وفي أول هذا الشارع عند بوابة براندنبرج ميدان فسيح عظيم يعرف باسم «ميدان باريز»، وهو حسن الموقع، في وسطه بركة من الماء عظيمة وتمثال للمريخ إله الحرب عند القدماء، وإلى الجهة الجنوبية منه بناء عظيم هو قصر البرنس بلوخر ووراءه ناد كبير لضباط الجيش الألماني، في داخله القاعات والغرف والملاهي على أشكالها، ويليه قصر البرنس أرشم، وفي الجهة الشمالية من هذا الميدان سفارة فرنسا وغيرها من الأبنية إذا تقدمت في تلك الجهة رأيت أثناء سيرك شيئا كثيرا منها، مثل: وزارة الأديان وسفارة روسيا وهي لها واجهة بديعة الشكل من الرخام الأبيض النقي، ومن ذلك أيضا وزارة الداخلية وعلى مقربة منها معرض للأسماك والطيور والقردة دخلناه وهو مؤلف من طبقتين: في الطبقة العليا منهما بيوت من الزجاج للحيات على أشكالها أرسلت إلى هذا المعرض من الهند وأواسط أفريقيا وأميركا الجنوبية وغيرها من المواضع الحارة تراها غادية صادية وليس بينك وبينها إلا جدار من الزجاج المتين، هذا غير ما في البرك من أنواع السمك الجميل ما بين أحمر وذهبي وفضي ومرقط وملون بالألوان البديعة، جلب أكثره من البحار النائية أيضا إتماما لفائدة هذا المعرض، وقد صنعوا في ذلك المعرض مغارة كبيرة وعرة المنظر جلبوا إليها الشجر اليابس والحجر الكبير، ووضعوها على نسق يحكي نسق الطبيعة في جماله، وأدخلوا إليها من الطير أنواعا كثيرة تتنقل في جوانبها كأنما هي حرة في الخلاء ولها منظر كثير الجمال.
ويلي ذلك إذا استمر المتفرج على المسير في الجهة التي ذكرناها «الرواق القيصري»، وهو بناء ضخم شاهق، يخيل لك أنه مدينة صغيرة فيه مخازن ومطاعم ومكاتب كثيرة، وفيه أيضا معرض لتماثيل صنعت من الشمع، بينها تماثيل الأسرة الإمبراطورية والرجال العظام من أهل السياسة والحرب والشعر والعلم والصناعة والكل بهيئاتهم الصحيحة وملابسهم المعتادة، وقد أتقن الصنع فيها إتقانا عجيبا حتى إنه ليلتبس عليك التمييز بين الأحياء والتماثيل، وأذكر أني رأيت هنالك من هذا القبيل مائدة للطعام رتبت على النسق المعروف، وفيها الأطباق والأدوات وبعض الألوان وقد جلس من حولها الناس رجالا ونساء، وهم كمن بدأ في الطعام، ولولا جمود منظرها لحكمت أنهم يشربون ويأكلون، وفي هذا ما يراه القارئ من إحكام الصنع وإتقان العمل.
وفي وسط شارع الزيزفون قهوة بوير، وهي من أحسن حانات برلين يتسابق إليها الألوف لحسن مركزها وإتقان معداتها، ويقعد الناس فيها يتفرجون على المارة في الشارع الذي لم نزل في وصفه، وفي آخره ساحة رحيبة أقاموا فيها تمثال فريدريك الأول وحوله القصور والمنازل في جملتها: الأوبرا وقصر ولهلم الأول جد الإمبراطور الحالي، وقصر فريدريك الثاني والده، ودار المحافظة ونادي العسكرية والمكتبة العمومية والمدرسة الجامعة، أما التمثال فقد صنع من نحاس وقام على قاعدة ارتفاعها 14 مترا ولها أربعة جوانب، في الجانب الشرقي تماثيل لبعض أمراء ألمانيا، وفي الجانب الغربي رسم القائدين زيتن وسيدلتز، وهما أشهر من حارب مع فريدريك الأول، وفي الجوانب الأخرى رسوم المشاهير أيضا من الذين شادوا لألمانيا صروح العز والفخار.
وأما المكتبة العمومية التي ذكرناها فبناء عظيم، كتب على صدره من الخارج باللغة اللاتينية «غذاء للأرواح»، وفيها زهاء مليون مجلد من الكتب المطبوعة وعشرين ألفا من كتب الخط، في جملتها: كتابات وأسفار دينية قديمة العهد؛ ولذلك يؤم هذه المكتبة كل باحث وطالب للفائدة، فإذا دخلت قاعة المطالعة فيها رأيت هنالك هيئة الوقار والعلم، حيث يجلس الباحثون بعضهم وراء بعض، وليس بين تلك الجموع علاقة غير الشغف بالمطالعة والسكوت التام وتقليب الأوراق فيتجلى لك الاجتهاد والدرس العميق بكل وجوهه، ولا بد للذي يريد مطالعة كتاب نادر المثال من كتب هذه المكتبة أو مراجعة شيء فيها أن يطلب ذلك على ورق مطبوع في دائرة المكتبة، ويعين الكرسي الذي يريد أن يقرأ الكتاب فيه والزمان، فإذا جاء في اليوم التالي وجد الكتاب حيث يريد وأمامه الحبر والورق والأقلام فيعلق ما أراد، وفي ذلك تسهيل على الباحثين لا تخفى فوائده.
وتجاه هذه المكتبة الماهب أو الأوبرا، بني معظمها من الحديد والحجر حتى يقل خطر الحريق ما أمكن، ويمكن لألف وخمسمائة شخص أن يسمعوا التمثيل في قاعتها الكبرى، وقد أصيبت هذه الأوبرا كما أصيب غيرها بالنار، فأعادوا بناءها على مثل ما تقدم، وأكثروا من النوافذ والمخارج تسهيلا للفرار حين اضطرام النار، ولكن ذلك أصبح من الأمور النادرة الآن بعد أن عول مديرو المراسح على إضاءة أماكنهم بالنور الكهربائي ومنعوا التدخين في داخل المراسح إلا في قاعات معلومة أرضها من البلاط، وفيها خدمة يراقبون ما يلقيه الرجال من السجاير وسواها.
والنادي العسكري - الذي مر ذكره أيضا - من المشاهد المذكورة في برلين، وأنت تعلم أن ألمانيا دولة حربية عسكرية، وأن نظام جيشها نال شهرة فائقة حتى إن بعض الدول الشرقية، كبلاد الصين والدولة العلية واليابان، تستخدم الضباط الألمانيين لتدريب جنودها وتنظيم جيوشها، وللقيصر الحالي - ولهلم الثاني - شغف بالجنود ونظاماتهم وحركاتهم؛ فهو يستعرض الألوف منهم في كل حين، ويزور المخافر والثكنات مرارا في الشهر؛ فلهذا أصبح مركز العسكرية خطيرا في البلاد، وزادت أهمية هذا النادي وسواه وأصبح للضباط امتياز على بقية الناس في ألمانيا، والحق يقال إن دولة الألمان لم تزل على النسق القديم الذي كان متبعا في العصور المتوسطة فيما يخص الجندية؛ فإن قسوة الأحكام العسكرية واستبداد الكبير بالصغير في جيش ألمانيا جرت مجرى الأمثال، ولطالما انتحر الجنود، ورحل الأهالي إلى أميركا تخلصا من ظلم جاويش أو جور ضابط أو ثقل عمل شاق، هذا غير أن الضباط العسكريين لهم حق الدفاع عن شرفهم إلى حد أنه يجوز لهم قتل من يتعرض لهم بأقل إهانة، ولا يحاكمون على هذا المنكر ولا يعدمون، وقد حدث من هذا القبيل عدة حوادث في عهد الإمبراطور الحالي، ونجا الضباط القاتلون من طائلة العقاب بعلة أنهم قتلوا من قتلوا في سبيل المحافظة على الشرف العسكري.
وكل من يزور برلين يرى أهمية الجيش الألماني فيها وحركات جنوده الكثيرة، فإن الضباط والعساكر يخاطرون في كل الشوارع جماعات وأفرادا، والتمرينات العسكرية في ضواحي المدينة وأطراف المملكة الألمانية شاغلة للأذهان، يقصدها القواد والأفراد من كل جهة والمسافر في سكة الحديد الألمانية يرى فرق الجند منتقلة من موضع إلى موضع، وقد ملأت بعض السهول والبقاع بكثرتها؛ فإن جيش ألمانيا لا يقل عن ستمائة ألف في أيام السلم، ولا يزيده في العدد غير جيش روسيا.
وقد رأيت في هذا النادي من الأعلام والرايات شيئا كثيرا اكتسبه الألمان من الأعداء في حروبهم القديمة والحديثة كحربهم مع الدنمارك والنمسا وفرنسا، ومدافع غنموها من الفرنسيس في الحرب الأخيرة المشهورة وأسلحة قديمة العهد كالرمح والفأس والسهم وغيرها حديثة من أجمل أنواع المدافع والسيوف الجديدة، وهنالك أيضا قاعة كبرى فيها رسوم قلاع وطوابي ووقائع حربية تمثل الجنود والخيل والأماكن والأسلحة تمثيلا دقيقا، وقد صنعت كلها من الجبس، وفي جملة ذلك: شكل سيدان ومعركتها المشهورة، فإنك ترى تلك المدينة العظيمة بأسوارها وقلاعها ومنازلها وطرقها، وترى الجنود تتهيأ وتصطف لقتال الألمان في جانب، والفرنسيس في الجانب الآخر، والكل بملابسهم المعروفة وأسلحتهم الكاملة، والخيل لكل فرقة لها لون معروف، وقد صفت المدافع من أمام الجيش في الناحيتين، ووقف الإمبراطور الألماني مع قواد جنده في ناحية من الموضع وأمامهم فرقة هاجمة على المدينة هجوم الأسود الكواسر، فبعضهم أصابته رصاصة وبعضهم بتر ذراعه وبعضهم سال الدم من جسمه، ونحو ذلك مما يوهم الرائي أنه في معركة حقيقية لولا السكون السائد على ذلك المشهد الغريب.
وفي الدور الأعلى من هذا النادي قاعات للضباط، وغرف للمطالعة والكتابة، وفي أكثرها رسوم حربية وصور ولهلم الأول وبسمارك ومولتكي، وهم الثلاثة الذين رقت بروسيا بحكمتهم وعلمهم أوج العز وصارت رئيسة للسلطنة الألمانية العظيمة، والذين يختلفون إلى هذا البناء من الرجال العسكريين كثار العدد، وقد يتوهم الساذج من كثرة المشاهد العسكرية في هذه العاصمة أنها على أهبة الحرب، كما أن الغريب الذي يأتي باريس لأول وهلة يظنها في عيد عظيم لكثرة ما يرى من الهرج والمرج وآيات الحظ في تلك المدينة الزاهرة.
ويقرب من هذا النادي قصر الإمبراطور ولهلم على ضفة نهر سبري وصلناه من جسر عليه رسوم وتماثيل حربية من كل نوع، من ذلك تمثال رجل يقص حديث الحرب على غلام، وتمثال مارس إله الحرب يعلم شابا استعمال السلاح ويقلد شابا آخر سلاحه بعد أن أتم دروسه العسكرية، ويتوج جنديا ظفر في ساحة القتال وينشط آخر مجروحا على القيام محرضا له على مداومة القتال وغير هذا، وكان على باب القصر حين وصلت جماعة من السائحين في انتظار الإذن بالدخول، فلما فتح الباب دخله الجميع وراء حارس أخذنا إلى الدور الأول، وأدخلنا غرفة عظيمة قال إنها خاصة بالإمبراطور - وكان جلالته يومئذ غائبا عن برلين على عادته في أكثر أشهر الصيف - وهي الغرفة التي اشتهر عن ولهلم الأول جد الإمبراطور الحالي أنه كان يطل من نافذتها ليرى الجنود حين تروح وتجيء في الشارع أو حين تذهب للمناورات وتعود منها، وفي قاعة أخرى من هذا القصر الفخيم صور أفراد العائلة المالكة من آل هوهنزولرن صنعت بالزيت ووضعت في براويز مذهبة وكلها آيات في الحسن والإتقان، وقاعة أخرى تعرف باسم القاعة الذهبية فيها عمود من الفضة أنشئ تذكارا لإيجاد وسام الصليب الأسود، وفيها تمثال ولهلم الأول واقفا في معركة جرافلوت بفرنسا في الحرب السبعينية المشهورة، وقاعة النسر الأحمر تذكارا لإنشاء وسام النسر الأحمر الألماني، وفيها ذلك الوسام معلق على عمود بديع الشكل، وقاعة النسر الأسود، وهي مثل سابقتها في الغرض والوضع وقاعات أخرى كثيرة كلها ملأى بأفخر أنواع الرياش النفيس، وكان الحارس يقص علينا أقاصيص تلك الغرف وحكاية ما فيها من الغرائب والتحف حتى دخلنا قاعة الطعام، وهي فسيحة واسعة الجوانب بهية الشكل تشرح مناظرها الصدور، ويمكن أن يجلس إلى موائدها 450 شخصا لكل منهم كرسي جميل يمتاز عنه كرسي من الفضة خص بالإمبراطور الحالي، فهو يجلس إليه كلما تناول الطعام في هذا القصر، وقد أهدي هذا الكرسي إليه من مدينة برلين بعد جلوسه بقليل ، وأما عن قاعة الاستقبال أو البهو الكبير فحدث ما شئت وتصور من أشكال فخامته ما أردت، إنه يقصر الوصف عن محاسنه. ولقد أذهلني اتساعه ورياشه وزخارفه وأعجبت بفرشه النفيس وسقفه السحيق وما يحدث من صدى الأصوات فيه على اتساعه، وما يضيء فيه من نور المصابيح التي لا تعد، وما تنعكس صورته على المرائي من الرسوم البالغة حد الإتقان، وهي - بالإجمال - من أجمل ما رأيت بين القاعات العظمى في قصور الأمراء والملوك، وسرنا بعد هذا في القصر إلى القسم المخصص لجلالة الإمبراطورة، وفيه قاعة اسمها القاعة البيضاء كل رياشها من الحرير الفاخر الأبيض، وفيها 12 تمثالا جميلا من المرمر الأبيض أيضا تمثل ولاية براندبرج التي كانت أساس المملكة البروسية على مثل ما رأيت في فصل التاريخ. ويلي هذا القسم جانب من القصر جعل كنيسة للعائلة الإمبراطورية، وجدرانها من الرخام الأبيض المحلى بالذهب، وكذلك المصابيح والأعمدة والمقاعد وبقية ما فيها ولها قبة من الرخام الأبيض أيضا يزيد ماء الذهب جمالها ظهورا، والناس يرون هذه القبة البديعة من خارج القصر، وفي الهيكل من هذه الكنيسة أعمدة من الرخام أخذوها من مصر، وهي من شكل الرخام الذي صنعت منه أعمدة الجامع في قلعة مصر، وبعد ذلك رأينا قاعة الرسوم وفيها من الصور ما لا يعد ولا يعدد، أذكر منها: صورة بطرس الأكبر قيصر روسيا والقيصرة كاترينا الثانية والسلطان سليمان الثاني، ونابوليون الأول وولهلم الأول قيصر ألمانيا يتوج قيصرا في قصر فرسايل بفرنسا، وصورته وهو عائد إلى برلين بموكبه الحافل بعد النصر في سنة 1871، فوقف السياح طويلا يتحدثون عن تلك الرسوم وتركتهم حتى أزور المتحف.
Page inconnue