وكان مغرمًا بالزنا مدعيًا فيه، وقد بلي بموانع تصدفه عنه، منها ما شهر به من النميمة بمن ساعده، والادعاء على من باعده؛ ومنها دمامته، ومنها اشتهاره، والمشهور يصل إلى شهوة يتبعها ريبة، فكان يكثر في شعره من ادعاء الزنا، واستدعاء النساء؛ وهن أغلظ عليه من كبد بعير، وأبغض فيه وأهجى له من جرير. وخذ أطرف هؤلاء الأجناس، وهو سحيم عبد بني الحسحاس؛ أسيود في شملة، دنسة قملة؛ لا يواكله الغرثان، ولا يصاليه الصرد العريان، وهو مع ذلك يقول:
وأقبلن مِنْ أقصى البُيوت يَعِدْنني ... نواهدَ لا يَعْرِفن خلقًا سوائيًا
يَعِدْن مريضًا هنَّ هَيَّجن ما به ... ألا إنما بعضُ العوائد دائيًا
تُوَسِّدني كفًّا وتحنو بمِعْصَم ... عليَّ وتَرْمي رجلَها مِن ورائيًا
فأنت تسمع هذا الأسود الشن وادعاءه، وتعلم أن الله لو أخلى الأرض، فلم يُبق رجلًا في الطول ولا في العرض؛ لم يكن هذا الزنمة الزلمة عند أدراك السودان إلا كبعرة بعير، في مغر عير؛ والممنوع من الشيء حريص عليه، مدعٍ فيه؛ والمعتد بما يهواه، كاتم له مستغن ببلوغ مناه؛ ودليل على ذلك أن المرقش الأكبر كان من أجمل الرجال، وكانت للنساء فيه رغبة، وشدة محبة؛ وكان كثير الاجتماع بهن، والوصول إليهن؛ وله في ذلك أخبارٌ مروية، ولم يكن في أشعاره صفة شيء من ذلك. فحسبك بذلك صحة على ما قلناه.
فإن قال قائل: إنما وصفت عن امرئ القيس عيوبًا من خلقه لا في شعره، قلنا: هل أراد بما وصف في شعره إلا الفخر؟ فإن قال: لم يرد ذلك وإنما أراد إظهار عيبه. قلنا: فأحمق الناس إذًا هو، ولم يكن كذلك. وإن قال: نعم، الفخر. قلنا: فقد نطق شعره بقدر ما أراد، وترجم عنه قريضه بأقبح الأوصاف. فأي خلل من خلال الشعر أشد من الانعكاس والتناقض. وكل ما يخزي من الشعر فهو أشد عيوبه.
قال: ومن كلام امريء القيس المخلخل الأركان الضعيف الاستكمان، المتزلزل البنيان، قوله:
أَمَرْخٌ خيامُهُمُ أم عُشَرْ ... أم القلبُ في إثْرِهم مُنْحَدِرْ
وشاقذ بين الخليط الشُطُرْ ... وممن أقام من الحيّ هِرّ
وهرٌّ تَصِيد قلوبُ الرجالِ ... وأفلَتَ منها ابنُ عمرو حُجُرْ
فأنت تسمع هذا الكلام الذي لا يتناسب، ولا يتواصل ولا يتقارب، ولا يحصل منه معنى ولا فائدة، سوى أن السامع يدري أنه يذكر فرقة من أحباب، لكن ذلك عن ترجمة معجمة، مضطربة منقلبة. سأل عن الخيام: أمرخٌ هي أم عشر؟ وليست الخيام مرخًا ولا عشرًا، وإنما هما عودان. فإن أراد في مكان هذين الخيام، فقد نقض عمدة الكلام، لأن مرخه وعشره أتي بها نكرتين فأشكل بذلك. وإنما يجوز لو جعلهما معرفة بالألف واللام، والوزن لا يساعده على ذلك، ثم قال: أم القلب في إثرهم مُنحدر وليس هذا السؤال من السؤال الأول في شيء إلا من بعد بعيد، واحتيال شديد. وقال بعد هذا:
وشاقذ بين الخليط الشطر ... وممن أقام من الحي هِرّ
فأتى بكثير كلام لا يفيد إلا قليل معنى. وذلك القليل لا غريب ولا عجيب، وهو كله ذكر فراق. ثم رجع إلى أن) هِرّ (فقيمةٌ تصيد قلبه وقلب غيره، فأبطل بإقامتها كل ما قال من أخبار الفراق ونقضه، وجعل بكاءه المتقدم لغير شيء. ثم قال: وأفلت منها ابن عمرو حجر فحسن عنده أن يخبر أن الناس قد صادت هر قلوب جميعهم إلا قلب حجر أبيه. وهذا من الأحاديث الركيكة، والأخبار التي ما بأحد حاجة إليها. ومع هذا فقد أورد أصحاب الأخبار أن) هر (هذه كانت زوجة أبيه حجر، فانظر ما في جملة هذه الأبيات من الركاكات، وقلة الإفادات؛ فإنها لا تفيد قلامة، ولا تهز ثمامة. ولسنا ننكر بهذه العيوب ونزارتها، ما أقررنا له به من الفضائل وندارتها؛ وستجد من لا يصدق معاصرا، ولا يصدق على متقادم متأخرا؛ يبنى على ضعف أسه، ويفديه من الجهل والعيب بنفسه. فإذا اعترضك من هذا النمط متعرض، فأعرض عنه ودعه على أخلاقه، مستمتعًا بخلاقه، واتبع المسلك الذي أوضحته لك.
قال أبو الريان: وفضلاء الشعراء كثير ولكلٍ سقطات، وسأقفك على بعضها لعظيم المؤونة في الإحاطة بها ليس إلا، لأوضح بذكرها منهجًا من مناهج النقد، لا حرصًا على بعض الفصحاء، ولا قصدًا إلى تهجين الصرحاء، وأية رغبة لنا في ذلك وهم جرثومة فروعنا، وبهم أفتخار جميعنا.
1 / 7