ففي هذا القسم الأول عيوبٌ على المكثرين منهم، منها أنهم ضيعوا القريب كما قدمنا، ورعوا حق الغريب، وصلة الرحم أولى ما بديء به. ومن مكارم العرب حميتها لذوي أنسابها، وذبها عن أحسابها؛ والأقرب فالأقرب، وما فضل عن ذلك فللأبعد. ثم أخبر أن المكثيرين ليس يسمحون بأكثر من الاستحقاق في قوله: على مُكثريهم حقُّ من يعتريهمُ ومن أعطى الحق فإنما أنصف ولم يتفضل بما وراء الإنصاف، والزيادة على الإنصاف أمدح. ثم أخبر في البيت أن المقلين على قدر قصور أيديهم أكرم طباعًا من مكثريهم على قدرهم في قوله: وعند المقلين السماحةُ والبذْل والبذْل مع الإقلال مدح عظيم وإيثار، والسماحة أعطاء غير اللازم، فمدح بشعره هذا من لا يحظى منه بطائل، وذم الذين يرجو منهم جزيل النائل؛ وهذا غاية الغلط في الاختيار، وفي ترتيب الأشعار. ولزهير غير هذا من السقطات لولا كلفة الاسقتصاء. هذا على اشتهاره بأنه أمدح الشعراء، وأجزل الوافدين على الأشراف والأمراء؛ وسيتعامى المتعصب له عن وضوح هذا البيان، وسينكر جميع هذا البرهان؛ ويجعل التفتيش عن غوامض الخطأ والصواب استقصاء وظلمًا، ومطالبة وهضما، وزعم أن جميع الشعر لو طلب هذه المطالبة لبطل صحيحه، وانعجم فصيحه، والباطل الذي زعم، والمحال الذي به تكلم؛ فالسليم سليم، والكليم كليم، وإنما سمع المسكين أن أملح الشعر ما قلت عباراته، وفهمت إشاراته؛ ولمحت لمحه، وملحت ملحه؛ ورققت حقائقه، وحققت رقائقه؛ واستغني فيه بلمحه الدالة، عن الدلائل المتطاولة؛ وأمثال هذا الكلام، في استعمال النظام. فتوهم أن خلل الشعر وزلله وضعف أركانه، وتناقض بنيانه، وانقلاب لفظه لغو، وانعكاس مدحه عجو؛ إذا خلا مما قدمنا من الأوصاف المستحسنة، من لمح إشاراته، وملح عباراته، فعامل هذا الصنف، بعطفك عنهم للعطف، ورفعك عليهم الأنف، وأعرض عنهم بالفكر والذكر، كبرًا وإن لم تكن من أهل الكبر.
وفيما أطلعتك عليه من شعر هذين الفحلين، والمتقدمين القديمين، ما يغني عن التفتيش على سقطات سواهما، فقس على ما لم تره بما ترى، واعلم أن كل الصيد في جوف الفرا.
قال أبو الريان: ومن عيوب الشعر اللحن الذي لا تسعه فسحة العربية، كقول الفرزدق:
وعَضّ زمانٌ يابن مروان لم يَدَعْ ... من المال إلا مُسحتًا أو مجلفُ
فرفع) مجلفًا (وحقه النصب. وقد تحيل له بعض النحويين بكلام كالضريع، لا يسمن ولا يغني من جوع، وكقول جرير بن الخطفى:
ولو ولدتْ فُقيرةُ جروَ كَلبٍ ... لسُبّ بذلك الجرو الكلابَا
فنصب) الكلاب (بغير ناصب. وقد تحيّل أيضًا بعض النحويين على وجهٍ، الإقفاء أحسن منه، فاحذر هذا ومثله. وإياك وما يعتذر منه بفسيح من العذر، فكيف بضيق ضنك.
قال: ومما يعاب به الشعر، ويستهجنه النقد، خشونة حروف الكلمة، كقول جرير:
وتقولُ بَوزَعُ قد دببتَ على العصا ... هلًا هزِئْتِ بغيرنا يا بَوْزَعُ
وهذا البيت في قصيدة من أحلى قصائد جرير وأملحها، وأجزلها وأفصحها، فثقلت القصيدة كلها بهذه اللفظة.
وللفرزدق أيضًا لفظات خشنة الحروف كهذه تجدها في شعره. قال: ويكره النقاد تعقيد الكلام في الشعر وتقديم آخره وتأخير أوله، كقول الفرزدق:
؟ وما مثله في الناس إلاّ مملّكًا ... أبو أمه حيّ أبوه يُناسبه
يمدح به إبراهيم بن هشام المخزومي، وهو خال هشام بن عبد الملك. فمعنى هذا الكلام أن إبراهيم بن هشام ما مثله في الناس حي إلا مملك. يعني هشامًا أبا أمه، أي جد هشام لأمه أبو إبراهيم هذا الممدوح، فهو خاله أخو أمه، فهو يشبهه في الناس لا غير، وهذا غاية التعقيد والتنكيد، وليس تحته شيء سوى أنه شريف كابن أخته شريف.
قال أبو الريان: ومن شر عيوب الشعر كلها الكسر، لأنه يخرجه عن نعته شعرًا، وليس مما يقع لمن نعت بشاعر. فأما الإقواء، والإبطاء، والسناد، والإكفاء، والزحاف، وصرف ما لا ينصرف، فكل ذلك يستعمل، إلا أن السالم من جميع ذلك أجمل وأفضل.
قال: ومن عيوبه المذمومة مجاورة الكلمة ما لا يناسبها ولا يقاربها، مثل ول الكميت: حتى تكامل فيها الدلُّ والشَّنبْ وكما قال بعض المتأخرين في رثاء:
فإنّك غُيّبتَ في حُفرة ... تراكم فيها نعيمٌ وحورُ
1 / 9