ومعلوم أن بلاد الإنكليز ثلاثة أقسام: هي إنكلترا واسكوتلاندا وأرلاندا، القسمان الأولان جزيرة واحدة والقسم الثالث جزيرة منفصلة عن جارتها. وكان الرومانيون قد اكتفوا بإخضاع إنكلترا ولم يقووا على اسكوتلاندا؛ لأنها بلاد جبلية وأهلها أشداء، فلما تقلص ظلهم وخرجوا من البلاد كان أهل إنكلترا قد تعودوا الذل وبعض الخمول، فهاجمهم أهل اسكوتلاندا وغنموا أرزاقهم وقتلوا منهم جماعة كثيرة حتى إنهم استغاثوا بأهل سكسونيا، وهم قبائل ألمانية اشتهرت بالبأس في الحروب فجاءوا إنكلترا لإعانة أهلها على جيرانهم الجبليين، وتمكنوا من طرد المعتدين، ولكنهم لما أرادوا امتلاك إنكلترا قاومهم أهلها وطالت الحروب بين الفريقين، فما أخضعوا هذه البلاد إلا بعد 150 سنة، ومن ذلك الحين قامت في إنكلترا سبع دول سكسونية واختلط الدخلاء بالأهالي فصاروا بعد مرور الأجيال أمة واحدة تعرف إلى اليوم باسم أنجلو ساكسون، وهم الأمة الإنكليزية، وما نشأ منها في أميركا والمستعمرات البريطانية الكثيرة .
وليس في تاريخ الدول السكسونية السبع ما يستحق الذكر غير أنها ضمت وصارت مملكة واحدة بعد تشكيلها بأربعمائة سنة، فإن أجبرت - وهو ملك إحدى هذه الدول - ورث بعضها واغتصب البعض الآخر؛ فصار ملكا عاما لبلاد الإنكليز سنة 827، ولكن البلاد لم يهدأ لها بال بعد هذا الاتحاد، فإن أهل الشمال من الأوروبيين - وهم سكان الدنمارك وأسوج ونروج - أكثروا من الغزو والسطو على ما علمت في الشذرات التاريخية السابقة، وأقلقوا راحة الإنكليز زمانا حتى إنهم ملكوا البلاد في أيام الملك ألفرد الكبير، وهو من أعظم ملوك إنكلترا اختفى زمانا بعد أن كسر الشماليون جنوده حتى لم شعثه وعرف مواقع الضعف في أعدائه فحاربهم وانتصر عليهم وطردهم، ولكنهم عادوا إلى إنكلترا بعد موته سنة 901 وملكوا البلاد زمانا، وكان ملكهم سوين وابنه كانوت أشهر ملوك ذلك الزمان في القوة. وثار الأهالي على حكومة أهل الشمال سنة 1041 فاستقلوا وحكموا عليهم أميرا من ورثة الملوك السكسونيين الأول، وكان من أمر الملك إدورد آخر هؤلاء الملوك أنه رأى من بعض أشراف دولته ميلا إلى اختلاس العرش من بعده؛ فأوصى بالملك من بعده إلى أمير نورمانديا - إحدى إمارات فرنسا الشمالية - وكان هذا الأمير من أقاربه، وهو الذي سمي بعد ذلك وليم الظافر؛ فإنه لما مات إدورد هذا سنة 1066؛ جاء بجيش قوي إلى إنكلترا وحارب أميرها هارولد الذي خاصمه على الملك فانتصر عليه انتصارا تاما وملك البلاد وأسس دولة جديدة قوية هي التي شكلت إنكلترا بشكلها الحالي، ولم تزل الدولة المالكة الآن من سلالة وليم الظافر وبعض النظامات والأسماء على مثل ما وضعت في أيام هذا الملك.
وورث مملكة إنكلترا أمراء من أبناء وليم الظافر وحفدته كثار اشتهر منهم رتشرد الأول، وهو المعروف بريكاردوس قلب الأسد، كان بطلا مغوارا ملك سنة 1189، وجاء مع غيره من ملوك أوروبا وأمرائها لمحاربة الدول الإسلامية في الحروب الصليبية، فكان هو أعظم من حارب العرب، وله مع السلطان صلاح الدين حكايات مشهورة، وورث الملك عن قلب الأسد أخوه يوحنا سنة 1199، وكان ضعيف العقل سفيه الرأي، فحدث في أيامه ثورة في الخواطر بسبب جوره وسوء تدبيره واتحد الأشراف على طلب الحقوق منه لهم وللأهالي؛ فأصدر أمرا عاليا يمنح فيه الرعايا حق الاشتراك مع الملوك في الأحكام، وكان ذلك بدء نظام الإنكليز الدستوري، وهم يذكرون هذه الحادثة مع أعظم الحوادث التاريخية؛ لأنها أساس حريتهم وعظمتهم. وقام بعده ملوك آخرون اشتهر منهم إدورد الأول ملك سنة 1273؛ لأنه أخضع إمارة ويلس، وهي جزء من إنكلترا في الشمال الغربي عرف أهلها بالبسالة، وهم بقية الإنكليز الذين نجوا من حكم الرومانيين وسواهم وامتنعوا في أرضهم، ولهم إلى الآن لغتهم خاصة بهم، وعوائد معروفة لا شبه بينها وبين لغة الإنكليز وعوائدهم، فحاربهم إدورد حروبا طويلة وأخضعهم وقتل أمراءهم وجعل بلادهم جزءا من أجزاء مملكته في سنة 1283. وحاول إدورد الأول أن يخضع اسكوتلاندا وهي التي كان أهلها يسطون على بلاده من زمان طويل ولكنه لم يقدر على ذلك؛ لأنها كانت مملكة منظمة مثل مملكته ولها جيش وأعوان، وكانت الحروب من ذلك العهد مستمرة بين المملكتين والمنافسة دائمة حتى صارتا دولة واحدة على مثل ما يجيء.
ولم يحدث بعد هذا ما يذكر في تاريخ الإنكليز حتى سنة 1348 حين ادعى ملك إنكلترا إدورد الثالث أن مملكة فرنسا إرث له بسبب قرابة له مع ملوك تلك البلاد، وكان ملوك إنكلترا إلى ذلك الحين أمراء نورمانديا في شمالي فرنسا، فلما اشتهرت هذه الدعوى قام ملك فرنسا فيليب لمحاربة خصمه وجمع مائة ألف محارب فقابله ابن ملك الإنكليز، وهو المعروف باسم الأمير الأسود بثلاثين ألفا وهزمه شر هزيمة في معركة كرسي، وأول ما استعمل الإنكليز المدافع في الحروب كان في هذه المعركة وكانت البنادق معروفة قليلا فإنها لم تستعمل إلا سنة 1340. ومات فيليب ملك فرنسا بعد انكساره بقليل، فخلفه ابنه جان وقصد محاربة الإنكليز ولكنه كسر مثل أبيه، وجاء به الأمير الأسود أسيرا إلى إنكلترا، وكان الملك إدورد الثالث يحارب اسكوتلاندا حين حارب ابنه فرنسا، فانتصر هو أيضا على أعدائه وأسر ملكهم إدورد الثاني وجاء به أسيرا إلى لندن، فالتقى فيها حينئذ ملكان في الأسر وعظم شأن الدولة الإنكليزية كثيرا، ولكن إنكلترا لم تستفد من هذه الانتصارات شيئا سوى امتلاك مدينة كاليه في شمالي فرنسا؛ فإن اسكوتلاندا وفرنسا عادتا إلى الاستقلال حالا وضعفت إنكلترا بعد موت ملكها إدورد الثالث وابنه الأمير الأسود الباسل، لا سيما وأن الذي ورث إدورد الثالث وهو حفيده رتشرد الثاني كان ضعيفا فجعل أقاربه يتخاصمون ويتنافسون في الدسائس، وأشهرهم اثنان هم الديوك أوف يورك والديوك أوف لانكاستر اختلس الثاني الملك من ابن أخيه واضطره إلى الاستقلال ثم قام الديوك أوف يورك يطالب بالملك، وحدثت حروب أهلية مشهورة في تاريخ البلاد تعرف بحرب الوردتين؛ لأن حزب يورك اتخذ شعاره الوردة البيضاء وحزب لانكاستر الوردة الحمراء، فما انتهت تلك الحروب إلا بعد أن ولي ملوك وعزل ملوك، وقام في ذلك العهد ملك عظيم هو هنري الخامس ملك سنة 1413 وهو شاب في أول العمر فسمع باضطراب فرنسا وضعف ملكها وعزم على إخضاعها؛ فهاجمها بثلاثين ألف جندي يقودهم بنفسه، وانتصر في كل معركة حارب الفرنسيس بها ولا سيما معركة أجنكور سنة 1415، فهرب ملك فرنسا من وجهه، ودخل هنري مدينة باريس فتوج بها ملكا على فرنسا، وما زال ملوك الإنكليز يسمون أنفسهم ملوك فرنسا إلى عهد قريب، وحدث بعد هذا أن هنري الخامس مات فطمع الفرنسويون بالاستقلال وعادوا إلى محاربة الإنكليز فساعدهم القدر بوجود الفتاة جان دارك التي مر الكلام عنها في تاريخ فرنسا، واسترجع الفرنسويون مملكتهم.
وظلت الحرب الأهلية في اشتغال حتى قام هنري السابع وملك البلاد وهو سليل آل بورك اقترن بفتاة من بيت لانكاستر؛ فبطلت الحرب وأسس هذا الملك دولة جديدة قوية تعرف باسم تيودر، قام منها أعظم الملوك ومنهم ابنه هنري الثامن كان معاصرا لفرنسيس الأول وكارلوس الخامس، واشتهر بكثرة زوجاته اقترن بهن الواحدة بعد الأخرى، وكانت أول زوجاته كاترين أخت كارلوس الخامس ملك إسبانيا والنمسا وأرملة أخيه المتوفى، فلما أحب هنري الثامن إحدى خادماتها، وهي حنة يولن والدة الملكة إليصابات - التي سيأتي ذكرها - أراد أن يطلق كاترين امرأته فعارضه البابا في الأمر، وحدث بين الاثنين خلاف أدى إلى انتقاض ملك إنكلترا على رئيس الكنيسة الكاثوليكية، مع أن هنري الثامن كان غيورا على الدين وألف كتابا في الرد على مارتينوس لوثيروس المصلح الإنجيلي المشهور الذي نشأ في ألمانيا على عهده ولقبه البابا بحامي الدين، وهو لقب ملوك إنكلترا إلى هذا العهد يكتب على نقودهم وأوراقهم الرسمية، فلما حدث هذا الخصام بين البابا وملك إنكلترا انفصلت الكنيسة الإنكليزية عن كنيسة رومة الكاثوليكية، واتبع أكثر الإنكليز الطريقة البروتستانتية من ذلك الحين، ولم تزل إنكلترا إلى الآن أقوى الدول البروتستانتية وأشهرها.
ومات هنري الثامن هذا سنة 1547 وهو من أكبر ملوك الإنكليز، فخلفه ابنه إدورد السادس ومات بلا عقب فخلفته أخته ماري، وماتت بلا عقب فخلفتها أختها إليصابات وهي من أعظم ملوك الأرض طرا وأشهرهم بلا مراء، ملكت من 1558 إلى 1603 أي 44 سنة، حدثت في خلالها الأمور العظيمة، وبدأت إنكلترا تتوسع في امتلاك الأراضي في أميركا وغيرها وصارت مملكة اسكوتلاندا رهينة أمرها بدون حرب ولا قتال؛ لأنها عرفت كيف تدس الدسائس لقريبتها ماري ستيورت ملكة اسكوتلاندا حتى إن تلك الملكة المسكينة طردت من بلادها وجاءت إنكلترا فألقيت في السجن 19 سنة، وفي آخر تلك المدة حكم عليها بالإعدام بدعوى أنها اشتركت في مؤامرة ضد إليصابات، وكان من حوادث هذا العهد العظيمة أن فيليب الثاني ملك إسبانيا وهو يومئذ يعد أكبر ملوك الزمان طلب الاقتران بإليصابات فرفضته بتاتا فعول على قهرها وإخضاع مملكتها، وأرسل عليها أسطولا عظيما حطمه الإنكليز تحطيما، وساعدتهم الأرياح على تكسيره؛ فنجت إنكلترا من خطر جسيم، وهم إلى الآن يذكرون تحطيم الأسطول الإسباني ويعدون يومه من الأعياد الكبرى. وقام في عهد إليصابات رجال عظام في الحرب والسياسة، واشتهر شاكسبير الشاعر العظيم في أيامها أيضا، ونمت دولة الإنكليز نماء عجيبا.
ولم تتزوج هذه الملكة العجيبة، فلما توفيت أشارت بإعطاء الملك من بعدها إلى جيمس ملك اسكوتلاندا، وهو يومئذ أقرب أقاربها فجاء جيمس هذا وحكم زمانا لم يشتهر بشيء سوى امتداد نفوذ إنكلترا في أميركا، ومات سنة 1625 فورثه ابنه تشارلس الأول، وكان لسوء حظه ميالا إلى الاستبداد، والشعب قد ترقى وطلب الحقوق والامتيازات، فحدثت بينه وبين نواب الأمة أنواع كثيرة من الخصام انتهت بحرب بين الحزبين انتصر فيها نواب الأمة على الملك ، وكان قائد جنودهم بطلا عظيما اسمه كرومويل، هذا استبد بالأمر بعد عزل الملك وأمر بمحاكمته فحاكموه وحكموا عليه بالإعدام، وهو أول ملك قتل في أوروبا بمثل هذه الطريقة، ثم استبد كرومويل بالحكم زمانا وأورثه لابنه من بعده، ولكن الأهالي نفروا من قتل الملك وأثرة الجمهوريين فأعادوا ابن ملكهم إلى عرشه وهو تشارلس الثاني ملك سنة 1660، وكان مضادا للأمة في آرائه وأمياله فتحمله القوم بالصبر حتى إذا مات ورثه أخوه جيمس الثاني، وكان كاثوليكيا قحا يريد قلب النظام البروتستانتي وكل أمياله فرنسوية، فاشتد الخلاف بينه وبين الأهالي حتى إنهم قاموا عليه في آخر الأمر وطردوه وأعطوا الملك لابنته ماري وزوجها وليم أمير أورانج وصاحب هولندا، فجاء هذا الأمير بجيش صغير إلى لندن وطرد عمه منها وساعده الأهالي على طرد جيمس فرحين، فانقلبت بذلك دولة آل ستورت، وسمي هذا الانقلاب بالثورة الإنكليزية تاريخها سنة 1688، وهو تاريخ الاستقرار على نظام الشورى وآخر عهد إنكلترا باستبداد الملوك.
وحدث في أيام وليم الثالث هذا عدة حروب بين إنكلترا وفرنسا لم يستفد منها الإنكليز شيئا، فلما مات وليم وامرأته ماري ورثت المملكة عنهما حنة أخت ماري، وكانت حنة من الملكات المشهورات ملكت من سنة 1702 إلى 1714 وأصلحت الكنيسة الإنكليزية في أيامها، وسن لها النظام المعمول به إلى الآن، وحدثت حروب هائلة بين إنكلترا وفرنسا في أيام هذه الملكة بسبب مطامع لويس الرابع عشر ملك فرنسا المشهور، فانتصر الإنكليز في عدة مواقع بحسن تدبير قائد من أعظم قواد الزمان اسمه الجنرال تشرتشل الذي صار بعد انتصاره على الفرنسيس الديوك أوف مارلبرو وسلالته من أشراف الإنكليز إلى هذا العهد، ومن أشهر الحوادث في عهد هذه الملكة أن إنكلترا واسكوتلاندا انضمت إحداهما إلى الأخرى وصارتا مملكة واحدة بعد أن كانتا مملكتين مستقلتين يحكمهما ملك واحد من أيام جيمس الأول الذي ذكرناه، وكان ذلك سنة 1707.
وتوفيت الملكة حنة بلا عقب، وكانت أقرب قريباتها زوجة ملك هانوفر فآلت المملكة بعدها إلى جورج الأول ملك هانوفر الألماني سنة 1714، ولم يحدث في أيامه غير بعض القلاقل بسبب محاولة آل ستورت استرجاع الملك ومساعدة فرنسا لهم فلم يمكن ذلك. ومات جورج سنة 1727 فخلفه ابنه جورج الثاني وحدثت في أيامه حروب كثيرة مع فرنسا كان النصر فيها أكثره للفرنسويين في أوروبا وللإنكليز في أميركا حين أخذوا بلاد كندا من الفرنسويين وهي لهم إلى الآن، وبدأ الإنكليز في ذلك العهد باكتشاف جزر المحيط والامتلاك في الشرق، فكان أساس سلطنتهم الهندية على عهد جورج الأول والثاني.
ومات جورج الثاني سنة 1760 فخلفه جورج الثالث، وهو الذي ملك البلاد 59 سنة وحدث في أيامه أعظم الثورات، نريد بها ثورة فرنسا المشهورة وثورة أهل أميركا حين استقلوا وصاروا دولة الولايات المتحدة المعروفة بسبب إهمال من حكومة لندن وكان ذلك سنة 1782. وفي سنة 1788 بدأ الإنكليز باستعمار جزر أوستراليا وجعلوا يرسلون إليها المنفيين وأهل الجرائم ثم بطلت هذه العادة، وأوستراليا الآن من المستعمرات الإنكليزية العظيمة، وكانت الحرب دائمة تقريبا بين فرنسا وإنكلترا في كل تلك المدة لا سيما إذ قام نابوليون وكسر الإنكليز أساطيله في أبي قير وترافلجار وغيرها من المواقع العظيمة في البحر، وأخرجوه من مصر والشام وإسبانيا والبورتوغال حتى إذا جاء عام 1815 كسروه في واترلو الكسرة الأخيرة على مثل ما جاء في تاريخ فرنسا. ومن حسن حظ الإنكليز أنهم رزقوا في تلك المدة رجالا هم نوابغ وجبابرة في الاقتدار، منهم نلسون أمير البحر، وولنتون قائد الجيوش في البر، وبت الوزير المشهور في السياسة، استعملوا مواهبهم كلها لإرغام نابوليون ومحاربته فكانوا هم الفائزين.
Page inconnue