Le raisonnable et l'irraisonnable dans notre héritage intellectuel

Zaki Najib Mahmud d. 1414 AH
129

Le raisonnable et l'irraisonnable dans notre héritage intellectuel

المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري

Genres

فافترقت الإرادة هنا؛ فمنهم من صدق الله في رفضه؛ لينال ما وعد الصادقين من ثواب جهدهم، ومنهم من صدق الله في رفضه ليلقاه بخالص العبودية غدا، فتقر عينه بلقائه، ففتح لهذا الطريق إليه، وترك الآخر على جهده واقتضائه ثواب الصدق يوم لقائه؛ فأما الذي فتح له الطريق إليه، فهذا الذي ذكره في تنزيله:

والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا » (كتاب ختم الأولياء، ص117-120).

66

إن كاتب هذه الصفحات ليجد محالا عليه أن يقاوم شعور الرفض الذي يقابل به مثل هذا الموقف من الولاية والأولياء، لكنه في الوقت نفسه يحس بضرورة أن تكون بعض الصفات التي ميزوا بها الأولياء - بقسميهم عند حكيم ترمذ - نماذج مثلى لمن أراد أن يعلو بنفسه عن مستوى النزوة والهوى حيثما يتطلب الأمر تجردا وتنزها وموضوعية نظر، فلكم يود هذا الكاتب أن ننقل تلك الصفات العليا من «أولياء»، بالمعنى الذي يجعلهم فئة تعطل قوانين الطبيعية بقوة «الكرامات»، إلى «أولياء» بمعنى «العلماء» كما نفهم هذه الكلمة اليوم. فهؤلاء، على خلاف أولئك، يكشفون الحجاب عن تلك القوانين، لا ليعطلوها بقوتهم، بل ليستخدموها في منفعة الإنسان ورفعة شأنه؛ فمن ذا لا يتمنى لجماعة «العلماء» - ولنجعلهم هم «الأولياء» - أن يقيدوا سلوكهم إذ هم في ميادين البحث العلمي تقييدا لا يحيد بهم عن جادة الصواب، فيتعقبون أمور الواقع كما تقع لا كما يشتهون لها أن تقع، أن يراقبوا ضمائرهم العلمية من الباطن مراقبة تضمن لها اليقظة الدائمة في حراسة أصحابها حتى يأمنوا الضلال؟ من ذا لا يتمنى لهم مثل هذه الحياة المتحررة من الضرورات المذلة للأعناق، دون أن يكون بهم حاجة - من أجل تحقيق هذه الغاية الشريفة - إلى اقتلاع الفطرة البشرية من جذورها، كما يريد الحكيم الترمذي وغيره من رجال التصوف؟

وفيما يلي وقفات قصار نقفها مع بعض هؤلاء الرجال، محاولين أن نبدل في أذهاننا معنى «الولاية» كما أرادوه لها، وهو أن يفك الولي عن نفسه قيود الطبيعة وقوانينها ليحركها كيف شاء ويجمدها كما رغب؛ ليصبح المعنى الجديد ل «الولاية» خلافة لله تعالى في الأرض، تتمثل في جماعة الباحثين الدارسين العلماء وهم يكشفون الستر عن حقيقة نواميسها ليملكوا في أيديهم زمامها شيئا فشيئا، فإذا رأينا أحد المتصوفة الأقدمين - كالهجويري كما سوف نرى - يقول عن «الأولياء» إنهم «ببركة حلولهم تمطر السماء، وبنقاء حياتهم ينبت الزرع من الأرض، وبدعائهم ينتصر المسلمون على الكفار.» تبدل المعنى في أذهاننا ليصبح: «إنه بعلم العلماء تمطر السماء حتى لو لم تكن الظروف الطبيعية مهيأة لنزول المطر؛ وذلك بكونهم يركبون تلك الظروف المواتية تركيبا وينشئونها إنشاء، وبعلم العلماء ينبت الزرع من الأرض حتى ولو لم تكن لتنبت شيئا إذا هي تركت لطبيعتها، وذلك بتسميدها وباستخدام الوسائل التي باتت في مقدور العلماء في عصرنا، والتي مكنتهم لا من إنبات الزرع في الأرض الجرداء وحدها، بل مكنتهم من إنبات الزرع في الهواء وعلى سطح الماء.» مثل هذا التبديل لمعنى «الولاية» يتيح لنا أن نحافظ على المثل الخلقية العليا التي قيلت في «أولياء» المعنى القديم لتقال في «أولياء» المعنى الجديد.

والآن فلننظر في بعض ما قاله المتصوفة في الولاية والأولياء. قال أبو عثمان الهجويري (في كتاب «كشف المحجوب» ترجمة نكلسون، ص210-241): «اعلم أن أساس التصوف والمعرفة قائم على الولاية، وقد أكد هذه الحقيقة كل الشيوخ وإن اختلفت عباراتهم في ذلك.» وواضح أن الهجويري يشير ب «المعرفة» التي أساسها «الولاية» بمعناه، لا معرفة الوسائل التي ننزل بها المطر وننبت الزرع ونقاتل الأعداء، بل معرفة الله عز وجل بالصورة التي تصورها المتصوفة. وليس يعنيني هنا في كثير أو في قليل أن أجادل المتصوفة فيما يزعمونه لأنفسهم من «معرفة» هذا هو نوعها، وإنما الذي يعنيني هو أنه - على فرض أنهم صادقون فيما يزعمون لنا - فلا فائدة لنا نحن بني الإنسان من «معرفتهم» تلك. إنها معرفة مفيدة - ربما - لصاحبها المتصوف؛ لأنها تضعه في حالة يرضى بها عن نفسه حينئذ، وأما سائر الناس في كل جوانب حياتهم فلا يتغيرون قيد شعرة بمعرفته تلك.

ونمضي مع الهجويري في حديثه: «فاعلم أن الولي هو لفظ جار على ألسنة الناس، وجاء في القرآن وحديث الرسول؛ فمن هذا نرى أن الله تعالى اختار له أولياء اختصهم بصحبته، واختارهم حكاما لملكه، ومنحهم أنواع الكرامات، وطهرهم من فساد الطمع ومن وساوس النفس والهوى، وجمع أفكارهم فيه ومعرفتهم به، كانوا فيما مضى - وهم الآن كذلك، وإلى ما شاء الله إلى يوم القيامة - لأن الله فضلهم على غيرهم.» وإني لأرجو القارئ أن يقرأ العبارة السابقة وفي ذهنه أن الحديث إنما ينصب اليوم على علماء الرياضة والطبيعة بكل ما قد تفجر في حياتنا من أسباب العيش على أيديهم، فسوف يرى عندئذ أن الذي تغير بيننا وبين من يصفهم الهجويري إنما هو أفراد الفئة التي نخصها بالحديث، وأما إطار القيم التي نضعهم فيه فباق اليوم كما كان في الأمس، وبمثل هذا نتصور ارتباط الجديد بالقديم. إننا إذا قرأنا العبارة السابقة على ضوء المعنى الجديد، قلنا إن الله تعالى اختار له علماء ألهمهم سداد البحث والنظر، حتى ليجوز القول بأنهم - بحكم ما قد اخترعوا وكشفوا - هم الحكام الحقيقيون وإن لم يجلسوا على عروش الحاكمين؛ فقد منحهم الله القدرات التي مكنتهم مما بلغوه، وطهرهم من فساد الطمع ومن وساوس النفس والهوى، وجمع أفكارهم فيما تتجلى فيه قدرة الخالق عز وجل من نواميس الطبيعة بما فيها من مختلف الكائنات.

ونستأنف النظر في كلام الهجويري؛ فهو بعد أن طرح وجهة نظره التي يقول إن المعتزلة والحشوية فريقان يخالفانه فيها. فأما المعتزلة فلكونهم يقصرون المفاضلة بين مسلم وغير مسلم، أما ضمن جماعة المسلمين فلا مفاضلة، ومعنى هذا أن الأولياء لا يفضلون سواهم من المسلمين؛ وأما «الحشوية العوام» فيقرون بأفضلية الأولياء على سواهم من المسلمين، لكنهم يدعون أن ذلك كان فيما مضى حين كان أولياء؛ إذ لم يعد لهم وجود. أقول إن الهجويري بعد أن طرح وجهة نظره إزاء وجهات نظر المعارضين، طفق يؤكد امتياز الأولياء؛ فلقد جعلهم الله تعالى «حكام هذا العالم، وجعلهم لا يتبعون حواسهم، فببركة حلولهم تمطر السماء، وبنقاء حياتهم ينبت الزرع من الأرض، وبدعائهم ينتصر المسلمون على الكفار، وهم ليسوا معصومين من الذنب - لأن ذلك للأنبياء خاصة - ولكنهم محفوظون من الفتنة بالولاية.» وقد سبق لنا التعليق على مضمون هذه العبارة.

ولما كانت الموازنة بين «الأنبياء» و«الأولياء» موضوعا يشغل اهتمامهم كان لا بد للهجويري أن يثبت رأيه فيها، فقال: «اعلم أن شيوخ الصوفية بوجه عام يقولون: إن الأولياء في كل وقت وحال أقل رتبة من الأنبياء، وإن الأنبياء أفضل من الأولياء؛ لأن نهاية الولاية بداية النبوة، وكل نبي ولي، وبعض الأولياء ليسوا بأنبياء، والأنبياء خالون دائما من الصفات الإنسانية، والأولياء كذلك في بعض الأوقات.» •••

وهاك صوفيا آخر من الأعلام، هو شهاب الدين يحيى سهروردي، نقدم لك من كلامه قبسا، حين يبين لنا كيف يتلقى الأولياء الكاملون الغيب، وسوف ترى فيه حديثا هو أقرب - من حيث المضمون - إلى أحاديث الشعراء حين يغرقون في بحور الوجد، فإذا استطعنا أن نفهمه على نفس الأسس التي نفهم بها الشعر، وأعني أن نتابع الخط الوجداني التصويري ثم نبحث له في عالم الواقع عن خط يوازيه، فربما أعطيناه عندئذ قيمته الحقيقية لنا، وأما إذا خلب ألبابنا بحيث نأخذه مأخذ الجد عندما يحدثنا عن تلقي الغيب كيف يكون عند من كتب الله لهم أن يتلقوه من أوليائه، فلن يكون ذلك منا إلا مشاركة له في دنيا «اللامعقول» التي اختارها لحياته، يقول: «وما يتلقى الأنبياء والأولياء وغيرهم من أمور الغيب، فإنها قد ترد عليهم في أسطر مكتوبة، وقد ترد بسماع صوت، وقد يشاهدون صور الكاين، وقد يرون صورا حسنة إنسانية تخاطبهم - في غاية الحسن - فتناجيهم بالغيب، وقد يرى الصور التي تخاطب، كالتماثيل الصناعية، في غاية اللطف.

Page inconnue