورة لبلادهم، واشتهروا بهذه الغارات والغزوات في البر والبحر حتى صار اسمهم - وهم أهل الشمال - مرادفا للشر والهجوم عند سكان أوروبا في القرون المتوسطة، وهم يومئذ مع أهل السويد والنورويج يدا واحدة؛ لأنهم من جنس واحد، وقد اشتهرت غزوات الدنماركيين في إنكلترا من القرن التاسع إلى الحادي عشر؛ فإن ملكهم سوين هاجم بلاد الإنكليز سنة 1981 وملكها وأورثها من بعده لابنه كانوت الذي صار أعظم ملوك زمانه؛ لأنه ملك إنكلترا والدنمارك والسويد والنورويج وكان مشهورا بالعدل والحكمة، ولما مات في سنة 1036 اقتسم أولاده الثلاثة أملاكه، فكانت بلاده الأصلية نصيب ابنه هرديكانوت وهو الذي ضاعت إنكلترا من يد الدنمارك في أيامه، واستعادت استقلالها.
ولم يحدث بعد هذا أمر مهم في تاريخ البلاد غير تعاقب الملوك والغزوات إلى أن ورثت العرش ملكة اسمها مرغريتا كانت مفرطة الذكاء كثيرة الحكمة، ظهرت مآثر اقتدارها في ممالكها الثلاث، وهي: الدنمارك والسويد والنورويج فسميت سميراميس الشمال إشارة إلى سميراميس ملكة آشور التي تروى عنها عظائم الفعال، وذلك في أواخر القرن الرابع عشر، ولما اشتهر أمر الانقلاب الديني في أوروبا بعد أيام لوثيروس كان ملك الدنمارك رجلا عاتيا جبارا اسمه كوستيان الثاني، وهو يعرف عند بعض المؤرخين باسم نيرو الشمال إشارة إلى نيرو قيصر الرومان الذي اشتهر بقسوته وفظائعه، فلما انتشر المذهب البروتستانتي في ممالك كرستيان هذا استعمل منتهى الشدة مع الذين اعتنقوه، حتى إنه دعا معظم أشراف السويد إلى وليمة وفتك بهم غدرا وعدوانا؛ بسبب انضمامهم إلى طائفة البروتستانت فهاجت أمة السويد لذلك، وقامت بنصرة أمير نجا من الذبح اسمه جوستافوس فاسا، فحاربت جنود الدنمارك تحت قيادته وطردتها من البلاد، وبذلك انسلخت بلاد السويد عن هذه المملكة وصارت مملكة مستقلة في سنة 1521، وبعد هذا بقليل فر كرستيان من البلاد؛ لأن معظم الأهالي قاموا عليه فسارت بلاد الدنمارك بعد ذلك في سبيل التقدم تحت إمرة ملوكها من آل أولدنبرج، ولم يحدث أمر يذكر لهم غير أن الملك استبد بالأمر في سنة 1660، ولم يبق أثرا لنفوذ الأشراف والأمراء ووافقه عامة الناس على صنيعه.
وكانت الدنمارك من الدول البحرية، ولها متاجر واسعة فلما عظم أمر نابوليون الأول اتحدت معه على مناوأة الإنكليز فهاجمها أسطولهم مرتين تحت قيادة اللورد نلسون أمير البحر المشهور في سنة 1801 و1807، ودمر حصون عاصمتها كوبنهاجن وأسر أسطولها برمته فاستخدمه في محاربة نابوليون، وكان ملك الدنمارك صديقا لنابوليون حميما ظل على ولائه إلى يوم سقوطه، فأسخط ذلك دول أوروبا الناقمة على نابوليون، وسلخت منه بلاد النورويج فأضافتها إلى مملكة السويد على ما سيجيء في تاريخ هاتين المملكتين. وفي سنة 1834 تحرك الأهالي لطلب الحقوق الدستورية فسلم بها الملك فريدريك السادس، وصارت البلاد دستورية شوروية من ذلك الحين، فتقدمت في درجات الحضارة ونمت ثروتها، ولكنها فقدت بعض أملاكها في سنة 1864 بعد محاربة شاقة مع بروسيا، وأخذت منها ولايات لاونبرج وشليسوج وهولشتين، كما تقدم عند الكلام عن ألمانيا.
Page inconnue
فريدريك الثامن ملك الدنمارك.
وفي سنة 1863 رقي عرش الدنمارك ملكها السابق كرستيان التاسع وكان ذا منزلة عظمى بين ملوك أوروبا وأقيالها؛ لأنه - فضلا عن فضائله وحسن سياسته - ارتبط بأعظم العائلات المالكة بربط القرابة، فإن ابنته الأولى اقترنت بجلالة ملك إنكلترا الحالي ولها شهرة بالفضائل لا تفوقها شهرة، يحبها الإنكليز جميعهم حبا مفرطا لحسن خصالها، واقترنت أختها الثانية بالمرحوم إسكندر الثالث قيصر روسيا والد القيصر الحالي، وهي أيضا من أشهر الأميرات في رقة القلب وحب الفضيلة، واقترنت الثالثة منهم بالديوك أوف كمبرلند حفيد جورج الرابع ملك إنكلترا، وهو المطالب الآن بسرير مملكة هانوفر التي ذكرنا خبر ضمها إلى السلطنة الألمانية في الفصل السابق، وأما أولاده الذكور فأولهم جلالة الملك الحالي، وثانيهم جلالة ملك اليونان الحالي أيضا ، والثالث أمير اسمه فلاديمير عرضت عليه إمارة البلغار فلم يقبلها، توفي هذا الملك الكبير يوم 29 يناير سنة 1906 بعد أن ملك 23 سنة وهو في سن الثمانين، فأثرت وفاته في أكثر عائلات أوروبا المالكة، ودفن باحترام عظيم فخلفه جلالة الملك فريدريك كرستيان الحالي وهو الثامن من ملوك الدنمارك بهذا الاسم، وقد بدأ حكمه بخطاب ألقاه على الناس من شرفة قصره يوم وفاة أبيه قال فيه: «إن ملكنا السابق والدي العزيز قد قضى نحبه، وكان أمينا في قضاء الواجب عليه حتى ساعة الممات؛ فورثت عنه الحمل الكبير، ولي أمل أن أحذو حذوه وأسأل الله إعانتي على تحقيق هذا الأمل، ويسرني أني على اتفاق مع نواب الأمة فيما يضمن خيرها وتقدمها، فلنناد كلنا بصوت واحد ليحيا الوطن.» فوقعت هذه الخطبة أحسن وقع في النفوس، وعدد النفوس في بلاد الدنمارك نحو ثلاثة ملايين.
كوبنهاجن
هي عاصمة الدنمارك، فيها من السكان أربعمائة وخمسون ألف نفس، ومعنى اسمها «فرضة التجارة» إشارة إلى اشتهارها بالمتاجر من عهد بعيد أو من عهد تأسيسها، فإنها بدأ ببنائها الأسقف إكسل في القرن الثاني عشر للميلاد، وكانت في أول الأمر قرية ينتابها بعض تجار السمك، ويقيم فيها الصيادون، فجعلت تكبر وترتقي إلى أن تولى مملكة الدنمارك كرستيان الرابع سنة 1588، وكان مقداما نشيطا ميالا إلى توسيع المتاجر هماما باسلا في الحروب، فتقدمت المدينة على أيامه تقدما عظيما وبنيت فيها حصون لصد هجمات الأعداء، أكثرها باق إلى الآن، وهي من المناظر التي تستحق الذكر في كوبنهاجن، وقد اشتهرت هذه المدينة فوق المتاجر بصناعة القفاز أو الكفوف والسفن الشراعية، وبعض أشكال الخزف، وأتقنت صناعة الجبن؛ لأن أهلها اشتهروا بتربية المواشي. وفيها من المشاهد المعدودة شيء كثير، من ذلك الميدان الملكي كان أول ما قصدناه عند خروجنا من الفندق، فإذا هو ساحة متسعة الأطراف أقيم في وسطها تمثال للملك كرستيان الخامس راكبا جواده، وكان كرستيان هذا من ملوكهم العظام، حكم البلاد من سنة 1670 إلى 1699، واشتهر بمحاربة الأسوجيين، واتحد مع النمسا لمحاربة لويس الرابع عشر ملك فرنسا ، وسن قانونا للأحكام لم يزل أساس الأحكام الدنماركية إلى هذا اليوم. وفي ذلك الميدان بناء المرسح الكبير وسفارات الدول العظيمة ومنازل لبعض السراة وفنادق وحانات ومطاعم في جوانبه الأربعة، فترى الناس يقصدونه بسبب وجود هذه الأشياء كلها عصاري كل يوم يتمشون في جوانبه أو يقعدون في إحدى حاناته، وهو من أشهر مواضع الاجتماع في كوبنهاجن.
وإني بعد أن رأيت هذا الميدان الملكي خطر في بالي ملك الدنمارك وطلبت إلى الدليل الذي كان معي أن يسير بي قبل كل شيء إلى قصر الملك السابق ففعل، ولما انتهيت إليه تولاني العجب من بساطته فعلمت أن القصر الذي كان الملك يقيم فيه احترق عام 1884، ولم يشأ جلالته أن ينفق الأموال الطائلة على تجديده؛ لأنه كثير الميل إلى البساطة، فهو يقيم حيث تقدم الكلام، وللملك الحالي قصر أجمل من مسكنه ولأخيه جورج ملك اليونان قصر أجمل من الاثنين، وهو مقفل لم يرض كرستيان أن ينتقل إليه؛ لما اشتهر من حبه للعيش البسيط وإنفاقه المال على الإحسان بدل التلذذ بالأطايب والتفاخر باليسار. وقد كان يوالي فقراء أمته بالمال والزاد ويوزع على بيوت كثيرة في كوبنهاجن وسواها وقودا وطعاما في زمن الشتاء، ونوادر بساطته كثيرة، قص علي صاحب الفندق الذي نزلت فيه واحدة منها، هي أنه لما زارت هذه العاصمة البرنسيس ستفاني ابنة ملك البلجيك وأرملة رودولف ولي عهد النمسا الذي انتحر عام 1888، جاء الملك ليسلم عليها في ذلك الفندق ووصل الباب وحده كأنما هو واحد من تجار المدينة أو صناعها، فأخذ من جيبه بطاقة الزيارة وأعطاها لواحد من الخادمين؛ ليوصلها إلى الأميرة وظل هو منتظرا عند الباب يحدث صاحب الفندق ويسأله عن إيراده ونفقاته، وعدد الذين يدخلون فندقه كل عام وغير ذلك من المباحث، حتى عاد الخادم وأخبره أن الأميرة تنتظر تشريفه فصعد إليها وراء الخادم، وبعد أن أقام معها زمانا عاد كما جاء بلا طنطنة ولا احتفاء، وكان الناس يحبون هذا الملك الفاضل وأسرته الكريمة حبا مفرطا ، وهم يعلمون ميله إلى البساطة ونفوره من الطنطنة والأبهة، فإذا مر بهم حادوا من طريقه احتراما وتوقيرا، وقد لا يسلمون عليه حتى لا يحملوه مشقة الرد، وفي ذلك موافقة لأمياله أيضا.
وأما متاحف كوبنهاجن وقصورها العظيمة فأشهرها قصر روزنبرج، وهو صرح ترك على حالته الأصلية، وفيه من نفائس التحف وثمين الآثار شيء كثير، بناه الملك كرستيان الرابع عام 1588، وله موقع في وسط المدينة جميل، وسرت إلى هذا القصر في ثاني الأيام فوجدت غيري ينتظرون الإذن بالدخول على مثل ما كنت أرى في أكثر هذه المتاحف المشهورة، حتى إذا جاء الموعد أتانا خادم باللباس الأسود والقفاز الأبيض وربطة العنق بيضاء أيضا كأنما هو في حفلة للتشريفات، وقادنا إلى غرف القصر، فإذا هي أو أكثرها ملونة بالألوان الواضحة كالأصفر والأحمر والأزرق، وأول هذه الغرف قاعة فسيحة كانت معدة لاستقبال الزائرين، وقد وضعوا فيها صور أفراد العائلة المالكة حالا في الدنمارك والكل بملابسهم الرسمية القديمة على أتم إحكام وأوفى إتقان، وهنالك عروش كثيرة جلس عليها ملوك البلاد من آل أولدنبرج، بعضها من الفضة والبعض الآخر من الخشب الثمين، وقد نقش على أكثرها شعار الدولة الدنماركية، وهو ثلاثة أسود، ورسوم أخرى تشير إلى بعض ما حدث في البلاد من الأمور الكبيرة. ومن غريب الآثار المحفوظة في هذه الغرفة أيضا قرن جاموس له حكاية خرافية، فحواها أن الكونت أولدنبرج أبا مؤسس الدولة الدنماركية الحاضرة ظهرت له منجمة في سنة 1448 وأعطته ذلك القرن، وأشارت عليه أن يشرب ماء فيه فيرافقه السعد ويخدمه الزمان؛ ففعل بإشارتها وما مر زمان بعد ذلك حتى صار ابنه ملكا لبلاده والملك باق في يد سلالته إلى اليوم، وقد أبقوا هذا القرن أثرا لمؤسس دولتهم فطلوه بالفضة ورصعوه بالحجارة الكريمة وحفظوه في هذه الغرفة مع حلي لبعض ملكاتهم وأسلحة مثمنة لبعض ملوكهم وملابس مزركشة، وغير هذا من آثار الملوك الذين درجوا نكتفي بهذه الإشارة إليها؛ لأنها كثيرة ووصفها يضيق عنه المقام.
ودخلنا بعد ذلك غرفة الورد، سميت بذلك؛ لأن جدرانها ملبسة بنسيج من الحرير النفيس عليه صور الورد من كل أشكاله، وفيها المصابيح والثريات البديعة، ومنضدة صنعت من خشب الأبنوس وزخرفت بالعاج والصدف وضعت على أشكال الطيور، وفيها فوق العشرين من الأدراج السرية يفتح كل منها بأسلوب خاص، وقد صنعت هذه المنضدة للملك في سنة 1735 وأنفق عاملها على صنعها نحو 450 جنيها، وهي من الآثار الجميلة في هذا المتحف لغرابة صنعها وغير هذا كثير.
ثم صعدنا الدور الأعلى من القصر ومن غرفه العجيبة: قاعة المرائي سميت بذلك؛ لأن جدرانها كلها من هذه المرائي، وتليها قاعة النبلاء ملئت بصور الأمراء والقواد الذين اشتهروا في تاريخ الدنمارك، وفيها كرسي من الفضة جميل الصنع يتوج عليه ملوك هذه البلاد، وجرن للعماد يعمد فيه أطفال الأسرة المالكة، وقد نقش عليه تاريخ 1720 وكله من الفضة الخالصة، وعليه رسوم كثيرة، منها رسم يوحنا المعمدان يعمد المسيح في نهر الأردن، وفي جدران هذه القاعة صورة بطرس الأكبر قيصر روسيا الذي جاء هذه المدينة متنكرا، وأقام في معامل السفن يدرس بنفسه كيفية صنعها حتى يعلم أهل بلاده وكان مدة وجوده هنا مثل بقية العمال في معيشته.
وظللنا في ذلك القصر القديم ندور بين نفائسه ونمتع الطرف زمانا، ثم انصرفنا وكثيرون من السائحين والسائحات يترددون في الخروج، وقد رأينا من خدمة هذا القصر شمما لم نعهده في أمثالهم من الخادمين؛ فإنه لما عرض على أحدهم مال قليل كالذي يأخذه الخادمون في كل موضع أبى قبوله، وأظهر الاستغراب من صنيعنا، وهذا أمر يستحق الذكر للدنماركيين، وهم قوم اشتهر عامتهم وخاصتهم بالأمانة والصدق. وأحقر الناس عندهم لا يجهل القراءة والكتابة؛ لأن التعليم قسري في هذه البلاد، فليس في طولها والعرض أمي واحد، ونزلنا بعد ذلك إلى حديقة قصر روزنبرج هذا، وهي بعيدة الأطراف فسيحة المجال فيها من صفوف الكستناء أشجار عمرت قرونا. وهنالك تمثال للملك كرستيان الرابع الذي مر ذكره وتمثال آخر للعالم أندرسون الذي اشتهر بالكتابات الأدبية والقصص الصغيرة يقرأها الأولاد في المدارس ويتعلمون منها أحسن المبادئ، وهو في التمثال هذا واقف بيده كتاب ومن حوله صبية يصغون لأقواله، والناس يحترمون ذكر هذا الكاتب المفضال هنا حتى إنهم أقاموا له الذكر في عدة مواضع، ولما ساروا بجثته للدفن بعد وفاته كان الملك في جملة الماشين وراء النعش احتراما لفقيد الأدب، وهنا يظهر لك نفع البساطة والحرية عند الملوك؛ فإن إكرام العلماء إلى مثل هذا الحد ينشط أصحاب العقول ويشجعهم ويدفعهم إلى الإقدام على الدرس والكتابة فيما يفيد.
وعلى ذكر هذه الحديقة التي نحن في شأنها أذكر أني زرت في كوبنهاجن حديقة أعظم منها وأوفر جمالا وأوسع شهرة، هي حديقة تيفولي تعد من المتنزهات المشهورة عندهم. وقد قضيت سهرة من أحلى السهرات رأيت في جوانبها الواسعة مصابيح تعد بالآلاف، وهي صغيرة كثيرة الألوان صفت صفوفا منظمة على أبواب الحديقة، وعلى أقواس عدة نصبوها من هنا ومن هنا في نواحي الحديقة، وعلى جوانب الطرق الكثيرة وفوق بركة من الماء كبيرة، وبين غصون الشجر وفي المروج الخضراء، وكلها - كما تقدم - ذات ألوان مختلفة توافق محل وضعها، ولها منظر بديع شائق لا تشبع العين من النظر إليه، ولا سيما فوق ماء البحيرة وحول جوانبها، حيث تنعكس الأنوار الكثيرة الملونة فتزيد المنظر غرابة وبهاء. والقادم إلى هذه الحديقة يحسب أنه في يوم عيد عظيم مع أن هذا حالها في كل يوم، وقد أنفقوا المال الكثير على إيصالها إلى هذه الدرجة من الجمال حتى صيروها من أجمل المشاهد، وبنوا في وسطها الملاعب والحانات والمطاعم، أذكر أني دخلت مطعما منها سموه باسم قصر الحمراء في غرناطة بإسبانيا، وجعلوه على شكل ذلك القصر الفخيم الذي ترى وصفه عند الكلام على مملكة إسبانيا، وفي ذلك المطعم الموائد الشهية ومواضع لثلاثمائة شخص صفت على أجمل الأشكال، وفي بحيرة الحديقة أيضا سفائن صنعت على شكل السفن الدنماركية القديمة، يدور بها المتنزهون حول تلك الضفاف البهية، ومغارة تشبه المغارة الزرقاء في نابولي، وسوف يأتي الكلام عليها أيضا عند الكلام على مملكة إيطاليا، وتل صناعي من الصخور الجميلة يتدفق الماء من جوانبه وينصب في البحيرة، ومن فوق ذلك التل صرح صغير أو كشك أنير بالمصابيح الملونة، وفيه نفر من القوم الطليان يغنون الأنغام الإيطالية، والناس يدورون بهم من كل جانب، وقد كانت سهرتي في تلك الحديقة كثيرة الفكاهة واللذة، ولا سيما إذا ركبت زورقا في البحيرة والزورق يخترق صفوف السفائن ملأى بالمتفرجين. وأعجبني على نوع خاص ما رأيت من هدو أهل البلاد وسكونهم وتأدبهم في الحديث والإشارات، فإن الذين دخلوا الحديقة في تلك الليلة لا يقلون عن عشرة آلاف، ومع هذا فإن الهدوء كان سائدا والأنس شاملا، فما سمعت جلبة ولا ضوضاء ولا رأيت غير كل وقار ومهابة، والناس يسيرون أفرادا وأسرابا في جوانب الحديقة على مهل فرحين وشعور صغارهم ذكورا وإناثا تتلألأ بياضا كأنما هي فضة فوق ورد الخدود النقية، وهي صفة عامة في أهل الشمال.
Page inconnue
وأصبحت في اليوم التالي فقصدت المين الحربية، وفيها الاستحكامات صفوفا، وقد تقدمت الإشارة إليها، وبعضها يعد موقعه من أجمل المواقع وتولم فيه الولائم العسكرية الفاخرة، وعلى مقربة منها ميناء التجارة، وهي واسعة كبيرة ترى فيها من أشكال السفن والبواخر والأبضعة ما يعسر عده، وأكثر السفن في ميناء كوبنهاجن إنكليزية؛ لأن للإنكليز أوسع المتاجر مع أهل هذه البلاد، وهم يشترون من إنكلترا الحديد والفحم الحجري، وبعض المصنوعات ويرسلون إليها كثيرا من حاصلات بلادهم ومصنوعاتها، ويقرب من هذه المين مطعم من الطبقة الأولى بين المطاعم المعروفة، بني على مرتفع من الأرض وأكثر الذين يقصدونه ضباط من أسطول هذه البلاد والدوارع التي تزورها. وأذكر أني رأيت من ذلك المطعم عربة فاخرة يجرها فرسان من جياد الخيل، وقد لبس سائقها والخادم الآخر إلى جانبه القطيفة الحمراء مزركشة بالقصب، فسألت الترجمان عن حقيقة أمرها، وعلمت أنها جلالة الملكة الحالية، وهي أميرة أسوجية لها ثروة طائلة وهبت منها نصف مليون جنيه لابنها الثاني البرنس شارل ملك نروج الحالي عند اقترانه بالبرنسيس مود ابنة ملك إنكلترا، وهي ابنة عمته كما يذكر القارئون، وقد اشتهر ملك الدنمارك والملكة بالأدب وحب الدرس والمطالعة، وهما على شاكلة الملك السابق في البساطة وحب الفقير، فالناس يميلون إليهما كثيرا ويسرون كلما التقوا بواحد من هذه العائلة الكريمة.
وقصدت بعد ذلك الحديقة العمومية، وهي من أجمل الحدائق اشتهرت باتساع مروجها البهية، حيث يغطي الأرض عشب قصير سندسي مرقط بأشكال الأقحوان والزهر الجميل على نسق يحيي في النفوس ذكر الجمال الطبيعي، وتفوح من تلك الأزهار روائح عطرية أكثرها يتضوع من الورد الكثير المزروع في هذه الحديقة على أشكاله، ولا حاجة إلى القول إن في هذه الحديقة من الأبنية والمشاهد ما في سواها، وقد أسهبت في وصفه غير مرة فأتركه كما تركت الحديقة يوم زرتها وتوجهت إلى متحف الآثار القديمة في كوبنهاجن، وهو من المشاهد المعدودة في هذه العاصمة، وقد قسم ثلاثة أقسام: أولها قسم التاريخ القديم ويليه قسم العصور الوسطى ثم قسم التاريخ الحديث، فترى في الأول أشكال الأسلحة الأولى من الحجر والصوان، وبعض الحراب والسيوف والرماح والنبال، وما كان يستعمله الأولون من آنية الطبخ وأمشاط من قرن الجاموس وصناديق من قشر الشجر وأدوات أخرى لا محل لذكرها تمثل حالة الأوائل وكيفية معيشتهم وحروبهم أتم تمثيل. وأكثر ما في القسم الثاني ملابس وأسلحة لفرسان العصور الوسطى ونقود من أيام شارلمان ومن قام بعد أيامه من ملوك الدول الأوروبية، وقد رتبت حسب تاريخ ضربها والممالك التي ضربت فيها وأكثرها يدل على تقهقر الصناعة في العصور المتوسطة؛ فإن الأولين أتقنوا النقش والحفر والرسم لا سيما في أيام الرومان واليونان الذين تشهد آثارهم الكثيرة أنهم وصلوا درجة عظيمة من التقدم في هذه الفنون الجميلة، فلما انقرضت دولتهم وكثر ظلم من خلفهم استولى الجهل على العقول وسميت تلك الأزمان بالعصور المظلمة؛ لما اشتهر عن أهلها من الجهل الكثير، فما أفاقوا من تلك الغفلة إلا في القرن الخامس عشر حين هبت ممالك أوروبا الحالية إلى إتقان العلم والصناعة، وأخذت شيئا كثيرا عن العرب، وهم والحق يقال تفردوا في أيام دولة الأندلس بالعلم والارتقاء، وأوصلوا معارف الأولين للآخرين فلهم على الحضارة فضل لا ينكر.
وأما القسم الثالث من هذا المتحف ففيه آثار جمة معظمها يشير إلى حوادث مشهورة في تاريخ أوروبا عموما والدنمارك خصوصا، بينها كتب غريبة في جملتها كتاب هندي ألفه واحد من أدباء الهند وقدمه لملك إنكلترا الحالي حين زار سلطنة الهند سنة 1876، وهو ولي العهد وفيه قصيدة ترجموا بعض أبياتها للإشارة إلى ما في التعبير الشرقي من الغرابة على ذهن الغربيين، وقد قال الهندي في أحد تلك الأبيات مخاطبا للأمير إن: «أين اللؤلؤ والكافور والقمر منك! فإن في القمر نقطا سوداء تشوه وجهه، وفي اللؤلؤ ثقوبا تقلل متانته، وللكافور رائحة تطير ولا تبقى، وأما أنت فإن شهرتك ناصعة البياض وهي صلبة وباقية.» وهي معان تخطر في بال الشرقي كما لا يخفى.
وسرت بعد ذلك لمشاهدة معرض للتماثيل يصنعونها من الشمع على شكل الرجال والنساء من مشاهير العصر الحالي والعصور الماضية، وهو له نظائر في أكثر العواصم الأوروبية يرى فيها الغريب رجال الدولة العظام ومشاهير الأمة كأنه واقف معهم فلا يفوته العلم بهيئة الذين يذكرون بين عظماء البلاد التي يزورها، وقل من يزور أوروبا ولا تتوق نفسه إلى مقابلة هؤلاء المشاهير، فالذي لا تمكن له المقابلة يكتفي بمثل هذا المعرض الذي رأيت فيه جميع مشاهير الدنمارك وسواها، أذكر منها رسم غامبتا رجل فرنسا المشهور تقتله عشيقته، ورسم ستانلي الرحالة وهو الذي اخترق القارة الأفريقية من زنجبار في الشرق إلى مصب الكونجو في الغرب، واستغرقت سياحته هذه 999 يوما رأى فيها من هائل المتاعب ما تنوء به الرجال، وجاب الأقطار الاستوائية قبل ذلك باحثا عن لفنستون الرحالة الشهير أيضا، ثم عاد إليها ثالثة لإنقاذ أمين باشا واكتشاف بعض المجاهل، وكان قبل وفاته من أعضاء مجلس النواب في بلاد الإنكليز وأحرز ثروة من سياحته ومؤلفاته، وكان مقامه بين الناس عظيما، وإلى جانب ستانلي تمثال اثنين من نوتية الدنمارك رافقوه في بعض سياحاته، وتمثال الكونت مولتكي القائد الألماني العظيم الذي قاد جيوش بروسيا إلى ساحات النصر والظفر في حربها مع النمسا ومع فرنسا، وكان أصله دنماركيا فنصبوا له هذا التمثال هنا ، وأذكر أيضا تمثال البرنس كرستيان بن هانز ملك الدنمارك أرسله أبوه إلى نروج في مهمة فلقي هناك فتاة فاتنة بارعة الجمال وشغف بحبها، فاقترن بها على كره من أبيه، فغضب عليه الملك وحرمه الملك، وبهذا أضاع الفتى ثلاث ممالك، هي: الدنمارك وأسوج ونروج وهي يومئذ متحدة بسبب حبه لهذه الفتاة التي صوروها معه في هذا المعرض وهي في غيبوبة تفارق الحياة، وقد أمسك الشاب بيدها يجس نبضها والحزن ظاهر على محياه إلى درجة توجب اشتراك الرائي معه في الأسف الشديد، ويقول الدنماركيون إن هذا الشاب رقص مع تلك الفتاة ثلاث رقصات كلفه كل منها مملكة، وهو من الأقوال المأثورة عندهم إلى اليوم.
ولا بد من القول إن ضواحي كوبنهاجن من المواضع الكثيرة الجمال وهي يقصدها الناس بحرا وبرا؛ لأن بعضها في جزر قريبة من المدينة، منها كلامبربرج، وهي على مسيرة ساعتين إلى الشمال من كوبنهاجن واقعة على ضفة خليج السوند الفاصل بين الدنمارك وأسوج، والمنظر من المدينة إليها في غاية الجمال، فلما وصلناها أعجبنا ما فيها من القصور، في جملتها قصر كان الملك السابق يقضي فيه أشهر الصيف، والقصر بسيط وإلى جانبه قصر عظيم كان القيصر إسكندر الثالث والد القيصر الحالي يقيم فيه حين يجيء مدة الصيف، هنالك كانت الأميرات والملكات تجتمع ومعهن قيصر الروس وملك اليونان وملك إنكلترا وآل أولدنبرج جميعهم من الأسرة المالكة في الدنمارك، ويقضون أوقاتا شهية ضيوفا لملك البلاد الجليل حتى أصبحت تلك البقعة ملتقى الملوك والأمراء على عهد إسكندر الثالث، وفي كلامبربرج مروج وغياض وحراج عجيبة الإتقان والجمال تسرح فيها أسراب الأيل، وكان إسكندر الثالث الذي ذكرناه مولعا بهذه الأيائل وبالأرانب يأتون بها من أبعد الأقطار ويطلقونها في تلك الغابات فيصطادها في ساعات الفراغ، ولطالما رآه الفلاحون وحده في الغياض راجعا إلى قصره ومعه شيء مما اصطاده، وعرفوه من كبر جثته وعلو قامته فإنه كان من أكبر أهل زمانه.
وقضيت في كلامبربرج نهارا كثرت مسراته، فلما عدت إلى كوبنهاجن في آخر النهار رأيت على مقربة منها صفوفا من المنازل البسيطة بنيت من الطوب الأحمر وهي فسيحة الطرق نظيفة المنظر، فأخبرني الدليل أنها مساكن لعمال البريد والتلغراف وبعض المصالح الأخرى، والمستخدمات في هذه المصالح من البنات كثيرات في الدنمارك وسواها حتى إنهن صرن أكثر من الرجال عددا في بعض مكاتب البوسطة والتلغراف في أوروبا وأميركا، ولما كانت أجرة هؤلاء العمال قليلة لا تسمح لهم باستئجار المنازل المبنية على قواعد الصحة في المدينة، فقد بنى المجلس البلدي لهم هذه المنازل في خارج المدينة وعين لها الأجر الزهيدة فأفاد العمال واستفاد، وهذا شأن الحكومات المنظمة تنظر إلى مصلحة عمالها ورعاياها وتساعدهم على تحسين حالهم، وحكومة الدنمارك تعد - كما لا يخفى - من أحسن حكومات أوروبا نظاما، ومن أشهرها التفاتا إلى مصلحة الأصاغر والفقراء، وبناء هذه المنازل مع ما ذكرنا من الأشياء الأخرى يدل دلالة قاطعة على سهرها وحسن انتظامها.
وسرت بعد ذلك إلى قصر فردنسبرج، وهو من أجمل متنزهات الضواحي يبعد نحو عشرة أميال عن العاصمة شمالا، بناه الملك فريدريك الرابع سنة 1722 على إثر حرب مع بلاد السويد وجعله في بحيرات يوصل إليها بجسور بديعة الصنع، ولما دخلنا هذا القصر رأينا في مدخله ساحة كبرى يتوسطها بركة من الماء أحيطت بجدار من الرخام الأسود وفيها تمثال نبتون إله البحر عند الأقدمين وغيره، والماء يتدفق من 57 أنبوبة دقيقة ومن وراء ذلك غرف القصر الكثيرة قسمت إلى جناح أيسر للملك وجناح أيمن للملكة، ويحيط بالجانبين رواق على شكل شرفة فيه تحف وآثار وصور تمثل تاريخ هذه البلاد، ومن أشهرها صورة أهل هذه البلاد يهاجمون إنكلترا في القرن الحادي عشر، وصور الحوادث المشهورة وأكثرها حروب مع بلاد السويد وروسيا وصور أفراد العائلة المالكة وهم 22 شخصا بالقد الطبيعي، وصور بعض المشاهير من قواد الدنماركيين وأمرائهم، في جملة ذلك أمير البحر رانسو الذي «مات بالتقسيط» على ما يقول أهل بلاده؛ ذلك لأنه فقد عينه في واقعة ويده في واقعة ورجله في واقعة أخرى وأذنه في واقعة، وهكذا إلى أن قضى نحبه، والصور التي من هذا القبيل كثيرة لا محل لسردها هنا .
وبعد أن أقمت أياما في كوبنهاجن على مثل هذا الحال غادرتها قاصدا بلاد أسوج ونروج، ومررت بحصون كوبنهاجن المشهورة التي قاومت مدافع الإنكليز في أوائل هذا القرن، وهي التي كان بطرس الأكبر قيصر الروس يعمل فيها وجرى بينه وبين ملك الدنمارك حديث نسوقه هنا تفكهة للقراء، قال بطرس الكبير لزميله ملك الدنمارك يوما: «إني يا أخي الملك يمكن لي أن آمر من شئت من رجالي أن يلقي بنفسه من أعلى هذا البرج ولا يتردد، فهل يمكن لك ذلك؟» فأجابه الملك: «إني يا أخي القيصر يمكن لي أن أضع رأسي بين يدي من شئت من رعاياي ولا أخاف شرا فهل يمكن لك ذلك؟» وكان جواب الملك مفحما دالا على فضل النظامات الدستورية، هذا ذكرتني به الحصون السالفة الذكر، وقد مررت عليها حين مبارحتي لهذه الديار قاصدا بلاد أسوج التي ترى الكلام عنها في الفصل القادم.
أسوج ونروج
خلاصة تاريخية
Page inconnue
إن هاتين المملكتين في أقصى الشمال من القارة الأوروبية، وهما مرتبطتان جغرافيا ارتباطا أوجب أن يكون تاريخهما - بوجه التقريب - واحدا، ولكنهما افترقتا سنة 1905 - كما سيجيء الكلام - وقد علم القارئ أن أصل الأهالي في هاتين المملكتين مثل أصل الدنماركيين، وقد اشتهروا مثلهم بالغزو والسطو، ولكن نروج صارت مملكة منظمة قبل غيرها وتبعتها الدنمارك ثم أسوج، فصارت هذه الممالك الثلاث ذات مركز معروف وقوة مشهورة، وكثرت بينها الحروب والمنافسات إلى أن ملك بلاد الدنمارك رجل اسمه ولدمار الرابع في سنة 1375، ولم يكن له وريث من أولاده فخلفه ابن ابنته مرغريتا، وهي أميرة اقترنت بملك نروج ورزقت ابنا هو أولاف الذي ورث عنها وعن أبيه بعدئذ مملكة نروج؛ فصار ملكا للبلادين، وكان ذلك بدء الاتحاد المشهور بين ممالك الشمال الثلاث. ومات أولاف هذا سنة 1387 فانتخب أمراء الدنمارك والدته مرغريتا - وهي ابنة ملكهم كما تقدم - لتكون نائبة الملك إلى أن يقع الانتخاب على ملك سواها، وكان تعيين الملوك بالانتخاب شائعا يومئذ في الممالك الشمالية. وفي السنة التالية - أي 1388 - أجمع سراة نروج على انتخاب مرغريتا أيضا وصية أو نائبة للملك في بلادهم إلى أن يقوم ملك سواها، وكان ذلك بعد مساع كثيرة منها وبدعوى أنها أم الملك المتوفى وزوجة أبيه، فعاد بذلك الاتحاد بين نروج والدنمارك، ووجهت مرغريتا همها إلى امتلاك أسوج فخدمها السعد؛ لأن أهالي تلك البلاد شقوا عصا الطاعة وقاموا على ملكهم ألبرت سنة 1388، حتى إذا هاجمت البلاد ساعدها أكثر الأهالي؛ فانتصرت على ألبرت وأسرته مع ابنه ثم أطلقت سراحه على أن يعيش بعيدا عن بلاده، وأقر الأسوجيون انتخاب مرغريتا وصية للملك في بلادهم أيضا، وبذلك اتحدت هذه الممالك الثلاث تحت حكم ملكة واحدة اشتهرت بالحزم والسياسة حتى لقيت بسميراميس الشمال على ما تقدم في تاريخ الدنمارك. ولما تم الاتحاد انتخبت كل مملكة ملكا لها على شرط أن يحكم البلاد بعد وفاة مرغريتا، وظلت هي نائبة الملك وحاكمة مستبدة ولم يسموها ملكة؛ لأن قانون أكثر الممالك الأوروبية المعروف باسم «القانون الساليكي» يمنع النساء من الحكم، وأكثر ممالك أوروبا خاضعة لهذا الناموس ما خلا إنكلترا وهولندا، وقد أبطلته البورتوغال من عهد غير بعيد، وعادت روسيا إلى نوع منه بعد أيام القيصر بولس، وهو قانون لا يعرف لمبدئه تاريخ، ولا يدري المؤرخون اسم واضعه ولكنه بقية آداب الأولين الذين كانوا يظنون أن المرأة لا تليق للأحكام.
وقام بعد ذلك ملوك كثيرون ورثوا مملكة الدنمارك وأسوج ونروج عن مرغريتا هذه، لم يشتهر لهم ذكر حتى أوائل القرن السادس عشر حين عمت المبادئ البروتستانتية في هذه الممالك، وكان الملك يومئذ كرستيان الثاني - تقدم ذكره في تاريخ الدنمارك - فلما اشتد ظلمه وأمر بذبح سراة أسوج في ستوكهولم قام عليه الأهالي تحت قيادة جوستافوس فاسا أحد أبناء ملوكهم الأولين، واستقلوا في سنة 1521، وبذلك انفصلت أسوج عن المملكة الشمالية، وأما نروج فظلت مع الدنمارك إلى سنة 1814 كما سيجيء القول.
وتقدمت أسوج بعد استقلالها هذا، واشتهر قوادها في حروب الأجيال الوسطى، وأعظمهم الملك جوستافوس أدولفوس، وهو بطل ضرغام انتصر للمذهب البروتستانتي وحارب أعداءه واحتل بلاد ألمانيا ، ففل جنودها وفرق مواكب أمرائها، وجعل لدولته مقاما عظيما، ثم قتل في معركة لوتزن سنة 1632 بعد أن ملك البلاد من عام 1611، فكانت مدة حكمه عزا عظيما لبلاد أسوج، وخلفته ابنته كرستينا على العرش، ثم تنازلت عنه لابن عمها شارل العاشر سنة 1654، وحدثت في أيامه حروب كثيرة مع بولونيا كان النصر في أكثرها لجنوده، وملك بعده ابنه شارل الحادي عشر سنة 1660 واشتهر بالعمل على تمدين بلاده وتنقيح نظاماتها وترقية شئون فقرائها، ولما مات في سنة 1667 خلفه ابنه شارل الثاني عشر وهو يومئذ فتى في الخامسة عشرة من عمره، وكان ذكي الفؤاد هماما حازما باسلا في الحروب، ولكنه قليل الحظ سيئ البخت، فإن ملك الدنمارك وملك بولونيا حارباه فانتصر عليهما ثم حاربه بطرس الكبير قيصر روسيا المشهور؛ فكان النصر في أول الأمر لجنود أسوج ولكن الروس انتصروا في آخره انتصارا عظيما في بولتافا سنة 1907، فاضطر شارل إلى الفرار من بلاده والإقامة مدة 5 سنين في مدينة بندر من مدائن تركيا، فلما عاد إلى بلاده مكرما بعد هذه المدة هاجت الأمة وماجت واستقبلته استقبالا حماسيا عظيما فعاد إلى سابق همته وعول على قهر الأعداء، ولكن القدر المحتم أصابه بقنبلة مدة حصار فردركشاد سنة 1718 في حربه مع الروس فمات مأسوفا عليه، والأسوجيون يعدونه من أعظم أبطالهم وأشهر ملوكهم.
ولم يعرف عن أسوج شيء يستحق الذكر بعد هذا إلا سنة 1809 حين تولى الملك شارل الثالث عشر، ولم يكن له وريث من آله فتبنى البرنس بونت كورفو من أمراء فرنسا، وهو المشهور في التاريخ باسم المارشال برنادوت، كان قائدا عظيما من قواد الجيش الفرنسوي على عهد نابوليون بونابارت، وهو الذي صار ملكا لأسوج سنة 1812، وما عتم أن رقي العرش حتى انضم إلى روسيا وبروسيا وإنكلترا وحارب معها رئيسه نابوليون الذي كان السبب في ترقيته؛ فكافأته الدول بعد سقوط نابوليون بتأييده على عرش أسوج، وأهدت إليه مملكة نروج أيضا وكانت تابعة إلى ذلك الحين للدنمارك، ولكن النروجيين لم يرضوا بالملك لبرنادوت فانتخبوا أميرا ألمانيا بدله، فتقدم برنادوت بجيش قوي عليهم اضطرهم إلى الرضوخ على شرط أن تكون بلادهم مستقلة في أمورها الداخلية تمام الاستقلال ولها النظامات القديمة، فقبل برنادوت رأيهم. ومن ذلك الحين صارت أسوج ونروج مملكة واحدة يحكمها آل برنادوت، ولكل مملكة من المملكتين نظامات خاصة بها تقرب من النظامات الجمهورية أو الملكية المقيدة، وقد ارتقت الأمتان بعد ذلك، فصار الأسوجيون والنروجيون الآن في طليعة المتمدنين؛ لأن التعليم عندهم إجباري، فلا تجد أميا في طول البلاد وعرضها ما خلا بعض أقسام شمالية من أسوج، والقوم أهل همة وعزيمة وحب للعلم أو المعارف. وقد اشتهر من النروجيين كثيرون شغفوا بالاكتشاف، ومن أشهرهم الدكتور نانسن الذي جاب الأقطار الشمالية، والأستاذ أندريه الذي طار إلى القطب في قبة أو بالون ولم يسمع الناس بأخباره إلى الآن، والنروجيون أصحاب متاجر واسعة، ولبلادهم مناظر غاية في الفخامة يقصدها السياح من كل البلاد، ولهم اختلاط كثير ببلاد الإنكليز، وأهل البلاد - بوجه الإجمال - معروفون بالنشاط والصدق والأمانة، حتى إنه ليضرب بهم المثل في الشهامة وكره الخداع، وهي صفات لا توجد إلا في المترقين.
وقد ملك أسوج ونروج من آل برنادوت خمسة، هم: شارل الرابع عشر الذي أسس الدولة، خلفه أوسكار الأول سنة 1844، وتلاه شارل الخامس عشر سنة 1859، ثم خلفه الملك أوسكار الثاني سنة 1872، اشتهر بحب العلم والمعارف شهرة لا تحتاج إلى الذكر، وعكف على درس التاريخ القديم والحديث حتى صار من الثقات في هذا العلم الجليل، وعرف بالميل إلى اللغات الشرقية وآدابها، فرأس مجمع المستشرقين وجمع علماء اللغات الشرقية في عاصمته على مثل ما يعلم الجمهور، وجاد بالصلات والوسامات على أهل العلم والمؤرخين، وقد اشتهر فوق علمه ومعارفه برقة القلب وبساطة المعيشة ولطف المعاشرة والحب الشديد لبلاده وأهلها، وأما الملك الخامس من آل برنادوت فهو جوستافوس أدولفوس الحالي، وسنعود إلى ذكره بعد أن نذكر حادثة انفصال أسوج عن نروج؛ لأن هذه الحادثة تمت على عهد أبيه.
قلنا إن أسوج ونروج كانتا مملكة واحدة إلى عهد قريب، ولكن النفار كان شديدا مزمنا بين الأمتين حتى إذا خالف الملك أوسكار رغبة أهل نروج في سنة 1905 اشتد النزاع وزاد ميل النروجيين إلى الاستقلال، فلما كان يوم 7 يونيو من السنة المذكورة قرر البارلمان النورويجي انفصال أمته عن السويد، وكان الشعب قد أظهر ميلا إلى هذا الانفصال ما عدا قسما منه صغيرا أراد بقاء الاتحاد، فلما عرضت هذه المسألة في البارلمان تقرر فيه أن تؤخذ أصوات الشعب، وضرب يوم 13 أوغسطس موعدا لهذا الغرض فكانت النتيجة أن 368200 من الأهالي أقروا الانفصال، وخالفهم في ذلك 184 صوتا فقط، وبذلك أصبحت نروج مملكة مستقلة بموجب هذا القرار الذي حمله، وقد ذهب به إلى ملك السويد في عاصمته استوكهولم، فلما اطلع الملك عليه قال متأسفا إنه كان يود الاتحاد؛ لأن الاتحاد يولد القوة أو على الأقل أن يؤجل تنفيذ هذا القرار إلى ما بعد وفاته؛ لأنه صار في أواخر العمر، وهو لا يريد سفك الدماء بسبب ذلك كما حدث في الممالك الأخرى، فإذا كان الانفصال طلب الشعب النورويجي فهو يقبل به، فأجابه الوفد أنه وإن يكن الانفصال أصبح عندهم أمرا مقررا ولكنهم حبا بالملك يريدون أن يكون ابنه البرنس شارل ملكا عليهم ترضية لجلالته واعترافا بجميله، ولكن الملك لم يشأ أن يقبل ولده التاج، وبعد انصراف الوفد أمر ملك السويد بنزع الإشارة الموجودة في العلم السويدي التي تدل على اتحاد النورويج معها، وأن يعين يوم أول نوفمبر لرفع العالم السويدي بطريقة رسمية خاليا من هذه الإشارة علامة الانفصال، فتم ذلك في اليوم المذكور وكان ذلك آخر عهد المملكتين بالاتحاد.
عاد الوفد النورويجي إلى كريستيانا عاصمة بلاده وبلغ البارلمان نتيجة مأموريته، وكان قسم من الشعب يريد أن تكون الحكومة جمهورية، وآخرون يريدونها مملكة فاتفق الفريقان على أن تؤخذ أصوات الشعب، وعين يوم الأحد 12 نوفمبر لأخذ الأصوات فبلغ عدد الطالبين للجمهورية 69246، وعدد الطالبين للملكية 259563؛ فبناء عليه ذهب وفد إلى عاصمة الدنمارك وقابل ملكها كريستيان وعرض التاج على حفيده البرنس شارل، فأرسل ملك الدنمارك تلغرافا إلى ملك السويد يرجوه بإلحاح أن يقبل لابنه تاج النورويج، فأجابه الملك بالإصرار على رأيه السابق وتمنى للأمير الدنماركي كل سعادة وهناء، فاستدعى ملك الدنمارك حفيده بحضور الوفد الذي جاء ليعرض عليه تاج نروج، وألقى عليه خطبة مؤثرة قال فيها إن حمل التاج وراءه مسئولية، فما عليه إلا أن يتدبر بحكمة في الأمور التي تسند إليه؛ فأجاب بالقبول ووعد أنه وزوجته يوقفان حياتهما على ارتقاء شأن الشعب النورويجي، وعلى هذا صار البرنس شارل ملك نروج، واسمه الآن هاكون كما سيجيء، ولد في 13 أوغسطس سنة 1872 واقترن بالبرنسيس مود ابنة إدورد السابع ملك إنكلترا، وله منها ولد عمره الآن 5 سنين واسمه أولاف.
وصل الملك الجديد في مدرعة دنماركية إلى عاصمة النورويج في يوم السبت 25 نوفمبر؛ فأطلقت المدافع من القلعة، وبادر لمقابلته رئيس البارلمان وأعضاؤه ثم ذهب إلى قصره مع الملكة وابنه، وسار في شوارع ازدحمت بجماهير الناس وهم يحيونه حتى دخل القصر وتمت فيه المقابلات الرسمية، وفي الغد - أي يوم الأحد - ذهب هو وزوجته وابنه إلى قاعة البارلمان حيث حلف يمين الأمانة لدستور البلاد بحضور المطران والإكليروس ولقب بالملك هاكون السابع، وهو اسم بعض من ملوك النورويج السابقين، وكان هاكون السادس آخر هؤلاء الملوك توفي منذ خمسمائة سنة، وسمي ابنه ولي العهد أولاف وهو أيضا اسم الملك أولاف الذي جمع القبائل ووحد مملكة النورويج في القرن العاشر، وجعل راتب الملك 38888 جنيها في السنة، وكان الازدحام شديدا في ساحة البارلمان، فلما خرج الملك إلى الشرفة ورآه الشعب صاحوا مرارا وتكرارا بصوت واحد: «فليحيا هاكون.» وكان ولي العهد الصغير إلى جانب والده وفي يده العلم النورويجي، فلما حركه بيده الصغيرة أمام الجمهور الواقف في الميدان زاد الهتاف وتعاظم سرور الناس من هذا المنظر حتى بكوا من شدة السرور، وبعد ذلك أرسل الملك تلغرافات إلى القياصرة والملوك ورؤساء الجمهوريات يعلمهم بارتقائه عرش النورويج؛ فوردت له التهاني من الجميع وآيات النصح من جده ومن حميه ملك إنكلترا، وهو الآن من الملوك الذين تعلقت الرعية على حبهم، وله شهرة بحب البسالة والفضائل مثل أكثر أقاربه العظام.
غوستاف ملك السويد .
وتوفي الملك أوسكار الثاني في 9 ديسمبر سنة 1907 بعد أن بلغ من العمر 79 سنة، وخلفه ابنه الأكبر وهو الملك الحالي، وله ولدان: أولهما البرنس غوستاف وهو الآن ولي العهد تزوج بابنة الديوك أوف كنوت شقيق ملك إنكلترا، وكان هذا البرنس وابنة الديوك قد حضرا للسياحة في مصر؛ حيث حصلت المقابلة وتم الاتفاق بينهما على الاقتران. والملك جوستافوس مشهور بالأدب والعلم مثل أبيه، وأهل بلاده يحبونه ويكرمونه غاية الإكرام، وأما عدد سكان مملكته فقد بلغ خمسة ملايين ونصف مليون من النفوس حسب الإحصاء الأخير.
Page inconnue