والمتحف هذا عظيم الشأن لما بذله الألمان في سبيل تحسينه وزيادة نفائسه، وهم أهل عزيمة وجد في المسائل العلمية، بلغوا في العلوم العقلية شأوا بعيدا حتى إن بقية الأوروبيين والأميركيين إذا أرادوا التعمق في الفنون الرياضية والعقلية والفلسفة على أشكالها قصدوا مدارس الألمان، والقوم يرسلون اللجنات العلمية في كل حين إلى الأقطار البعيدة لجمع الآثار التاريخية والمتحجرات والأحافير وغير هذا مما يفيد أهل العلم، وقد اشتهر من رجالهم عدد كبير بالاكتشاف، مثل شلمين الذي سيمر بك ذكره وغيره ممن جاب الأقطار النائية وراض الصعاب في مصر والشام والعراق والأناضول والهند وسواها؛ للبحث عن بقايا السابقين والعلم بما مر من تاريخ الأرض وسكانها، ولطالما دفعت إدارة هذا المعرض من المال ألوفا بثمن بعض معداته، وجادت بالشيء الكثير على الصور المتقنة، وهي لها عندهم وفي كل بلاد متمدنة شأن عظيم؛ لأنها نتائج القرائح المتوقدة والأفكار السامية تمثل للرائي الأفكار والخواطر الرفيعة والحوادث المؤثرة، فهي مثل الشعر الجيد وبقية الفنون الجميلة مهذبة للأفكار مرقية للعقول، ومع ذلك فإن أهل الشرق - ونحن في جملتهم - لا يهتمون لها، وقد ينفقون الألوف على فرش البيت ولا يشترون صورة ذات قيمة حقيقية بمال يسير خلافا للذين جروا في مضمار التمدن، فإن كبراءهم وأغنياءهم يجمعون في منازلهم من الصور الثمينة ما تبلغ قيمته المقادير الطائلة، والمتاحف - مثل متحف برلين - لا تضن بمال كثير في سبيل الحصول على صورة نادرة المثال أو ممتازة بإتقان الصنع والجمال، وهذا متحف برلين الذي نحن في شأنه دفع مليون مارك أو نحو خمسين ألف جنيه ثمن بعض الصور الزيتية، ولما ضاق نطاق المتحف عن كل ما ابتاعوه من التحف والنفائس بنوا متحفا آخر وصلوه بالأول بدهليز حتى صار طول البنائين معا 191 مترا والعرض 93.
ولو شئنا تعداد ما في المتحف من آثار آشور وبابل ومصر وفينيقية والروم والرومان وغيرهم من أهل الممالك الأولى لما أمكن البيان بغير التطويل الكثير، ولكننا نكتفي بهذه الإشارة إليها. ولبعض الآثار قيمة كبرى فإني رأيت تمثالا ليوحنا المعمدان يأكل عسل البر اشتروه بمائتي ألف مارك - والمارك قطعة ألمانية من الفضة تعدل الشلن في قيمتها - فيكون ثمن الأثر عشرة آلاف جنيه، هذا فضلا عما في تلك الخزائن الكثيرة من النقود، ما بين قديم وحديث وعددها لا يقل عن مائتي ألف قطعة، وأما قسم الصور في هذا المعرض، فقد مر بك كلام عن قيمته واعتناء القوم به وهو كبير كثير النفائس والغرائب غالي القيمة، فمن أمثلة سخائهم في إتمام غرائبه أنهم اشتروا له في سنة 1870 صورا كانت في منزل الكونت شويرمن بأربعين ألف جنيه، وأنت لو دخلته ترى في جوانبه من أشكال الصور الدينية ما يستوقف الأنظار، ويوهمك بعد طول التأمل أنك في أيام الرسل والأنبياء، فقد رأيت في جملة هذه الرسوم صورة موسى وقد عاد من الجبل فرأى قومه يعبدون العجل فألقى باللوحين اللذين كتبت عليهما الوصايا العشر إلى الأرض وكسرهما، وصورة مريم العذراء مع خطيبها وابنها هاربين إلى مصر، ثم هي جالسة تحت ظل شجرة تستريح من عناء السفر والطفل بين يديها، فذكرني ذلك المنظر بشجرة العذراء في المطرية، وهي التي يروى أن العذراء استراحت تحت ظلالها، ولما أضناها الظمأ تضرعت إلى خالقها أن يغيثها فتفجرت عين ماء معين أمامها وشربت منها مع الطفل.
هذا كله في المتحف القديم، وأما القسم الجديد منه ففيه الآثار القديمة وضعت في غرف خص بعضها بكل مملكة قديمة، وهنالك ترى في القسم المصري الأجسام المحنطة وأمثال قبور الفراعنة وأنواع البردي (البابيروس) كتبت عليها المواد الكثيرة، وأهمها قانون هورس معبود المصريين القدماء، كتب باللغة الهيروغليفية القديمة، ولهذه الكتابة قيمة عظيمة عند علماء التاريخ، وهنالك أيضا تماثيل الملوك والكهنة وآثار مصرية أخرى من كل نوع وضعت في غرف تمثل هيئة الهياكل والمنازل المصرية القديمة في وضعها وتلوينها، وقس على ذلك آثار بقية الممالك القديمة، وهي كثيرة في هذا المتحف العظيم.
وخرجنا من تلك الدار العظيمة فظللنا على المسير حتى وصلنا بناء المجلس البلدي، وهو ذو ثلاث طبقات بنيت من الطوب الأحمر وليس له رونق يزيد عما سواه، بل إنه لا يقاس بقصر المجلس البلدي في فيينا، وإن تكن قاعات فسيحة كثيرة الزخارف أذكر أني رأيت في بعضها صورة مؤتمر برلين، وهو أشهر ما عقد من نوعه في العصور الحديثة، كان السبب في اجتماعه حرب الروس والدولة العلية سنة 1876، وخوف أوروبا من امتداد المطامع الروسية بعد الانتصار، فقام بسمارك - وهو يومئذ وزير الدولة الألمانية - ودعا الدول إلى الاشتراك في عقد مؤتمر ينظر في مسائل الشرق ويقرر حالة كل مملكة وإمارة في جنوب أوروبا وشرقيها، ولبت أوروبا الدعوة فعينت كل دولة أكبر فطاحلها وكان بسمارك مندوب دولة الألمان مع غيره من الأكفاء وعين رئيس المؤتمر؛ لأنه عقد في عاصمة بلاده وهم يعطون الرئاسة لصاحب البلاد في كل مؤتمر من هذا القبيل، وكان النائبون عن إنكلترا يومئذ بيكونسفيلد وسولسبري، وعن روسيا غورتشاكوف وشوفالوف، وعن فرنسا وادنتون وأوليفيه، وعن الدولة العلية عمر باشا وسعد الله باشا، وكلهم من أشهر رجال السياسة في هذه الممالك العظيمة.
وتوجهت من هنالك إلى موضع مثلث فيه مشاهد سيدان ومعركتها المشهورة بالبانوراما أو النظارات المجسمة والمكبرة، وسيدان هذه مدينة في فرنسا انتصر فيها الألمان على ثمانين ألفا من جنود الفرنسيس كانوا تحت قيادة نابوليون الثالث إمبراطور فرنسا، فكان فوزهم فيها خاتمة الحرب، ولم يبق عليهم غير حصار باريس فساروا إليها وحاصروها وفتحوها؛ ولذلك ترى الألمان يذكرون واقعة سيدان معجبين متباهين وهم يحتفلون بعيد النصر في سيدان كل عام، وما اكتفوا بما أقاموا من معالم النصر وما رسموا من الصور والنقوش في كل موضع للدلالة على ذلك النصر، بل إنهم جعلوا يظهرون أدوار المعركة بهذه الصورة المجسمة هنا على هيئة يضطرب لها العقل ويجري الدم في عروق المتأمل ويقف الشعر في رأسه؛ لأنه إذا ما وضع عينه على تلك النظارات رأى سيدان والجنود الفرنسية والألمانية فيها تتقاتل قتالا تشيب لهوله النواصي وتندك من شدة وقعه الرواسي، فإنك ترى الجيشين في بدء الأمر وقفا يستعدان للقتال والنضال، وشجر الحور في طرق سيدان الكثيرة من وراء هذه الجنود الباسلة تبكي أوراقه الحسناء على الذي ترى أنه سيهرق من دم الإنسان، وأغصانه تتمايل كأنما هي سكرت من خمرة الحرب القادمة أو زاد بها الألم واشتدت عليها الحسرات من عدوان بني الإنسان؛ فجعلت تميل حرقة وتوجعا حتى إذا تم المنظر الأول ورأى المتفرج هاتيك الصفوف من الجند تموج وتضطرب فغرت مدافع الحرب فاها وتصاعدت كراتها القتالة، وثار دخانها من ألف موضع وموضع، ثم بدأ الجنود يطلقون الرصاص بعضهم على بعض وتصادمت هاتيك الجموع المسلحة وتلاطمت بنارها وسيوفها، فما ترى في تلك الساعة الدهياء غير صدر ينهال عليه الرصاص انهيال السيل، وعنق تدقه سنابك الخيل، ونار تقذفها المدافع وتتفرقع بين صفوف المقاتلين البواسل، فهنا جسم يتمزق ويتقطع وهنا فارس قد حصانه شطرين فوقع هو إلى الأرض يتألم من جراحه ويتوجع، وهنا فرقة من الجنود تصطدم بفرقة فتردي الرجال الرجال، وقد حجب بعضها قتام البنادق والمدافع، وقامت قائمة البلاد والهول، فما ترى كيفما قلبت النظر غير ويل في ويل في ويل، فإذا انتهيت من هذا واتضح لك بعد كل هذا البلاء أن معظم الخسران في جانب الفرنسيس ظهر لك جندي فرنسوي يحمل علما أبيض علامة التسليم وطلب الهدنة؛ فيقل الاضطراب وتهدأ الطلائع وترتد المواكب عن المواكب، وبعد قليل من المخابرة ومناظر لا محل لوصفها ترى نابوليون الثالث إمبراطور فرنسا قادما، وقد صغرت نفسه ولم يبق له في العز مطمع فيصل إلى حيث يلقى ولهلم ملك بروسيا الظافر في دائرة من رجاله العظام، وبعد مبادلة الرسوم المقررة يسلم نابوليون سيفه لولهلم علامة الخضوع، وينتهي بذلك دور حرب شابت لأخبار هولها الأطفال، ولسوف يذكر الناس أمرها على ممر الأجيال.
هذا جل ما يستحق الذكر من مناظر برلين التي يراها المرء على خط مستقيم أثناء سيره من حيث بدأنا ولا يضيع الزمان، وقد تقدم بك القول إن شارع الزيزفون الذي يوصل منه إلى كل هذه المشاهد يمتد من الشرق إلى الغرب، ويلي ذلك في كثرة الحركة والزحام شارع فريدريك الممتد من الشمال إلى الجنوب على مسافة 3300 متر، وفي هذا الشارع حانات ومخازن كثيرة ملأى بالأبضعة المختلفة، وأشهر ما يذكر منها مخزن الخواجا فابر صاحب معمل أقلام الرصاص المكتوب عليها اسمه، وهي مشهورة ومعروفة في كل بلاد، وأكثر منه أهمية شارع ولهلم، وهو من أهم شوارع هذه المدينة العظيمة يمتد أيضا من الشمال إلى الجنوب وفيه من القصور الباذخة والمنازل الفخيمة ما لا يمكن إلا ذكر بعضه هنا، من ذلك وزارة الحقانية والخارجية ورئاسة الوزارة وقصر لبسمارك وسفارة إنكلترا وقصور للأمراء ولحاشية الإمبراطور وغير هذا كثير، وفي وسط الشارع حديقة جميلة ينتابها الناس كثار العدد، وفيها غير الأغراس والبرك تماثيل القواد المشهورين ولا سيما الذين أحسنوا البلاء في حرب السبع سنين التي ذكرنا طرفا من حكايتها في الخلاصة التاريخية.
وليس ينحصر جمال برلين في شوارعها وحاناتها ومتاحفها، ولكن الضواحي المحيطة بها وهاتيك المصايف والمنازل لكبراء الناس وأمراء السلطنة الألمانية من أعظم ما يجب ذكره، فإني لما علمت ذلك خرجت من باب براندبرج المعروف في عربة، فوصلت في أول الأمر مجموع غابات وحدائق تعرف باسم تير جارتن أو حديقة تير، وهي - كما قلت - مجموع غياض وحراج وأغراس مساحتها ستمائة فدان، وقد أنشئت فيها الطرق بين صفوف الشجر والزهر والبحيرات البديعة تسبح فيها طيور الماء من كل جانب، وتسير الزوارق الصغرى تحمل أناسا يسيرونها بأيديهم بين هاتيك المناظر الساحرة والميادين الواسعة، قطعوا من موضعها الشجر وجعلوها متسعا للعب والرياضة، فمن لاعب بالاكر، ومن فاعل غير ذلك ترويضا للجسم، وهم يحفلون بالرياضة والألعاب البدنية علما منهم بفائدتها، ولعل الألمان في ذلك بعد الإنكليز شهرة، فإن شهرة الإنكليز بترويض الجسم واللعب على أشكاله واسعة في الخافقين.
وقد أقاموا في قسم من هذه الغابات مسرحا للحيوان غير الداجن ملأوه بأنواع النمر والسبع والضبع والدب والزرافة، وغير هذا مما نقلوه بالنفقات الطائلة من مواطنه القاصية، ولكل نوع من هذه الوحوش أماكن خاصة به، كما أن الطيور لها أقفاص كبرى يعرف شكلها كل من زار حديقة الجيزة في مصر، وهنالك بحيرات للحيوانات والطيور المائية وأبنية كثيرة للزائرين بعضها مطاعم وبعضها حانات قضيت فيها زمنا ثم برحتها إلى الأحياء المستجدة في تير جارتن، وهي مزدانة بأجمل المساكن والطرق وألطف البحيرات وأبهى الحدائق والأزهار يسكنها سراة الألمان وأصحاب اليسار من أهل برلين وهم كثار العدد وتنار أكثر جوانبها بالنور الكهربائي الساطع في الليل، فلا تعرف أهي أجمل في الليل أم في النهار.
ويذكر بين ضواحي برلين البهية قصر شارلوتنبرج بني سنة 1761 وكان مصيف آل هوهنزولرن من بعد أن صاروا ملوك بروسيا، وفيه مدافن لبعض الرجال العظام من هذه العائلة المالكة، أشهرها قبر ولهلم الأول مؤسس السلطنة الألمانية الحالية وجد الإمبراطور الحالي، وصلناه بعد سير طويل في العربة واجتزنا حدائق تير جارتن، فرأينا جماعة كثيرة في انتظار الإذن بالدخول حتى إذا جاء الموعد نزل الناس ووقف الألمان منهم عند ضريح الإمبراطور الكبير خاشعين متهيبين، تبدو عليهم علامات الوقار والاحترام لمؤسس مملكتهم ورافع لواء عظمتهم، وأكثرهم يذكرونه ويذكرون له الحسنات، فكان المشهد حول ذلك الضريح مؤثرا في النفس عظيم الدلالة على قدر المدفون ومعرفة الناس لفعاله شأن الكرام الذين يذكرون للمرء فعله ولا ينكرون.
ودعاني للعشاء في ذلك اليوم الموسيو هارتمان، الذي كان وكيلا لقنصلاتو ألمانيا الجنرالية في بيروت، وعرفته يوم زار اللاذقية للبحث عن الآثار القديمة ونزل ضيفا على المرحوم عمي يعقوب إلياس، وهو يومئذ فيس قنصل ألمانيا في اللاذقية، والموسيو هارتمان من علماء اللغات الشرقية توسع في درس اللغة العربية مدة وجوده في الشرق، فعين مدرسا لهذه اللغات في أكبر مدارس برلين الجامعة، وقد أراني نسخة من كتاب نهج البلاغة في خطب الإمام علي بن أبي طالب، أهداه إليه المرحوم الشيخ محمد عبده المشهور.
Page inconnue