قال: زهير بن ابي سلمى على ما وصفناه به ووصفه غيرنا، من العلو والرفعة، في هذه الصنعة، من مذهبته الحكمية، ومعلقته العلمية:
رأيت المَنايا يا خَبط عَشواءَ من تُصِب ... تُمتْه ومن تُخطئْ يُعمَّر فيهرم
وقد غلط في وصفها بخبط العشواء، على أننا لا نطالبه بحكم ديننا، لأنه لم يكن على شرعنا، بل نطلبه بحكم العقل فنقول: إنما يصح قوله لو كان بعض الناس يموت وبعضهم ينجو، وقد علم هو وعلم العالم، حتى البهائم، ان سهام المنايا لا تخطيء شيءًا من الحيوان حتى يعمها رشقها، فكيف يوصف بخبط العشواء رام لا يقصد غرضا من الحيوان إلا أقصده حتى يستكمل رمياته، في جميع رمياته. وإنما أدخل الوهم على زهير موت قوم عبطة وموت قوم هرمًا، وظنوا طول العمر إنما سببه إخطاء المنية، وسبب قصره إصابتها. وهيهات الصواب من ظنه لم يؤخر الهرم إلا أنها قصدته فحين قصدته أصابته. ولو أن الرماة تهتدي كاهتدائها، لملأت أيديها بأقصى رجائها.
وقال زهير أيضًا في مذهبته:
ومَن لا يَذُدْ عن حَوضه بسلاحه ... يُهَدَّم ومن لا يَظلم الناسَ يُظلَم
وقد تجاوز هذا الحق الباطل، وبني قولًا لا ينقصه جريان العادة، وشهادة المشاهدة؛ وذلك أن الظلم وعرة مراكبه، مذمومةٌ عواقبه، في جاهليته وإسلامنا. فحرض في شعره عليه، وإن كان إنما أشار في شعره إلى أن الظالم يرهب فلا يظلم، فهذا قياس ينفسد، واصل ليس يطرد، لكن يرهبه من هو أضعف منه، وربما انتقم منه بالحيلة والمكيدة. وقد يظلم الظالم من يغلبه فيكون ذلك سبب هلاكه مع قباحة السمة بالظلم. والمثل إنما يضرب بما لا ينخرم، وقد كانت له مندوحة واتساع في أن يقول:) يهدم، ومن لا يظلم الناس يظلم (فهذا أصح وأسلم من من لا يظلم ويظلم.
قال أبو الريان: وقال زهير أيضًا، وهو من أطيب شعره وأملحه عند العامة، وكثير من الخاصة، فهاهنا تحفظ وتأمل، ولا يهلك ذلك منهم، الحق أبلج. قال:
تراه إذا ما جئتَه مُتَهلّلا ... كأَنك تُعطيه الذي أنت سائلُه
مدح بها شريفًا أي شريف، فجعل سروره بقاصده كسروره بمن يدفع شيءًا من عرض الدنيا إليه. وليس من صفات النفوس العارفة السامية، والهمم الشريفة العالية، إظهار السرور إلى أن تهلل وجوههم وتسر نفوسهم بهبة الواهب، ولا شدة الابتهاج بعطية المعطي، بل ذلك عندهم سقوط همة وصغر نفس. وكثير من ذوي النفوس النفيسة، والأخلاق الرئيسية، لا يظهر السرور متى رزق مالًا عفوًا بلا منة منيل، ولا يد معطٍ مستطيل؛ لأنه عند نفسه أكبر منه، ولأن قدر المال يقصر عنه؛ فكيف يمدح ملك كبير كثير القدر، عظيم الفخر، بأنه يتهلل وجهه ويمتلئ سرورًا قلبه، إذا أعطى سائله مالًا. هذا نقض البناء، ومحض الهجاء، والفضلاء يفخرون بضدٍّ هذا، قال بعضهم:
ولستُ بِمِفراح إذا الدهرُ سرَّني ... ولا جَزع من صَرفه المتقلّب
وإنما غرَّ زهيرًا وغرَّ المُستحسن بيته هذا ما جبلوا عليه من حب العطاء، وما جرت به عاداتهم من الرغبة في الهبات والاستجداء؛ وليس كل الهمم تستحسن ذلك، ولا كل الطباع تسلك هذا المسالك.
قال أبو الريان: وقال زهير أيضًا يمدح سادةً من الناس فذمهم بأنواع الذم، وأكثر الناس على استحسان ما قال، بل أظن كلهم على ذلك، وهو قوله:
على مُكثِريهم حقُّ من يَعْتريهمُ ... وعند المقلّين السماحةُ والبذْل
فأول ما ذمَّهم به إخباره أن فيهم مُكثرين ومُقلّين. فلو كان مُكثروهم كرماء لبذلوا لمقليهم الأموال، حتى يستووا في الحال، ويشبهوا في الكرم والحال، الذين قال فيهم حسان:
المُلحقين فقيرَهم بغنيِّهم ... والمُشفقين على اليتيم المُرْمل
المُرْمِلُ: القليل المال، وأرمل الرجل: إذا قل زاده. وكما قال غيره:
الخالطينَ فقيرَهم بغنيِّهم؟ ... حتى يعود فقيرُهم كالكافي
وكما قالت الخرنق:
الخالطينَ لُجينَهم بنُضارهم ... وذوي الغِنى منهم بذي الفَقْر
وكما قالت الخرنق:
الخالطينَ لُجينَهم بنُضارهم ... وذوي الغِنى منهم بذي الفَقْر
فهذا كله، وأبيك، غاية المدح، النقي من القدح. ثم استمع ما في هذا البيت سوى هذا من الخلل والزلل. قال:
على مُكثريهم حقُّ مَن يعتريهمُ ... وعند المُقلِّين السماحةُ والبذْلُ
1 / 8