الإهداء‏

مقدمة‏

القسم الأول: طريق العقل‏

1 - خطة السير‏

2 - مشكاة البديهة‏

3 - مصباح العقل في مشكاة التجربة‏

4 - مصباح العقل يشتد توهجه‏

5 - زجاجة المصباح‏

6 - الكوكب الدري‏

7 - الشجرة المباركة‏

القسم الثاني: شطحات اللاعقل‏

8 - اللامعقول، ما هو؟‏

9 - يقظة الحالمين‏

10 - سحر وتنجيم‏

فهرس تحليلي‏

القسم الأول: طريق العقل‏

القسم الثاني: شطحات اللاعقل‏

الإهداء‏

مقدمة‏

القسم الأول: طريق العقل‏

1 - خطة السير‏

2 - مشكاة البديهة‏

3 - مصباح العقل في مشكاة التجربة‏

4 - مصباح العقل يشتد توهجه‏

5 - زجاجة المصباح‏

6 - الكوكب الدري‏

7 - الشجرة المباركة‏

القسم الثاني: شطحات اللاعقل‏

8 - اللامعقول، ما هو؟‏

9 - يقظة الحالمين‏

10 - سحر وتنجيم‏

فهرس تحليلي‏

القسم الأول: طريق العقل‏

القسم الثاني: شطحات اللاعقل‏

المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري

المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري

تأليف

زكي نجيب محمود

الإهداء

إلى زوجتي ...

مقدمة

كنت في كتابي «تجديد الفكر العربي» قد طرحت هذا السؤال: كيف السبيل إلى ثقافة نعيشها اليوم، بحيث تجتمع فيها ثقافتنا الموروثة مع ثقافة هذا العصر الذي نحياه؛ شريطة ألا يأتي هذا الاجتماع بين الثقافتين تجاورا بين متنافرين، بل يأتي تضافرا تنسج فيه خيوط الموروث مع خيوط العصر نسج اللحمة والسدى؟ ثم حاولت أن أقدم عن هذا السؤال جوابا، إلا يكن هو الجواب القاطع، فلا أقل من أن يكون جوابا محتمل الصواب؛ لعله يثير الفكر عند آخرين، فيصححونه ويكلمونه، وكان جوابي عندئذ هو أن نأخذ عن الأقدمين وجهات النظر بعد تجريدها من مشكلاتهم الخاصة التي جعلوها موضع البحث؛ وذلك لأنه يبعد جدا - لتطاول الزمن بيننا وبينهم - أن تكون مشكلات حياتنا اليوم هي نفسها مشكلاتهم، وإذن لم يعد يجدي أن أحصر بحثي في مشكلاتهم التي طويت موضوعاتها طيا، ولكن الذي قد يعود علينا بالنفع العظيم، من حيث الحفاظ على كيان لنا عربي الخصائص، هو أن ننظر إلى الأمور بمثل ما نظروا، أو قل بعبارة أخرى: أن نحتكم في حلولنا لمشكلاتنا إلى المعايير نفسها التي كانوا قد احتكموا هم إليها.

ولقد زعمت في محاولتي تلك أن النظرة العقلية، برغم اختلاطها بكثير جدا من عناصر اللاعقل، كان لها شيء من الظهور عند آبائنا من العرب الأقدمين؛ بمعنى أنهم كلما صادفتهم مشكلة جماعية التمسوا لحلها طريقة المنطق العقلي في الوصول إلى النتائج، وكادت النزعة اللاعقلية العاطفية عندهم أن تقتصر على الحياة الخاصة للأفراد؛ فلقد كانت لهم في طرائق العيش الاجتماعي «حكمة» - والحكمة إنما هي نظرة عقلية مكثفة - وما زلنا إلى يومنا هذا نرتد إلى حكمتهم هذه، فترد على ألسنتنا - من محفوظنا - روائع مما قالوه في ذلك شعرا ونثرا، وكأننا كلما نطقنا برائعة من تلك الروائع قد أسرجنا مصباحا يناسب الموقف المعتم الذي أحاط بنا، فنهتدي في مواجهته إلى طريق؛ نعم قد كان لهم إلى جانب نظراتهم المعقولة العاقلة شطحات للوجدان، لكن جانبا من هذين لا ينفي جانبا.

وقد أردت بهذا الكتاب الذي بين يديك أن أقف مع الأسلاف - في نظراتهم العقلية وفي شطحاتهم اللاعقلية كليهما - فأقف معهم عند لقطات ألقطها من حياتهم الثقافية؛ لأرى: من أي نوع كانت مشكلاتهم الفكرية، وكيف التمسوا لها الحلول، لكنني إذ فعلت ذلك، لم أحاول أن أعاصرهم وأتقمص أرواحهم لأرى بعيونهم وأحس بقلوبهم، بل آثرت لنفسي أن أحتفظ بعصري وثقافتي، ثم أستمع إليهم كأنني الزائر جلس صامتا لينصت إلى ما يدور حوله من نقاش، ثم يدلي فيه بعد ذلك - لنفسه ولمعاصريه - برأي يقبل به هذا ويرفض ذاك.

قسمت الكتاب قسمين: جعلت أحدهما لرحلتي على طريق العقل عندهم، وجعلت الآخر لبعض ما رأيته عندهم مجافيا للعقل، لائذا بما ظنوه أعلى منه، وتعمدت أن يجيء القسم الأول أكبر القسمين؛ لتكون النسبة بين الحجمين دالة بذاتها على النسبة التي أراها واقعة في حياتهم الفعلية بين ما وزنوه بميزان العقل وما تركوه لشطحة الوجدان.

ولقد اهتديت في رحلتي على طريق العقل بدرجات الإدراك في صعودها من البسيط إلى المركب، وهي المراحل التي أشار إليها الغزالي عند تأويله لآية النور: فالمشكاة، والمصباح، والزجاجة، والزيتونة هي عنده درجات من الوعي، تتصاعد وتزداد كشفا ونفاذا، فاستخدمت بدوري هذه المراحل لأرى من خلالها خمسة قرون من تاريخ الفكر في المشرق العربي - من القرن السابع الميلادي إلى بداية القرن الثاني عشر - إذ خيل إلي أن السابع قد رأى الأمور رؤية المشكاة، والثامن قد رآها رؤية المصباح، والتاسع والعاشر قد رأياها رؤية الزجاجة التي كانت كأنها الكوكب الدري، ثم رآها الحادي عشر رؤية الشجرة المباركة التي تضيء بذاتها.

وذلك لأني قد رأيت أهل القرن السابع وكأنهم يعالجون شئونهم بفطرة البديهة، وأهل القرن الثامن وقد أخذوا يضعون القواعد، وأهل القرنين التاسع والعاشر وقد صعدوا من القواعد المتفرقة إلى المبادئ الشاملة التي تضم الأشتات في جذوع واحدة، ثم جاء الحادي عشر بنظرة المتصوف التي تنطوي إلى دخيلة الذات من باطن؛ لترى فيها الحق رؤية مباشرة.

كذلك تصورت لكل مرحلة من هذه المراحل سؤالا محوريا كان للناس مدار التفكير والأخذ والرد؛ ففي المرحلة الأولى كانت الصدارة للمشكلة السياسية الاجتماعية؛ من ذا يكون أحق بالحكم؟ وكيف يجزى الفاعلون بحيث يصان العدل كما أراده الله؟ وفي المرحلة الثانية كان السؤال الرئيسي: أيكون الأساس في ميادين اللغة والأدب مقاييس يفرضها المنطق لتطبق على الأقدمين والمحدثين على سواء، أم يكون الأساس هو السابقات التي وردت على ألسنة الأقدمين فنعدها نموذجا يقاس عليه الصواب والخطأ؟ وفي المرحلة الثالثة كان السؤال هو هذا: هل تكون الثقافة عربية خالصة، أو نغذيها بروافد من كل أقطار الأرض لتصبح ثقافة عالمية للإنسان من حيث هو إنسان؟ وجاء القرن العاشر فأخذ يضم حصاد الفكر في نظرات شاملة؛ شأن الإنسان إذا اكتمل له النضج واتسع الأفق، وها هنا كان العقل قد بلغ مداه، فجاءت مرحلة خاتمة يقول أصحابها للعقل: كفاك! فسبيلنا منذ اليوم هو قلوب المتصوفة.

وأما القسم الثاني من الكتاب ففيه نظرة موجزة إلى الوجه الآخر من قطعة النقد، حتى لا نرى الحقيقة من جانب واحد؛ فإلى جانب الوقفات العقلية عند أسلافنا كان هنالك حالات رفضوا فيها أحكام العقل ولاذوا بما نبضت به قلوبهم حينا، وبما أشبع فيهم خيال الأيفاع حينا آخر، وحاولت جهدي أن أحلل المعنى المقصود بمصطلح «اللامعقول» حتى لا ينصرف في الأذهان إلى شتم وازدراء، إنما هو لون آخر ينبع عند الناس دائما من صميم فطرتهم الإنسانية، وكل ما في الأمر أنني لا أجد هذا الجانب من السابقين قنطرة تصلح لعبور اللاحقين إذا أرادوا وصل الطريق، واكتفيت من جانب اللامعقول هذا بصورتين: التصوف إحداهما، والسحر والتنجيم ثانيتهما، ورأيت في ذلك ما يكفي لاكتمال الصورة التي أردت رسمها أمام القارئين.

إنني في هذا الكتاب شبيه بمسافر في أرض غريبة، حط رحاله في هذا البلد حينا، وفي ذلك البلد حينا، كلما وجد في طريقه ما يستلفت النظر ويستحق الرؤية والسمع، ومثلي في رحلتي هذه مثل السائح؛ قد يفلت من نظره أهم المعالم؛ لأنه غريب لا يعرف بادئ ذي بدء أين تكون المعالم البارزة، إلا إذا اهتدى بدليل من أبناء البلد، ولكنني أيضا - مثل السائح الغريب - قد تقع عيني على شيء لا تراه أعين أبناء البلد؛ لأنه مألوف لهم حتى لم يعودوا قادرين على رؤيته رؤية صحيحة، ومن هنا كنت لا أستبعد وقوعي في أخطاء بمعنيين؛ بمعنى إهمال ما لم يكن يجوز إهماله من معالم الطريق، وبمعنى وقوف النظر أحيانا عند ما لا يستحق الوقوف عنده بالنظر، وواضح أنه لو أراد مسافر آخر أن يستبدل لرؤيته منظارا بمنظار لرأى رؤية أخرى، وانتهى إلى أحكام أخرى غير التي رأيت وإليها انتهيت.

وإني إذا رجوت لهذا الكتاب رجاء، فذلك أن يجيء خيره أكثر من شره، وصوابه أكبر من خطئه.

زكي نجيب محمود

القسم الأول

طريق العقل

الفصل الأول

خطة السير

1

كانت عادتي كلما هبطت مدينة من سفر - قصر مقامي بين ربوعها أو طال - أن أبدأ بالنظر إلى خريطتها؛ لأقسم أرجاءها أقساما تتناسب في سعتها مع طول المدة التي أنوي إقامتها، فكلما قصرت مدة الإقامة ازدادت تلك الأقسام اتساعا، وكلما طالت المدة ضاقت الأقسام، ثم أخصص لكل قسم نصيبه من الزمن؛ لأجول مارا على تفصيلات أجزائه سائرا على القدمين، لا أستعين بقطار أو سيارة إلا إذا هدني التعب هدا يستحيل معه أن أواصل السير؛ ذلك لأني أومن بأن الرؤية المتأنية الفاحصة التي ترسخ في الذاكرة وتدوم ، هي تلك التي تجيء من سائر على قدميه، يمهل الخطى حينا، ويقف عن السير حينا، كلما احتاجت منه الأشياء إلى إمهال أو وقوف، وبغير هذا النظر إلى خريطة المكان، لأتصور به أين شرقه من غربه، وأين شماله من جنوبه؛ تتمزق الصورة عندي وتتبعثر تفصيلاتها، حتى أخرج من زيارتي وكأنني لم أحصل شيئا، مهما كثرت عندي أجزاء ما رأيت وما سمعت، فكأنما أمسكت بكتاب ومزقت أوراقه قصاصات قصاصات، تجمعها أمامك في كومة لا ينساق فيها سطر وراء سطر، ثم قلت لنفسك: ذلك هو الكتاب، لم ينقص حرفا! لكنه في الحقيقة قد نقص كل شيء حين زالت عنه الوحدة التي تجمع أجزاءه في كيان.

النظرة إلى خريطة البلد الذي أقيم فيه هي العمود الفقري الذي يبقيه في خبرتي كائنا متصل الأجزاء، وهكذا الأمر بالنسبة إلى علم أحصله، فمهما امتلأ وفاضي من حقائق مفككة الأوصال عن رجال أو عصور أو مذاهب، فأنا المفلس من العلم المفيد ما لم أجد لنفسي الإطار الذي يجمع الأشتات في كيان واحد، أعرف فيه أين يقع الرأس وأين يكون الذنب، وإني لأغلو مع نفسي في مطلب التوحيد هذا، حتى لأحاول في كثير من الأحيان ألا أكتفي بمجرد مبدأ نظري أجعله قطبا للرحى، بل ألتمس لنفسي صورة مجسدة أخلقها لنفسي خلقا، فتعينني على ترتيب الأجزاء وتنظيمها في نسق موحد.

2

فلما هممت بالقراءة لهذا الكتاب، طالبت نفسي أولا بخطة للسير؛ فالتراث العربي أوسع من المحيط، ولم يكتب لي الله في أعوامي الماضية أن أعب منه إلا قطرات لا تملأ القدح، فكيف بي وأنا الغريب - أو شبه الغريب - في هذه الدنيا المدوية بمكنونها الضخم، وقد هممت بالسير في أحنائها وثناياها؟ إنني أريد أن أبحث في هذه الدنيا الفكرية الفسيحة الأرجاء، عن طريق واحد دون سائر ما فيها من طرق ومفاوز، وهو طريق «العقل» كيف سار وأين؟ فهل أستطيع الخطو بقدم واحدة إذا لم يكن أمامي خط واضح أسير على هداه؟!

وطريق العقل في ثقافة عريضة طويلة كالثقافة العربية، لا يكون قائما وحده، بحيث لا يجد السائر طريقا سواه، بل لا بد أن يخالطه كل ما يخالط الطبيعة البشرية من جوانب أخرى غير جانب العقل، فالإنسان - فردا كان أو مجتمعا - لا يتحرك في حياته مهتديا ببوصلة واحدة، ذات مؤشر واحد، يشير دائما إلى هدف واحد، بل إن طبيعته لتنطوي على منازع متعارضة أحيانا أشد التعارض؛ فقد يحدد له «العقل» هدفا بعينه ويرسم أمامه الطريق المؤدية إلى ذلك الهدف، ثم تجذبه «العاطفة» نحو هدف آخر وطريق آخر، فلو وصفنا إنسانا فردا، أو مجتمعا من الناس، أو عصرا من العصور، بصفة «العقلانية» فإنما نفعل ذلك على سبيل التغليب والترجيح، لا على سبيل الحصر والقطع والتحديد.

وإذا أردنا شيئا من التوضيح الذي يفرق لنا بين وقفة «عقلية» وأخرى «عاطفية»، فحسبنا - فيما أظن - أن نرتكز على العلامة المميزة الآتية؛ فصاحب الوقفة العقلية يشترط في خطوات سيره أن تكون الخطوة التالية مكملة للتي سبقتها، وممهدة للتي تلحق بها، بحيث تجيء الخطوات معا في تضامن يجعلها وسيلة مؤدية آخر الأمر إلى هدف مقصود، ولا فرق في ذلك بين أن يكون السير سيرا بالقدمين على سطح الأرض ليصل السائر إلى مكان يريد الوصول إليه، وأن يكون السير سيرا عقليا ينتقل به صاحبه من فكرة إلى فكرة، حتى ينتهي إلى حل لمشكلة أراد حلها، ذلك هو السير «العقلي» وعلامته المميزة. لكن ما كل سلوك إنساني على هذا النمط الهادف؛ إذ كثيرا ما يريد الإنسان شيئا ويعمل بما ليس يحقق له ما أراد، فإذا سألته: كيف؟ أو سأل نفسه، كان جوابه بأنه يحس «ميلا» لا قبل له برده، يميل به نحو جانب مضاد لما ظن بادئ الأمر أنه ما يريد ...

الوقفة «العقلية» - بعبارة أخرى - وقفة تتقيد بالروابط السببية التي تجعل من العناصر المتباينة حلقات تؤدي في النهاية إلى نتيجة معينة، سواء كانت تلك الحلقات المؤدية محببة أو كريهة عند من أراد الوصول إلى تلك النتيجة المطلوبة. وأما الوقفة «العاطفية» أو «اللاعقلية» فهي التي يؤثر صاحبها اختيار الطريق المحبب إلى النفس بغض النظر عن تحقيق النتائج.

ويندر جدا أن تجد بين الناس إنسانا خلص له العقل وحده، لا يأتمر إلا بتوجيهه، كالذي يقال عن سقراط إنه كان عقلا صرفا، حتى لتعذر عليه أن يتصور كيف يرى العقل رأيا ثم لا يجد هذا الرأي تنفيذا عند صاحبه؛ فما يراه العقل - كما ذهب سقراط - هو نفسه العلم بحقائق الأشياء، ومن ذا الذي يرفض أن يعامل الأشياء على حقائقها؟ ومن ثم جاءت فكرته القائلة بأن «العلم والفضيلة شيء واحد»؛ يريد بذلك أن ما يدركه العقل (وهذا هو العلم) وما ينبغي على الإنسان أن يفعله (وهذه هي الفضيلة) هما جانبان لموقف واحد، فهناك الإدراك الصحيح، وهنا الفعل الصواب بناء على ذلك الإدراك، ولم يتصور سقراط أن يدرك الإنسان بعقله الإدراك الصحيح، ثم يفعل الفعل المضاد مدفوعا إليه بالميل والهوى، اللهم إلا إذا كان الإنسان عدوا لنفسه يريد لها التهلكة، يرى طريق الحق ويسلك طريق الباطل، يرى سبيل النجاة ويسلك سبيل الخطر والضياع.

ذلك ما لم يتصوره سقراط في الإنسان العاقل، قياسا على نفسه؛ فهو - كما قيل عنه - لم يشعر في حياته قط بموقف تنازعته فيه الأضداد، فالعقل يشده إلى هنا والعاطفة تجذبه إلى هناك؛ لأن ما يراه عقله هو نفسه ما تميل إليه عاطفته.

وخطأ سقراط هو في أنه قاس الناس على نفسه؛ لأن الفرد من الناس مركب من عقل وعاطفة، فإذا اتفقا على الهدف والطريق - وكثيرا ما يتفقان بلا عناء - كان خيرا، وإلا فهما قد يختلفان، بحيث يكون لكل منهما هدفه وطريقه وعندئذ يحدث الصراع المألوف في حياتنا بين إملاء العقل وميل العاطفة، وعندئذ أيضا تكون قسمتنا للناس إلى من تغلب عليهم صفة العقلانية، ومن تغلب عليهم دفعة العواطف، ومن امتزاج الصنفين يتكون المجتمع الإنساني في معظم حالاته.

3

فإذا التمسنا طريق العقل في الثقافة العربية، كان معنى ذلك أننا نبحث عن خيوط اللحمة في نسيج، دون خيوط السدى، عالمين بأن اللحمة والسدى معا تشتركان في نسيج واحد، ولماذا أحاول عزل القمح عن الشعير بعد أن كان مختلطين في مزيج واحد؟ أحاول ذلك لسببين: أولهما: الرغبة في رسم خطة للسير الواضح، على النحو الذي أشرت إليه في أول الحديث، والثاني: عقيدة عندي بأنه إذا أراد الخلف - الذي هو نحن العرب في عصرنا القائم - أن يجيء امتدادا للسلف، فلن يكون ذلك إلا عن طريق الجانب العاقل من حياة السلف؛ لأن الجانب اللاعاقل من حياة ذلك السلف ربما تعلق بأشياء لم تعد ذات شأن في حياتنا، وبالتالي فإنها لم تعد تستحق منا أن نسكب عليها هوس العاطفة دفاعا عنها وحفاظا عليها.

على أن طريق العقل الذي نلتمسه لنسير فيه، ليس هو طريقا كله المنطق الجاف الذي يصنف الكائنات أجناسا وأنواعا بعد أن يسلبها مضامينها الحية، ولا يبقى منها إلا أشكالها الخارجية الفارغة من الغذاء والدسم، لا، بل إن مرادنا هنا هو أن نعيش ثقافتنا القديمة وهي في حالات نبضها، مليئة بمشكلاتها، وكل ما في الأمر هو أننا نريد أن نتخير من تلك الثقافة مواقفها التي عالجتها بالإدراك السليم، لا بالعاطفة حتى وإن كانت رضية ودافئة.

وللإدراك السليم في مواجهة المشكلات صور، ليست كلها أقيسة أرسطية جفت في هياكلها عصارة الحياة، بل إن منها ما هو أقرب إلى عفوية الطفل في إدراكه، ومنها ما هو ممتزج بالسخرية اللطيفة، ومنها ما هو إدراك بالبصيرة النافذة، تصل إلى الحق بلمحة واحدة، ولنا بعد ذلك أن نقيم على ذلك الحق ما استطعنا من تبرير وبرهان، ولا بد أن يكون في حصاد الثقافة العربية كل هذه الصنوف من الإدراك السليم، في مختلف المواقف التي تعرضت لها.

فالفرق بعيد بين رجلين صادفتهما مشكلة بعينها، ولنقل مثلا إن كلا منهما قد أخذه القلق على عقيدته الدينية، وأراد أن يطمئن على قوتها؛ أما أحدهما فقد جعل طريق اطمئنانه هو أن يخلق بأوهامه قصصا يحكيها عن أقطاب من أتباع هذه العقيدة، تدل على أنهم بقوة عقيدتهم تلك استطاعوا أن يفكوا عن العالم الطبيعي قيود السببية العلمية الصارمة، فهم يحصلون على ماء بغير مصادره، ويحصدون ثمارا بغير نبات ينبته وهكذا، وأما الآخر فيبحث لبيان القوة في عقيدته عن أسس يقبلها الإدراك العلمي السليم، سواء كانت تلك الأسس قائمة على لمح البصيرة، أو على مشاهدات البصر، أو على استدلالات العقل لنتائج يخرجها من مقدمات بين يديه.

وفي التراث العربي هذان الصنفان من الرجال؛ الصنف الذي لا يقيد نفسه بالشواهد في مواجهة مشكلاته، والآخر الذي يواجه تلك المشكلات بأسلوب عاقل، لا يجد أبناء الثقافات الأخرى، أو أبناء الأجيال القادمة، بأسا في تتبعه واقتباسه.

4

لم أكد أضع الأمر لنفسي على هذه الصورة التي تفرق بين موقفين؛ أحدهما يتحدى الوقائع وحدودها، وبالتالي فهو يتحدى العلم وطرائقه، والثاني يجعل الوقائع مداره، ثم يعالجها على أي نحو يطيب له؛ شريطة أن يصون لسلامة الإدراك مقوماتها، أقول: إني لم أكد أضع الأمر لنفسي على هذه الصورة، حتى قفزت إلى ذهني آية قرآنية كريمة ووجهة نظر في تأويلها، فوجدتها هي الآية التي ترسم لي خطة السير فيما أردت السير فيه، وأعني بها آية النور، ووجهة نظر الإمام الغزالي في تأويلها؛ لأنه يؤولها في كتابه «مشكاة الأنوار» على نحو يجعلها مبينة لدرجات الإدراك السليم، التي ربما كانت هي الدرجات التي يتدرج بها الفرد الواحد في نموه العقلي، وتتدرج بها الأمة الواحدة، أو الثقافة الواحدة في طريق نضجها، وعندئذ يمكنني أن أتابع تراثنا الفكري مهتديا بتلك الدرجات الإدراكية، وملتمسا لكل درجة منها عصرا تمثلت فيه، ورجالا تمثلت فيهم، وكتابات تجلت فيها، فإذا وجدتني أسير مع هذه الدرجات في طريق موصول خلال عصور الثقافة العربية، كنت بذلك قد وقعت على خريطة الواقع، وخطة للسير في شعابه.

تقول الآية الكريمة:

الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء .

فالنور هنا هو قوة الإدراك، ومن السهل على خيالنا أن يتصور في الإدراك نورا وفي الغفلة ظلاما، وإن أسماء الله تعالى لتحتوي على عدد كبير يدل على إدراكه لكل دقائق خلقه، ما ظهر منها وما بطن؛ فهو العليم، السميع، البصير، وهو اللطيف الذي يعلم دقائق المعاني وغوامضها، ما دق منها وما لطف، وهو الخبير الذي لا تغرب عنه الأخبار الباطنة، ولا يجري في ملكه شيء إلا ويكون عنده خبره، وهو الحكيم، وهو الشهيد العالم بعالم الغيب وعالم الشهادة، أي إنه تعالى عليم بما بطن من الأمور وما ظهر، يقول الإمام الغزالي في شرح أسماء الله الحسنى: إن اسم «العليم» يشير إلى العلم على إطلاقه، فإذا أضيف علمه تعالى إلى الغيب فهو «الخبير»، وإذا أضيف إلى الأمور الظاهرة فهو «الشهيد»، وهو الحق بالمعنى المطلق للحق، أي إنه تعالى حق بذاته غير مستند إلى شيء سواه، وأما كل حقيقة أخرى فحقها نسبي مضاف إلى غيره، فأحق الموجودات بأن يكون حقا هو الله، وأحق المعارف بأن يكون حقا هو معرفة الله، وهو المحصي لأن علمه تعالى محيط بالمعلومات جميعا، ففي علمه ينكشف لكل معلوم حده وعدده ومبلغه، وهو النور أي إنه هو الظاهر بذاته الذي يكون به كل ظهور سواه، وهو الرشيد الذي ينساق تدبيره إلى غاياته على سنن السداد.

لكن هذا الإدراك في خبرات الناس يكون على صور متباينة هي التي رمزت إليها الآية الكريمة - على تأويل الغزالي للآية - فأما أولى هذه الصور الإدراكية فهي المحسوسات التي تدركها حواس الإنسان؛ من بصر وسمع ولمس وغيرها، وتلك هي التي رمزت إليها الآية بالمشكاة، وماذا بداخل المشكاة؟ بداخلها مصباح في زجاجة، أما المصباح فهو العقل الذي يدرك المعاني؛ إنه لا يقف عند حدود ما تورده الحواس، بل يجاوز تلك الحصيلة الحسية إلى دنيا المعاني المجردة، والذي يعينه على فاعليته هذه هي الزجاجة التي تحيط به، والزجاجة هنا ترمز إلى الخيال، ويقصد بالخيال هنا القدرة على حفظ ما تورده الحواس مخزونا، حتى يعرض على العقل عند الحاجة إليه، فلئن كان العقل يجاوز ما تجيء به الحواس من العالم المحيط، إلا أنه يرتكز على المحسوسات ليتمكن من الوثوب إلى ما وراءها، وبالطبع لا يستخدم العقل كل الوارد الحسي دفعة واحدة، إنما هو في كل لحظة من لحظات فاعليته ينتقي ما ينفعه، وإذن فلا بد له من حافظ يصون له المدخر من خبرة الماضي، فيكون له كالخازن الذي يمده في كل لحظة بما يريد، وتلك هي الزجاجة المحيطة بالمصباح.

لكن قوة الخيال هذه - الزجاجة - من أين تأتيه؟ نعم، إنه موصوف في الآية بأنه كالكوكب الدري لمعانا، لكن لهذا الضياء الساطع مصدرا، فهو يوقد من شجرة مباركة، والشجرة هنا - في تأويل الإمام الغزالي - هي الروح الفكري الذي يؤلف بين العلوم العقلية، إنه بغير تأليف وتنسيق ثم انتقاء واختيار، تظل المعلومات أشتاتا لا تنفع، فلنقل إذن إن الشجرة المباركة هنا هي «المبدأ»، أو جملة المبادئ التي توحد الشتيت ليصبح نورا هاديا، أعني ليصبح علما يكشف عن الحق، فإذا استطرد السائل ليسأل: ومن أين للشجرة نفسها هذه القوة؟ أجابت الآية الكريمة بأنها قوة ذاتية لا تستمد من شيء آخر؛ إذ هي إنما تضيء بزيتها هي، وزيتها هذا يكاد يضيء من تلقاء نفسه، ولو لم تمسسه نار، وإذن فهو المصدر الإدراكي الأخير الذي يقوم بذاته، ثم يكون منه المدد لغيره من صور الإدراك. هو أقرب شيء إلى ما نسميه في المصطلح الفلسفي «بالحدس» أو الإدراك بالفطرة أو بالبصيرة؛ لأنه إدراك يلمع دفعة واحدة، يبرهن على غيره، لكنه هو نفسه لا يحتاج إلى برهان؛ إذ هو مباشر غير مسبوق بما يمهد له أو ما يولده وينتجه، وإن شئت فقل عن مثل هذا الإدراك الأولي المباشر: إنه إلهام أو وحي من الله.

على هذا النحو يتصاعد النور، أو تتدرج صور الإدراك؛ حسا، فعقلا يصونه خيال، فبصيرة يوحي إليها، فتهتدي إلى الحق بالفطرة الملهمة. •••

سألت نفسي: أتكون هذه هي نفسها المراحل التي تنمو بها مدارك الفرد الواحد من الناس؛ تمتلئ حواسه بما يرى ويسمع ويلمس، فتغزر خبراته بما حوله، فيتناولها العقل بالتنظيم، مهتديا في ذلك بمبادئ جبلت في فطرته؟ بل سألت نفسي: أفيبعد أن تكون هذه الدرجات الإدراكية هي نفسها ما تميزت به عصور الثقافة الإنسانية؛ فعصر ثقافي كانت تسوده التجارب الأولية بالعالم المحيط وظواهره، فكان تعليله عند أهله بالأساطير، تلاه عصر انخرط فيه الفكر لينصب في قوالب وأطر هي التي يطلقون عليها اسم «العقل»، وكان ذلك عند اليونان الأقدمين، ثم أعقب هذا وذاك وحي بالمبادئ والقيم التي تمسك بثمرات العقل في شجرة واحدة، وكان ذلك في ديانات الشرق الأوسط التي انتهت إلى الإسلام؟

وإذا كانت هذه المراحل الإدراكية أمرها كذلك، فهل يجوز لي أن أترسم مدراجها في تتبع مسار العقل في التراث العربي؟ بمعنى أن ألتمس ذلك العقل في خواطر البداهة أولا، ثم في محاجات المنطق ثانيا، ثم في حدس الصوفية ثالثا؟ وقد تعود الدورة على هذا النحو مرة بعد مرة؛ وفرة في الحصاد، فتنظيم لذلك الحصاد الوافر، فتأمل فيما يجاوزه ويعلوه.

5

إن للفيلسوف البريطاني المعاصر ألفرد نورث وايتهد كتابا صغيرا هاديا ومفيدا، عن «أهداف التربية»، وقد حاول في كتابه هذا أن يقع على أسس مقنعة يقوم عليها تقسيم التعليم إلى مراحل يتلو ويكمل بعضها بعضا، فبحث أولا عما يميز الإدراك الإنساني في كل مرحلة عمرية، حتى إذا ما وجد تلك المميزات، جعلها مدارات للتربية، كل منها في مرحلته الخاصة، وبعد شيء من التحليل الدقيق الذي نعهده في كل ما أنتجه وايتهد من فكر، انتهى إلى مميزات ثلاثة تتعاقب على الناشئ في مراحل نموه؛ ففي البداية يكون التحصيل عند الطفل متميزا بعقوبة خلاقة، تمتد أصابعه لكل ما يصادفه، يحطم ويهشم ليملأ حسه بكل جوانب الشيء الذي يقع عليه؛ يلمس، ويذوق، وينظر، وينصت، يجري هنا وهنا ويتعثر ويستقيم، حتى إذا ما خرج من طفولته العفوية تلك، هدأ قليلا ليجمع القواعد التي تنظم له حصاده الغزير المهوش، وما إن تجتمع له مجموعة كافية من تلك القواعد في بضع سنين، تراه عندئذ يصبو إلى صعود فوقها إلى المبادئ العامة التي تطويها.

ومن ثم فقد كان الرأي التربوي عند وايتهد، أن تخصص المرحلة الدراسية الأولى لما يشبه التحصيل العشوائي الذي يتبدى في فطرة الطفولة، ثم تخصص المرحلة الوسطى (الثانوية) لما يشبه تقعيد القواعد، أعني إدراج الحصيلة الأولى تحت قواعد العلوم وقوانينها، وأخيرا تأتي المرحلة الأخيرة متمثلة في التعليم الجامعي، فتصب اهتمامها، لا على العلوم المختلفة من حيث هي مجموعات من قواعد وقوانين، بل على المبادئ الأعم التي تشمل تلك العلوم كتطبيقات لها، فالمبادئ العامة وحدها هي التي تتيح للفكر أن ينظر إلى المشهد كله بنظرة شاملة، تمكنه من أن يجاوي ويعلو عليه بما هو أكثر تقدما وتطورا.

ففي المرحلة الأولى فاعلية حرة مطلقة السراح، وفي المرحلة الثانية تحديد للملامح والقسمات، وفي المرحلة الثالثة اتساع في الأفق وبعد في مرمى النظر، في الأولى إدراك بالجملة على شيء من إبهام وغموض، وفي الثانية تفصيل للأجزاء وربط بينها بالعلاقات، وها هنا يكون التحليل لما هو مجمل، والضبط لما هو منساب على فطرته، والسير على منهاج يقيد الخطوات، أما في الثالثة فارتفاع إلى مبادئ يضم كل مبدأ منها قوانين أشتاتا تفرقت بين مختلف العلوم، ومن ثم تنشأ فكرة المعرفة الموحدة، والكون الموحد ويكتمل عند الإنسان مبدأ التوحيد.

بعبارة أخرى، يبدأ التحصيل بمشاهدة الوقائع لذاتها لا لدلالاتها، ثم ينظر إلى كل واقعة من حيث هي مثل لقانون علمي يطويها مع أشباهها في مجموعة واحدة، وأخيرا يلحق هذا القانون مع قوانين أخرى تتصل به بمبدأ يحتويها جميعا، كأنها أفراد أسرة واحدة.

ولعل أوضح مثل لهذا التدرج في الإدراك كما يراه وايتهد هو اللغة، وكيف يحصلها المتكلم بها، فيبدأ الطفل في التقاطها مفردات وجملا لا يعرف لها أصلا ولا فصلا، فهو يسمع ويحاكي، ثم يتعلم بعد ذلك القواعد التي تضبط ما كان قد التقط، حتى إذا ما اكتمل نضجه أمسك بتلك اللغة إمساكه للكائن الحي، يعرف كيف يستخدمه ويصرف أموره على النحو الذي يريد. •••

والشبه - على وجه الجملة - واضح بين مراحل الإدراك كما تحدث عنها وايتهد في بحثه التربوي، ومراحل الإدراك كما لمحها الغزالي عند تأويله لآية النور، ففي الحالتين تكون مراحل الإدراك في مدارج صعوده بادئة بالعفوية النشيطة الحية، ومعقبة عليها بالتنظيم والتنسيق وتقعيد القواعد، ثم منتهية بإدراك المبادئ الأشمل والأعم، لولا أن الغزالي يضيف إلى ذلك مرحلة رابعة يكون عندها تأمل مسدد بقوة الإلهام.

وسأجعل هذه المدارج نفسها معالم طريقي عندما أشق لنفسي طريقا في دنيا تراثنا الفكري، باحثا عن «العقل» كيف بدأ وكيف نما، وفي أي اتجاه استقام به السير أو انعرج.

وإنه ليخيل إلي - بعد نظرة إلى تاريخنا الفكري من أعلى - بأن القرن السابع الميلادي (الأول الهجري) قد شهد مرحلة الومضات العفوية الخلاقة، وأن القرنين الثامن والتاسع هما اللذان قد شهدا التنظيم والتقسيم وتأصيل القواعد والاستدلال منها، وأن القرن العاشر قد جاوز القواعد المجزأة المفرقة إلى المبادئ الفلسفية الكاملة الشاملة، ثم جاء القرن الحادي عشر، فلجأ إلى الحدس ليلتمس الحق في لمحة التصوف، وأما بعد ذلك - فباستثناء حالات تلفت النظر - كان نشاطنا الفكري على الأعم الأغلب تدوينات وتجميعات لما كان، بغير إضافة جديدة، هذا في المشرق. وأما في الأندلس فقد سارت الخطوات على غرار الدورة نفسها؛ تنظيم وتقسيم، ثم تتويج لذلك بنظرات فلسفية شاملة، ثم آخر الأمر تصوف يريد أن يختصر الطريق إلى الحق بشهود مباشر.

الفصل الثاني

مشكاة البديهة

أدب وفلسفة وفروسية وسياسة

6

لست أكتب هذه الصفحات كما يكتب المؤرخون، فأتبع اللواحق بسوابقها والنتائج بمقدماتها، بل إني أكتبها كما يكتب الرحالة عن مشاهداتهم أثناء الطريق، فليست وقفتي وقفة العالم وهو يحلل موضوعه إلى عناصره، بقدر ما هي وقفة الأديب الذي ينطبع بالحوادث من حوله، فيقص على الناس ما قد أحسه في مجرى شعوره الواعي؛ إنها أقرب إلى وقفة هوسرل في تعقبه لظواهر الوعي عند إدراكه لما يدركه، تعقبا يهتم بوقع الشيء المدرك في جملته، منها إلى وقفة ديكارت في رده الإدراك إلى بسائط الحدس، أو وقفة هيوم في رجوعه بالإدراك إلى معطيات الحواس؛ لا، ليس هو تحليلا وتشريحا ما أقصد إليه بهذه الصفحات، لكنه الأثر الذي يخرج به المتفرج بعد مسرحية شهدها لتوه، وانصرف إلى داره يستعيد الصوت واللون والحركة، وكيف كان وقعها على بصره وسمعه.

ومن يكتب عن الماضي أحد رجلين: فإما هو رجل تعمد نسيان عصره وخبرته وأفكاره، ليكر راجعا إلى العصر الذي أراد الكتابة عنه، منخرطا في أهله كأنه واحد منهم، ينظر إلى الأمور بعين كعيونهم، ويقوم الأشياء بمعيار هو نفسه معيارهم، التماسا للإنصاف؛ وذلك لأن الناس في زمن لا يطالبون بالعيش في زمن آخر لم يئن أوانه بعد، وإما هو رجل يحمل معه خبرته كلها وأفكاره كلها وظروف عصره هو؛ ليرجع إلى العصر الذي أراد الكتابة عنه، لا كتابة رجل يريد إنصاف الناس بحكمه على مواقفهم من شئون دنياهم، فيلبس لبوسهم ويحكم بأخلاقهم على سلوكهم، بل كتابة رجل يريد أن ينتفع في عصره القائم بما عساه واجده من خير عند الأسلاف، فسواء كان للأقدمين أعذارهم فيما قالوه وفعلوه أو لم يكن، فليس هذا من شأن صاحبنا هذا، وإنما هو كالوسيط في عالم التجارة، يبحث عند المنتجين عن السلعة التي يستطيع بيعها لزبائنه، فقد يغض نظره عن الجيد إذا علم أن ليس عنده من يشتريه، ويسعى وراء الرديء؛ لأنه السلعة الرائجة في سوق بيعه، بل إنه عند النظر إلى السلع المعروضة لا يكاد يفهم ماذا تعني الجودة والرداءة؛ لأن الجودة والرداءة ليستا موضع نظره في هذه الحالة، إنما موضع نظره هو ماذا ينفع الناس في بلده، وماذا لا ينفعهم.

ولست هنا أفاضل بين الرجلين؛ فلكل منهما وجهة نظر ترتب عليها أسلوبه في البحث، وكل أسلوب يبحث به صاحبه عن غايته هو أسلوب صحيح إذا انتهى بصاحبه إلى تلك الغاية، فلا صواب هنا ولا خطأ إلا بالقياس إلى ما يبتغيه الباحث، وإني لأقرر عن نفسي أنني حين هممت بهذه الرحلة في دنيا تراثنا الفكري، لم أجعل غايتي تقويم ذلك التراث، ومن أكون حتى أجيز لنفسي مثل هذا التقويم لتراث كان بالفعل أساسا لحضارة شهد لها التاريخ؟ لكني جعلت غايتي شيئا آخر، أظنه من حقي إذا أردته، وهو البحث في تراثنا الفكري عما يجوز لعصرنا الحاضر أن يعيده إلى الحياة ليكون بين مقومات عيشه ومكونات وجهة نظره، وبهذا يرتبط الحاضر بذلك الجزء من الماضي الذي يصلح للدخول في النسيج الحي لعصرنا الذي يحتوينا راضين به أو مرغمين.

7

عدت إذن بكل أحمال عصري على كتفي وفي شراييني وأعصابي، لأجدني قد وقفت أول ما وقفت عند هذه المعركة التي نشبت على الخلافة بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان؛ وقفت أنظر وأسمع، يأخذني العجب مرة والإعجاب مرة؛ ذلك أني وجدت بين ما أراه وما أسمعه كثيرا مما يستحيل أن أجد له مكانا في ثقافتي العامة مهما حاولت إقحامه عليها، وكثيرا آخر مما تتقبله هذه الثقافة نفسها وتتمثله كأنه أصل أصيل من بنائها.

وكان أميز ما يميز الموقف كله عندي، هو أنه مصطبغ في جملته بشيء من الإدراك الفطري المباشر، الذي يصدر أحكامه بغير لجوء إلى تحليل وبرهان، وإذن فهو مثل جيد لصدق ما زعمته في الفصل السابق من هذا الكتاب، وهو أن أولى مراحل الطريق متسمة بضرب من عفوية النظر، ترى الفكر فيها وكأنه الومضات التي تلمع، لا تدري كيف جاءت، لكنها - على كل حال - تضيء وتهدي.

وماذا تقول في موقف امتزج فيه أدب وفلسفة وفروسية وسياسة، امتزاجا لا تستطيع معه أن تستل عنصرا منها لتقيمه وحده بعيدا عن سائر العناصر؛ فرجل السياسة هنا يرسل الرأي في عبارة مصقولة بحس الأديب، والأديب هنا يصوغ العبارة بحكمة الفيلسوف، والفيلسوف هنا ينتزع الحكمة ببديهته الصافية والسيف في يده وعنان جواده في قبضته؛ فهو الأديب الذي جادت عبارته إن شئت، وهو الفيلسوف الذي نفذت بصيرته إن شئت، وهو الفارس الباسل المقدام المدرب على القتال إن شئت، ثم هو السياسي البارع بحيلته في حل ما تعقد من الأمر إن شئت؛ لأنه كل هذه الأشياء معا وفي آن.

ولنقف - في هذا الصدد - وقفة عند الإمام علي رضي الله عنه؛ لننظر كم اجتمع في هذا الرجل من أدب وحكمة، وفروسية وسياسة؛ ليكون وحده شاهدا على ما قد زعمناه عن الروح التي تميز بها القرن السابع (الأول الهجري)، ومن هذا القطب سنظل نتجه بأبصارنا إلى يمين وإلى يسار، لنلم بلمحات من أبطال ذلك الموقف الذي نحن واقفون الآن بإزائه، وعندئذ سوف تتكامل بين أيدينا قطعة من نسيج حي، هو هو حياة السلف في تلك الفترة من زمانهم، وهو هو ثقافتهم ووجهة أنظارهم، فإذا رأينا في أنفسنا - وهي ممتلئة ما تزال بزادها الفكري من عصرنا - إذا رأينا فيها ميلا إلى جانب من المشهد دون جانب، كان ما تميل إليه أقرب إلى عصرنا، وبالتالي فهو أيسر مأخذا وأولى بأن يبعث حيا في زماننا.

ونجول بأنظارنا في هذه المختارات من أقوال الإمام علي التي اختارها الشريف الرضي (970-1016م) وأطلق عليها «نهج البلاغة»، لنقف ذاهلين أمام روعة العبارة وعمق المعنى، فإذا حاولنا أن نصنف هذه الأقوال تحت رءوس عامة تجمعها، وجدناها تدور - على الأغلب - حول موضوعات رئيسية ثلاثة، هي نفسها الموضوعات الرئيسية التي ترتد إليها محاولات الفلاسفة قديمهم وحديثهم على السواء، ألا وهي: الله، والعالم، والإنسان، وإذن فالرجل - وإن لم يتعمدها - فيلسوف بمادته، وإن خالف الفلاسفة في أن هؤلاء قد غلب عليهم أن يقيموا لفكرتهم نسقا يحتويها على صورة مبدأ ونتائجه، وأما هو فقد نثر القول نثرا في دواعيه وظروفه.

على أن حرفتي - وهي الأستاذية في الفلسفة - تقتضيني هنا ألا أرسل القول إرسالا مهملا بغير تحديد، فأقول - لأنبه القارئ إلى تمييز هام ومفيد - إن الفلسفة إنما تجيء على أحد وجهين، كثيرا ما يسمى أحدهما «بالحكمة» ليقتصر لفظ «الفلسفة» على الوجه الآخر، أما أول هذين الوجهين فهو ذلك الضرب من القول النافذ إلى صميم الحق، لكنه صادر عن تجربة شخصية فردية حيوية عند قائله؛ ولذلك فهو أقرب إلى التعبير الأدبي منه إلى التجريد الرياضي الذي نعرفه في النوع الثاني، ولك أن تقارن - مثلا - بين كونفوشيوس أو بوذا من ناحية، وأفلاطون أو أرسطو من ناحية أخرى، فعندئذ ترى في الحالة الأولى خبرة شخصية فريدة نابضة بحياة صاحبها، وترى في الحالة الثانية تعميمات مجردة قريبة من معادلات الجبر وأشكال الهندسة، لا تكاد تلمح فيها أثرا من حياة صاحبها الحميمة، ومن الضرب الأول - ضرب الحكمة - كان الإمام علي في ومضاته الفكرية.

لقد عرفت «نهج البلاغة» في صدر الصبا، بل لعل الصواب هو أني عرفته في أطراف الصبا الأولى، وبقيت منه نغمات في الأذن، ثم أخذت أسمع بعد ذلك - كلما لمع خطيب على منابر السياسة - قول الناس تعليقا على بلاغة الخطيب: لقد قرأ نهج البلاغة وامتلأ بفصاحته، وها أنا ذا أعيد القراءة هذه الأيام، فإذا النغمات قد ازدادت في الأذنين حلاوة، وإذا العبارات كأنها أضافت طلاوة إلى طلاوة، وأما محصول المعنى فلا أدري كيف انكمش أحيانا وراء زخرفه الكثيف.

كلا، لست أعني بزخرف الكلام هنا طلاء يزين به ليخفى على الناس هزاله، بل أعني طريقة في اختيار اللفظ الصلب العنيد، الذي لا يقوى على تشكيله إلا إزميل تحركه يد صناع، وكان يمكن للمعنى نفسه أن يساق في لفظ أيسر منالا، فصنعة الفنان هنا شبيهة بصنعة المثال في الحضارة المصرية القديمة؛ يتخير لتماثيله صم الجلاميد، فكأنما الكاتب هنا كالنحات هناك، أراد عملا أقوى من الدهر دواما وخلودا، لكنني مع ذلك كله أحسست في كثير من مواضع «النهج» أن صلابة اللفظ تهيئني لاستجماع قوتي كلها قبل أن أهم بحمل المعنى الذي قدرت له أن يتناسب مع لفظه قوة، فإذا قوتي التي استجمعتها لم يستنفد منها إلا أقلها، وذهب معظمها هباء.

اقرأ - مثلا - خطبته التي قالها يوم بويع في المدينة، وفيها يخبر الناس بما سوف تئول إليه أحوالهم: «ذمتي بما أقول رهينة، وأنا به زعيم، إن من صرحت له العبر عما بين يديه من المثلات، حجزته التقوى عن تقحم الشبهات، ألا وإن بليتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث الله نبيه

صلى الله عليه وسلم ، والذي بعثه بالحق لتبلبلن بلبلة، ولتغربلن غربلة، ولتساطن سوط القدر، حتى يعود أسفلكم أعلاكم، وأعلاكم أسفلكم، وليسبقن سابقون كانوا قصروا، وليقصرن سباقون كانوا سبقوا ... ألا وإن الخطايا خيل شمس، حمل عليها أهلها، وخلعت لجمها، فتقحمت بهم في النار، ألا وإن التقوى مطايا ذلل ، حمل عليها أهلها، وأعطوا أزمتها، فأوردتهم الجنة؛ حق وباطل، فلئن أمر الباطل لقديما فعل، ولئن قل الحق فلربما ولعل، ولقلما أدبر شيء فأقبل.»

هذا مثل أسوقه، وإني لأدعو القارئ أن يتخيل نفسه كما لو كان واحدا من أهل المدينة آنذاك، وجلس مع الجالسين ليستمع لأمير المؤمنين يوم بيعته، فبأي معنى راسخ يترك مكانه بعد أن سمع الخطاب؟ إن اللفظ هنا - بالنسبة إلينا نحن أبناء هذا العصر - قد نحت من حجر صوان، وصف بعضه إلى بعض صفا عجيبا، فإذا استمعنا إليه، خيل إلينا أنه قد قصد لذاته لا ليلفت السمع إلى معنى وراءه، فترانا قد شغلنا به هو، نعجب لقوته وبراعة تركيبه، لكننا لا نكاد ننفذ منه إلى شيء وراءه.

ليس هذا نقدا لبلاغة «النهج»؛ فبلاغته مقطوع بها، لكنني أردت الإشارة إلى الاختلاف البعيد بين ثقافتين؛ ثقافتنا اليوم، وثقافتهم بالأمس، كانت صياغة اللفظ عندهم هي الهدف وهي الوسيلة، فإذا أجاد صائغ الكلام صوغ كلامه فقد فرغ من مهمته، وأما اليوم فقد حلت - أو كان ينبغي أن تحل - محل الصياغة اللفظية المحكمة، صياغة رياضية محكمة لقانون علمي يمكن استخدامه في تسيير مركبة أو استنبات زرع أو تحلية ماء من البحر الأجاج.

وحذار أن نخلط هنا أمرا بأمر، إننا لا نقول إن عليا - رضي الله عنه - كان ينبغي له يوم بويع أن يقدم للناس برنامجا قوامه تخطيط علمي بني على صيغ رياضية دقيقة، بل نقول: إن فكر المفكر هنا قد اعتمد على بداهة الفطرة، ولا بد أن يكون معيار النبوغ عندئذ بين الناس هو حظ الرجل من تلك البداهة الفطرية، ولما كانت عبقرية العرب الأصيلة في لسانها، كان نبوغ النابغ مشروطا عندهم بالقدرة على الصياغة اللفظية، أما وقد تبدل العصر غير العصر، وتغير المعيار حتى أصبح النابغ يقاس بالقدرة على الصياغة الرياضية للقوانين العلمية، فلم يعد ذلك الجانب من تراثنا مطلوبا لحياتنا، دون أن يحد ذلك مقدار شعرة من قيمته الفنية الأثرية، أئذا أعجبتني عمارة الهياكل في معابد المصريين القدماء، وراعتني فخامة بنائها وشموخ عمدها وجبت علي عبادتهم وصلاتهم؟!

8

على أن بلاغة «النهج» وحكمته، لم يكونا إلا خيطين من رقعة متشابكة الخيوط هي التي أردنا تصويرها؛ لنصور بها رؤيتنا للمرحلة الأولى من مراحل العقل على طريق تراثنا الفكري، وأما ما قصدت إليه من هذه الرقعة المتشابكة الخيوط فهو أول صراع دار حول الخلافة، بين علي ومعاوية، لنرى بأعيننا مشهدا تجسد فيه تراثنا من نواح كثيرة، فهو مشهد اجتمعت فيه فصاحة العرب إلى شجاعتهم، كما ظهرت فيه أساليب الدهاة من ساستهم، وثبتت فيه بذور أولى لأفكار سياسية ومذهبية، كان لها بعد ذلك أقوى الأثر في توجيه التيارات الفكرية، وكل خيط في هذه الرقعة التي تشابكت خيوطها هو «تراث»، فإذا أحسسنا نحن المشاهدين استحسانا هنا ونفورا هناك، إذا أيدنا رجلا ضد رجل، وفكرة على حساب فكرة، كان ذلك دليلا أقوى الدليل على أن بعض التراث صالح لنا دون بعض، وأن طلاسم السحر التي أحطنا بها كلمة «التراث» حتى أوشكت على التقديس، يجب أن تفك لتبصر عيوننا أين ما يصلح من التراث لنحييه وأين ما لا يصلح لحياتنا فنوكل أمره إلى رجال التاريخ.

ونبدأ القصة من بدايتها فنقول: إنه بعد أن بويع علي في المدينة بعد مقتل عثمان، رفض العثمانية (أتباع عثمان) تأييد البيعة، وما هو إلا أن أخذ رجل منهم أصابع نائلة (امرأة عثمان) التي قطعت وقميص عثمان الذي قتل فيه، وقصد إلى الشام، حيث كانت ولاية البلاد لمعاوية، فكان معاوية يعلق قميص عثمان وفيه الأصابع، فإذا رأى ذلك أهل الشام ازدادوا غيظا، وأرادوا الثأر لعثمان. وكان كلما رفع معاوية القميص والأصابع، وفتر الناس عن طلب الثأر، حرضه عمرو بن العاص أن يعيد القميص والأصابع إلى الأنظار، قائلا له: حرك لها حوارها تحن، فيعلقها.

وهكذا بقي أهل الشام، بولاية معاوية، على قلق استبد بهم، يرفضون أن يبايع للمؤمنين أمير بعد عثمان، إلا إذا أخذ القصاص من قتلته، وقد حدث أن بويع علي في المدينة، فبعث بمن يتولى إمارة الشام، لكن هذا المبعوث لم يكد يدخل أرض الشام حتى اعترضته جماعة من الفرسان من أتباع معاوية.

قالوا: من أنت؟

قال: أمير.

قالوا: على أي شيء؟

قال: على الشام.

قالوا: إن كان بعثك عثمان فأهلا بك، وإن كان بعثك غيره فارجع.

قال: أوما سمعتم بالذي كان؟

قالوا: بلى.

رفض أهل الشام تحت إمرة معاوية بيعة علي، وعاد مبعوثه إليه ينبئه بما حدث، فرأي علي كأنما فتنة كالنار على وشك أن تلتهب، لكنه أمسك إلى حين، وأرسل رسولا إلى معاوية يطلب منه الطاعة، فاستخف معاوية أمر الرسول، وتمهل، ثم أرسل بدوره رسولا إلى علي، ودفع إليه طومارا مختوما عنوانه: من معاوية إلى علي، وأعاد رسول علي معه، وقد أوصى معاوية رسوله أنه إذا دخل المدينة رفع الطومار ليراه الناس، وقد فعل، فتبعه الناس ينظرون إليه، وعلموا أن معاوية معترض على بيعة علي، ودخل الرسول على علي فدفع إليه الطومار، ففض ختمه فلم يجد فيه كتابا.

قال علي: ما وراءك؟

أجاب: آمن أنا؟

قال علي: نعم، إن الرسول لا يقتل.

قال: ورائي أني تركت قوما لا يرضون إلا بالثأر.

قال علي: ممن؟

قال: من خيط رقبتك، لقد تركت ستين ألف شيخ تبكي تحت قميص عثمان، وهو منصوب لهم، قد ألبسوه منبر دمشق.

قال علي: أمني يطلبون دم عثمان؟ ألست موتورا كترة عثمان؟ اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان! نجا والله قتلة عثمان إلا أن يشاء الله؛ فإنه إذا أراد أمرا أصابه، اخرج!

قال: وأنا آمن؟

قال علي: وأنت آمن (راجع الكامل لابن الأثير، ج3).

ورأى علي أن لا مفر من القتال مع معاوية، فما إن فرغ من حربه مع عائشة وطلحة والزبير في وقعة الجمل عند البصرة، وقد كان هؤلاء خرجوا على بيعته، حتى انصرف إلى الكوفة لينظر في أمر معاوية، يرسل إليه الرسل أولا؛ ليرى ماذا يكون من أمره قبل أن يغامر في قتاله، فلما قدم رسول علي على معاوية، ماطله هذا واستنظره، ثم قرر أن يتأهب للقتال، ملزما عليا دم عثمان؛ بدعوى أن عليا قد آوى القاتلين.

كان الرجل الذي يشير على معاوية ماذا يفعل وماذا يقول وكيف يكيد، هو عمرو بن العاص، هذا السياسي الداهية، الذي كان فيما يفعل ساعيا لدنياه دون آخرته، ولقد قالها صراحة مرتين؛ قالها مرة لولديه إذ هم في طريقهم إلى دمشق بعد بيعة علي، وقالها مرة أخرى لمعاوية حين لقيه في دمشق فأعرض عنه معاوية، فواجهه عمرو بالعتاب: «والله لعجب لك! إنني أرفدك بما أرفدك وأنت معرض عني، أما والله إن قاتلنا معك نطلب بدم الخليفة، إن في النفس من ذلك ما فيها، حيث تقاتل من تعلم سابقته وفضله وقرابته، ولكنا إنما أرادنا هذه الدنيا»، وإني لحريص على أن يلتفت القارئ إلى عمرو في هذا الموقف بكل ما اكتنفه من مكيدة وتدبير، وأن يذكر منذ الآن أن عمرا هذا، في موقفه هذا، هو جزء من تراثنا، كما أن عليا جزء آخر، ومعاوية جزء ثالث، فلئن كان أحد الثلاثة تسيره خشية الله بما تستلزمه هذه الخشية من مثل عليا في النوايا والسلوك، فاثنان تسيرهما الرغبة في الدنيا وما فيها من جاه وسلطان.

ولن نضيع وقت القارئ في ذكر تفصيلات وقعة صفين بين الفريقين؛ فذكرها تمتلئ به كتب التاريخ، وما إلى كتابة التاريخ قصدنا، ولسنا من رجاله، وإنما نذكر ما نذكره هنا لنضع العناصر الأساسية لصورة كانت هي الإطار الذي تجسد فيه الطابع الذي يميز الفكر العربي في أولى مراحله، وأعني الركون إلى حكم الفطرة بغير تدليل ولا تحليل ولا برهان، وهي صورة - كما أسلفنا القول - امتزج فيها الأدب بالحكمة، ثم امتزج هذان معا بفروسية وسياسة.

بحث علي لعسكره عن موضع ينزل فيه بحيث يتمكنون من ماء الفرات، لكن معاوية كان قد سبق فنزل منزلا اختاره بسيطا واسعا أفيح، وأخذ شريعة الفرات، وليس في ذلك الصقع شريعة غيرها، وجعلها في حيزه، فطلب أصحاب علي شريعة غيرها فلم يجدوا، فأتوا عليا فأخبروه بعطش جنوده، ولا ماء إلا ما كان في حوزة معاوية ورجاله، وأشار المشيرون على معاوية ألا يخلي بين عسكر علي وبين الماء حتى يموتوا عطشا: «امنعهم الماء كما منعوه ابن عفان، اقتلهم عطشا قتلهم الله!»

لم يكن عندئذ بد أمام رجال علي من القتال في سبيل الماء أولا، وألقى علي في ذلك خطبة يقوي بها عزيمة رجاله، جاء فيها: «رووا السيوف من الدماء، ترووا من الماء؛ فالموت في حياتكم مقهورين، والحياة في موتكم قاهرين، ألا وإن معاوية قاد لمة من الغواة، وعمس عليهم الخبر، حتى جعلوا نحورهم أغراض المنية.»

بدأ القتال بين الفريقين؛ أهل العراق تحت راية علي في ناحية، وأهل الشام بإمرة معاوية في ناحية أخرى، وإنهم ليقتتلون آنا، ثم يتبادلون الرسل آنا، في مبارزات ومحاورات شهدت ضروبا أسطورية من الفروسية، ونماذج رائعة من الأدب، ولا بأس هنا من الوقوف بالقارئ لحظة لنعرض عليه أمثلة من حوارهم البليغ، الذي كانت عبارته تنطوي على سياسة بارعة ودهاء (راجع ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة، ج1).

فلما حل شهر المحرم من سنة سبع وثلاثين للهجرة، جرت موادعة بين علي ومعاوية؛ توادعا على ترك الحرب بينهما حتى ينقضي المحرم؛ طمعا في الصلح، واختلفت بينهما إبان تلك الفترة الرسل؛ من هؤلاء كان عدي بن حاتم مبعوثا من علي فجرى بينه وبين معاوية حوار هذا بعضه:

عدي :

إنا أتيناك ندعوك إلى أمر يجمع الله به كلمتنا وأمتنا ونحقن به الدماء، ونصلح ذات البين؛ إن ابن عمك سيد المسلمين، أفضلها سابقة وأحسنها في الإسلام أثرا، وقد استجمع له الناس، ولم يبق أحد غيرك وغير من معك، فاحذر يا معاوية لا يصبك وأصحابك مثل يوم الجمل!

معاوية :

كأنك إنما جئت متهددا، لم تأت مصلحا ... لقد دعوتم إلى الطاعة والجماعة، فأما الجماعة التي دعوتم إليها فمعنا هي، وأما لطاعة لصاحبكم فإنا لا نراها؛ لأن صاحبكم قتل خليفتنا وفرق جماعتنا وآوى ثأرنا، وصاحبكم يزعم أنه لم يقتله، فنحن لا نرد عليه ذلك، فليدفع إلينا قتلة عثمان لنقلتهم، ونحن نجيبكم إلى الطاعة والجماعة.

وبعث معاوية بدوره إلى علي حبيب بن مسلمة:

حبيب :

إن عثمان كان خليفة مهديا، يعمل بكتاب الله وينيب إلى أمره، فاستثقلتم حياته، واستبطأتم وفاته، فعدوتم عليه فقتلتموه، فادفع إلينا قتلة عثمان إن زعمت أنك لم تقتله، ثم اعتزل أمر الناس، فيكون أمرهم شورى بينهم، يولونه من أجمعوا عليه.

علي :

ما أنت وهذا الأمر؟ اسكت؛ فإنك لست هناك، ولا بأهل له.

حبيب :

والله لتريني بحيث تكره!

علي :

وما أنت؟! لا أبقى الله عليك إن أبقيت علينا! اذهب فصوب وصعد ما بدا لك!

فلما انسلخ شهر المحرم، خرج معاوية وعمرو بن العاص، يكتبان الكتائب ويعبئان الناس، وكذلك فعل علي أمير المؤمنين، وقد أوصى جنوده بهذه الوصية الآتية التي اجتمع فيها خلق الإسلام في أرفع مداركه: «لا تقاتلوهم حتى يقاتلوكم؛ فأنتم بحمد الله على حجة، وترككم قتالهم حجة أخرى، فإذا هزمتموهم فلا تقتلوا مدبرا، ولا تجهزوا على جريح، ولا تكشفوا عورة، ولا تمثلوا بقتيل، وإذا وصلتم إلى رحال القوم، فلا تهتكوا سترا، ولا تدخلوا دارا، ولا تأخذوا شيئا من أموالهم ...»

وبعد قتال فيه المبارزة بين قرن وقرنه، وفيه اللقاء بين جماعة وجماعة، لاحت لمعاوية وعمرو الدلائل القاطعة بأن الهزيمة لاحقة بهما، فعدلا عن القراع إلى الخداع، ولا عجب، فهنالك كان الرأي لعمرو بن العاص، الذي ورد في نهج البلاغة قول ابن أبي طالب فيه: «... إنه ليقول فيكذب، ويعد فيخلف، ويسأل فيبخل، ويسأل فيلحف، ويخون العهد، ويقطع الإل (الإل: القرابة، وقطع الإل هو قطع الرحم)، فإذا كان عند الحرب، فأي زاجر وآمر هو، ما لم تأخذ السيوف مآخذها، فإذا كان ذلك كان أكبر مكيدته أن يمنح القرم سبته (يولي الأدبار)، أما والله إني ليمنعني من اللعب ذكر الموت، وإنه ليمنعه من قول الحق نسيان الآخرة، إنه لم يبايع معاوية حتى شرط أن يؤتيه أتية (الأتية: العطية).»

نقول: إنه لما لاحت علامة الهزيمة لمعاوية وعمرو، وأشار عمرو على سيده باللجوء إلى الخديعة، خرج رجل من أهل الشام فنادى: يا أبا الحسن، يا علي، ابرز إلي! فخرج إليه علي.

الرجل :

إن لك يا علي لقدما في الإسلام والهجرة، فهل لك في أمر أعرضه عليك، يكون فيه حقن هذه الدماء؟

علي :

وما هو؟

الرجل :

ترجع إلى عراقك، فنخلي بينك وبين العراق، ونرجع نحن إلى شامنا، فتخلي بيننا وبين الشام.

علي : ... إن الله - تعالى ذكره - لم يرض من أوليائه أن يعصى في الأرض وهم سكوت مذعنون، لا يأمرون بمعروف، ولا ينهون عن منكر، فوجدت القتال أهون علي من معالجة في الأغلال في جهنم.

أيقن معاوية أن قد سدت أمامه المسالك، فسأل عمرو بن العاص ماذا يرى ولم يعد من الهزيمة مهرب؟ فأجابه السياسي الداهية، الذي لم يتورع - كما قال عنه علي في عبارته التي أسلفناها - أن يقيم سياسته على خداع:

عمرو :

إن رجالك لا يقومون لرجاله، ولست مثله؛ هو يقاتلك على أمر، وأنت تقاتله على غيره، أنت تريد البقاء، وهو يريد الفناء، وأهل العراق يخافون منك إن ظفرت بهم، وأهل الشام لا يخافون عليا إن ظفر بهم، ولكن ألق إلى القوم أمرا: إن قبلوه اختلفوا، وإن ردوه اختلفوا؛ ادعهم إلى كتاب الله حكما فيما بينك وبينهم؛ فإنك بالغ به حاجتك في القوم.

معاوية :

صدقت.

فما هو حتى أصبح الصباح، فإذا الناس يرون المصاحف قد ربطت في أطراف الرماح، وقد استقبلوا عليا بمائة مصحف، وميمنة جيشه بمائتي مصحف، وميسرته بمائتين فكان عدد المصاحف المرفوعة على أسنة الرماح خمسمائة، ثم قام المنادون ينادون في علي وجيشه: يا معشر العرب! الله الله في النساء والبنات والأبناء، من الروم والأتراك وأهل فارس غدا إذا فنيتم! الله الله في دينكم! هذا كتاب الله بيننا وبينكم!

فحدث ما توقعه عمرو بن العاص، وهو أن دب بين جماعة علي دبيب الخلاف، فأما علي نفسه، فابتهل إلى ربه قائلا: «اللهم إنك تعلم أنهم ما الكتاب يريدون، فاحكم بيننا وبينهم، إنك أنت الحكم الحق المبين»، وأما أصحاب علي فطائفة منهم قالت: القتال، وطائفة أخرى قالت: المحاكمة إلى الكتاب، ولا يحل لنا الحرب وقد دعينا إلى حكم الكتاب - وعند ذلك بطلت الحرب ووضعت أوزارها.

9

وفي خليط شديد من الحركة والصوت، أخذت صيحات الرجال تعلو من كل جانب ، تدعو إلى الموادعة، فخطب علي في الناس ليردهم إلى صواب: «أيها الناس! إني أحق من أجاب إلى كتاب الله، ولكن معاوية وعمرو بن العاص ومن معهما ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، إني أعرف بهم منكم، صحبتهم صغارا ورجالا، فكانوا شر صغار، وشر رجال، ويحكم! إنها كلمة حق يراد بها باطل! إنهم ما رفعوها لأنهم يعرفونها ويعملون بها، ولكنها الخديعة والوهن والمكيدة، أعيروني سواعدكم وجماجمكم ساعة واحدة؛ فقد بلغ الحق مقطعه، ولم يبق إلا أن يقطع دابر الذين ظلموا.»

فجاءه من أصحابه زهاء عشرين ألفا، مقنعين في الحديد، شاكي سيوفهم على عواتقهم، وقد اسودت جباههم من السجود - وبعض هؤلاء هم الذين صاروا خوارج فيما بعد - فنادوا عليا باسمه لا بإمرة المؤمنين: يا علي! أجب القوم إلى كتاب الله إذ دعيت إليه، وإلا قتلناك كما قتلنا ابن عفان، فوالله لنفعلنها إن لم تجبهم!

فقال لهم: ويحكم! أنا أول من دعا إلى كتاب الله، وأول من أجاب إليه، وليس يحل لي، ولا يسعني في ديني أن أدعى إلى كتاب الله فلا أقبله، إني إنما قاتلتهم ليدينوا بحكم القرآن، فإنهم قد عصوا الله فيما أمرهم، ونقضوا عهده، ونبذوا كتابه، ولكني قد أعلمتكم أنهم قد كادوكم، وأنهم ليس العمل بالقرآن يريدون.

وكان قائد من قواد علي ساعتئذ في قلب معركة مع جند معاوية، وهو الأشتر، وقد أوشك على نصر حاسم، فأصر هذا الفريق الداعي إلى التحكيم، أن يبعث علي في طلب الأشتر من موقعه من ميدان القتال، فأرسل علي رسولا ليأتيه بالأشتر فقال الأشتر للرسول: قل له ليس هذه بالساعة التي ينبغي لك أن تزيلني عن موقفي، إني قد رجوت الفتح فلا تعجلني.

ولم يكد الرسول يبلغ مكان علي ليبلغه إجابة الأشتر، حتى علت أصوات المعركة، وبدا الأمر كأنما الشتر بجيشه قد ظفر بالنصر، فأحاط المعارضون بأمير المؤمنين:

قالوا: والله ما نراك أمرته إلا بالقتال.

قال: أرأيتموني ساررت رسولي إليه؟ أليس إنما كلمته على رءوسكم علانية وأنتم تسمعون؟!

قالوا: فابعث إليه فليأتك ، وإلا فوالله اعتزلناك ، فبعث علي مرة أخرى برسول يحمل الأشتر على ترك المعركة والحضور إليه، وعلى مضض استجاب الأشتر، ولم يكد يبلغ مكان أمير المؤمنين ومن التفوا به يعارضون المضي في القتال، حتى صاح في غضب: يا أهل الذل والوهن! أحين علوتم القوم، وظنوا أنكم لهم قاهرون، رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها! وقد والله تركوا ما أمر الله به فيها، وتركوا من أنزلت عليه، فلا تجيبوهم! ... أمهلوني عدوة الفرس، فإني قد طمعت في النصر.

قالوا: إذن ندخل معك في خطيئتك.

قال: فحدثوني عنكم، وقد قتل أماثلكم، وبقي أراذلكم، متى كنتم محقين؟ أحين كنتم تقتلون أهل الشام؟! فأنتم الآن حين أمستكم عن قتالهم مبطلون! أم أنتم الآن في إمساككم عن القتال محقون؟! فقتلاكم إذن الذين لا تنكرون فضلهم، وأنهم خير منكم، في النار.

قالوا: دعنا منك يا أشتر! قاتلناهم في الله، وندع قتالهم في الله، إنا لسنا نطيعك فاجتنبنا.

قال: خدعتم والله فانخدعتم، ودعيتم إلى وضع الحرب فأجبتم، يا أصحاب الجباه السود! كنا نظن صلاتكم زهادة في الدنيا، وشوقا إلى لقاء الله! فلا أرى فراركم إلا إلى الدنيا من الموت ...

فسبوه وسبهم، وضربوا بسياطهم وجه دابته وضرب بسوطه وجوه دوابهم، ثم كفوا جميعا لما أمرهم علي أن يكفوا، وأطرق هو لحظة إلى الأرض، ثم قال في الناس معاتبا: أيها الناس! إن أمري لم يزل معكم على ما أحب، إلى أن أخذت منكم الحرب، وقد والله أخذت منكم وتركت، وأخذت من عدوكم فلم تترك، وإنها فيهم أنكى وأنهك، ألا إني كنت أمس أمير المؤمنين فأصبحت اليوم مأمورا، وكنت ناهيا فأصبحت منهيا، وقد أحببتم البقاء، وليس لي أن أحملكم على ما تكرهون.

وبعد أخذ ورد بين أنصار علي، ثم بعد تبادل الرسائل بين علي ومعاوية، اتفق الجميع على مبدأ تحكيم القرآن فيما هم فيه، فبعث علي قراء من أهل العراق، وبعث معاوية قراء من أهل الشام، فاجتمعوا بين الصفين ومعهم المصحف، فنظروا فيه وتدارسوا واجتمعوا على أن يحيوا ما أحيا القرآن، ويميتوا ما أمات القرآن ، ورجع كل فريق إلى صاحبه، فقال أهل الشام: إنا قد رضينا واخترنا عمرو بن العاص، وأما أهل العراق، ومنهم كان جيش علي (وهم الذين كانت منهم الفئة التي صارت خوارج فيما بعد) فقالوا: لقد رضينا واخترنا أبا موسى الأشعري.

وها هنا حاول علي أن يحمل رجاله الذين اختاروا أبا موسى الأشعري ليتكلم عنهم، على أن يعدلوا عن اختيارهم هذا، وأخذ يعرض عليهم اسما بعد اسم؛ لعلهم يوافقون، لكنهم أصروا على اختيارهم.

واجتمع الموفدان، وأخذا في كتابة الوثيقة التي يكون عليها الموادعة بين الفريقين، فاقترح أن تبدأ هكذا: «هذا ما تقاضى عليه علي أمير المؤمنين ومعاوية بن أبي سفيان ...»

فقال معاوية: بئس الرجل أنا إن أقررت أنه أمير المؤمنين ثم قاتلته!

وقال عمرو بن العاص: بل نكتب اسمه واسم أبيه، إنما هو أميركم، فأما أميرنا فلا.

ثم انتهت المجادلة بتنازل علي عن ذكر إمرته في الوثيقة، فجاءت آخر الأمر هكذا: «هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان ...»

فلما تم الكتاب، وشهدت فيه الشهود، قرئ على صفوف من أهل الشام فرضوا به، لكنه لما قرئ على صفوف من جماعة علي، صاح منهم فتيان قائلين: «لا حكم إلا لله» ... وما لبثت هذه العبارة أن سرت في سائر الصفوف، فلم يعد يخلو صف منها من قائل أو أكثر، يصيحون: لا حكم إلا لله، فنحن لا نحكم الرجال في دين الله، لا حكم إلا لله ولو كره المشركون، لا حكم إلا لله، يقضي بالحق وهو خير الفاصلين.

وظن علي أول الأمر أن المعارضين لوثيقة الموادعة، القائلين «لا حكم إلا لله»، قليلون لا يعبأ بهم، فما هو إلا أن سمع النداء يأتيه من كل ناحية: لا حكم إلا لله، الحكم لله يا علي لا لك! لا نرضى بأن يحكم الرجال في دين الله، إن الله قد أمضى حكمه في معاوية وأصحابه، أن يقتلوا أو يدخلوا تحت حكمنا عليهم، وقد كنا زللنا وأخطأنا حين رضينا بالحكمين، وقد بان لنا زللنا وخطؤنا، فرجعنا إلى الله وتبنا، فارجع أنت يا علي كما رجعنا، وتب إلى الله كما تبنا، وإلا برئنا منك!

فقال علي: ويحكم! أبعد الرضا والميثاق والعهد نرجع؟!

كان هؤلاء هم من أطلق عليهم بعد ذلك اسم «الخوارج»؛ على أن فئة الخوارج هذه لم تكد تعلن خروجها على التحكيم، حتى انقلبت فيما بعد تيارا سياسيا عميقا، أخذ يتفرع فروعا.

ونعود إلى عملية التحكيم كيف سارت، وإلام انتهت؛ فقد أخذ الحكمان يتقارعان الرأي بالرأي على مسمع من الناس، وشاء دهاء عمرو بن العاص أن يقدم أبا موسى على نفسه في الكلام؛ تمهيدا لمكيدة يدبرها، فيقول له مثلا: إنك صحبت رسول الله صلى الله عليه قبلي، وأنت أكبر مني سنا، فتكلم أنت، وكان مرمى الخديعة هو أنه إذا ما جاءت لحظة الخلع، فيعلن كل منهما خلع صاحبه، تكون البداية لأبي موسى، فيخلع صاحبه عليا، ثم يجيء دور الكلام لعمرو، فيأبى ... وذلك هو ما حدث.

عمرو :

أخبرني ما رأيك يا أبا موسى؟

أبو موسى :

أرى أن نخلع هذين الرجلين، ونجعل الأمر شورى بين المسلمين، يختارون من شاءوا.

عمرو :

الرأي والله ما رأيت.

وهنا يعلن أبو موسى في الناس، قائلا: إن رأيي ورأي عمرو قد اتفق على أمر نرجو أن يصلح الله به شأن هذه الأمة.

فقال عمرو: صدق! تقدم يا أبا موسى فتكلم.

وقام ليتكلم، فاعترضه ابن عباس قائلا: ويحك! والله إني لأظنه قد خدعك! إن كنتما قد اتفقتما على أمر، فقدمه قبلك ليتكلم به، ثم تكلم أنت بعده؛ فإنه رجل غدار!

لكن أبا موسى لم يأبه لتحذير ابن عباس، ومضى ليعلن في الناس: أيها الناس، إنا قد نظرنا في أمر هذه الأمة، فلم نر شيئا هو أصلح لأمرها، ولا ألم لشعثها من ألا تتباين أمورها، وقد أجمع رأيي ورأي صاحبي على خلع علي ومعاوية وأن يستقبل هذا الأمر، فيكون شورى بين المسلمين يولون أمورهم من أحبوا، وإني قد خلعت عليا ومعاوية، فاستقبلوا أموركم، وولوا من رأيتموه لهذا الأمر أهلا.

فقام عمرو بن العاص ليعلن: إن هذا قد قال ما سمعتم، وخلع صاحبه، وأنا أخلع صاحبه كما خلعه، وأثبت صاحبي معاوية في الخلافة؛ فإنه ولي عثمان، والطالب بدمه وأحق الناس بمقامه.

10

من خدعة التحكيم انبثقت دولة؛ هي الدولة الأموية، ومنها كذلك تفجرت فلسفة للسياسة، بدت بوادرها في جماعة الخوارج ومن عارضوهم، أما الأولى فلا نقف عندها لأنها من شأن من رصد نفسه لكتابة التاريخ، وأما الثانية فهي التي تعنينا؛ لأنها مسألة فكرية تعرض للعقل الإنساني في كل زمان أو مكان؛ إذ ما زال الناس إلى يومهم هذا من أواخر القرن العشرين، يسألون: لمن يكون الحكم؟ فلا يجد السؤال جوابا يتفق عليه الجميع، وكان الخوارج في تاريخ المسلمين هم أول من طرحوا علينا هذا السؤال.

إن كاتب هذه الصفحات ليأخذه بهؤلاء الخوارج العجب آنا والإعجاب آنا.

فأما العجب من الخوارج فمصدره تناقض في موقفهم عجيب، وأما الإعجاب بهم فهو فيما انتهوا إليه من مبادئ في سياسة الحكم، لو كان المسلمون قد أخذوا بها مخلصين، لكان لهم - في رأي هذا الكاتب - شأن آخر، ومن أهم تلك المبادئ أن الحكم يكون لصاحب القدرة عليه لا للوارثين ولا للأقوياء أو الأغنياء، وأنه لا يجوز أن يكون بين العقيدة والعمل بها فجوة تفصلهما، فإذا آمن إنسان بفكرة على أنها الأصلح، وجب أن يفنى في سبيل تحقيقها.

ولنبدأ بما نراه في موقفهم من تناقض؛ فيم كان حثهم عليا أن يقبل التحكيم حين رفع معاوية ورجاله المصاحف على أطراف رماحهم، حتى إذا ما قبل التحكيم على نحو ما بينا وانتهى إلى ما انتهى إليه، صاحوا: «لا حكم إلا لله» وتنكروا لما أسفرت عنه عملية التحكيم؟! ثم ما الفرق بين أن يحتكم المحكمون للقرآن، وبين أن يكون الحكم لله؟!

ولقد كنت لأرتاب في قدرتي على فهم الموقف على حقيقته، لولا أني أقرأ لعلي نفسه في «نهج البلاغة» ما يدل على أنه هو الآخر كان في عجب من تناقضهم، فلتقرأ له - مثلا - هذه الخطبة، قالها بعد التحكيم: «الحمد لله، وإن أتى الدهر بالخطب الفادح، والحدث الجليل ... أما بعد، فإن معصية الناصح الشفيق العالم المجرب، تورث الحسرة، وتعقب الندامة، وقد كنت أمرتكم في هذه الحكومة أمري، ونخلت لكم مخزون رأيي، لو كان يطاع لقصير أمر! فأبيتم علي إباء المخالفين الجفاة، والمنابذين العصاة، حتى ارتاب الناصح بنصحه، وضن الزند بقدحه، فكنت أنا وإياكم كما قال أخو هوازن:

أمرتكم أمري بمنعرج اللوى

فلم تستبينوا النصح إلا ضحى الغد.»

ثم لنقرأ هذه الخطبة لعلي أيضا: «... قد كنت نهيتكم عن هذه الحكومة، فأبيتم علي إباء المخالفين المنابذين، حتى صرفت رأيي إلى هواكم، وأنتم معاشر أخفاء الهام، سفهاء الأحلام.»

وقيل: إن عليا أرسل إليهم عبد الله بن عباس ليناظرهم في شأن موقفهم، فجرى بينه وبينهم هذا الحوار:

ابن عباس :

ما الذي نقمتم على أمير المؤمنين؟

الخوارج :

قد كان للمؤمنين أميرا، فلما حكم في دين الله خرج من الإيمان! فليتب بعد إقراره بالكفر نعد إليه.

ابن عباس :

ما ينبغي لمؤمن لم يشب إيمانه بشك أن يقر على نفسه بالكفر.

الخوارج :

إنه حكم.

ابن عباس :

إن الله أمر بالتحكيم في قتل صيد، إذ قال تعالى:

يحكم به ذوا عدل منكم

فكيف في إمامة قد أشكلت على المسلمين؟!

الخوارج :

إنه حكم عليه فلم يرض.

ابن عباس :

إن الحكومة كالإمامة، ومتى فسق الإمام وجبت معصيته، وكذلك الحكمان لما خالفا نبذت أقاويلهما.

ولم يكتف أمير المؤمنين ببعثة عبد الله بن عباس إليهم ليحاجهم، بل لقيهم هو بنفسه ليواصل معهم الحجاج:

علي :

ألا تعلمون أن هؤلاء القوم لما رفعوا المصاحف قلت لكم: إن هذه مكيدة ووهن، وأنهم لو قصدوا إلى حكم المصاحف لأتوني، وسألوني التحكيم؟ أفتعلمون أن أحدا كان أكره للتحكيم مني؟

الخوارج :

صدقت.

علي :

فهل تعلمون أنكم استكرهتموني على ذلك حتى أجبتم إليه، فاشترطت أن حكمهما نافذ ما حكما بحكم الله، فمتى خالفاه فأنا وأنتم من ذلك برآء، وأنتم تعلمون أن حكم الله لا يعدوني!

الخوارج :

اللهم نعم ... حكمت في دين الله برأينا، ونحن مقرون بأنا كنا كفرنا، ولكنا الآن تائبون، فأقر بمثل ما أقررنا به ، وتب، ننهض معك إلى الشام.

علي :

أما تعلمون أن الله تعالى قد أمر بالتحكيم في شقاق بين الرجل وامرأته، فقال سبحانه:

فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ، وفي صيد أصيب كأرنب يساوي نصف درهم، فقال:

يحكم به ذوا عدل منكم ؟

الخوارج :

إن عمرا لما أبى عليك أن تقول في كتابك: «هذا ما كتبه عبد الله علي أمير المؤمنين» ... محوت اسمك من الخلافة، وكتبت: «علي بن أبي طالب» فقد خلعت نفسك.

هكذا ركب الخوارج رءوسهم في مناهضتهم لعلي؛ يحاجونه، لكنه حجاج من لا يريد الإذعان، فالعجب كل العجب لهذه الفئة التي أعلنت مبدأها السياسي في أن يكون الحكم للأصلح، بغض النظر عن أي صفة أخرى فيه، فكان مبدأ قمينا أن يقيم للحكم العادل بين الناس أقوى الأسس، ومع ذلك فقد كانت هذه الفئة نفسها هي التي أظهرت من العنت وضيق النظر والاستبداد بالرأي ما لا يقره عقل سليم.

فانظر إلى هؤلاء الناس وهم يفتكون فتكا بمن خالفهم في الرأي، كأنما كان الرأي السديد حكرا لهم، فهذا هو رجل من أتقى المسلمين عندئذ، وكان من أصحاب الرسول عليه السلام، هو عبد الله بن خباب، سمع بقدوم طائفة من الخوارج إلى حيث كان يقيم، يتهددون الناس بالقتل إذا لم يساندوهم في الرأي، فخرج الرجل مع امرأته - وكانت حبلى - خرج مذعورا، يعلق مصحفا حول عنقه، فبادروه بالقول:

الخوارج :

إن هذا الذي في عنقك ليأمرنا بقتلك.

ابن خباب :

ما أحياه القرآن فأحيوه، وما أماته فأميتوه!

الخوارج : ... ما تقول في علي بعد التحكيم والحكومة؟

ابن خباب :

إن عليا أعلم بالله، وأشد توقيا على دينه، وأنفذ بصيرة.

الخوارج :

إنك لست تتبع الهدى، إنما تتبع الرجال على أسمائهم.

ثم قربوه إلى شاطئ النهر، فأضجعوه، فذبحوه، ثم دعوا بامرأته الحبلى فبقروا عما في بطنها!

فمن ذا يصدق أن هؤلاء أنفسهم، ودماء قتلاهم لم تزل على أبدانهم شاهدا عليهم، رأوا نصرانيا ساعتئذ يملك نخلة أرادوا شراء ثمرها، فقال: هي لكم، فأجابوه في شموخ: ما كنا لنأخذها إلا بثمن! فقال النصراني: واعجباه! أتقتلون مثل عبد الله بن خباب، ولا تقبلون جنى نخلة إلا بثمن!

ألا إنه لتناقض يوشك أن يبلغ في هؤلاء الناس حد الفصام، فكأن جلودهم يسكنها روحان متباينان، تظهر إحداهما لحظة لتظهر الأخرى في اللحظة التي تليها، فلا تدري في أي اللحظتين يمكن أن تراهم على حقيقتهم! ومن طريف أخبارهم التي تبرز ما فيهم من تناقض شديد، أنهم قد أصابوا في بعض طريقهم مسلما على خلاف معتقدهم، ونصرانيا، فقتلوا المسلم؛ لأنه عندهم كافر، وخلوا سبيل النصراني؛ لأنه من أهل الذمة.

ومن هذا القبيل ما روي من أن واصل بن عطاء كان يسير مع جماعة من رفاقه، فأحسوا بالخوارج، فقال واصل لرفقائه: دعوني وإياهم.

الخوارج :

ما أنت وأصحابك؟

واصل :

قوم مشركون مستجيرون بكم؛ ليسمعوا كلام الله ويفهموا حدوده.

الخوارج :

قد أجرناكم ...

واصل :

بل تبلغوننا مأمننا؛ لأن الله تعالى يقول:

وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه .

الخوارج :

ذاك لكم.

فساروا معهم حتى أبلغوهم المأمن.

إن هذه المجافاة لمنطق العقل التي نراها قد بلغت عند هؤلاء القوم ذروتها، لتستدعي إلى أذهاننا ما يوازن الصورة قبل أن نتسرع فنحكم بالخلل الفكري على العصر كله، إذ يستدعي إلى أذهاننا موقفا من علي وقفه في تلك الأيام نفسها، وأظهر فيه من الاعتصام بأحكام العقل ما يجعله الرائد الذي نأتم به ونحيي تراثه في حياتنا الراهنة إذ روي عنه أنه لما هم بالخروج لمقاتلة الخوارج، اعترضه منجم، فدار بينهما هذا الحديث:

المنجم :

يا أمير المؤمنين، لا تسر في هذه الساعة، وسر على ثلاث ساعات مضين من النهار؛ فإنك إن سرت في هذه الساعة أصابك وأصحابك أذى وضر شديد، وإن سرت في الساعة التي أمرتك بها ظفرت وظهرت، وأصبت ما طلبت.

علي :

أتدري ما في بطن فرسي هذه؟ أذكر هو أم أنثى؟

المنجم :

إن حسبت علمت.

علي :

من صدقك بهذا فقد كذب بالقرآن؛ قال الله تعالى:

إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام ... إن محمدا صلى الله عليه ما كان يدعي علم ما ادعيت علمه، أتزعم أنك تهدي إلى الساعة التي يصيب النفع من سار فيها، وتصرف عن الساعة التي يحيق السوء بمن سار فيها؟! فمن صدقك بهذا فقد استغنى عن الاستعانة بالله جل ذكره في صرف المكروه عنه، وينبغي للموقن بأمرك أن يوليك الحمد دون الله جل جلاله ... نخالف ونسير في الساعة التي نهيتنا عنها [ثم خاطب الناس قائلا]: أيها الناس، إياكم والتعلم للنجوم إلا ما يهتدى به في ظلمات البر والبحر ... [وعاد إلى مخاطبة المنجم] أما والله لئن بلغني أنك تعمل بالنجوم لأخلدنك السجن أبدا ما بقيت، ولأحرمنك العطاء ما كان لي من سلطان.

ثم سار في الساعة التي نهاه عنها المنجم، فانتصر على من قاتلهم من الخوارج، فقال: لو سرنا في الساعة التي أمرنا بها المنجم لقال الناس: سار في الساعة التي أمر بها المنجم فظفر وظهر، أما إنه ما كان لمحمد صلى الله عليه منجم، ولا لنا من بعده، حتى فتح الله علينا بلاد كسرى وقيصر، أيها الناس، توكلوا على الله، وثقوا به؛ فإنه يكفي ممن سواه.

11

لقد بسطنا كل هذا الذي بسطناه عما دار في صفين بين علي ومعاوية ومن أحاط بهما من رءوس وأعلام، لنقف نحن من الصراع مشاهدين، نشاهد هؤلاء الرجال ومعنا نظرة القرن العشرين، لعلنا نستطيع أن نزن الموقف من ناحيته الفكرية، فإلى أي حد يدخل منطق العقل في أفعال الرجال وردود أفعالهم؟ أم هل كانت الغلبة في سلوكهم لدفعة الوجدان؟ وأحسبنا فيما قد عرضناه من تفصيلات القتال وفيما تبادله الجانبان من محاورة ومداورة قد أحسسنا بكثير من الغرابة في مواقف لا نألفها بل لا نسيغها في حياتنا الحاضرة، كما أحسسنا في الوقت نفسه بحقيقة الإنسان التي ما زلنا نألفها في معاصرينا قد تجلت فيما شهدناه، كأنما الإنسان هو الإنسان في تفكيره وتدبيره، وحيلته ودهائه، لا فرق في ذلك بين أن يكون هذا الإنسان ممن عاشوا قبل المسيح أو بعد المسيح، أو عاشوا في صدر الإسلام، أو ما بعد الصدر إلى الظهور والأعجاز، حتى لقد عن لي وأنا أكتب الصفحات السالفة أن أبدل أسماء بأسماء، فإذا الموقف في إطاره العام هو نفسه الموقف الذي يتكرر في تاريخ البشر كلما اختصم رجلان على الحكم، فجند كل من الرجلين أتباعا وأشياعا، ثم تلاقيا في ساحة القتال أو لجآ إلى وسائل المكر والدهاء والخديعة، مما يسمى في قاموس السلوك البشري بكلمة «السياسة».

فأما وجه الغرابة التي لا نألفها في حياتنا المعاصرة، فهو هذا الجمع العجيب - والجميل - في رجل واحد بين أن يكون هو الفارس الذي يجيد القتال بسيفه وجواده، وهو السياسي الذي يجادل ويقاول، وهو الأديب الذي يحسن صياغة اللفظ في أروع ما تكون الصياغة الأدبية. إن السياسي في يومنا هذا قد تكون له موهبة الكلام خطابة وكتابة، لكنه لا يضيف إلى ذلك مهارة القتال وشجاعة المحاربين، ثم لا يضيف إلى هذا وهذا وذاك حكمة الفلاسفة التي تنزع بصاحبها نحو ضم الكون كله في أحكام موجزة مركزة، نافذة إلى صميم الحق.

لكن اجمع هذه الأطراف كلها في رجل، يكن لك علي بن أبي طالب، فلئن كان الموقف في واقعة صفين - الذي اخترناه ليكون أول المواقف التي نعايش فيها الأسلاف لننظر إليهم ثم نحكم لهم أو عليهم - أقول: إنه إن كان ذلك الموقف قد دارت رحاه حول عدة أقطاب لا حول قطب واحد؛ فهنالك علي في ناحية، ومعاوية في ناحية، وهنالك عمرو بن العاص يعاون معاوية بدهائه، وهنالك أوائل الخوارج يعارضون عليا بتناقضهم في الفكر وبتزمتهم في العقيدة، إلا أنني إذا اخترت واحدا ليكون هو المرآة التي نركز عليها أنظارنا لنفهم تلك الحقبة الزمنية من حيث طرائق إدراكها لقلت: إنه علي وليس هو معاوية ولا عمرا ولا الخوارج، لماذا؟ لسبب بسيط يتصل بموضوعي وهدفي، وهو أن له كتابا ينسب إليه، أعني «نهج البلاغة»، ولا شأن لي بعد هذا بتقويم الرجال لأرى من يكون منهم أعلى ومن يكون أدنى، أو من يكون منهم على صواب ومن يكون على خطأ ؛ لأن ذلك ليس هو ما أكتب فيه هذه الصفحات، وإنما شأني كل شأني هو المرحلة الفكرية التي عاشوها، وطريقتهم في الإدراك والحكم. ومن ثم يكون المعبر منهم عن فكرته في عبارة أجدها بين يدي، أصلح لتركيز النظر ممن لم يهبه الله قدرة الإعراب عن نفسه إعرابا يمكننا نحن الخلف من رؤية عقله في عبارته.

ولقد زعمت في الفصل السابق أن المرحلة الإدراكية الأولى من مراحل تراثنا الفكري، كان يغلب عليها طابع الفطرة السليمة، التي تحدس الحقيقة حدسا نافذا، يصل إلى الحكم العام بغير تحليل لعناصره أو إقامة البرهان على صوابه، ولست أدري هل أحس القارئ ما أحسسته، ونحن نستعرض معا ما تفاعل به المحاربون في واقعة صفين، من أن الرجل منهم كان يمسك بالفكرة المعينة وكأنه يمسك بسيفه أو يمتطي جواده، أعني أن «الفكرة» عندئذ لم تكن نظرية مجردة، بل كانت أقرب إلى أداة من أدوات الحرب؛ ولذلك فقد تشابكت الأفكار مع السيوف والجياد في نسيج واحد، لا نفرق فيه بين خيط وخيط.

وبعد ذلك فقلب معي صفحات الرائعة الأدبية التي تسمى «نهج البلاغة» وقل لي: أين ينتهي الأديب ليبدأ الفيلسوف؟ وأين ينتهي الفيلسوف الأديب ليبدأ الفارس؟ ثم أين ينتهي هذا ليبدأ السياسي؟ إنه لا فواصل ولا فوارق؛ ففي هذه المختارات خطب ورسائل وأحكام وحجاج وشواهد امتزج فيها الأدب بالحكمة، والحكمة بالأريحية، وهاتان بما نسميه اليوم سياسة يسوس بها الحاكم شعبه، أو يداور بها المفاوض خصمه ويحاوره.

فلنقرأ للإمام علي هذه العبارات لنرى كيف صيغت الأحكام الفلسفية العامة في لفظ أخاذ: - من ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق. - قلما أدبر شيء فأقبل. - كفى بالمرء جهلا ألا يعرف قدره. - لسان الصدق خير من المال الموروث. - ما غزي قوم قط في عقر دارهم إلا ذلوا. - لا رأي لمن لا يطاع. - الوفاء توءم الصدق. - ليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه. - المنجم كالكاهن، والكاهن كالساحر، والساحر كالكافر، والكافر في النار. - إن أنصح الناس لنفسه أطوعهم لربه، وإن أغشهم لنفسه أعصاهم لربه . - ما كل ذي قلب بلبيب، ولا كل ذي سمع بسميع، ولا كل ناظر ببصير. - من عشق شيئا أعشى بصره، وأمرض قلبه. - كم من منقوص رابح، ومزيد خاسر! - إن يد الله مع الجماعة، وإياكم والفرقة؛ فإن الشاذ من الناس للشيطان، كما أن الشاذ من الغنم للذئب. - الحكمة حياة للقلب الميت، وبصر للعين العمياء. - العامل بغير علم كالسائر على غير طريق.

وهاك أمثلة من طريقته في المناظرة والجدل؛ لترى كيف اجتمع عنده حس الأديب بذهن المفكر. [لما نقل إليه جماعة من الناس أنباء السقيفة من مبايعة أبي بكر للخلافة.]

قال: ما قالت الأنصار؟

قالوا: قالت: منا أمير ومنكم أمير.

قال: فهلا احتججتم عليهم بأن رسول الله

صلى الله عليه وسلم

وصى بأن يحسن إلى محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم؟

قالوا: وما في هذا من الحجة عليهم؟

قال: لو كانت الإمامة فيهم، لم تكن الوصية بهم ... فماذا قالت قريش؟

قالوا: احتجت بأنها شجرة الرسول

صلى الله عليه وسلم .

قال: احتجوا بالشجرة، وأضاعوا الثمرة.

وإن النصوص ليطول بنا نقلها إلى القارئ ما طال «نهج البلاغة»، فخير للقارئ أن يرجع إليه ليطالع نفسا قد اجتمع فيها ما يصور عصرها من حيث الركون في إدراك حقائق الأمور، إلى سلامة السليقة، وحضور البديهة، وصدق البصيرة، بغير حاجة إلى تحليلات العقل وتعليلاته، ولا إلى طريقة المناطقة في جمع الشواهد وترتيب النتائج على المقدمات؛ فهذه كلها أمور موعد ظهورها - في الأفراد وفي الجماعات وفي الثقافات والحضارات - إنما يكون في المرحلة الثانية من مراحل النمو، كما أشرنا في الفصل السابق.

إذن فلننتقل إلى هذه المرحلة الثانية من مراحل النمو الثقافي كما نراه في تراثنا الفكري.

الفصل الثالث

مصباح العقل في مشكاة التجربة

12

قدمنا لك في الفصل الأول خطة السير التي رسمناها لأنفسنا؛ لنهتدي بمعالمها في التماسنا لطريق العقل في تراثنا الفكري، وقد جعلنا تلك المعالم مدارج الإدراك التي رآها الإمام الغزالي عند تأويله لآية النور، والتي هي نفسها - على وجه التقريب - مدارج الإدراك التي أشار إليها الفيلسوف المعاصر «وايتهد» عند حديثه عن أهداف التربية ، وهي درجات تتداخل كلما صعدنا سلم النمو، أواخر الدرجة السابقة في أوائل الدرجة اللاحقة، شأنها في ذلك شأن التدرج أينما وجدناه في ظواهر الطبيعة ومظاهر الفكر على حد سواء؛ فمن إدراك بالحواس يستمد ذخيرته من دنيا الواقع مباشرة أثناء مكابدة الإنسان لما يعتوره من أزمات وما يعترضه من مشكلات؛ إلى إدراك بالعقل قوامه تقنين القوانين التي تحمل في طيها أحكاما عامة انتزعت من المواقف المفردة الجزئية التي خاضها الإنسان في معمعان حياته بكل ما فيها من ضروب الكد والكدح والصراع؛ إلى ارتفاع بهذه القوانين العامة نفسها إلى مبادئ أعم منها، كل مبدأ منها يطوي تحت جناحيه عدة قوانين دفعة واحدة، جاعلا منها أسرة متجانسة؛ إلى محاولة أخيرة للوصول بهذه المبادئ الأولى إلى المعين الذي تدفقت منه في أذهاننا كأنها الومضات التي تضيء أمام الإنسان طريق الهداية، ولقد بسطنا أمام أنظارنا موقفا معينا بكثير من تفصيلاته، هو واقعة صفين بين علي ومعاوية؛ لنرى أسلافنا رأي العين إذ هم يخوضون عباب حياتهم الفعلية الواقعة؛ كيف كانوا يفكرون ويسلكون، وزعمنا أنهم في موقفهم ذاك - فيما رأينا - إنما كانوا مثلا واضحا للمرحلة الإدراكية الأولى، القائمة على أحكام البديهة الفطرية، فلم تكن الفكرة لديهم وليدة قراءة ودرس، ولا وليدة تأمل طويل في صورة مجردة نظرية، بل كانت الفكرة لديهم تأتي فور لحظتها لترد على موقف طارئ، كأنما هي الكرة يقذف بها لاعب ليردها إليه لاعب آخر في غير تمهل ولا إرجاء، وإذن فقد كانت هذه هي الصورة لحياة الإدراك في مرحلتها الأولى من مراحل تراثنا الفكري، وكان ذلك خلال القرن السابع الميلادي (الأول الهجري) على وجه التقريب.

وسبيلنا الآن إلى الانتقال مع تلك الحياة الإدراكية في تراثنا إلى مرحلتها الثانية، التي هي مرحلة التفكير العقلي الذي نجد قوامه في تقعيد القواعد لما قد كان أشتاتا متناثرة، أو قل: إن قوامه هو في رد التجارب الجزئية والخبرات المفردة إلى أحكام عامة تضمها معا في شمل واحد.

وإن هذا التعميم في أحكامنا - لو أحسنت صياغته وسلم من الخطأ - لهو في صميم المنهج العلمي، بل هو في صميم العلم ذاته، فما العلم؟ إنه لا يعرف بموضوع معين؛ لأن موضوعات البحث العلمي قد تتعدد، فقد يكون موضوع الباحث العلمي هو تركيب المادة أو هو التفاعل بين عنصرين أو أكثر من عناصر المادة، أو قد يكون موضوعه هو حركة الأفلاك أو مسار الضوء أو سرعة الصوت أو فاعلية الكهرباء، أو قد يكون موضوعه هو غزوة الهكسوس على مصر، أو سقوط المطر أو هبوب الريح، أو قد يكون موضوعه أوزان الشعر العربي أو خصائص فن العمارة في عصر من العصور، وهكذا وهكذا إلى ما ليس له آخر من موضوعات شتى يتناولها رجال العلم بالبحث، وكلها - على اختلافها الشديد الذي تراه - علوم، وإذن فمحال أن نعرف العلم بنوع الموضوع الذي يطرحه للبحث، لكننا نكون أقرب إلى الصواب إذا عرفنا العلم بمنهجه لا بموضوعه، فاختر أي موضوع تشاء، وابحثه بطريقة معينة لها شروطها وحدودها تكن من العلماء، ويكن موضوعك هذا جزءا من العلم.

ولهذا المنهج الذي يميز العلم مما سواه خصائص كثيرة، لعل أولها وأهمها هو أن نلتمس الأحكام العامة من المفردات؛ شريطة أن نكون على حذر شديد وعلى دقة صارمة؛ لكي تجيء تلك الأحكام العامة صورة صحيحة لما يقع بالفعل في دنيا الوقائع، وبهذا يمكن تطبيقها على أرض الواقع فتنطبق، وتصبح أداة هادية للإنسان في حياته العملية.

فإذا كانت المرحلة الإدراكية الأولى خوضا في عباب الحياة كما تقع لنا مواقفها بالفعل، فإن المرحلة الإدراكية الثانية هي تجريد من تلك الحياة الفعلية العملية لما عسى أن نجرده من قوانين ومبادئ وأحكام، والذي نحن زاعموه هنا هو أننا إذ ننتقل مع أسلافنا من القرن السابع الميلادي إلى القرن الثامن، فنحن بذلك إنما ننتقل من إدراك الفطرة والتجربة والمعاناة إلى الإدراك العلمي في أولى درجاته على الأقل، فقد كان العرب يتكلمون لغتهم في القرن السابع وما قبل القرن السابع، لكنهم لم يستخرجوا لتلك اللغة قواعدها إلا حين أخذوا في التفكير العلمي، وكان لهم شعر ينظمونه ، لكنهم لم يجردوا من ذلك الشعر موسيقاه - أي تفعيلاته وأوزانه - إلا حين أخذوا يفكرون على نهج العلم ومنطقه، وهكذا. لقد كانت مرحلتهم الأولى تقابل المشكاة من مصادر النور، وها هم الآن - مع القرن الثامن - قد بدءوا مرحلة أخرى تقابل المصباح في المشكاة، آخذين هنا بتأويل الغزالي لآية النور.

13

المشكلات الفكرية تجيء نابضة بالحياة حين تنبت في تربة الحياة العملية نفسها، كما نكابدها ونعانيها، لكنها تجيء مفتعلة باردة حين تنتزع من محيطها انتزاعا لتنقل إلى محيط آخر لا تتنفس هواءه ولا تحيا تحت سمائه، وأقول هذا وفي ذهني دنيانا الثقافية التي نعيشها - نحن العرب المعاصرين - اليوم، حيث كثير من المشكلات التي يتناولها أئمة هذه الدنيا الثقافية التي يعيشها العرب المعاصرون، لا تمت إلينا بسبب واضح، ومن ثم كان مثقفونا في واد وجمهور الناس في واد آخر؛ فمثقفونا يقرءون - على الأغلب - لغة أوروبية، ويصادفون في كتبها وصحفها مسائل يطرحها كتاب تلك اللغة؛ لأنها تعترضهم في مجرى حياتهم، فما هو إلا أن يصبح الصباح بمثقفينا هؤلاء، وإذا تلك المسائل نفسها بحلولها نفسها قد سالت على أقلامهم مقالات عربية في الصحف والمجلات والكتب، ثم يقرأ القارئ المسكين، وقد يفهم وقد لا يفهم محور المشكلة المطروحة وطريقة حلها، لكنه بدوره يريد أن يسلك في زمرة المثقفين، فسرعان ما يردد مقروءه في المجالس التي يرتادها، ولو وقف الأمر عند هذا الحد لهان، لكن نتيجة فادحة تنتج بالضرورة، وهي أن جمهور الناس من غير المثقفين يعانون في حياتهم مواقف بعينها ومشكلات بذاتها، وكانوا يودون أن يسمعوا عنها ما يهديهم سواء السبيل، فلا يجدون هذه الهداية عند المثقفين، فيلوذون معذورين بمن يحل لهم مشكلاتهم بالخرافات، فيحضر لهم أرواح الموتى لعلها تهدي برأي، أو يلجأ إلى صاحب كرامات؛ عسى أن يشير إلى طريق.

لكن ذلك استطراد منا عما كنا بصدد الحديث فيه، فلنعد مسرعين إلى موضوع الحديث، لنقول مرة أخرى: إن المشكلات الفكرية تنبض عند أصحابها بالحياة حين تنبت معهم في أرض حياتهم العملية ذاتها، وهكذا كانت الحال مع أسلافنا عندما طرحت أمامهم مشكلة نظرية تريد حلا مقنعا، ولعلها كانت أول مشكلة نظرية تطرح أمامهم للبحث النظري، وأعني بها مشكلة الذنوب الكبيرة؛ ماذا يكون الحكم السديد بالنسبة إلى مقترفيها؟

إنهم لم ينزعوا هذه المشكلة من الهواء، بل انبثقت لهم انبثاقا من أرض الحوادث، وفرضت نفسها على عقولهم فرضا؛ نتيجة لازمة لواقعتي الجمل وصفين؛ ففي كلتا الحالتين كان نفر من أمة المسلمين يقاتلون نفرا من أئمة المسلمين، وإذن فبين الفريقين خلاف احتد إلى درجة القتال وسفك الدماء، ولم يكن الأمر عندئذ يعدو أن يكون أحد الفريقين على الأقل على غير صواب، إن لم يكن الفريقان معا، وأما أن يكون كلاهما على صواب فضرب من المحال، ومعنى ذلك أن أحد الفريقين على الأقل إن لم يكن كلاهما معا، قد اقترف خطيئة كبرى في حق من قتلوا بغير وجه حق، أفليس من الطبيعي في هذه الحالة أن يسائل المرء نفسه: ترى ماذا يكون الحكم في مسلم ارتكب خطيئة كبرى؟ ولقد كانت هذه المسألة بالفعل هي أول ما عرض أمام العقل ليوازن حجة بحجة، ثم يصدر حكما يرضى عنه منطقه، على أن المسألة لم تقف عند حدودها الفقهية في الحكم على مؤمن أذنب، بل ما هي إلا أن تفرعت فروعا مست أحقية الخلافة لمن تكون، ومن ثم رأينا النظرات السياسية تبدأ في الظهور وتتشعب بين الناس تيارات ومذاهب.

لقد رسمنا صورة لما كان في واقعة صفين، فرأينا كيف نبت الخوارج فيها كما ينبت النبات في تربته، لم ينقل إليها نقلا ولا أقحم عليها إقحاما، ولا بأس علينا هنا في أن نرسم صورة أخرى لما كان في واقعة الجمل عند البصرة؛ لتزداد لنا الرؤية وضوحا، فنرى كيف نشأت أمام العقل العربي أولى مشكلاته التي حاول معالجتها بمنطق البرهان (راجع ابن أبي الحديد في شرحه لنهج البلاغة، ج1).

لما بويع علي كتب إلى معاوية في الشام يطلب منه البيعة، فما كان من معاوية هذا إلا أن كتب بدوره إلى الزبير يغريه بولاية الكوفة والبصرة، على أن تكون هذه الولاية لطلحة من بعده، قائلا له فيما قال: «... فدونك الكوفة والبصرة، لا يسبقك إليهما ابن أبي طالب؛ فإنه لا شيء بعد هذين المصرين ...» ثم حثه على أن يظهر هو وطلحة معه الطلب بدم عثمان.

فلما وصل هذا الكتاب إلى الزبير سر به، وأعلم به طلحة، فلم يشكا في إخلاص النصيحة من معاوية، وعزما على أن يخرجا على علي بعد أن كانا بايعاه، ولم تمض أيام حتى جاء الرجلان إلى علي يطلبان منه أن يوليهما بعض أعماله، فأمهلهما علي حتى يرى ماذا هو صانع، فعاد الرجلان مرة أخرى إلى علي يستأذنانه في العمرة، فأدرك أمير المؤمنين ما ينطويان عليه من خديعة، وقال لهما: ما العمرة تريدان.

فحلفا له بالله أنهما ما يريدان غير العمرة.

فقال لهما: ما العمرة تريدان، وإنما تريدان الغدرة ونكث البيعة! فحلفا بالله ما الخلاف عليه، وما نكث بيعة يريدان؛ فما يريدان إلا السفر لأداء العمرة.

فقال لهما: فأعيدا البيعة لي ثانية.

فأعادها بأشد ما يكون من الأيمان والمواثيق.

فأذن لهما، فلما خرجا من عنده، قال لمن كان حاضرا: والله لا ترونها إلا في فتنة يقتتلان فيها.

وقد صدقت فراسته فيهما؛ إذ إنهما إذ هما في طريقهما إلى مكة، لم يلقيا أحدا إلا وقالا له: ليس لعلي في أعناقنا بيعة، وإنما بايعناه مكرهين.

وسار الزبير وطلحة من مكة - ومعهما عائشة - يريدون البصرة، ولقيهم أمير المؤمنين هناك في معركة سميت بمعركة الجمل؛ لأن أم المؤمنين عائشة كانت في هودجها على ظهر جملها، تشارك في مقاتلة علي وصحبه، ويساندهم جميعا فريق من أهل البصرة، ولقد قيل في وصف المعركة: كانت الرماح يوم الجمل قد أشرعتها الرجال بعضها في صدور بعض، كأنها آجام القصب، وقيل: كانت الرءوس تقطع عن الكواهل، والأيدي تطيح من المعاصم، وأمعاء البطن تندلق من الأجواف، وهم حول الجمل كالجراد الثابتة لا تتحلحل ولا تتزلزل، حتى لقد صرخ علي بأعلى صوته: ويلكم! اعقروا الجمل؛ فإنه شيطان! اعقروه وإلا فنيت العرب! لا يزال السيف قائما وراكعا حتى يهوي هذا البعير إلى الأرض!

فصمد رجال علي للجمل حتى عقروه، فسقط وله رغاء شديد، فلما ترك كانت الهزيمة.

كان فريق من أهل البصرة مع عائشة وصاحبيها طلحة والزبير، وكان رجال علي من أهل الكوفة، فلما انقشعت الواقعة عن هزيمة الأولين، أخذ الفريقان يتعارضان بأراجيز الشعر!

أريدك - أيها القارئ - ألا تنسى أن الحرب كانت بين فريقين؛ في أحدهما أم المؤمنين عائشة، وفي الآخر علي بن أبي طالب الذي كان موقعه من النبي عليه السلام ما كان! فهل تصدق أن يقوم الزبير وطلحة في الناس، يستحثونهم على استئناف القتال، فيقولا في علي: إنه لا يبقي حرمة إلا أنهكها، ولا حريما إلا هتكه، ولا ذرية إلا قتلها ولا ذوات خدر إلا سباهن!

وبعد الهزيمة أخذت عائشة كفا من حصى، فحصبت به أصحاب علي، وصاحت بأعلى صوتها: شاهت الوجوه! فقال لها قائل: وما رميت إذ رميت، ولكن الشيطان رمى!

فمن منا - نحن أبناء هذا العصر الحاضر، الذين ملئت نفوسهم رهبة من هؤلاء الأوائل كادت تبلغ بهم حد التقديس والعصمة من الخطأ - من منا يرى هذا التقاذف بكلمات هي من أغلظ اللفظ، بين ناس هم من هم في قلوبنا، ثم لا يأخذه العجب والذهول؟!

على أن موضوعنا هو أن نضع هذه الصورة أمامنا، فنفهم فهما جيدا كيف تستثار العقول يومئذ لسؤال يسأل: إذا كان أحد هذين الفريقين من صفوة المسلمين على خطأ - ولا بد أن يكون أحدهما على الأقل على خطأ - وإنه لخطأ أنتج سفك الدماء لعدد كبير من الناس، قد يكونون من الشهداء إذا كانوا مع جانب الحق، وقد يكونون من الضالين إذا كانوا مع جانب الباطل، فماذا يكون حكم العقل في ذلك كله؟ فأولا: أي الجانبين على حق؟ وثانيا: ما حكمنا فيمن يكون على باطل؟ وثالثا: أفي مستطاعنا أن نهتدي إلى قاعدة نظرية في أحقية الخلافة لمن تكون؟

14

لقد اخترت مدينة البصرة في أوائل القرن الثامن الميلادي (الثاني الهجري) لتكون هي موضع الوقفة الثانية التي أقفها مع الآباء الأولين؛ لأرى فيم كانوا يفكرون وعلى أي نحو يفكرون، وقد كانت وقفتي الأولى معهم في معركة صفين - كما بسطت القول في الفصل السابق - وها أنا ذا أنظر فأرى أول ما أرى حالة من التوتر العقلي تثير القلق في نفوس الناس، وتحول بينهم وبين أن يستقروا معا على رأي واحد؛ فقد أحسوا الحيرة - كما أحسستها أثناء قراءتي عن أحداث تلك الفترة التي أردت الكتابة عنها - أحسوا الحيرة: تحت أية راية ينضوون؟ فهذا هو علي بكل مكانته من حيث هو أولا، ومن حيث قرابته للنبي عليه السلام ثانيا، ومن حيث إمارته الشرعية على المؤمنين ثالثا، يقابله على أرض الخصومة أم المؤمنين عائشة زوج النبي، فإلى أي القطبين يذهبون؟ ثم إلى أي الهدفين يقصدون؛ أيقصدون إلى الحفاظ على وحدة المسلمين فيحايدون، أم يقصدون إلى ولاء معين فيأخذون جانبا من جانبي الصراع؟ وهل يعلون من شأن الإسلام باعتباره دينا للجميع يتخطون به حدود الحزازات والمنافسات، أم يعلون من شأن الانتماء القبلي أولا، وبعد ذلك يأتي الولاء للعقيدة الدينية؟

فلا عجب أن ننظر إلى أهل البصرة عندئذ، فإذا هم منشقون على أنفسهم أحزابا؛ ففريق يؤثر مساندة علي، وفريق آخر يفضل الولاء لعائشة فيطالبون بما كانت تطالب به وهو الثأر لدم عثمان، وفريق ثالث يبعد عن المشكلة ويتخذ لنفسه موقفا محايدا. فأما الفريق الأول - وهم المساندون لعلي - فمنهم نشأت «الشيعة»، وأما الفريق الثاني - وهم المؤيدون لعائشة - فمنهم تألف حزب العثمانية، وأما الفريق الثالث - وهم المحايدون - فمنهم تكون الزاهدون المتطرفون الذين أسموا أنفسهم ب«الخوارج» ولعلهم هم الذين أوجدوا حركة الاعتزال (راجع كتاب شارل بلا: الجاحظ، الترجمة العربية للدكتور إبراهيم الكيلاني، ص260). ويقول «بلا» في كتابه هذا (في الصفحة المذكورة نفسها): «إذا كان نيبرج على حق حين قال [في دائرة المعارف الإسلامية]: إن ظهور علي هو الخط الكبير الذي يفصل مجرى تاريخ الإسلام، فإنه بوسعنا أن نؤكد بأن معركة الجمل هي نقطة البدء لكل تطور سياسي وديني لاحق بالنسبة إلى عدد كبير من المسلمين.»

وذلك لأن واقعة الجمل، ومن بعدها واقعة صفين ، أثارتا المشكلة العقلية الأولى، كما أسلفنا القول، وهي: ماذا يكون الحكم السليم بالنسبة للفريق المخطئ من الفريقين المتحاربين؛ إذ لا بد أن يكون أحدهما على الأقل - إن لم يكن كلاهما - على خطأ؛ لأن الضدين لا يصدقان معا، وقد يكذبان معا، على حد تعبير المناطقة، فرأينا ثلاثة حلول مختلفة للمشكلة، كل حل منها أصبح يمثل مذهبا فكريا على طول التاريخ العقلي في تراثنا القديم: (1)

فهنالك المتطرفون إلى يسار، وهم الخوارج الذين زعموا أن كل من قاتل عليا - بمن في ذلك عائشة وطلحة والزبير - فهو كافر، وأن عليا نفسه كان على حق طوال واقعتي الجمل وصفين، إلى أن قبل مبدأ التحكيم فعندئذ كفر هو الآخر مع الكافرين، فها هنا لا وسط في الأحكام؛ فإما صواب وإما خطأ، وفريق الصواب مؤمن، وفريق الخطأ كافر. (2)

وهنالك المعتدلون، وهم جماعة المعتزلة كما بدأت بواصل بن عطاء، الذي فرق بين المبدأ النظري من جهة، وأعيان الأشخاص من جهة أخرى؛ فمن الناحية النظرية المنطقية الصرف، يمكن القول بأن الضدين (الكفر والإيمان) لا يجتمعان معا في شخص واحد، ولكننا من ناحية التطبيق لا نستطيع تعيين الأشخاص الذين يقعون تحت هذا الضد أو ذاك، هذا إلى أن المعتزلة لم يروا أن حقيقة الموقف هي: إما أصاب فهو مؤمن، وإما أخطأ فهو كافر؛ إذ هنالك منزلة وسطى بين الطرفين هي منزلة المؤمن العاصي، الذي لا يخرجه عصيانه من دائرة المؤمنين ليدخله في دائرة الكافرين. (3)

وهنالك المتطرفون إلى يمين، وهم أهل السنة والجماعة، الذين قالوا بصحة إسلام الفريقين معا.

على أن هذه الشعب الثلاث، وإن تكن قد بدأت طريقها من هذه المشكلة المحددة الناشئة عن موقف معين، فقد امتدت ونمت وتطورت وتكاثرت مشكلاتها وتنوعت، لكن بقيت لكل منها روحها الأولى وطابعها المميز، وسوف يكون لنا عودة لها في مواقف أخرى وظروف مباينة.

وإنك لترى في هذه البداية كيف بدأ «العقل» بحجاجه واستدلاله، وبهذا نستطيع أن نفهم قول القائلين عن مدينة البصرة في ذلك العهد الذي أوقفنا أنفسنا وسط حوادثه، إنها تتميز بالنظرة «العقلية»، خصوصا إذا قورنت بمدينة الكوفة وطرائق أهلها في تناول المشكلات، فبينما البصريون «يعقلون» المسائل بحدود المنطق ومنهاجه، كان الكوفيون يكفيهم الأخذ بالراوية عن الأسلاف كما تروى، بغير حاجة منهم إلى تعليل أو استدلال، أو إن شئت فقل: إن البصريين أميل إلى الواقعية العلمية التي تنشد دليل العقل، على حين كان الكوفيون أقرب إلى وجدانية أصحاب العاطفة والخيال، فالبصريون ينقدون ما يروى لهم نقدا يميز صحيحه من باطله، على حين كان أهل الكوفة يؤمنون تصديقا لما يروى عن السلف، بلا تحليل ولا تشكك، وفي ذلك يقول ماسينيون (وأنا أنقل النص عن كتاب شارل بلا الذي سبقت الإشارة إليه، ص175 من الترجمة العربية): «إن الصفة المميزة لمدرسة الكوفة في ميادين الثقافة العربية جميعها هي أصالة الخيال، في حين أن مدرسة البصرة تستمد قوتها من واقعية دءوب ونقدية؛ فهي تكثف النحو والتفسير في عدد محدود من المعطيات الثابتة، وإن شعراءها الساخرين الارتيابيين ليعكسون أسلوب المدن، ذلك الأسلوب الذي يتصف به النثر العربي، والذي وجد في البصرة، بفضل نضج الأفكار التي جاءتها من الخارج، ولقد شبه الحجاج البصرة بامرأة عجوز، تزينت بأنواع الحلي، وشبه الكوفة بفتاة بكر ذات عنق عاطل» لكن المرأة العجوز التي زينت نفسها بزينة خارجية، لها من تجاربها ما يعصمها من أن تجرفها أمواج العاطفة.

فلا عجب - إذن - أن نتلفت حولنا في أنحاء البصرة (ولنذكر أن البصرة هي التي اخترناها لوقفتنا الثانية) فنراها تعج بالمذاهب العقلية جميعا؛ ففيها نشأ الاعتزال على يدي الحسن البصري (توفي حوالي 727 ميلادية)، وفيها نشأت الدراسات العقلية الأولى للنحو واللغة، التي هي من أروع الأمثلة التي نسوقها برهانا على حدة النظرة العقلية التحليلية في تراثنا الفكري، وحسبنا أن يكون من تلك الجماعة الأولى سيبويه والخليل بن أحمد؛ الأول بمؤلفه «الكتاب» والثاني بمعجمه «العين»، اللذين - كما يقول شارل بلا - «يعدان مع كتابي «البيان والتبيين» و«الحيوان» للجاحظ، مفخرة أهل البصرة.»

فلنقف وقفة قصيرة مع كل جماعة أو رجل من تلك الزمرة العقلية العجيبة، التي مثلت سلطان العقل في مرحلة مبكرة من تراثنا الفكري، وهي في اعتصامها بالعقل في نظراتها تجعل من البصرة عندئذ أثينا اليونان الأقدمين، أو باريس الموسوعيين خلال القرن الثامن عشر، أو هي والكوفة في تباينهما، كأنهما كيمبردج وأكسفورد، حيث تميزت الأولى بدراساتها العقلية من رياضة وعلوم، بينما تميزت الثانية بدراساتها ذات المسحة الفنية الأدبية التي تعتمد على ذوق وخيال.

15

قلنا: إن المشكلة العقلية الأولى التي عرضت للأولين، والتي أنشأتها حوادث «الجمل» و«صفين»، كانت مزيجا من دين وسياسة، ألا وهي مشكلة الذين اتهموا باقتراف ما أسماه المتهمون بالذنوب الكبيرة؛ ذلك أن فريقا من الناس - هم الخوارج - كانوا قد رأوا في المتقاتلين من كلا الجانبين خروجا على أصول العقيدة؛ ولذلك فهم في رأيهم من الكافرين، لم يفرقوا في هذا الحكم بين كبير وصغير، ولقد سمي «الخوارج» بهذا الاسم؛ لأنهم خرجوا على أمير المؤمنين الذي اتفقت الجماعة على إمرته، وقد امتد منهم هذا الخروج إلى الماضي حتى شمل اثنين من الخلفاء الراشدين أنفسهم، هما عثمان وعلي، غير أن ظهورهم الواضح لم يقع إلا أيام التحكيم، حين دعا معاوية وأصحابه إلى احتكام المتحاربين لكتاب الله، ولم يكن علي بادئ الأمر متقبلا بالرضى عن هذا التحكيم، فها هنا خرج عليه خوارج من أتباعه يحملونه على القبول، قائلين: القوم يدعوننا إلى كتاب الله وأنت تدعونا إلى السيف؟! ثم حملوه وهو كاره؛ على أن يجعل أبا موسى الأشعري نائبه في هذا التحكيم، مع نائب معاوية وهو عمرو بن العاص، فلما أن تكشفت عملية التحكيم عن خدعة من عمرو خلع بها علي من الإمارة وثبت معاوية، اقتنع الخوارج بأنهم بقبولهم التحكيم كانوا قد أخطأوا، فتابوا إلى الله من هذا الخطأ، ثم أرادوا لعلي مثل هذا الاعتراف بالخطأ ومثل هذه التوبة إلى الله، قائلين له: لم حكمت الرجال؟ إنه لا حكم إلا لله! على أن خلاصة موقفهم، وهي التي تهمنا من حيث هي فكرة سياسية كان ينبغي أن يكون لها أعمق الأثر في حياة الأجيال العربية من بعدهم، لكنها ذهبت أدراج التاريخ بغير أثر في الحياة العملية، هي مبدأهم القائل بوجوب الخروج على الإمام، أو الحاكم، أو الزعيم، أو ما شاءت له الأيام بعد ذلك من أسماء، إذا أخطأ أو خان أمانة الإمامة أو الزعامة أو الحكم.

وليس من قبيل الاستطراد الذي لا ينفع، أن نقول في هذا الموضع من سياق الحديث: إن موقفا كهذا هو الذي ثبت الحقوق السياسية للأفراد في إنجلترا الحديثة؛ وذلك أن فريقا من الشعب الإنجليزي إبان القرن السابع عشر اعتقد بأن الملك شارل الأول قد اقترف الآثام في حكمه وافتات على حقوق الناس، فما هو إلا أن ثاروا عليه وشقوا عصا الطاعة وحكموا بإعدامه، وتم إعدامه، وهنا نهض فيلسوفان في تاريخ الفكر الإنجليزي؛ أحدهما يدافع عن حق الملك في أن يحكم كيف شاء، والآخر يدافع عن حق الشعب في أن يراقب الملك ويعزله عن الحكم إذا أخطأ، أما أول هذين الفيلسوفين، فهو تومس هوبز، الذي أفاض القول في أن الملك صاحب حق في ملكه، ولم يكن ملكا بانتخاب الشعب، وإذن فلا معنى لقولنا إنه أخطأ؛ لأن الخطأ إنما يقاس إلى معيار خارجي عن الفعل الذي نصدر فيه الحكم بالخطأ، فأين هو هذا المعيار إذا كان الملك هو السلطة العليا التي لا سلطة فوقها؟! إن ما ينطق به وما يتصرف به إن هو إلا القانون والنموذج، مهما يكن رأي الناس فيه، وأما الفيلسوف الآخر، وهو جون لوك، فقد أفاض بدوره في القول بأن الملك إنما هو في التحليل الأخير من انتخاب الناس ليرعى مصالحهم، فإذا رأى هؤلاء الناس أنه قد ضل سبيله فمن حقهم أن يعزلوه ليولوا عليهم غيره.

فموقف الخوارج في أساسه هو نفسه موقف جون لوك في القول بحق الشعب في عزل الحاكم إذا ضل سواء السبيل، وفي أن يختار من شاء من أبناء الأمة ممن يرونه جديرا بالثقة، لولا أن الخوارج قد أساءوا إلى هذا المبدأ السياسي العظيم، الذي حدث لمثيله في أوروبا أن يقيم ثورتين كبريين ما نزال نعيش في ظلالهما إلى حد كبير ، وهما الثورة الأمريكية والثورة الفرنسية، وكلتاهما في القرن الثامن عشر. أقول: إن الخوارج قد أساءوا إلى هذا المبدأ السياسي العظيم بما أحاطوه من تزمت ديني وضيق أفق يجاوزان حدود المعقول.

والعجب الذي يلفت أنظارنا هو أن هذه الفكرة البسيطة في ظاهرها، سرعان ما تشققت وتشعبت بين الخوارج أنفسهم، حتى انقسموا فيما بينهم عشرين فرقة، كل منها تختلف عن سائرها في أشياء، وإن اتفقت جميعها على أساس واحد، وحتى هذا الأساس الواحد الذي كان موضع اتفاق بينهم، قد اختلف عليه المؤرخون بعد ذلك: ماذا عساه أن يكون؟ لكنهم - فيما يبدو - مجمعون على أن أحزاب الخوارج كلها تتفق على إكفار علي وعثمان من الخلفاء الراشدين، وإكفار الحكمين أبي موسى الأشعري، وعمرو بن العاص، وإكفار أصحاب واقعة الجمل جميعا، وإكفار كل من رضي بحكم الحكمين، وبوجوب الخروج على السلطان الجائر، وأما الذي اختلف فيه المؤرخون عند روايتهم عن الخوارج، فهو موقفهم إزاء مرتكبي ما يسمى بالذنوب الكبيرة، فمنهم من يقول: إن مرتكبي هذه الذنوب الكبيرة هم في رأي الخوارج من الكفار، ومنهم من يقول: بل إن الخوارج تفرق بين ذنب كبير ورد له اسم معين في القرآن، كالسرقة مثلا أو الزنا، وفي هذه الحالة لا يقال عن المخطئ إنه كافر، بل يقال عنه اسمه الذي ورد ذكره، كأن يقال: إنه سارق أو إنه زان، على أن من الخوارج فرقة تقول عن صاحب الكبيرة إنه كافر نعمة، وليس هو بكافر دين (راجع في ذلك عبد القاهر البغدادي في كتابه «الفرق بين الفرق»).

أعود فألاحظ أن ما يلفت أنظارنا - من الناحية العقلية التي هي موضوعنا - أن ينشق الخوارج على أنفسهم عشرين فرقة في مثل هذا المبدأ البسيط؛ إذ ما معنى هذا التباين الواسع؟ معناه دقة في التحليل؛ فقد تختلف الفرقة منهم عن الفرقة الأخرى في جانب هو في دقة الشعرة، حتى ليفوتنا إدراكه ونحن نستعرض آراء هذه الفرق العشرين.

وكانت «الأزارقة» - وهم أتباع نافع بن الأزرق - أكثر فرق الخوارج عددا وأشدهم بأسا، ومن أهم ما يميز مبدأهم قولهم بأن من خالفوهم مشركون، وكان الخوارج الأولون يكتفون بالقول عن مخالفيهم بأنهم كفار، لا مشركون، ثم يميز الأزارقة - ثانيا - قولهم عن «القعدة» (أو المحايدين بلغة العصر الحاضر؛ إذ القعدة هم الذين قعدوا عن نصرة علي وعن مقاتلته) أقول إن ما يميز مبدأ الأزارقة كذلك قولهم عن القعدة بأنهم أيضا مشركون، برغم أن القعدة هم من الخوارج من ناحية المذهب النظري، لكن الاكتفاء بالاقتناع النظري، دون ملاحقته بالتنفيذ العملي كفيل - في رأي الأزارقة - أن يسلك صاحبه في زمرة المشركين، ولقد عرف هؤلاء الأزارقة - شأنهم في ذلك شأن كثير من الخوارج الآخرين - بنوع من القسوة وغلظة القلب، لا يكاد المرء منا يصدق معه أنهم كانوا حقا من المسلمين، فقد كانوا لا يترددون في قتل أسراهم ممن يخالفونهم في الرأي - مع أن الأسرى مسلمون - بل إنهم إذا ما جاءهم أحد يدعي لهم أنه يريد أن ينضم إلى جماعتهم، امتحنوه بأن يقدموا له رجلا من الأسرى، ويطلبون منه - أي من العضو الجديد - أن يقتله، فإذا فعل في غير مبالاة كان جديرا بعضوية حزبهم، وإذا تردد، عرفوا أنه مخالف لهم، وبالتالي فهو مشرك، وقتلوه! ولقد بلغت بالأزارقة ضراوة الطبع حدا استباحوا معه لأنفسهم ألا يكتفوا بقتل من خالفهم في الرأي، بل إنهم ليقتلون معه من كان ينتمي إليه من نساء وأطفال، زاعمين أن نساء المشركين وأطفالهم هم كذلك مشركون ومخلدون في النار، فتلك - إذن - جماعة لا نكاد نعجب بمبدئها السياسي الذي يجعل حق الحكم للأصلح أيا كان نسبه، حتى نبرأ إلى الله منهم أن يكونوا أسلافا لنا في وجهة النظر وفي أسس السلوك.

ولقد برئ منهم في زمانهم فريق آخر من الخوارج يسمى بالنجدات (نسبة إلى نجدة بن عامر) إذ خالفوهم في إشراك القعدة (المحايدين) الذين أبوا على أنفسهم أن يشاركوا في فعل تلك الشنائع، برغم موافقتهم على المبدأ السياسي الذي يجعل الحكم للأصلح لا لصاحب النسب، كما خالفوهم كذلك في قتل النساء والأطفال لمجرد كونهم ينتمون إلى رجال ظنوهم مشركين لمخالفتهم لهم في الرأي.

ومن فرق الخوارج كذلك فئة يطلق عليها «الصفرية» (بضم الصاد وسكون الفاء)، وإنما سموا بهذا الاسم إما نسبة إلى صفرة وجوههم من أثر ما تكلفوه من السهر والعبادة، وإما نسبة إلى جمع الأصفر الذي هو أبو زياد، الذي تنسب إليه هذه الجماعة، وهي جماعة تذهب إلى ما ذهب إليه الأزارقة في أن أصحاب الذنوب مشركون، غير أن الصفرية لا يرون قتل أطفال مخالفيهم ونسائهم كما كان يفعل الأزارقة، وكان من رأي الصفرية أيضا ألا يوصف بالكفر ولا بالشرك رجل اقترف إثما اختصه الكتاب باسم خاص، كالسارق والزاني والقاتل عن عمد؛ فهؤلاء يوصفون بأوصافهم هذه بلا زيادة، دون أن يكونوا من الكفرة أو المشركين، أما من يحكم عليهم بكفر أو بشرك، فهم أصحاب الذنوب التي لم ترد فيها حدود كترك الصلاة والصوم.

وكان من جماعات الخوارج العشرين، فرقة يطلق عليها اسم الإباضية (لقولهم بإمامة عبد الله بن إباض) ويميزها مذهبها القائل عن مخالفيهم إنهم في منزلة وسطى بين الإيمان والشرك، فلا هم مؤمنون ولا هم مشركون، ولكنهم كفار، ولقد حرموا دماءهم في السر وإن يكونوا قد استحلوها في العلانية! ثم أجازوا شهادتهم ومصاهرتهم والتوارث منهم، فإذا وقع منهم أسرى، استحل الإباضية بعض أموالهم دون بعض؛ إذ استحلوا الخيل والسلاح، فأما الذهب والفضة فإنهم يردونهما على أصحابهما عند الغنيمة (راجع في كل هذه الجماعات من الخوارج، وما بينهما من فروق وما لكل منها من فروع، كتاب «الفرق بين الفرق» لعبد القاهر البغدادي).

وإنه لمما يلاحظ عند تتبع الفرق المختلفة التي تتابعت على مذهب الخوارج، أنها تزداد ميلا نحو التسامح كلما تقدم معها الزمن؛ فأولهم ظهورا هو أشدهم تزمتا، وأواخرهم أكثرهم تساهلا في معاملة مخالفيهم؛ فبينما «الأزارقة» تضيف في الحكم بقتل المخالف نساءه وأطفاله، ترى «الصفرية» من بعدهم لا يقرون أخذ النساء والأطفال بجريرة الرجل المخالف، كما ترى كذلك قصر الذنوب الكبيرة التي تستدعي الحكم بالكفر أو بالشرك على تلك التي لم يرد بشأنها حد في الكتاب، وتأخذ فرقة «النجدات » بتسامح «الصفرية» وتضيف إليه تسامحا آخر، وهو ألا يتهم المذنب بالكفر أو بالشرك إلا في حالة تجمع عليها الأمة، أما إذا ما اختلف الرأي فعندئذ يترك أمر المذنب لاجتهاد الفقهاء، وأخيرا تجيء «الإباضية» بتسامح جديد، حين قالت عن صاحب الذنب الكبير - مع إيمانه بالله وبكتابه - إنه كافر نعمة وليس هو بكافر دين.

على أن الوقفة المتسامحة التي تليق بصاحب الإيمان، سواء كان من السلف أو من المعاصرين، فهي وقفة فريق آخر عارض الخوارج في تزمتهم، وأعني به فريق «المرجئة» الذي دعا أصحابه إلى وجوب إرجاء الحكم على أصحاب الذنوب الكبيرة إلى يوم القيامة، فلا يجوز أن يقضى عليهم بحكم في هذه الدنيا، على أن الإرجاء الذي من أجله سميت المرجئة بهذا الاسم، قد فهم على معنيين - كما يقول صاحب «الملل والنحل» - أحدهما: بمعنى التأخير، والثاني: بمعنى إعطاء الرجاء، والمعنيان معا مطابقان من الناحية الفعلية لجماعة المرجئة؛ إذ هي بالمعنى الأول جماعة ترى وجوب تأخير الحكم على الناس إلى يوم الحساب، وقيل كذلك: إنها أيضا ترى تأخير العمل عن نية العمل، وأما بالمعنى الثاني: فالمرجئة جماعة تعتقد بمبدأ هو أنه «لا تضر مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة»، أي إن المؤمن بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر، لا يخرجه عن هذا الإيمان معصية يقترفها، كما أن الكافر بهذه الأشياء لا تدخله في زمرة المؤمنين طاعة.

وواضح أنه إذا خرجت خوارج على علي، فلا بد أن يكون هنالك من يشايعونه، وهؤلاء هم «الشيعة» التي دعت إلى إمامته وخلافته؛ إما لأن ثمة نصوصا تحتم ذلك، وإما لأن النبي عليه السلام قد أوصى بخلافته، واعتقد هؤلاء المشايعون لعلي بأنه إذا مات، فلا يجوز أن تخرج الخلافة من أولاده، فإذا خرجت كان ذلك إما لأن آخرين قد اقترفوا في حقه ظلما، وإما لأنه هو أو أحد أولاده قد آثر التقية، وكذلك اعتقدت الشيعة بأن قضية الإمامة ليست قضية مصلحة تناط باختيار العامة، بل هي قضية تمس أصول العقيدة، ومن ثم فهي عندهم أحد أركان الدين، (راجع الملل والنحل للشهرستاني، الجزء الأول) وللشيعة فروع كثيرة قد نعود إليها في وقفة أخرى.

16

نذكر القارئ بأننا ما زلنا في وقفتنا الثانية على خط تراثنا الفكري، وهي وقفة اخترناها في مدينة البصرة خلال القرن الثامن الميلادي (الثاني بعد الهجرة)، حيث أخذت الآراء تتفرع وتتشعب حيال المشكلات العقلية الأولى، التي نبتت للناس عندئذ نباتا طبيعيا من حوادث المعركتين - معركتي الجمل وصفين - اللتين دارتا حول حق الخلافة لمن يكون، ثم سرعان ما نجم عن هذا الخلاف مسألة خاصة بالمخطئ الذي ارتكب الذنب؛ إذ لا بد أن يكون من الفريقين المتحاربين فريق واحد على الأقل قد أخطأ؛ لأنه لو كان الفريقان على صواب لما نشب بينهما قتال، وعندئذ كان الحرج كل الحرج على من أراد أن يقضي في هذه المسألة برأي؛ لأن كلا الفريقين المتحاربين فيه من صحابة الرسول، لكن المشكلة ألحت على العقول، بحيث لم يتراجع أولو الرأي أمام هذا الحرج، فرأينا الخوارج يكفرون من أذنب باختياره الموقف الباطل من وجهة نظرهم، ثم رأينا خلافا بين الخوارج أنفسهم يتراوح بين التزمت واصطناع شيء ولو يسير من الاعتدال، ثم رأينا المرجئة وهي تخفف من حدة الخوارج في تزمتهم، فجعلوا الحكم في الذنوب لله تعالى يوم يكون الحساب، كما رأينا جماعة الشيعة التي وقفت إلى جانب علي أمام هجمة الخوارج الذين شقوا عليه عصا الطاعة.

ولم يكن الصراع الفكري حينئذ مقصورا على هذا التضاد بين الخوارج من ناحية والشيعة من ناحية أخرى، ولا مقصورا على تضاد آخر بين المرجئة التي دعا أصحابها إلى إرجاء الحكم ليتولاه إله الناس، وبين الوعيدية من جماعة الخوارج الذين رأوا أن يكون الحكم هنا والآن، تأسيسا على ما قد ورد في كتاب الله من أحكام فهموها على طريقتهم. أقول: إن الصراع الفكري حينئذ لم يكن مقصورا على هذين الفرعين من التضاد، بل شمل كذلك فرعين آخرين، أولهما تضاد بين المعتزلة والخوارج في مسألة الذنوب الكبيرة، وبين المعتزلة أيضا والصفاتية (من أهل السنة) في مسألة صفات الله تعالى وكيف ينبغي أن تفهم، وأما التضاد الثاني فهو بين القدرية الذين يجعلون للإنسان إرادة حرة مسئولة (وهم أيضا من المعتزلة) وبين الجبرية الذين لم يتركوا للإنسان حرية في فعله؛ لأن كل فعل هو بمشيئة الله تعالى وحده، فلنقف وقفة قصيرة من هذين الفرعين الأخيرين، كما وقفنا فيما سبق عند النوعين الأولين من التضاد.

إني أحب لنفسي وللقارئ معي أن نستحضر في أذهاننا أنواع المسائل التي طرحتها أمام الرعيل الأول من آبائنا العرب الأقدمين حوادث حياتهم عندئذ - وما زلنا نعيش معهم في أعوام القرن الثامن الميلادي - لنرى بأجلى وضوح أن أمثال هذه المسائل لم يعد مطروحا أمامنا نحن المعاصرين؛ لأن الحوادث التي ولدتها لم تعد شبيهة بحوادث حياتنا، والمسائل التي طرحت يومئذ تتلخص في أربع رئيسية، هي: ماذا يكون موقفنا من علي؛ أنؤيده أميرا للمؤمنين أم نخرج عليه بسبب حادثة التحكيم؟ قال الشيعة: نؤيده، وقال الخوارج: نخرج عليه، والمسألة الثانية هي: ماذا نصنع بمن نجده مسئولا عن القتال الذي مزق المسلمين في واقعتي الجمل وصفين، أننزل بهم ما يستحقونه من عقاب، أم نرجئ ذلك إلى يوم يبعثون أمام ربهم؟ قال الوعيدية من الخوارج: نتولى عقابهم هنا والآن، وقال المرجئة: بل نتركهم إلى ربهم يوم الحساب، والمسألة الثالثة هي: ما دمنا نتحدث عن المسئولية والعقاب، فهل للإنسان حرية اختيار ما يفعله فيكون مسئولا عنها، أو الإنسان مكتوب عليه منذ الأزل أن يفعل ما يفعله؟ يقول القدرية وهم من المعتزلة: بل هو حر ومسئول، ويقول الجبرية: إن ما يفعله الإنسان إنما هو بمشيئة من الله، والمسألة الرابعة تتعلق بفكرتنا عن الذات الإلهية وصفاتها، فهل هذه الصفات جزء من الذات لا يتجزأ، بحيث يكون الله تعالى عالما بذاته وقادرا بذاته وهكذا، لا بعلم وقدرة نتصورهما منفصلين عن ذاته، كما قد نتصور الذات مستقلة عنهما؟ يقول المعتزلة إنه ليس أزليا سوى الذات الإلهية التي هي نفسها صفاتها، ويقول «الصفاتية» بل الصفات تشارك الذات في أزليتها، فهنالك الذات الإلهية وهنالك علمها وقدرتها إلخ.

ولقد سبق لنا أن عرضنا القول في المسألتين الأوليين، وبقي أن نضيف شيئا عن المسألتين الأخريين؛ لتكتمل لنا صورة النشاط الفكري إبان الفترة التي جعلناها موضع النظر والتعليق، مع ملاحظة عابرة أبديناها، وهي أنني لا أتصور زائرا يعود بالزمن القهقرى مع القرن العشرين قافلا إلى القرن الثامن؛ ليقف مع الناس متفرجا متعقبا، كأنه الصحفي أراد أن ينقل إلى صحيفة صورة عن معارك أرسلته الصحيفة ليصورها، أقول: إنني لا أتصور زائرا كهذا يستطيع مهما حاول أن يتقمص هذه المشكلات ليجعلها مشكلاته، اللهم إلا واحدة ربما وجدها ذات صلة بحياته الراهنة لم تنقطع، وهي الخاصة بإرادة الإنسان في فعله ومدى ما يقع عليه من تبعة ما قد فعل.

إنه لم تكد تطرح على الناس إبان القرن الثامن مسألة الفعل الإنساني وتبعاته، حتى أجمع فريق «المعتزلة» على أن الإنسان ذو قدرة على خلق أفعاله، خيرها وشرها على السواء، ومن ثم استحق إما العقاب وإما الثواب على ما قد فعل؛ إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وبغير هذا لا تقوم «للعدل» قائمة ولا يكون له معنى مفهوم، وكان واصل بن عطاء (700-749م) ذلك الغزال الألثغ، أول من اتخذ هذا الموقف من وقوع التبعة على فاعل الفعل؛ لأنه كائن حر الإرادة، يستطيع أن يختار لنفسه ما يفعله وما لا يفعله.

فقد حدث إذ هو جالس في حلقة شيخه الحسن البصري، أن طرح السؤال عن مرتكب الذنب الكبير ماذا يكون الحكم في أمره، أنعده مؤمنا برغم ذنبه، أم نعده كافرا؟ - وهي مشكلة كانت تملأ الجو الفكري كله كما بينا - فظهر واصل بن عطاء برأي وسط جديد، هو القول بالمنزلة بين المنزلتين؛ فصاحب الكبيرة ليس مؤمنا كل الإيمان، ولا كافرا كل الكفر، بل هو في موضع وسط بين الطرفين؛ إذ ليس الإيمان صفة واحدة وحيدة، إما أضيفت إلى الشخص أو رفعت عنه، بل الإيمان مؤلف من مجموعة كبيرة من خصال الخير، إذا اجتمعت كلها لشخص، كان مؤمنا كل الإيمان، وإذا امتنعت كلها عن شخص، كان كافرا كل الكفر، أما إذا توافرت له بعض تلك الخصال دون بعض، فهو عندئذ لا هو بالمؤمن على إطلاق المعنى ولا هو بالكافر على إطلاق المعنى، وهكذا يكون الرأي فيمن ارتكب ذنبا من الكبائر، أفليس عنده من أركان الإيمان الشهادة؟ ألم يعمل في حياته أعمالا كثيرة مما يعد خيرا؟ إنه إذن مؤمن بهذه الجوانب، ولا تذهب الكبيرة التي اقترفها هذا الإيمان عنه، لكن لما كانت الآخرة ليس فيها إلا طريقان، ولا وسط؛ طريق لأهل الجنة، وآخر لأهل النار، ففي أي الطريقين يا ترى نضع صاحب الكبيرة؟ أيكون من أهل الجنة كأنما لا ذنب، أم نضعه بين أهل النار كأنما لا شهادة ولا أعمال خير أخرى أتاها؟ الرأي عند ابن عطاء في هذا، هو أن صاحب الكبيرة إذا خرج من الدنيا على كبيرته هذه من غير توبة، فهو من فريق السعير على أن يخفف عنه عذابها فلا يكون في منزلة واحدة مع الكافرين - رأي لم يعجب أستاذه الحسن البصري، فابتعد ابن عطاء عن حلقة الدرس بضع خطوات ليجلس وحده، وليتبعه من أراد، فقال الحسن: لقد اعتزل عنا واصل، ومن ثم جاءت كلمة «المعتزلة»، أو على الأقل هذا أحد التعليلات التي يفسرون بها اسم «المعتزلة»، وهي كثيرة.

ولقد جاء هذا الحكم من «واصل»، تأسيسا على مبدأ أخذ به، وهو قوله «بالقدر»، أي بحرية الإنسان في اختيار فعله (لاحظ أن معنى كلمة «القدر» الصحيح هو نقيض ما قد جرى به العرف بين الناس؛ إذ تقال كلمة «قدر» كلما كان الموقف أو الحدث بحيث لا تكون للإنسان حيلة فيه)؛ ذلك أن واصل بن عطاء قد رتب حجته على نحو كهذا: إن الله تعالى حكيم عادل، ولا يجوز أن يضاف إليه شر ولا ظلم، وإذن فلا يجوز أن يريد من عباده شيئا غير ما يأمر به، أو أن يحتم عليهم شيئا ثم يجازيهم عليه؛ وعلى ذلك فالعبد هو الفاعل للخير وللشر على السواء، أي إنه هو الفاعل لما يسلكه مع المؤمنين أو مع الكافرين، فإذا جوزي فإنما يجازى على فعله ، ولقد أقدره الله تعالى على ذلك كله.

لكن مسألة الفعل وجزائه حين طرحت، لم تكن مسألة نظرية مجردة تلوكها الألسن في نقاش مبتور الصلة بالحياة الجارية من حول الناظرين والمتناقشين، إنما طرحت المسألة على المفكرين؛ لأن هنالك موقفا بعينه وأشخاصا بذاوتهم يراد فيهم الرأي السديد والحكم المنصف، فلقد كان مما يؤرق الناس عندئذ هو ما يمكن أن يحكم به على الفريقين من أصحاب الجمل وأصحاب صفين، فماذا يقول واصل بن عطاء فيهما؛ تطبيقا لمبادئه النظرية التي أسلفناها؟ يقول: إن أحدهما مخطئ لا بعينه، أي إنه من الوجهة النظرية الرياضية البحتة، لا بد أن يكون أحد النقيضين هو الصواب دون الآخر؛ لأنه لا يجتمع على صدق نقيضان، ولما كان على غير علم يقيني أي الفريقين هو المصيب؛ ليكون الفريق الآخر هو المخطئ، لم يستطع أن يحدد تطبيقا لحكمه، ومن ثم فلا يجوز قبول الشهادة من أيهما، أو على حد قوله: إنه لا يجوز قبول شهادة علي وطلحة والزبير على باقة بقل (تذكر أن عليا في وجهة، وطلحة والزبير في وجهة أخرى، كانا في مكان القيادة من الفريقين المتحاربين في واقعة الجمل)؛ فلقد جوز واصل أن يكون علي على خطأ، وكذلك فعل بالنسبة لعثمان، ولم ير استحالة لا منطقية ولا فعلية في أن يقع الخطأ من أمثال هؤلاء على رفعة مكانتهم من المسلمين.

وكان من الطبيعي ألا يمضي رأي ابن عطاء في حرية الإنسان من حيث إرادته وفعله، بغير معارض يتصدى له، وكان ذلك المعارض هو جهم بن صفوان (ت745م) وإليه تنسب «الجهمية» التي هي الفرقة القائلة بمبدأ الجبرية، والجبر معناه: نفي الفعل في حقيقة أمره عن العبد، وإضافته إلى الله تعالى.

ولقد صدر جهم بن صفوان هذا في حكمه عن مبدأ أخذ به، وهو أنه لا يجوز أن يوصف الباري بصفة يوصف بها عباده، فإذا كان من صفاته تعالى أنه قادر وفاعل وخالق، وجب ألا يكون لأحد من عباده قدرة ولا فعل ولا خلق ، ومن ثم كان الإنسان - من وجهة النظر الجهمية - غير قادر على شيء يفعله هو، وليس له الاستطاعة في أن يفعل، فإذا رأيناه يفعل شيئا فإنما هو مجبر على فعله، لا قدرة له بذاته، ولا إرادة، ولا اختيار؛ الله تعالى هو الذي يخلق الأفعال فيه كما يخلقها في سائر أنواع الجماد، ولا تنسب الأفعال إلى الإنسان إلا مجازا، كما تنسب أفعال الجمادات إليها مجازا كذلك، كأن يقال: أثمرت الشجرة، وجرى الماء، وتحرك الحجر، وطلعت الشمس وغابت، وغامت السماء أو أمطرت، وإذا كان ذلك هو الشأن في أفعال الإنسان، كان ثوابه أو عقابه متعلقين بمشيئة الله وحده، فهو الذي يدخل الإنسان الجنة أو النار كما يريد، فالأمر كله في هذه الدنيا أو في الحياة الأخرى هو لله وحده، وليس للإنسان فيه إلا أن يطيع.

بقيت المسألة الرابعة مما عرض للفكر العربي إبان القرن الثامن الميلادي، نوجز القول فيها ولا نطيل، ولعلها مسألة قد تأخر ظهورها بعض الشيء عن المسائل الثلاث الأخرى؛ لأنها لم تكن كهذه المسائل الثلاث وثيقة الصلة بأحداث يومهم المباشرة، بل هي من درجة أوغل في عالم الفكر الفلسفي المجرد، وأعني بها مسألة الصفات الإلهية، كيف نفهمها بالنسبة إلى الذات الموصوفة بها؟ أنفهمها قائمة وحدها، أزلية، وكل ما في الأمر أنها تصف الباري سبحانه وتعالى؟ يجيب المعتزلة من فرقة واصل بن عطاء بالنفي؛ لأن ذلك - في رأيهم - معناه تعدد الآلهة، وإنما هذه الصفات هي الذات نفسها، لكن فريقا آخر، يؤثر أن تؤخذ آيات القرآن الكريم بظاهر معانيها، وإذن يجوز لنا القول بأن لله صفات غير ذاته، وإن تكن أزلية فله علم وله قدرة وله حياة ... إلخ؛ من أجل هذا سمي هذا الفريق «بالصفاتية» على حين يسمى المعتزلة أحيانا «بالمعطلة» أي الذين ينفون وجود الصفات وجودا منفصلا عن الذات الموصوفة بها.

17

ما زلنا من طريق سيرنا عند «المحطة» الثانية، التي اخترنا الوقوف عندها؛ لنطل على الحركة العقلية في البصرة إبان الفترة التي هي الآن موضع حديثنا، وأعني القرن الثامن الميلادي، ولقد فرغنا لتونا من متابعة أصحاب المذاهب العقلية من فريق المعتزلة، ماذا اعترضهم عندئذ من مشكلات نبتت لهم من صميم حياتهم اليومية الجارية، وها نحن أولاء نتجه بأبصارنا إلى صنف آخر من الرجال، كان له نصيب موفور في إقامة الحياة العقلية العلمية من تراثنا الفكري، وأعني بهم رجال اللغة والنحو.

ولست أنا الكاتب الذي يستطيع أن يحدث القراء بشيء من التفصيل المفيد عن هذه الحركة في دراسة اللغة ونحوها وصرفها، لكنني أترك حقلا عجيبا في دقته العقلية، غزيرا في خصوبته وثماره، إذا أنا تركت حقل الدراسات اللغوية وما يدور حولها من أبحاث كادت تبلغ مبلغ الدقة الرياضية في دقة التحليل وفي سلامة الاستدلال، وأول ما نلاحظه في هذا الصدد، هو الصلة الحميمة الوثيقة بين بحوث الباحثين وبين حياة الناس العملية، حتى في مثل هذا المجال اللغوي، الذي قد يبدو لعين القارئ العربي اليوم وكأنه مبتور الصلة عن تلك الحياة؛ جريا منه على ما قد ألفه في عصره هذا من بعد الشقة في كثير جدا من الحالات بين رجال اللغة من جهة، وضروب النشاط العملي من ناحية أخرى، حتى لقد سار فينا سريان الأمثال أن يكون رجل اللغة العربية ونحوها ومعاجمها ومصادرها وتصاريفها، رجلا غريبا على مسرح الحياة اليومية، لا تسيغ سمعه الآذان، إذا حرص على ضبط اللغة مقروءة أو مكتوبة.

لا، لم يكن رجال البحث اللغوي إبان الفترة التي نتحدث عنها مبتوري الصلات عن مجرى الحياة العملية ومشكلاتها، ومن ثم كانت منزلتهم العليا من الناس، فلقد كانت المشكلات الدينية عندئذ - والدين الإسلامي في أولى مراحل تطبيقه على دنيا العمل والنشاط - هي ما يستوقف الأنظار ويسترعي الانتباه ويثير السؤال، وقد رأينا فيما أسلفناه من حديث كيف تمخض القتال في «الجمل» وفي «صفين» عن سؤال ضخم خاص بالذنوب الكبيرة؛ ماذا يكون الحكم في أصحابها؟ ليعلم الناس مصير من تقع عليه التبعة في سفك الدماء في تينك الموقعتين، وواضح أنه لم يكن بد أمام من أراد محاولة الجواب من الرجوع إلى الكتاب الكريم؛ ليهتدي بهديه في مواجهة ذلك السؤال؛ فما هي بعد ذلك إلا خطوة جد قصيرة عند مراجعة المفكرين لكتابهم ابتغاء الهداية، حتى يجدوا أنفسهم مضطرين إلى الوقوف قليلا أو كثيرا عند مادة النصوص القرآنية من حيث ألفاظها وطرائق تركيبها، ثم خطوة جد يسيرة بعد ذلك، فإذا هم - على أيدي نفر ممتاز بحدة الذكاء ودقة التحليل، فضلا عن قلب مشغوف بهواية البحث والنظر - يتناولون اللغة من جذورها الأولى، ومصادرها الأولية، يتعقبونها تحليلا وتمحيصا، وجمعا وتبويبا، ومقارنة وتأسيسا لقواعدها وأركانها، وحسبك أن ترى في نظرة واحدة رجلين من هذه القامات العملاقة التي نراها في الخليل بن أحمد وتلميذه سيبويه.

عاش الخليل بن أحمد على طول ثلاثة أرباع القرن الثامن الميلادي الأخيرة، وكان أهم ما شغله في أعوامه النشيطة من حياته نظرات فاحصة نافذة عميقة مستوعبة، في اللغة العربية وفي نحوها، وفي الشعر العربي وبحوره، وإن الواحد منا - نحن أبناء القرن العشرين - إذا ما كر راجعا ليقع منه البصر على رجل في علم الخليل وفي علمية نظره، ثم في بساطة عيشه، لتأخذه الدهشة مما يرى؛ فمثل هذا الذكاء الخارق، وهذه المنهجية في النظر والتصنيف، والوصول إلى القواعد الصحيحة، لو كان هذا كله في عصرنا نحن، لأصبح الرجل بغير أدنى شك من أئمة علماء الذرة أو أعلام التكنولوجيا، فالعبقرية أداة فعالة في أي مناخ وضعتها فيه، فإذا وضعتها في عصر تشغله المسائل الفلسفية كما كانت الحال في مناخ اليونان القديمة، كان لك بذلك أفلاطون أو أرسطو، وإذا وضعتها في عصر تشغله مسائل العلم الطبيعي، كما كانت الحال في أوروبا خلال القرن السادس عشر وما بعده، كان لك بذلك جاليليو أو نيوتن، ولقد وضعت هذه العبقرية في البصرة خلال القرن الثامن، حيث المناخ الفكري مشحون بمسائل دينية بنيت حلولها على دراسات لغوية، فكان لنا رجل كالخليل.

وما ظنك برجل يضع للغة العربية أول معجم (لقد قيل إن معجم «العين» المنسوب إلى الخليل، والذي نتحدث عنه الآن، هو في الحقيقة من عمل تلميذه «الليث» ونسب خطأ إلى الخليل - راجع في ذلك الدكتور شوقي ضيف في كتابه «البحث الأدبي»، ص7، 218، 273 - لكننا نؤثر هنا أن نجري على العرف الأشيع، فالمهم في موضوعنا هو الكتاب لا الكاتب)، ويستخرج للشعر العربي للمرة الأولى بحوره؟! إنك قد تمر على حقائق مذهلة كهذه مغمض العينين، فلا ترى أبعادها الفلكية إذا جاز لنا هذا التعبير عند الحديث على قدرة العقل البشري ومداها، فلقد ألفت عيناك أن ترى للغات معاجمها، فقد تقول لنفسك عندئذ: وماذا في معجم؟! كما ألفت أذناك الحديث عن تفعيلات الشعر وأوزانه، فربما قلت لنفسك هنا أيضا: وماذا في حصر لتلك التفعيلات والأوزان؟! ولكن قف لحظة عند قولنا: «أول» و«للمرة الأولى»! قارن بين رحلة يقوم بها في يومنا هذا مسافر على طائرة تعبر به المحيط الأطلسي في سويعات إلى أمريكا وبين رحلة كولمبس وهو يعبر ذلك المحيط «لأول مرة»! فها هنا في رحلة كولمبس نجد المغامرة والقدرة وعظمة الكشف العلمي من دياجير المجهول، وأما هناك في رحلة المسافر العصري على الطائرة فلا مغامرة ولا قدرة ولا كشف؛ فالخليل بن أحمد وهو يجمع ألفاظ اللغة العربية ليصنفها في معجم «لأول مرة» وأنت إذ تمد ذراعك إلى رف مكتبتك لتشد معجما تبحث فيه عن بغية لك ثم تعيده، إنما يفصل بينكما ما يفصل كولمبس عن مسافر الطائرة.

لأول مرة في التاريخ يجمع الخليل أشتات المفردات اللغوية بقدر ما مكنته الظروف، ولأول مرة رتبها في معجم، وليس قبله معجم يحتذيه، ثم نزداد ذهولا لهذه القدرة الفائقة، عندما نجد الرجل «يبتكر» - وأرجوك ألا تدع هذه الكلمة تمضي أمامك وأنت مغمض العينين - يبتكر طريقة فريدة في ترتيب الألفاظ في معجمه؛ فلقد وجد الخليل بين يديه طريقتين معروفتين في ترتيب أحرف الهجاء؛ فهنالك الطريقة التي تسمى بالأبجدية، وهي التي ترتب الحروف على غرار ما ترد في هذه الكلمات: أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت ثخذ ضظغ؛ وهنالك أيضا الطريقة الأخرى التي ترتب الحروف على هذا النحو: أ ب ت ث ج ح خ ... إلى آخر هذه الحروف؛ على الترتيب الذي نألفه ويألفه أطفالنا إلى اليوم، فلا أخذ الخليل عند تصنيفه لمعجمه بالطريقة الأولى ولا أخذ بالطريقة الثانية؛ إذ لعله لم يجد فيهما أساسا علميا، ويكفي أنهما ترتبان الحروف ترتيبين مختلفين؛ لنعلم أن فيهما عشوائية لم ترضها نظرته المنهجية. «وابتكر» الخليل لنفسه طريقة ثالثة تقام على أساس علمي لا مجال فيها لاختلاف النظر؛ وذلك أنه رتب الحروف بحسب مخارجها عند النطق، فأقصاها مخرجا يرد أولا في الترتيب، وأدناها إلى الشفتين يرد آخرا، وما بين الأقصى والأدنى ترتب الحروف بحسب المخارج المتعاقبة، فكان أن وجد لها هذا الترتيب: ع ح ه خ غ ق ك ج ش ض ص س ز ط د ت ظ ذ ث ر ل ن ف ب م و ا ي.

وإني لأدعوك أيها القارئ مرة أخرى إلى النظرة المتمهلة لئلا تفوتك هذه النظرات العلمية الجانبية، فكم من دقة النظر، وكم من موهبة في إدراك الصوت، يحتاجه إنسان ليتعقب الحروف المختلفة إلى مخارجها عند النطق بها؛ ليرى أيها أقصى من الحلق وأيها أدنى.

ثم ماذا بعد فراغه من الترتيب؟ يجيء بعد تحديده لمواضع الحروف في سلسلة التعاقب خلال معجمه، استقصاء للألفاظ؛ ليصنفها، وحتى هنا لا تراه يكدس الألفاظ بعضها إلى بعض كأنها الغلال المكومة، بل يحصرها أولا في أنواعها من حيث مبناها - وهو هنا يستعين بما ذكره الصرفيون من قبله في حصرهم لأبنية الكلمة، فهي إما ثنائية، أو ثلاثية، أو رباعية، أو خماسية - شأن العلماء في أخذ النتائج الصحيحة بعضهم من بعض؛ حتى لا يبدأ كل عالم من الصفر، وكأن لم يسبقه علم ولا علماء.

وبعملية رياضية بارعة، استطاع أن يحصر - من الوجهة النظرية الرياضية الصرف - كم صورة لفظية يمكن أن تنتجها لنا هذه الأبنية الأربعة في تباديلها وتوافيقها؛ فالعدد الناتج هو حصر كامل لصور اللفظ العربي، من حيث الإمكان النظري، حتى ولو لم يتحول هذا الإمكان النظري في بعض الحالات إلى واقع فعلي، بمعنى ألا نجد له لفظا مما قد استعمله العرب بالفعل، ثم أخذ يضع في هذه الأقسام ما قد تجمع له من ألفاظ مستعملة، مرتبة بحسب مخارج الحروف كما ذكرناه، ولما كان الحرف الأول في هذا الترتيب، هو حرف «العين»، أسمى معجمه «بالعين».

وهنا قد تسأل: وما جدوى الأقسام التي لا يقع فيها لفظ مما ورد في استعمال العرب؟ والجواب: جدواه هو عند استخدام القياس المنطقي في صلاحية لفظة مستحدثة أو عدم صلاحيتها، فبحكم كونها مستحدثة لأسباب حضارية طرأت على حياة العرب، لا يكون لها سابقة، وعندئذ نكون في حاجة إلى قاعدة نحتكم إليها، هل تنساق اللفظة المستحدثة مع اللسان العربي أو لا تنساق، والاحتكام في هذا يكون للأبنية النظرية التي أسلفنا ذكرها، وفي هذا وحده هداية كافية لنا، ندرك معها المعنى المقصود، حين يصف المؤرخون مدينة البصرة في تلك الفترة من التاريخ، خصوصا كلما أرادوا موازنة بينها وبين الكوفة، فيقولون: إنها «عقلانية» المنحى، تعتمد على «القياس» المنطقي في أحكامها، ولا تقصر نفسها - كما فعلت مدرسة الكوفة - على المسموع والموروث.

وكما اقتضت ظروف الحياة العملية ومشكلاتها آنئذ جمع مفردات اللغة وتبويبها والنظر في طريقة بنائها وتصريفها، فقد اقتضت كذلك جمعا «للشواهد» من الأدب العربي القديم؛ ليستدل منها على طريقة استخدام اللفظة عند أصحاب اللغة الأولين؛ إذ لا يكفي لمعرفة معنى اللفظة الواحدة أن تراه وهو في المعجم معزولا وحده عن السياق الذي يبين استعمال تلك اللفظة، وإنه ليجدر بي في هذا المقام أن أحيل القارئ إلى بحوث فلسفية في عصرنا هذا، وفي إنجلترا بصفة خاصة، تفرعت كلها عن تيار فلسفي معاصر يرى أهم مهمة للفلسفة في أن تقف عند بنية اللغة العلمية كيف تقام، بدل أن تشطح في مسائل ميتافيزيقية ليس لها حلول، ولو وقفنا عندها إلى أن يبيد الدهر، لا لأنها مسائل صعبة مستعصية على الأفهام، كما كان شائعا بين الناس، بل وبين الفلاسفة أنفسهم، بل لأنها - كما كشف بذلك فلاسفة التحليل اللغوي الذين أحيل القارئ إلى بحوثهم المستفيضة - صيغت في عبارات من اللغة لم يحكم بناؤها، وبالتالي جاءت تركيبات من لفظ لا تحمل معنى، ومن ثم استحال أن نجد جوابا لسؤال صيغ مثل هذه الصياغة الخالية من المعنى، أقول: إنه ليجدر بي في هذا المقام أن أحيل القارئ إلى بحوث فلسفية في عصرنا هذا، يدافع أصحابها عن وجهة النظر التي تقول: إن معنى اللفظة لا يتحدد إلا وهي في عبارة من ذوات المعنى، وأما إذا أفردت وحدها، فهي رمز بغير معنى.

وأحسب أننا على ضوء أبحاث كهذه، نستطيع رؤية أوضح للقيمة العلمية الكامنة في محاولات الباحثين الذين أرادوا تحديد معاني المفردات بالشواهد التي يجمعونها من كلام الأسبقين أصحاب اللغة الأولين، وأين عساهم أن يجدوا تلك الشواهد إلا في أبيات من الشعر القديم؟ لقد كان الشعر هو الأداة الطبيعية التي يصوغون بها كل ما أرادوا قوله، فأي غرابة أن نجد العقلية الرياضية الرائعة عند رجل كالخليل، يستوقفها منزلة الشعر في العملية العلمية التي كانت تدور رحاها في شوارع البصرة محدثة دويها الهائل الذي ملأ أسماع الناس من عامة الجمهور، فكيف بمسمعي الخليل بن أحمد، بكل ما فيهما من حساسية مرهفة للصوت والنغم والإيقاع؟!

فلينظر - إذن - في الشعر العربي كيف بناه بانوه وبنوه، كما نظر في لغة العرب كيف بنيت ألفاظها وكيف ينبغي أن تبنى؟ فما هو إلا أن يستخرج من الشعر صوره بعد تفريغها من مادتها، فإذا هذه الصور ما نعلمه من أوزان الشعر العربي وبحوره، فبأي الرجال تقيس الخليل في عمله ذاك، إلا أن تقيسه إلى قمة شامخة مثل أرسطو اليوناني، حين استعرض الأقوال العلمية التي تديرها حوله ألسنة العلماء في مختلف الميادين فإذا هو يفرغ تلك الأقوال من مادتها ليقع على صورها، وإذا هذه الصور هي «المنطق» الذي لبث عماد الدنيا المفكرة بأسرها، منذ أيام واضعه اليوناني وإلى عصر حديث، قريب جدا من عصرنا الراهن، حين لمح الرياضيون المحدثون في صياغات العلم الحديث صورا أخرى تباين الصور الأرسطية الأولى، وهكذا صنع الخليل للشعر العربي حين أفرغه من مادته ليرى على أي الصور العروضية ركبت تلك المادة، ولقد قيل عنه فيما قيل: إنه حدث ذات يوم أن سمع في بعض طريقه وقع مطرقة على طست، وكان عندئذ يردد لنفسه بيتا من الشعر، فإذا المقارنة بين إيقاع المطرقة وبين إيقاع ألفاظ البيت الشعري في مسمعيه، تلمع في ذهنه كالقبس، وهكذا جاءت الفكرة بأن يقطع الشعر تقطيعا أدى به في نهاية الأمر إلى حصر بحور الشعر! فاللهم إن كان الذكاء قوامه - كما يتفق على ذلك عدد كبير من علماء النفس اليوم - لمح التشابه والتباين بين الأشياء والأفكار والمواقف، فماذا نقول في ذكاء لمح مثل هذا التشابه بين صوت مطرقة على طست، وبين وزن بيت من الشعر يردده، بحيث كان ذلك فاتحة لتأسيس علم أشبه بالعلوم الرياضية في صورته ودقته ودوام صوابه على امتداد القرون؟

18

في وقفتنا هذه التي اخترنا أن نقفها في مدينة البصرة خلال القرن الثامن، لنرى كيف أخذت النظرة العقلية مأخذها عند أصحاب الفكر عندئذ، بعد أن رأينا في الفترة السابقة علما ينساب مع الفطرة بغير محاولة التعريف والتقسيم، والتبويب والترتيب، أقول: إننا في وقفتنا الثانية هذه على طريق رحلتنا الثقافية في تراثنا الفكري، لو أننا اكتفينا برجال النحو وحدهم، لرأينا ما يقطع بنضج النظرة العقلية وارتقاء المنهج العلمي؛ إذ نرى علماء في هذا الميدان أرادوا أن يخضعوا اللغة لشكائم القواعد، حتى لقد غالوا في التمسك بالقواعد وبطريقة القياس عليها تمسكا جعلهم - كلما وجدوا عند العرب الأقدمين استعمالا لا يجري مع القاعدة التي صاغوها - يعدونه شاذا ينبغي البحث له عن مبرر يجيز إدراجه تحت هذه القاعدة أو تلك - فكأنهم في ذلك «بروقرسطس» الذي وردت عنه أسطورة فحواها أنه أعد للمسافرين نزلا في بعض الطريق، لكن حب النظام والتناسق أغراه بأن يصنع الأسرة كلها في نزله على طول واحد، فإذا مر به نزيل أقصر قامة من طول السرير، مطه مطا حتى تتساوى قامته مع هذا الطول، أو جاءه نزيل أطول قامة من طول السرير، جذ ساقيه حتى يظفر بالتساوي الذي ينشده!

كانت البصرة في الفترة التي نتحدث عنها هي موطن «العقل » الذي يحاول ألا ينثني مع عاطفة أو تزمت أو عصبية، فلا غرابة أن وجدناها سباقة إلى صب الفكر في قوالب المنطق، أو إن شئت فقل: صبه في أطر رياضية (والمعنى واحد)، وكان اهتمامهم بعلم النحو، أي بالتماس القواعد التي يطوع لها كلام العرب، سواء تحقق لهم هذا التطويع على صورة طبيعية، أم افتعلوه افتعالا بقسرهم الشاذ - والشواذ عن قواعدهم كانت أكثر من أن تهمل أو يغض عنها النظر - على أن يجد إلى القاعدة طريقا حتى ولو كان طريقا غير مباشر، وفيه كثير من التكلف والتعسف، فما استحال معهم أن يجد طريقه إلى قواعد النحو حتى عن هذا الطريق الملتوي المعتسف، قالوا إنه لا يصلح أن يقاس عليه؛ لأنه خطأ.

وكان إمام البصرة في هذا كله هو سيبويه - تلميذ الخليل بن أحمد - ويسمى كتابه في النحو «الكتاب» بأداة التعريف، على اعتبار أنه العلم الذي لا يحتاج إلى تمييزه مما سواه باسم خاص، وكان يكفي أن يتفاهم الدارسون بعضهم مع بعض بقولهم: قرأت كذا وكذا في «الكتاب»؛ ليعلم السامع أنه كتاب سيبويه، وإنه لمما يدعو إلى العجب أن نرى مثل هذا الكتاب العملاق في موضوعه قد ظهر فجأة وكأنه نبات شيطاني لم تسبقه المقدمات الكافية التي تبرر ظهوره، مما يغري مؤرخي الفكر العربي بافتراض سوابق له تدرجت مع الزمن حتى استطاع علم النحو أن يبلغ هذه القامة السامقة التي بلغها في «الكتاب»، وهو موقف يذكرنا بما يقال في أشباه كثيرة لهذا الظهور المفاجئ لكيان ضخم؛ فهكذا يقال - مثلا - عن تمثال أبي الهول وأهرامات الجيزة بمصر، وغيرها من آثار الفترة الأولى التي هي بمثابة الفجر من تاريخ مصر القديمة؛ إذ يتساءل علماء المصرلوجيا: كيف أمكن أن يكون بدء الحضارة بهذا الوليد الرشيد الواعي؟ لا بد أن تكون هنالك مراحل سابقة تدرج فيها الصعود بخطوات لم يثبتها لنا التاريخ، حتى وصلت إلى هذا النضج كله دفعة واحدة، وهكذا أيضا يقال في الأدب الألماني على يدي جوته في أوائل القرن التاسع عشر؛ إذ ليس هنالك في تاريخ هذا الأدب سوابق تفسر هذا الوجود العظيم المفاجئ، والأمثلة كثيرة في تاريخ الفكر والفن والحضارة بصفة عامة.

نعم، إن سيبويه في «كتابه» يحيل الدارس على أسلاف له في مواضع كثيرة، لكن البناء من حيث هو وحدة متسقة، ملئت بالتعليلات العقلية والاستدلالات المنطقية، ودقة الموازنة بين رأي ورأي، ثم الترجيح لرأي دون آخر ترجيحا بصيرا، هو الذي يلفت النظر بشموخه وشموله، مهما يكن في ثناياه من إحالات على هذا الرأي أو ذاك، ومع هذا النضج كله، والعمق كله، والإلمام الواسع كله، فقد مات سيبويه وله من العمر نيف وثلاثون عاما! فمتى وكيف أتيح له هذا التحصيل الغزير، وهذه الأحكام السديدة في موضوعه؟ ألا إنه - كأستاذه الخليل - رجل تجسدت فيه العبقرية، التي - كما أسلفنا القول - تتقمص العبقري فتوجهه الوجهة التي يريدها العصر، وكان الذي أراده عصر سيبويه هو دراسة اللغة والنحو؛ ليقوم فهم الناس للقرآن على أساس متين.

وبرغم اختيارنا للبصرة مكانا لازدهار «العقل»، فأظنه من الملائم في هذا السياق أن نذكر كيف اقتضت عقلانية البصرة المتشددة في التزام القواعد وتطبيقها، ورفض ما لا ينساق معها من لغة العرب أنفسهم، إذا استعصى على الانطواء تحت هذه القاعدة أو تلك من قواعد النحاة؛ أقول: إن هذه العقلانية المتشددة كان لا بد لها أن تستثير جانبا آخر يعارضها ليحدث التوازن، وكان أن ظهرت المدرسة المعارضة لعقلانية البصرة، في الكوفة، وعندئذ قام التناظر بين المدينتين على نحو لا يتحقق إلا إذا تحققت للناس فاعلية فكرية مستعرة.

فبينما البصريون يدعون إلى «العقل» وما يصوغه من قواعد تنظم السير على طريق منهجي، جاء الكوفيون بدعوة مضادة، وهي أن يكون الحكم للسابقة، لا للقاعدة العقلية، فإذا وجدنا العرب الأقدمين يستخدمون لفظة أو عبارة بطريقة معينة، كانت هي النموذج الذي نحتذيه، ولا معنى لأن يقال لأصحاب اللغة وخالقيها: لقد أخطأتم هنا، وأصبتم هناك. بل إن ما قالوه، بالصورة التي قالوه بها، أيا كانت هذه الصورة، هو معيار الصواب الذي يقاس إليه كلام اللاحقين، والذي لا يخضع بدوره لمعيار آخر، والمعيار لا يقيس نفسه، وإنما يقيس ما عداه، فإذا تخيلنا سيبويه في البصرة ينادي ويردد النداء: العقل العقل، والقاعدة القاعدة، تخيلنا معه مناظره في الكوفة، «الكسائي» ينادي ويردد: السابقة السابقة، وكل سابقة هي أصل يقاس عليه، وليس بين السابقات ما يجوز أن يوصف بالشذوذ.

وهل يمكن أن تتعارض هاتان المدينتان هذا التعارض الفكري الشديد في كل ميدان، دون أن يكون لذلك علة من سياسة؟ فمن ذا الذي يعتز بكل قول قاله العرب الأقدمون، بحيث يجعله القاعدة التي يقاس عليها، إلا قوما أخذ الماضي بلبهم أخذا، وأرادوا أن يكونوا «عربا» قبل أن يكونوا أي شيء آخر؟ ثم من الذي يعتز بمقاييس العقل وحدها، حتى ليخطئ القدماء أنفسهم إذا ورد لهم قول لا يجري مع تلك المقاييس، إلا قوما ينزعون نحو ألا يكون ثمة فارق بين سابق ولاحق، أو بين قديم وحديث؟ فإذا جاز للقدماء أن يتحكموا في المحدثين، جاز كذلك لهؤلاء المحدثين أن يتحكموا بدورهم في القدماء. وأحسب أن من تشبث بأفضلية العرب الأقدمين على «المسلمين» المحدثين (فكل الأقدمين في مجال اللغة العربية هم من العرب، وأما المحدثون فهم مسلمون، عربا كانوا أو غير عرب) لا بد أن يكون منتميا إلى أرومة عربية خالصة، وأما من أراد إزالة الفوارق، فالأرجح أن يكون من أصول غير عربية، وهو نزاع بين هاتين الفئتين اشتد واتسع حتى أصبح ظاهرة لا يخطئها البصر في تاريخ تلك الفترة من حياة الأسلاف، وقد نفيض فيها القول بعض الشيء في موضع مناسب من هذا الكتاب، ولو أنها بحكم ما يطبعها من عصبية تندرج في الجانب «اللاعقلي» من التراث، وإنما جعلنا هدفنا الرئيسي هو الجانب «العقلي» من الطريق، فلا نورد اللاعقلي - إذا أوردناه - إلا ليزداد الضوء على المرئي فيزداد وضوحا للرائي.

الفصل الرابع

مصباح العقل يشتد توهجه

19

هذه هي الوقفة الثالثة؛ نقفها على الطريق في رحلتنا الثقافية التي نرود بها دولة «العقل» في مظانها وعلى رءوس أعلامها، فنختار لأنفسنا أبراجا للرؤية كلما لحظنا جمعا من الناس اجتمع على مسألة عقلية أو مسائل، غاضين الأنظار - عامدين - عن زواحف «اللاعقل» وهي تسعى، اللهم إلا أن نلحظ حركة لا عقلية تعترض طريقنا بحيث لا نستطيع رؤية العقل وهو يعمل إلا من ثناياها، فعندئذ نقف عندها لحظة لنفهم الدوافع والأهداف، ثم نمضي في سبيلنا، وإنه لطالما حدث - عند أسلافنا وغير أسلافنا - أن نبت نبات العقل في تربة من اللامعقول؟ ولقد رأينا كيف أثمر لنا سفك الدماء عند البصرة وعند صفين بذورا سرعان ما أنبتت أفكارا عقلية في مسائل سياسية كالتي رأيناها عند الخوارج، وفي مسائل فلسفية كالتي رأيناها في أوائل المعتزلة، بل أنبتت بحوثا عقلية مستفيضة في اللغة وقواعدها، وفي الشعر وبحوره.

ولقد اخترنا لوقفتنا الثالثة هذه مدينة بغداد من القرن التاسع الميلادي (الثالث الهجري)، لكننا لا نكاد ننطق بهذا الاسم اللامع في تاريخ العقل العربي، حتى نسأل: وما بغداد؟ ثم لا نكاد نأخذ في القراءة عن قصة نشأتها بأمر من الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور، حتى ينشأ سؤال وراء السؤال الأول عن هذه الخلافة العباسية نفسها؛ كيف جاءت؟ ولولا أن الأمر في هذا وفي ذاك وثيق الصلة بجذور فكرية، لما جعلناه موضع اهتمامنا هنا؛ لأن الأمر كان عندئذ ليصبح من شأن التاريخ وحده، ولست - كما قلت في موضع سابق - مؤرخا، لكني في هذا الكتاب «مثقف» عام من أبناء القرن العشرين، أراد أن يطل إطلالات متفرقة على الحياة العقلية عند أسلافنا؛ لعل هذه الإطلالات أن تنتهي بنا إلى طابع أصيل مشترك، فيكون هو ما يؤخذ من التراث الفكري، كلما أردنا أن نطعم حياتنا نحن الفكرية بما يجعلها «عربية» إلى جانب كونها مسايرة لعصرها الحاضر.

كانت الخلافة قد أفلتت من أيدي علي وبنيه، إلى حيث استقرت حينا في الأسرة الأموية، بادئة بمعاوية، لكن ذلك لم يمنع أن تظل هناك جماعات من الناس، تتمنى لو عادت الخلافة إلى أصحابها من أحفاد علي، على اختلاف بينهم فيمن يكون أحق من سواه بين هؤلاء الأحفاد، ثم ما هي إلا أن نشأت فكرة أخرى، وهي أن تكون الخلافة في بني هاشم، دون أن يكون الأمر في هذا مقصورا على علي وأسرته، فمن ذا يكون إلا أبناء العباس بن عبد المطلب، عم النبي عليه السلام، ولم يلبث أصحاب هذه الفكرة أن اختاروا أحد هؤلاء، وفوتح هذا في اختياره وصادف الأمر في نفسه هوى، لكنه أراد أن يتريث حتى يخطو خطواته على أرض ثابتة؛ إذ لم يكن نقل السلطان من بيت بني أمية إلى غيره مما يتم بين يوم وليلة، ولا كان ذلك مما تؤمن عواقبه لو حدث في ضوء النهار، وإذن فلا بد من التمهيد للانقلاب بالدعاية التي تجري تحت جنح الظلام - لو أمكن استخدام هذه الألفاظ العصرية للفترة القديمة التي نتحدث عنها - ومن هنا أخذت هذه الجماعة تدبر أمرها بتكوين ما قد يسمى في يومنا «بالخلايا السرية» لبث الدعوة إلى أبناء العباس بين الناس، ورسمت الخطة لهؤلاء الدعاة، بأن يدعوا إلى ولاية أهل البيت - دون أن يذكروا اسما معينا؛ حتى لا يكون صاحب الاسم موضع نقمة الحاكمين من البيت الأموي.

وبدأت هذه الحركة السرية في موطنين، ظن - بحق - أنهما أصلح المواطن للدعوة وهي في نشأتها الأولى، وهما الكوفة وإقليم خراسان؛ لماذا؟ لأن الكوفة معروفة بولائها لآل البيت، ولأن خراسان كانت فيما يبدو تعج بالشكوى الخافتة مما كان يلقاه الموالي - وهم الفرس المسلمون - من ذل على أيدي الأمويين، فالأمويون كما نعرف عرب خلص، أرادوا أن تكون للعرب السيادة على غيرهم، حتى لو كان غيرهم من المسلمين، وهذا معناه بعبارة أخرى - وهو المعنى الذي يهمنا نحن من الناحية الفكرية - أن تحالف السياسة مع الثقافة لاتفاقهما في الهدف؛ فمن الناحية السياسية كان هناك حزبان يقتتلان على الحكم؛ أحدهما يرى حصر الحكم في أهل البيت وحدهم دون سواهم، فإذا لم يكن علي كان أحد أبنائه، أو فليكن العباس عم النبي

صلى الله عليه وسلم

أو أحد أبناء العباس، وأما ثانيهما فهو الذي يرى أن تكون الخلافة في ظهر من بني أمية. ومن الناحية الثقافية كذلك كان هناك حزبان أو جماعتان ، فكان أحد الحزبين جماعة تتعصب للتراث العربي القديم وحده دون ما قد وفد إلى الناس من البلاد المفتوحة مثل فارس، وكان الحزب الآخر، وهو بالطبع مؤلف من غير العرب، يهتمون بالثقافات غير العربية كالثقافة الفارسية، ولو أخذنا مجموعة من كل من الجماعتين وضممناهما بعضا إلى بعض ليكون من جمعهما فئة تدبر لنقل الحكم من بيت إلى بيت، نقله من بني أمية إلى بني العباس، إذن فلنجمع شيعة علي في الكوفة إلى الفرس المتمردين حرصا على أصولهم الثقافية أن تضيع، وهم أهل خراسان، وهكذا كان.

نجح التدبير، وبويع أبو العباس بالخلافة سنة 750 ميلادية، فصعد المنبر إلى أعلاه، وصعده معه عمه، ولكنه جعل نفسه في موضع دون موضعه، ثم تكلم أبو العباس حتى أعيته وعكة كانت تعتريه آنئذ، فقام عمه ليتولى عن ابن أخيه خطاب الناس، وسنورد هنا فقرات من الخطبتين لنبين كيف صور المتكلمان رجال الأسرة الأموية التي دالت دولتها؛ لعلنا نفيد من هذا درسا واحدا، وهو امتناع الكمال على أسلافنا، فهم - مثلنا - يكذبون ويكيدون، ويتآمرون ويغتالون، في سبيل الوصول إلى مواضع الرياسة والحكم، فلا حرج علينا أن ننبذ من تراثهم الذي خلفوه لنا ما ننبذه، ونأخذ ما نأخذه؛ قال أبو العباس في خطبته عن بني أمية إنهم جاءوا إلى الحكم فابتزوا أموال الناس، «وجاروا فيها واستأثروا بها، وظلموا أهلها ... فانتقم الله منهم بأيدينا، ورد علينا حقنا ...»

ويمضي ابن الأثير الذي نأخذ من كتابه «الكامل» هذه الصورة فيقول: وكان أبو العباس موعوكا، فاشتد عليه الوعك، فجلس على المنبر وقام عمه فقال: «أيها الناس! الآن أقشعت حنادس الدنيا، وانكشف غطاؤها، وأشرقت أرضها وسماؤها، وطلعت الشمس من مطلعها، وبزغ القمر من مبزغه، وأخذ القوس باريها ... ورجع الحق إلى نصابه في أهل بيت نبيكم، أهل الرأفة والرحمة بكم والعطف عليكم ... أيها الناس! ... تبا تبا لبني حرب بن أمية وبني مروان! آثروا في مدتهم العاجلة على الآجلة، والدار الفانية على الدار الباقية، فركبوا الآثام، وظلموا الأنام، وانتهكوا المحارم، وغشوا بالجرائم، وجاروا في سيرتهم في العباد وسنتهم في البلاد، ومرحوا في أعنة المعاصي، وركضوا في ميدان الغي جهلا باستدراج الله وأمنا لمكر الله، فأتاهم بأس الله بياتا وهم نائمون، فأصبحوا أحاديث، ومزقوا كل ممزق، فبعدا للقوم الظالمين ...»

كان هذا اللقاء في الكوفة، وأهل الكوفة - كما نعلم - هم أشياع أهل البيت، فكان مما خاطبهم به الخطيب يومئذ - وهو عم الخليفة الجديد - قوله فيهم: «يا أهل الكوفة! إنا والله ما زلنا مظلومين مقهورين على حقنا، حتى أباح الله شيعتنا أهل خراسان، فأحيا بهم حقنا ...» فما الذي جعل هؤلاء شيعة أولئك؟ إنها المصلحة المشتركة؛ فأولئك يريدون الحكم، وهؤلاء يردون الانتقام من الأمويين الذين اعتزوا بالعروبة وحدها فأذلوا من لم ينتسب لها حتى ولو كان من المسلمين! فإذا ألحقنا السؤال الأول بسؤال ثان، هو: وإلى متى سيظل التحالف بين بني العباس وفرس خراسان؟ سيظل ما بقيت تلك المصلحة قائمة، حتى إذا ما انقضت انفرط عقدها.

وحسبنا في هذا المقام أن نذكر كيف فتك الخليفة العباسي الثاني - أبو جعفر المنصور - بأبي مسلم الخراساني الذي كان له أعظم الفضل في أن كسب خراسان إلى جانب بني العباس؛ فمنذ أن كان أبو جعفر المنصور وليا للعهد في أيام أخيه أبي العباس السفاح، كان بين أبي جعفر هذا وأبي مسلم كراهية وازدراء، كراهية الأول للثاني وازدراء الثاني للأول، حتى لقد دار هذا الحديث بين أبي جعفر وأخيه الخليفة:

أبو جعفر :

أطعني، واقتل أبا مسلم؛ فوالله إن في رأسه لغدرة.

السفاح :

قد عرفت بلاءه وما كان منه.

أبو جعفر :

إنما كان بدولتنا، والله لو بعثت سنورا لقام مقامه وبلغ ما بلغ.

السفاح :

وكيف نقتله؟

أبو جعفر :

إذا دخل عليك وحادثته، ضربته أنا من خلفه ضربة قتلته بها.

السفاح :

فكيف بأصحابه؟

أبو جعفر :

لو قتل لتفرقوا وذلوا.

فأمره بقتله، ثم ندم على ذلك، فعاد وأمره بالكف عن قتله.

فماذا يصنع أبو جعفر بغريمه الخراساني، فور أن بات الأول خليفة للمسلمين بعد موت أخيه؟ لقد انتهز لقتله أول فرصة سنحت؛ إذ جاء به ليلقاه، وكان قد أعد نفرا من حرسه وراء الرواق الذي كان به، وأمرهم بأنه إذا صفق لهم بيديه، فهموا من ذلك أن يخرجوا من مخبأهم ليعملوا سيوفهم في أبي مسلم الخراساني.

وجيء بأبي مسلم، وكان قد كسب معارك لتوه من أعداء للعباسيين، فلما أن مثل بين يديه، وكان أبو مسلم يحمل نصلا من نصلين غنمهما ممن كان يقاتله، فأخذه منه المنصور ليراه، ثم وضعه تحت فراشه، ولم يكن أبو مسلم يتوقع الغدر، وأخذ الخليفة يعاتبه على أشياء وقعت منه، والغيظ تعلو حدته كلما ذكر له منها شيئا، وصفق، فخرج الحرس المتخفي وراء الرواق، وما إن أبصر الخراساني منيته عالقة على أطراف السيوف، حتى استرحم الخليفة:

أبو مسلم :

استبقني لعدوك يا أمير المؤمنين.

المنصور :

لا أبقاني الله إذا! أعدو عدوي لي منك؟!

وأخذه الحرس بسيوفهم حتى قتلوه وهو يصيح: العفو!

المنصور :

يا ابن اللخناء! العفو والسيوف قد اعتورتك!

وتوقع المنصور أن يثور لأبي مسلم الخراساني بعض تابعيه، فخطب في الناس قائلا: «لا تخرجوا من أنس الطاعة إلى وحشة المعصية، ولا تمشوا في ظلمة الباطل بعد سعيكم في ضياء الحق، إن أبا مسلم قد ... رجح قبيح باطنه على حسن ظاهره ...»

ولم يكن ليمضي قتل الخراساني بغير أثر مهما خطب أمير المؤمنين وأجاد في الخطاب دفاعا عن فعلته؛ فمنذ نشأت دنيا الناس، ولعله كذلك إلى أن تنتهي هذه الدنيا، والقتال على السلطان دائر الرحى بين الطامعين فيه، فإذا انتصر طامع على طامع، كانت الفضائل كلها للمنتصر، والخبائث كلها للمهزوم، وماذا نتوقع لقاتل منتصر أن يقول؟ أيقول: أيها الناس، قد قتلته وإني لخبيث وإنه لطيب؟! فإذا انتزع بنو العباس أسباب السلطان من بني أمية، كان الحق كله والفضل كله في أيدي العباسيين، وكان الشر كله والرذيلة كلها من صفات أعدائهم، وإذا أمسك المنصور بالخراساني، كان المنصور هو الذي «يسعى في ضياء الحق» وأما غريمه «فكان حسن ظاهره إنما يخفي باطنا قبيحا».

20

وإذا كان قيام الدولة العباسية، الذي ارتكز فيما ارتكز على تأييد جبهة فارسية في خراسان، يقودها أبو مسلم، ثم إذا كان الحكم العباسي لم يكد يبدأ حتى انقلب على مؤيده أبي مسلم فقتله، أقول: إنه إذا كان هذا كله من قبيل السياسة وما يلحق بها من معارك، فإن هذه المقدمات السياسية قد أنتجت نتائج ثقافية لم تكن لأول وهلة تبدو لازمة الظهور من تلك المقدمات، ومن هذه النتائج ما هو واقع في صميم النشاط العقلي الذي هو هدفنا الأول من هذا الكتاب، ولكن من هذه النتائج أيضا ما قد أسرف في مجانبة العقل وحدوده.

ونبدأ بهذا الجانب اللامعقول الذي أنتجه الصراع السياسي الذي ألممنا بطرف يسير منه، فنقول: إن ردود الفعل التي ظهرت بين الفرس لقتل الخراساني، كانت كثرتها الغالبة عجبا في عجب من إيغالها في سمادير الوهم والخرافة، لقد أيد هؤلاء الفرس قيادة أبي مسلم في نصرتها للعباسيين، لا لأنهم صدروا في ذلك التأييد عن عقيدة بأن بني العباس في ذواتهم هم أفضل عنصرا من بني أمية في ذواتهم، بل أيدوها لأن استبدال أسرة حاكمة جديدة بأسرة حاكمة قديمة، قد يفتح أمامهم أملا أوصدت أبوابه على أيدي الأسرة القديمة، وهو أن يكون للفارسي المسلم من الحقوق ومن المنزلة ما لزميله العربي المسلم، وها هو ذا الخراساني قد قتل على أيدي الحكام الجدد، إذن فليتمردوا بطريقة أخرى، وهي أن يقاوموا بثقافتهم الفارسية القديمة ثقافة العرب، وكان لهذه المقاومة الثقافية وجهان؛ أحدهما يدخل في باب المعارف العقلية العلمية، وأما الآخر فهو جهالة يرفضها العقل رفضا صريحا لا تردد فيه، وحسبك من هذا الوجه اللامعقول أن تعلم أن المدار في معظم الأحيان كان هو تأليه أبي مسلم الخراساني، وأنه بقتله إنما صعد روحه إلى السماء ليعود في رجعة أخرى، ولم يمت على نحو ما يتصور الناس الموت في سائر الرجال.

فلم يكد يسير في الناس نبأ الخراساني، حتى خرج بخراسان رجل يسمى «سنباد» مطالبا بدمه، ثم ما هو إلا أن تبعه في ثورته أتباع كثيرون من المجوس، حتى اضطر الخليفة المنصور أن يوجه إليه جيشا من عشرة آلاف، وإنه ليروى (راجع الكامل لابن الأثير، ج5، ص481 من طبعة دار صادر ببيروت) أن هزيمة سنباد أمام جيش الخليفة إنما جاءت نتيجة لحادث وقع، فشتت أعوان سنباد، وذلك أنه لما قدم جيش الخليفة قدم سنباد ما بين يديه من النساء السبايا المسلمات، وكن راكبات على جمال، فما كدن يبلغن معسكر المسلمين، حتى قمن على ظهور جمالهن ينادين: وامحمداه! ذهب الإسلام! وعندئذ وقعت الريح في أثوابهن، فنفرت الإبل وعادت إلى عسكر سنباد، فتفرق العسكر فزعا، ومن ثم كانت هزيمتهم.

ولم يلبث الخليفة أن قام في وجهه ثائرون آخرون من أهل خراسان، يعرفون باسم «الراوندية» مطالبين هم كذلك بدم أبي مسلم؛ على أن أهم ما يستوقف النظر في حركتي سنباد والراوندية، هو دعوتهم إلى عقائدهم الأولى، وإنه لمما يجدر ذكره بشأن جماعة الرواندية هؤلاء مفارقة تستحق التأمل، وهي أنهم - وهم الخارجون على تعاليم الإسلام غيظا مما نزل بقائدهم أبي مسلم - وقد ظمئت نفوسهم إلى شيء يروي ميولهم القديمة التي كانت تلتمس دائما ذلك الإنسان الرباني الذي يصل لهم ما بين السماء والأرض، فخيل إليهم يومئذ أنه لم يكن بين الناس من يستحق هذه المنزلة إلا الخليفة المنصور نفسه، فوفدت جماعاتهم إلى قصر المنصور يصيحون قائلون: هذا ربنا، وهذا قصره! فغضب المنصور وأخذ رؤساءهم وحبسهم، فحمل أصحابهم نعشا خاليا، ومروا به حتى صاروا على باب السجن فرموا به، وحملوا على الناس هناك، ودخلوا السجن عنوة، وأخرجوا أصحابهم.

والذي يهمنا بصورة خاصة من هذه الأحداث وأمثالها، هو أنه لا يعقل أن يكون قتل رجل كأبي مسلم الخراساني مبررا كافيا لمثل تلك الردة إلى ديانات الفرس فيما قبل الإسلام، وبمثل تلك السرعة وذلك الاتساع، مما يدل - فيما نرى - دلالة قوية على أن الإسلام لم يكن عند القوم أكثر من غطاء خارجي أبعد ما يكون عن ثبات الجذور، فكانت تكفيه أقل هبة من هواء ليطير فتنكشف العقائد الراسخة من تحته، وإذا قلنا «العقائد» فقد قلنا «الثقافة» أيضا، وهي كلها مما قد يرضي شيئا في وجدانهم، لكنه مبتور الصلة «بالعقل» وكل ما يتصل بالنظرة «العقلية» بسبب من الأسباب.

كانت حكمة الساسة من المسلمين قد حملتهم على أن يعدوا أتباع المجوسية (الزرادشتية) في فارس مماثلين لأهل الكتاب في أسس التعامل، أي إنهم أحرار في عقيدتهم الدينية ما داموا يدفعون الجزية، غير أن كثيرين جدا من الفرس قد آثروا اعتناق الإسلام، ثم ما لبثوا أن حاولوا تحوير الإسلام بما يتفق مع عقائدهم الأولى، فإذا تعذر عليهم ذلك، أبقوا على الإسلام ظاهرا، وأحيوا عقائدهم الأولى باطنا، حتى إذا ما سنحت بارقة من أمل أن يكون لهم السلطان، نفضوا عن أنفسهم ذلك الظاهر، وأبدوا أمام الأعين ما كانوا يبطنون.

ولم تكن المجوسية (أو الزرادشتية) وحدها هي القائمة في بلاد فارس عندما دخلها الإسلام، بل كان هنالك إلى جانبها ديانتان أخريان، هما المانوية والمزدكية، أما الأولى فهي تنسب إلى «ماني» (ولد 216 ميلادية ومات 276م)، وأهم مبادئها أن الكون قائم على أساسين يتنافسان؛ أحدهما للخير، والآخر للشر، وقد تمثلا في النور والظلمة، ثم ذهبوا إلى جانب ذلك مذهب القائلين بالتناسخ، وهي عقيدة نقلوها عن البوذية، وأما الديانة الثانية - أعني المزدكية - فتنسب إلى «مزدك» وهي ذات جانبين؛ جانب ديني يكمل ما قاله به «ماني» من تنافس بين النور والظلمة، بأن يجعل النصر للنور، وجانب اجتماعي يبيح شيوعية النساء والأموال.

إننا في هذا الكتاب نتعقب مسار «العقل» في تراثنا الفكري، فلما أن بلغ بنا السير أواسط القرن الثامن الميلادي، ووقفنا وقفة تمهد لنا النقلة من البصرة إلى بغداد، لفت أنظارنا ما اقترن بقيام الدولة العباسية عندئذ من مناصرة الفرس لها على سبيل الانتقام لثقافتهم القديمة التي أريد لها أن تنسخ نسخا، ولقوميتهم التي أريد لها أن تموت أو أن تتراجع إلى الصفوف الدنيا من طبقات المجتمع، ثم لفت أنظارنا بعد قليل كيف جاء موت الخراساني بأمر من الخليفة المنصور، بمثابة الضغطة على الزناد، فانفجر القوم يبدون من أنفسهم ما كانوا قد أخفوه، وكان هذا الذي أخفوه - كما أشرنا في إشارة عابرة - عقائد إلحادية لا تتسق مع منطق العقل حتى حين يكون هذا المنطق في أدنى درجاته وأيسرها، لكن رب ضارة نافعة كما يقولون؛ فمن هذا «اللامعقول» نبتت حركات عقلية نعتز بها إلى اليوم، تمثلت في فكر المعتزلة ومنطقهم؛ إذ هم يؤيدون بالعقل وحجته بنيان الدين، وكان الذين حفزهم إلى ذلك هو ما تعرض له هذا البنيان من سهام طائشة قذف بها قوم غاضبون، فحجب سعار الغضب عن أعينهم معالم الطريق. لكننا كذلك لا بد أن نضيف هنا نتيجة أخرى نتجت أيضا عن إحياء فريق من الفرس لدياناتهم الأولى، وهي أن دعوتهم تلك كانت بغير شك مساعدة على تقوية النظرة الصوفية عند أصحابها؛ فمهما اختلف المتصوفة المسلمون عن جماعات الزنادقة أولئك، فهم يلتقون معهم في الركون إلى غير طريق «العقل» في محاولتهم اختراق حجب المادة ليشهدوا وراءها «الحق»، أو ليدمجوا ذواتهم مع ذلك «الحق» دمجا، ولا عجب أن رأينا الناس يتأرجحون عند الحكم على المتصوفة، بين أن يجعلوهم في قمة الإيمان وأن يجعلوهم مع الملحدين أو الكافرين.

21

ولنترك هذه الردة نحو «اللامعقول» على جانب الطريق؛ كي نمضي نحو معقل للعقل هو من أعتى حصونه على طول التاريخ، وأعني به بغداد وهي في أوجها، لكن أين بغداد؟ لقد كنا نتحدث منذ برهة قصيرة عن مقتل أبي مسلم الخراساني على يدي المنصور - ثاني خلفاء الدولة العباسية - وما نجم عن ذلك الحادث من نتائج في دنيا الثقافة التي خلفها لنا السابقون، وكانت بغداد عندئذ لم ينشأ منها جدار؛ فقد كان المنصور إلى ذلك الحين يقيم بالكوفة، فلما ثارت عليه «الراوندية» فيها - على نحو ما أشرنا منذ قليل - كره الإقامة حيث كان يقيم، فخرج بنفسه يرتاد له موضعا يسكنه هو وجنده.

وتأبى كتب التاريخ القديم - عندنا وعند سوانا - إلا أن تحيط كل حدث عظيم بما يتناسب مع جسامته من أساطير، حتى لتكاد الخرافة تتناسب تناسبا مطردا مع جسامة الحدث، والحدث الذي نحن مقبلون على الرواية عنه، هو بناء بغداد، وأما الأساطير التي شاعت حول بنائها، فمنها (ونحن ننقل عن الكامل لابن الأثير) أنه بينما المنصور يصوب هنا ويصعد هناك باحثا عن مكان يستقر فيه وهو آمن، تصادف أن تخلف عنه أحد جنده لرمد أصابه، فسأله الطبيب الذي يعالجه عن حركة المنصور؛ ما سببها؟ فأخبره، فقال الطبيب: إن كتابا عندهم يقص قصة عن رجل يدعى «مقلاصا» يبني لنفسه مدينة في المكان الفلاني، حتى إذا ما أقام أساسها، وبنى بعض دورها، سمع بثورة عليه في الحجاز، فيقطع بناء مدينته حتى يقضي على تلك الثورة، وما إن عاد إلى مواصلة البناء، سمع بثورة أخرى في البصرة، فيقطع البناء مرة أخرى ليقضي عليها، ثم يعود بعد ذلك إلى بناء مدينته فيتمه، ثم يعمر عمرا طويلا، ويبقى الملك في عقبه.

فأسرع ذلك الجندي إلى حيث كان المنصور ليخبره بما قد سمع من الطبيب، فقال المنصور متفائلا: إني والله كنت أدعى مقلاصا وأنا صبي، وسار من فوره حتى نزل الدير الذي يقع حذاء قصره المعروف بالخلد، وجمع بطارقة الدير يسألهم عن مواطنهم كيف هي في الحر والبرد والأمطار والوحول والهوام؟ فلما أخبره كل منهم بما عنده في إقليمه، وقع اختياره على بغداد فاستدعى صاحب بغداد يسأله أن يفصل القول في خصائص هذا الموضع، فأخذ الرجل يذكر له من الخصائص ما أغراه بأن يكون موضع بغداد هو مقصده.

وأمر فخطت المدينة، وحفر الأساس، وضرب اللبن، وطبخ الآجر، وكان أول ما ابتدأ به منها أنه أمر بخطها بالرماد، فدخلها من أبوابها وفصلانها وطاقاتها ورحابها وهي مخطوطة بالرماد، ثم أمر أن يجعل على الرماد حب القطن ويشعل بالنار، ففعلوا، فنظر إليها وهي تشتعل، فعرف رسمها، وأمر أن يحفر الأساس على ذلك الرسم.

وكذلك أمر باختيار قوم من ذوي الفضل والعدالة والفقه، ومن ذوي الأمانة والمعرفة بالهندسة، فكان ممن أحضر أبو حنيفة، الذي طلب إليه المنصور أن يجعل مهمته عد الآجر واللبن، مع أنه قد اختاره أول الأمر ليتولى القضاء، فلما أن تلقى أبو حنيفة الأمر بعد الآجر واللبن، وقف صامتا، حلف المنصور أنه لن يتركه حتى يؤدي له تلك المهمة أولا، فأجابه أبو حنيفة أن يلجأ إلى القصب في عد ما أراد عده، فكانت هذه أول مرة تستخدم فيها هذه الطريقة الهندسية من القياس، وكان أن وضع المنصور بيده أول لبنة (وعلى نحو ما نفعل اليوم في وضع حجر الأساس) قائلا: بسم الله، والحمد لله، والأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين، ثم قال: ابنوا على بركة الله، وكان ذلك عام 765م.

كان خالد بن برمك بين من شاورهم المنصور في بناء بغداد، وقيل: إنه هو الذي خطها، فاستشاره في نقض إيوان كسرى واستخدام نقضه في بناء المدينة الجديدة، فأجابه خالد (وهو فارسي ينتمي إلى البلد الذي كان ينتسب إليه الإيوان المراد هدمه): لا أرى ذلك؛ لأنه علم من أعلام الإسلام، يستدل به الناظر على أنه لم يكن ليزال مثل أصحابه عنه بأمر دنيا، وإنما هو على أمر دين، ومع هذا ففيه مصلى علي بن أبي طالب، قال المنصور: لا، أبيت يا خالد إلا الميل إلى أصحابك العجم! وأمر بنقض القصر الأبيض، فنقضت ناحية منه، وحمل نقضه، فوجد أن نفقات الهدم ونقل الأنقاض أكثر مما لو بني البناء الجديد بالحديد! فدعا المنصور خالد بن برمك ليعلمه بذلك، فقال خالد: يا أمير المؤمنين، فقد كنت أرى ألا تفعل، فأما إذ فعلت فإنني أرى أن تهدم؛ لئلا يقال: إنك عجزت عن هدم ما بناه غيرك! لكن المنصور أعرض عن الهدم، ولقد أوردت كلام خالد بن برمك لما أحسسته فيه من رنة الفخر بأصله الفارسي، والشماتة بعجز الجديد وتقصيره عن مجد آبائه.

جعل المنصور المدينة مدورة لئلا يكون بعض الناس أقرب إلى السلطان من بعض، سابقا بفكرته هذه الملك آرثر ومائدته المستديرة، وبنى المنصور قصره في وسط المدينة والمسجد الجامع بجانبه.

في هذا الحصن الحصين اعتصم «العقل» حينا من الزمن غير قصير، فليكن لنا فيه وقفات هنا وهناك، لننظر إلى الموكب العقلي العظيم، يمر على مسرح التاريخ، مغمضا عينيه عن سخافات اللامعقول التي كانت في تلك الفترة نفسها تظهر كصرخات المجانين ، تؤله رجلا هنا، وتفك قيود الأخلاق العامة هناك، ولتكن أولى وقفاتنا في «بيت الحكمة» (832م) أيام الخليفة المأمون.

جاء في «الفهرست» لابن النديم أن المأمون قد رأى في منامه كأن رجلا أبيض اللون مشربا حمرة، واسع الجبهة مقرون الحاجب، أجلح الرأس أشهل العينين، حسن الشمائل، جالس على سريره، قال المأمون: وكأني بين يديه قد ملئت له هيبة: - من أنت؟ - أنا أرسطاليس.

فسررت به، وقلت: أيها الحكيم! هل أسألك؟ - سل. - ما الحسن؟ - هو ما حسن في «العقل». - ثم ماذا؟ - ما حسن في «الشرع». - ثم ماذا؟ - ما حسن عند الجمهور. - ثم ماذا؟ - ثم لا ثم!

يقول صاحب «الفهرست»: فكان هذا المنام من أوكد الأسباب في إخراج الكتب؛ فقد كانت بين المأمون وملك الروم مراسلات، فأرسل إليه يستأذنه في مجموعة مختارة من العلوم القديمة المخزونة المدخرة ببلد الروم، فأجابه ملك الروم إلى طلبه بعد امتناع، فأخرج المأمون جماعة، منهم الحجاج بن مطر، وابن البطريق، وسلما صاحب بيت الحكمة، فأخذوا مما وجدوا ما اختاروه، فلما حملوه إلى المأمون أمرهم بنقله، فنقل، وكانت هذه الكتب المختارة في الفلسفة والهندسة والموسيقى والحساب والطب.

إنك لتعرف اهتمام القوم يومئذ باستخراج ما حوت كتب القدماء في بطونها من شتى صنوف العلم، إذا عرفت كم أخذت تشيع الأساطير بين الناس عن الكتب، أين توجد، وكيف يمكن الحصول عليها، كأنما هم يبحثون عن مناجم الذهب ليستخرجوه من مكامنه، فتقرأ - مثلا - لابن النديم في «الفهرست» رواية ينقلها فلان عن فلان أنه كان يحكي في مجلس عام (ولا يفوتنك هنا أن الحديث كان في مجلس عام مما يدل على اتساع مجال الاهتمام بين الناس) فيقول: إنه وجد ببلد الروم هيكلا قديم البناء، عليه باب بمصراعين من حديد، والباب قد بلغ من العظم حدا يجعله فريد نوعه فيما عرف الناس جميعا، وكان اليونانيون - فيما روى هذا الرحالة الذي يقص على الناس حكايته - إذا ما أرادوا أداء الشعائر الدينية في عبادتهم للكواكب والأصنام، يعظمون ذلك البناء، ويبتهلون فيه إلى معبوداتهم بالدعاء، ويذبحون فيه الذبائح ، ويقول الراوي: فسألت ملك الروم أن يفتحه لي، فامتنع من ذلك، فلم أزل به حتى فتحه، فإذا ذلك البيت قد أقيم من المرمر الجميل ومن أنفس الحجر، وعليه من الكتابات والنقوش ما لم أر ولم أسمع بمثله كثرة وحسنا، ومن هذا الهيكل من الكتب ما يحمل على ألف جمل، وكان بعض تلك الكتب قد أخلق، وبعضها أكلته الأرضة وبعضها لم يزل على حالة جيدة، قال الراوي: ورأيت في الهيكل آلات للقرابين صنعت من ذهب، وغير ذلك من النفائس، فلما فرغت من رؤية المكان، أغلق ملك الروم باب الهيكل بعد خروجي، وامتن علي بما فعل ... فإذا كانت حكايات كهذه هي التي يتفتق عنها خيال القاص ويستمع إليها جمهور الناس، فلا بد أن يكون «الكتاب» وما يرتبط بالكتب من معرفة، هو الذي ملك على القوم عقولهم وقلوبهم معا، ولا فرق في هذه الحالة بين أن تكون رواية الراوي من واقع الأحداث أو من خلق الخيال؛ لأن ما يهمنا نحن في أي الحالتين هو ما هفت إليه النفوس في الفترة التي اتخذنا فيها موقفنا لنلقي البصر والسمع إلى أهلها: بماذا ينشطون وفيم يفكرون.

ولو دخلنا «بيت الحكمة» هذا الذي أقيم ليكون مقرا لنقل الكتب المحمولة من هنا وهناك إلى اللغة العربية، لوجدناه يرفع أمام أبصارنا على الفور دليله الصارخ بما ساد المكان من إجلال للعلم ومكانته؛ إذ يكفي أن نرى بلمحة واحدة رجالا اختلفت عقائدهم الدينية، واختلفت أوطانهم ولغاتهم ومذاهبهم لكنهم اتفقوا جميعا على هدف واحد، هو الاشتغال بنقل هذه العلوم التي طويت في الكتب أمامهم لتصبح بعدئذ علوما تجري في لغة عربية؛ تمهيدا لها أن تتحول على الزمن ثقافة عربية بعد تهذيبها بالحذف هنا وبالإضافة هنا وبالشرح والتأويل هناك؛ حتى تلائم روح العربي بصفة عامة، والعربي المسلم بصفة خاصة، ولعلنا حين يمتد بنا طريق رحلتنا الثقافية هذه مع تراثنا الفكري وهو لم يزل في منابعه وأصوله، أن نرى إلى أي حد استطاع العلم المنقول أن يسري في العقل العربي سريان الزيت في الزيتونة، أم ترى يصدق قول من قال عن الثقافة اليونانية وما تركته من أثر حين نقلت إلى العرب، بالقياس إلى أثرها حين نقلت بعدئذ إلى أوروبا، من أنها وهي في أوروبا صادفت ناسا من جنس أهلها، فكأنها أضافت عددا إلى أصحابها، وأما وهي بين أيدي العرب فقد صادفت أناسا اختلفوا عن أهلها، وثقافة تباينت معها أصولا وفروعا، ومن ثم كانت كالجسم الغريب يدخل المعدة فلا تهضمه، وتنبذه نبذا، أو يفنيها ويهلكها، وحسبنا في هذا الموضع من مراحل السفر أن نلاحظ وأن نسجل بأننا أمام بوتقة وضعت فيها مختلف الثقافات القديمة مما جاء من اليونان ومن الهند ومن فارس ومن غيرها؛ لعلها أن تنصهر جميعا في مزيج واحد، قد يضاف إلى الثقافة العربية الأصيلة فينتج لهم هذا الذي أصبحنا نتلقاه عنهم ونسميه تراثا عربيا.

خطوة واحدة نخطوها داخل «بيت الحكمة» لنلمح قبسا مما تختلج به تلك الدار من ضروب النشاط، كافية لنبصر ثلاثة رجال من أسرة واحدة مسيحية، منكبين على الترجمة، هم حنين بن إسحاق وابنه إسحاق بن حنين، وابن أخيه حبيش بن الحسن، ولا شك أن الوالد كان صاحب المكانة العليا في ترجمة المؤلفات العلمية من اليونانية إلى العربية، ولقد ترك لنا سيرة حياته مكتوبة بقلمه، يكشف فيها عن مراحل نموه وأحداث دنياه، فلقد جاء حنين من الحيرة، كان أبوه صانع عقاقير، نسطوري المذهب في عقيدته المسيحية، ولم يتعلم حنين اللغة العربية إلا في أواخر سنيه، فبعد أن انتقل من موطنه وقصد إلى جنديسابور - وكان فيها مدرسة طبية واسعة الشهرة - حيث استمع إلى دروس الطبيب العالم ابن ماسويه، حدث خلاف بين التلميذ وأستاذه، ترك حنين على أثره مدينة جنديسابور، وذهب إلى بلاد اليونان، وهناك تعلم لغة اليونان وأجادها، وعاد من أرض اليونان إلى البصرة حيث تعلم اللغة العربية على يدي الخليل بن أحمد، ومن البصرة ذهب إلى بغداد، حيث كانت الخلافة عندئذ قد آلت إلى المأمون منذ عدة أعوام.

فما أن أقيمت دار الحكمة لتكون مركزا لنقل علوم الأوائل، وخصوصا علوم اليونان، حتى وضع حنين في أنسب مكان يوضع فيه؛ ليعمل أحب عمل إليه ، فانكب الرجل على ترجمة المؤلفات اليونانية انكبابا، حتى إنه في فترة وجيزة كانت العربية قد ظفرت على يديه بالجزء الأكبر من مؤلفات جالينوس، وهيبوقراطس، وبطليموس، وإقليدس، وأرسطو، وغيرهم.

إن رجلا واحدا فيه الإخلاص للعلم، ولديه المقدرة على تحصيله أو على نقله، قد يكون نقطة تحول ثقافي لأمة بأسرها، وأحسب أن لو أردنا شبيها لحنين بن إسحاق في ثقافتنا العربية الحديثة، من حيث الدور الذي أداه كلا الشبيهين، لقلنا: إنه رفاعة رافع الطهطاوي، فإذا كانت بغداد قد شهدت «بيت الحكمة» مكانا للنشاط الفكري في عملية الترجمة، فالقاهرة قد شهدت «مدرسة الألسن» في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، وإذا كان حنين بن إسحاق هناك قد تسلح بمعرفة اللغة اليونانية المنقول عنها ثقافة الآخرين، فقد أتيح للطهطاوي أن يتزود باللغة الفرنسية في باريس، وكانت ترجمات «بيت الحكمة» بمثابة نقطة تحول من ثقافة عربية خالصة، إلى ثقافة مزجت بها ألوان يونانية (برغم أنه كان قد سبق ذلك بدايات للترجمة قبل عصر المأمون وقبل بيت الحكمة وقبل حنين بن إسحاق) كذلك كانت ترجمات «مدرسة الألسن» نقطة تحول من حالة فكرية راكدة، إلى حياة فكرية دب فيها نشاط لم يفتر منذ ذلك الحين وإلى يومنا هذا.

على أن الذي يدعونا إلى التساؤل - ونحن ما نزال في «بيت الحكمة» نلقي نظرة عابرة إلى جماعة المترجمين ينقلون التراث الإغريقي إلى اللغة العربية - أقول: إن الذي يدعونا إلى التساؤل والنظر المتمهل هو: إلى أي حد تسربت هذه المادة العلمية في شرايين الثقافة العربية بعد ذلك؟ ثم ما الذي دفع المأمون إلى حركة النقل الواسعة هذه؟ أليس مما يبعث الحيرة في نفوسنا أن نرى عهدا من الحكم وثيق الصلة بالفرس، من حيث نشأته أولا، وحفظه وإدارته ثانيا، وفي الوقت نفسه الذي شاع فيه بين هؤلاء الفرس رجوع إلى ديانات لهم قديمة ليس فيها من النظرة العقلية إلا قليل، أن نراه قد ساير تلك الحركة الراجعة بحركة أخرى تباينها أشد ما يكون التباين، وهي أن تنقل إلى العربية ثقافة اليونان بما فيها من فلسفة وعلوم قوامها عقل صرف ومنطق خالص؟

أما عن السؤال الأول: إلى اي حد تسربت هذه المادة العلمية المنقولة في كيان الثقافة العربية، فقد تختلف الإجابة اختلاف الضدين؛ إذ قد نقرأ لفئة تذهب إلى أن الثقافة العربية بأسرها - من الشعر عن يمينك إلى الفلسفة عن يسارك - قد تغلغل فيها أثر الفكر اليوناني تغلغل السدى من اللحمة في نسج القماش، وقد نقرأ كذلك لفئة أخرى تنكر أن يكون لهذه الثقافة اليونانية أثر في العقل العربي الخالص، الذي يظهر فيما يسمى «بعلوم العرب»، ولعلي أسبق خطوات رحلتي الثقافية التي أتابعها بفصول هذا الكتاب، إذا دخلت برأسي في النزاع لأدلي برأي ربما كان بعيدا عن الصواب بعدي عن التخصص الدقيق الكامل في تراثنا العربي، وأما الرأي الذي أدلي به فهو أننا نخطئ الحكم الصواب في الأمر إذا نحن لم نفرق بين مجموعتين من أبناء الأمة العربية في هذا الصدد؛ إحداهما مجموعة قليلة العدد، هي الصفوة الممتازة في ميدان الفكر، والأخرى مجموعة ضخمة هي «جماهير الشعب» - كما اعتاد الكاتبون أن يقولوا هذه الأيام - فأما القلة القليلة من الصفوة فقد غاصت في الثقافة اليونانية المنقولة إلى رءوسها - فلا أكتفي بأن يكون الغوص إلى الأذقان ولا إلى الآذان - حتى لكثيرا جدا ما تحس وأنت تتابع ما كتبه هؤلاء أنك إنما تقرأ وتتابع فكرا يونانيا جرى بأحرف عربية، وأما المجموعة الضخمة من الناس - التي هي الجمهور الواسع - فلا أظنه قد تأثر بأي شيء مما نقله المترجمون عن اليونان؛ ولذلك رأينا في وضوح كيف أن المفكر العربي أو الكاتب العربي الذي يتنصل عمدا وعلنا من آثار اليونان، سرعان ما يكون له من الأتباع ما لا يحلم بمثله واحد من الصفوة الأولى، وعلى كل حال فيجمل بنا أن نرجئ القول في هذا إلى مرحلة تالية من مراحل الطريق.

وأما عن السؤال الثاني، وهو: هل هنالك دوافع حقيقية دفعت خلفاء العباسيين إلى تشجيع الترجمة عن اليونان؟ وذلك لأنه يتعذر علينا أن نوفق بين خطين متوازيين بينهما كل هذه الشقة البعيدة من التباين؛ فهنا جماعات بعد جماعات من الفرس تتعصب إلى حد القتال لأوهام عجيبة من الشعوذة والتخريف، وهناك تحمس شديد لنماذج من التفكير العقلي اليوناني، ولا نستطيع أن نقول: وما لخلفاء العباسيين وجماعات المشعوذين التي أشرت إليها؟ فيكون الجواب: لأن هؤلاء الخلفاء هم صنائع أولئك، أو على الأقل صنائع القادة من أولئك، ويكفي أن نذكر مثلا واحدا، هو أبو مسلم الخراساني، الذي صنع ما صنعه في إقامة الدولة العباسية، ثم تربص به الخليفة المنصور حتى قتله على صورة هي أقرب إلى الغدر، فكيف - وهذا هو السؤال - اجتمع في صدر واحد هاتان النزعتان؛ الثقة في أبي مسلم إلى درجة الارتكاز عليه في حرب كانت هي الفاصلة بين أن يحكم البيت العباسي أو لا يحكم، وكراهيته إلى درجة الغدر به؟ أيكون ذلك من قبيل ما تشير إليه الحكمة القائلة: «اتق شر من أحسنت إليه»، بمعنى أن الفطرة البشرية لو تركت على سجيتها بغير قيد يقيدها، فإنها تدفع الإنسان إلى الفتك بمن أحسن إليه حتى لا يظل هذا المحسن شاهدا محسوسا على ما كان قد اعتور ذلك الإنسان من حاجة ومن ضعف استوجب أن يستعين بهذا الذي أحسن إليه؟ أم يكون ذلك من قبيل «الازدواج الوجداني» الذي يتحدث عنه علماء النفس المعاصرون، وهو أن يجتمع لدى الفرد الواحد تجاه شخص ما - حتى ولو كان أحد والديه - مزيج من حب ومن كراهية، ويستحيل في رأيهم أن يكون الحب خالصا، ولا أن تكون الكراهية خالصة.

ولو صدق تعليل من هذا القبيل، لجاز لنا إذن أن نقول: إنه لا يبعد أن كان الخلفاء العباسيون في اندفاعهم نحو نقل الثقافة اليونانية العقلية، يضمرون الغيظ من شعوذات الفرس اللاعقلية، فأرادوا محاربتها على أرفع مستوى من مستويات الفكر والثقافة، أو لعلهم في اندفاعهم ذاك نحو «العقل» لم يكونوا يريدون مغايظة الثقافة الفارسية بقدر ما أرادوا مكايدة الثقافة العربية الخالصة وأصحابها ومؤيديها، وهذه هي النتيجة التي أردت الوصول إليها، مستندا في ذلك إلى «انطباعات» أحسستها إذ كنت أقلب صحائف التراث، أكثر مما استندت إلى مقدمات موثوق بصدقها لتنتج لنا نتائج موثوقا بصدقها أيضا، وهي على كل حال نتيجة - لو صدقت - لرأيناها تصور موقفا طبيعيا، فماذا تتوقع من حكومة عباسية جاءت لتقتلع حكومة أموية سبقتها إلى الخلافة معتمدة على أصولها العربية وعلى تعصبها العلني لكل ما هو عربي، بالقياس إلى ما ليس بعربي من الموالي أو من الثقافات الفارسية وغيرها؟ ماذا تتوقع من هذه الحكومة الثانية الظافرة بفضل نفر من الموالي، إلا أن تثأر من سابقتها على الوجهين معا؛ الوجه السياسي، والوجه الثقافي؟ فلئن كان الفرس المرتدون إلى متناثرات شائهة من عقائدهم القديمة، كالمجوسية (= الزرادشتية) والمزدكية والمانوية، يعتمدون فيما يدعونه على مصدر يشبه «الكشف» الصوفي، إذن فالمعرفة اليونانية «العقلية» هي وسيلة الرد عليهم، وهذا هو الوجه السياسي من الموقف، ثم إذا كان الأمويون وأنصارهم يرتكزون أساسا على التعصب للثقافة العربية الأصيلة، إذن فالمعرفة اليونانية «العقلية» هي أيضا وسيلة الرد عليهم، وهذا هو الوجه الثقافي من الموقف، فلأي من هذين الوجهين، أو للوجهين معا، أراد المأمون - وغيره من خلفاء العباسيين - أن تترجم الفلسفة اليونانية والعلم اليوناني بصفة خاصة، ومع ذلك كله، فلماذا لا نضيف لتفسير الموقف وجها ثالثا، هو رغبتهم المنزهة عن الأغراض الزائلة في تعميق الحياة الفكرية في الأمة العربية؟

22

في مقالة عميقة موحية، للباحث الألماني «كارل هينرش بكر» (نقلها الدكتور عبد الرحمن بدوي في كتابه «التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية») يورد الباحث ملاحظات نافذة؛ فهو يبدأ مقالته بأن ينبه إلى حقيقة هامة، هي أنه إذ نكون بصدد الحديث عما نقله فلان عن فلان من ضروب الفكر، ليس المهم هو ماذا أخذ عنه؛ لأن مجرد بياننا للأفكار المأخوذة لا يكفي وحده للدلالة على شخصية المتلقي من أي نوع هي، فلا بد أن يضاف إلى ذلك أيضا ما فعله المتلقي بما نقل إليه من أفكار الآخرين؛ لأنك قد تنقل الثقافة الواحدة إلى رجلين، فتراها تنتج عند كل منهما أثرا يختلف عما أنتجته عند الآخر؛ ففي هذه الحالة التي نريد أن نتناولها الآن بالحديث، نجد ثقافة بعينها، هي ثقافة اليونان الأقدمين، نقلت إلى العرب بلغتهم، وإنا لنعلم كذلك أن هذه الثقافة اليونانية نفسها قد نقلت - عن طريق هؤلاء العرب أنفسهم بعد ذلك بعدة قرون - إلى أوروبا، وسؤالنا هو: هل أحدثت ثقافة اليونان الأقدمين في الفكر العربي أثرا شبيها بما أحدثته في أوروبا بعد ذلك؟ نعم، إن الفرق في الحالتين واسع وعريض؛ فبينما لقيت الثقافة اليونانية عند نقلها إلى العرب أفكارا تباين أشد التباين الأفكار التي كانت تحملها تلك الثقافة اليونانية المنقولة، نستطيع القول بأنها عندما نقلت - عن طريق العرب - إلى أوروبا، لم تجد أمامها فكرا يعارضها ويباينها، بل وجدت ناسا هم من جنس الناس الذين كانوا مبتكري تلك الثقافة اليونانية الأولى وخالقيها، فكأنما هي في هذه الحالة الثانية قد انتقلت إلى أسرة أخرى وشيجة الروابط - من حيث وجهة النظر - بالأسرة اليونانية، أما في حالة النقل إلى العرب، فالنقلة جاوزت مجرد الانتقال من فرع إلى فرع في شجرة حضارية واحدة، لتكون نقلة من حضارة تنطبع بطابع معين إلى حضارة مختلفة في طابعها أعمق اختلاف؛ هذه خلاصة واضحة لما أراد أن يقوله «بكر» في مقارنته بين الحالتين، وهو فرق يفصله في مقالته ليبين أبعاده الكثيرة كيف كانت وإلى أي مدى؟

لقد كنا في رحلتنا الفكرية هذه، قد استوقفنا بيت الحكمة في بغداد، فدخلناه لنرى القوم منكبين على ترجمة الفكر اليوناني بفلسفته وعلومه، فجعلنا ذلك علامة قوية على نزعة عقلانية تصلح أن تكون أحد المعالم البارزة على طريق رحلتنا، أعني طريق العقل في تراثنا الفكري، وآن الأوان هنا أن نسأل - قبل أن نغادر بيت الحكمة هذا - ترى ماذا أحدثت هذه المادة العلمية المنقولة من أثر في حياة الناس الفعلية؟ ماذا أحدثت من أثر في ميادين السياسة، وفنون القتال، ونظم الاقتصاد، وفي الصناعات، والبحث العلمي، والإبداع الفني، بل وفي المعايير الخلقية، وغيرها وغيرها من مقومات الحياة العملية؟

إن في حياتنا الراهنة أيضا حركة قوية للترجمة عن غيرنا، ولو سألنا الأسئلة السابقة نفسها عن حركة الترجمة الحاضرة ، هل غيرت من أوضاع حياتنا الفعلية، لما ترددنا لحظة في جوابنا بالإيجاب؛ فالنظم السياسية عندنا - على اختلاف صورها في مختلف الأقطار العربية - مأخوذة كلها من أوروبا وأمريكا، وإلا لما سمعنا بشيء اسمه دستور، أو برلمان، أو جمهورية ورئاستها ... إلخ، وفنون القتال مأخوذة كلها مما تعلمناه عن الغرب؛ إما نقلا بالكتابة، أو تدريبا بالمران، ونظم الاقتصاد كلها مأخوذة من ذلك الغرب أيضا، وإلا لما سمعنا بشيء اسمه رأسمالية أو اشتراكية أو مصارف أو شركات للتأمين ... إلخ إلخ، وهكذا قل في كل فرع من فروع الحياة العلمية التي نعيشها بالفعل، مما يؤكد أن حركة النقل - بالترجمة أو بالمشاهدة، ولا اختلاف في الجوهر - الحاضرة قد نقلت معها حياة بأسرها وبكل شعابها من أرضها الأولى إلى أرضنا، وربما نكون قد تمثلنا بعض جوانب هذه الحياة المنقولة وعجزنا حتى الآن عن تمثل جوانبها الأخرى، ونحن نسأل السؤال نفسه عن الأقدمين! هل نقلوا - إذ ترجموا فلسفة اليونان وعلومهم - نظرة ثقافية جديدة غير نظرتهم، بحيث ظهرت آثار ذلك في ميادين حياتهم العملية الجارية يوما بعد يوم؟ الرأي الراجح عندي الآن هو أنهم لم يفعلوا إلا إلى حد ضئيل، وفي ميادين قليلة، بحيث مست نفرا قليلا من الناس، وبقي الجمهور الأكبر على ثقافته العربية وقيمه العربية ونظرته العربية؛ يعطي الأولوية الأولى للشعر وللغة، وللدين عقيدة وشريعة.

فمهما قال القائلون بأن لا شرق ولا غرب في تقسيم البشر، وأن الإنسان هو الإنسان بفطرته المشتركة، تتجه حيث توجهها، فالمسألة فيما بين الناس من أوجه الاختلاف الثقافي هي مسألة طريقة في التربية، فلا ينفي هذا القول أن نقرر بأنه قد حدث بالفعل؛ فليس الأمر هنا أمر أهواء تميل بصاحبها نحو اليمين أو نحو اليسار، بل إنه قد حدث بالفعل، والتاريخ شاهد على ما قد حدث، أن الناس فيما يسمى بالشرق قد وجهتهم التربية وجهة ثقافية معينة، تخالف الوجهة التي اتجه إليها الناس فيما يسمى بالغرب بحكم التربية أيضا، فبينما الناس فيما يسمى بالشرق يتلقون «القيم» المسيرة لحياتهم من السماء عن طريق الوحي يوحى به إلى الأنبياء - ولكل مجموعة بشرية أنبياؤها الذين قد تعترف بهم المجموعات الأخرى أو لا تعترف - نرى الناس فيما يسمى بالغرب يزعمون أنهم إنما انتهوا إلى «القيم» استدلالا عقليا من مبدأ افترضوا صوابه استنادا إلى ما زعموه إدراكا بالبصيرة النافذة، أو «بالحدس» كما اصطلح رجال الفلسفة على تسمية هذا النوع من طرائق الإدراك.

فلو جاوزنا حدود «القيم» لنطلق الحديث بغير حدود، قلنا: إن الناس فيما يسمى بالشرق لم ينفكوا يتصورون فجوة بين الله والإنسان، وسبيل الإنسان إلى السعادة الحقيقية هو أن يلتمس الطريق جاهدا، الذي يعينه على عبور هذه الفجوة؛ لعله يقترب من الله ما وسعته الحيلة، فليست المسألة هنا مسألة «عقلية» تحل باستدلال النتائج من مقدماتها، وإنما هي مسألة وجدانية روحانية، يحس بها الإنسان اعتمالا في نفسه من الداخل، فهو يصلي - مثلا - محاولا في صلاته أن يقطع كل صلة بينه وبين ما حوله ومن حوله ليقف أمام ربه كأنما الكون كله قد لخص عندئذ في معبود وعابد، لا يفصلهما بعد مكاني ولا فترة زمانية، وإن هذه المحاولة المستمرة من الإنسان في أن يتصل بربه صلة مباشرة، لتبلغ أبعد آمادها في جماعة المتصوفة على اختلاف وقفاتهم؛ فمنهم من يقول إنه استطاع أن يمحو الفارق الذي يفصله مكانا وزمانا عن ربه فإذا هما واحد، ومنهم من يقول إن كل ما استطاعه هو أن يقترب من ربه بحيث يتاح له الشهود، ومنهم من يقول إن أقصى ما بلغه من ذلك هو عرفان عرف به ربه، وهكذا.

تلك هي ركائز النظرة «الشرقية» كما يمكن رؤيتها في وضوح في تعبيرهم عن أنفسهم، بل أحسب أن رؤيتها رؤية واضحة ما تزال في أيدينا لو أردنا - وأعني العرب المعاصرين أنفسهم - لو نظر الإنسان العربي إلى ما تمتلئ به نفسه في حالاته الوجدانية التي يخلو فيها إلى نفسه بعد فراغه من عمله، ومن هذه الحالات الوجدانية حالات العبادة؛ من صلاة وصوم وحج وغيرها، فعندئذ سيرى في جلاء لا لبس فيه أن وجهة نظره الثقافية التي تلقاها بالتربية - عن وعي أو عن غير وعي؛ فذلك لا يهم - تميل به ميلا شديدا نحو أن يمحو المادة الغليظة التي تتجسد بها الأشياء من حوله؛ ليحس ما استطاع بأنه لم يعد بينه وبين الله من حجاب.

وما هكذا فيما نعتقد وقفة أولئك الذين يسمون بأهل الغرب؛ من اليونان الأقدمين، إلى شعوب أوروبا وأمريكا المعاصرين، إننا بالطبع لم ندخل جلودهم لنرى بأعينهم ونحس بقلوبهم، ولكننا نبني الرأي على أساس ما نقرؤه من كتب عبروا ويعبرون بها عن ذوات نفوسهم، أو ذوات عقولهم؛ فهم - فيما يبدو - لا تشغلهم الفجوة الفاصلة بين دنيا معاشهم اليومي وبين الله، بمثل ما تشغلهم العلاقة بين الأسس العملية التي تبنى عليها حياتهم الدنيوية هذه وبين المبادئ التي اشتقت منها تلك الأسس، أي إن البحث عندهم، بحث «عقلي» صرف يحاول أن يرد الفروع إلى أصولها، ولك إذا أردت أن تراجع العدد الأكبر من فلاسفتهم، قديمهم أو حديثهم، لترى على أي إطار بنيت تلك الفلسفات؟ فأظنك واجدا أن هذا الإطار ما هو إلا رباط يربط فكرة أعم بفكرة أخص، أي إن الفيلسوف منهم يريد أن يبين لنفسه وللناس كيف تولدت أفكارهم التي يعيشون بها من أفكار أوسع منها وأعم، لا أن يبين كيف ترتبط تلك الأفكار بالرب الذي أوجدهم وأوجدها، ولا يعني ذلك بالطبع أن ما يسمى بالغرب لم يشهد «متصوفة» حاولوا الوثوب من دنياهم المحدودة المتناهية إلى الإله اللامحدود واللامتناهي، ولكنه يعني أن الطابع العام الذي ساد ما يسمى بالغرب هو الاستدلالات العقلية على اختلاف ميادينها - وأهم تلك الميادين هما الفلسفة والعلوم - على حين كان الطابع العام الذي ساد (وما يزال يسود فيما أرى) ما يسمى بالشرق هو ربط الصلة بين المخلوق وخالقه.

وبعد هذه التفرقة التي أفضنا فيها القول، نعود إلى سؤالنا الذي طاف برءوسنا إذ نحن واقفون في «بيت الحكمة» نشهد عملية الترجمة عن اليونان الأقدمين قائمة على قدم وساق كما يقولون، وهو: ترى هل أفلحت هذه المادة العقلية المنقولة في أن تغير من الثقافة العربية الأصيلة، بحيث تحولها من الوقفة «الصوفية» إلى الوقفة «العقلية»؟ أغلب الظن أنها لم تفلح في ذلك إلا إلى حد ضئيل كما أسلفنا لك القول، وأترك لك أن تنظر لنفسك كم أثرت فلسفة أفلاطون وفلسفة أرسطو وما نقل معهما من علوم اليونان في الحد من ميل الناس نحو رموز يتخذونها لرأب الفجوة بين الإنسان وعالم الغيب، من سحر وتنجيم وركون إلى الرؤيا وضرب للرمل وفتح للكف، ومن تمائم وأحجبة وغير ذلك؟ إني لأكاد أتخيل الآن أستاذ الفلسفة منا، أو رجل العلوم - وأعني المعاصرين منا، ودع عنك آباءنا القدماء - لا يكاد يفرغ من ساعات قليلة يقرأ فيها فلسفة أو يدرس علما، حتى يرتد إلى دنيا أكثر إسعادا له وأشد انسجاما مع نفسه؛ إذ يرتد إلى ما هو أدخل في باب السحر والتنجيم وما إليهما من بقية الفروع، لكن لنترك ذلك الآن؛ فقد تحين له مناسبات تالية.

23

خرجنا من «بيت الحكمة» في بغداد، وفي رءوسنا هذه الخواطر عن الأثر الذي يمكن أن تكون ترجمة التراث العقلي اليوناني قد تركته على الحياة الفكرية عند العرب، فكانت خطوتنا التالية بعد ذلك أن نبحث عن مثل هذا الأثر في مظانه، فخطر لنا - أول ما خطر - أن نزور شيوخ المعتزلة لنرى فيم يفكرون وكيف يفكرون؛ لأنهم بحكم موقفهم العقلي حريون أن يكونوا أقرب الناس إلى التأثر بالثقافة العقلية اليونانية التي نقلت إليهم، إن لم يكن من حيث مضمون الفكر نفسه، فمن حيث منطق السير على أقل تقدير.

ولقد حدثناك في الفصل السابق عن معتزلي مبكر قابلناه في البصرة يناقش مشكلة الذنوب الكبيرة ماذا يكون الحكم في أصحابها، وكان ذلك بمناسبة من عساهم أن يكونوا على خطأ في الفريقين اللذين اقتتلا في موقعتي «الجمل» و«صفين»، وها نحن أولاء - وقد انتقلنا إلى مرحلة فكرية أخصب وأغنى - نبحث عن «معتزلة» هذه المرحلة الجديدة، و«المعتزلة» - كما تعلم - اسم نشأ بمعناه الحرفي عندما اعتزل واصل بن عطاء أستاذه الحسن البصري لخلاف بينهما في الرأي، لكنه بات اسما يطلق على نهج فكري ذي طابع خاص، مؤداه أن ينظر إلى مسائل الدين «بالعقل» وما يتبعه من بيان حجة وإقامة برهان، لا بمجرد الاستناد إلى رواية عن القواعد التي وضعها السلف، لكننا في بحثنا عن معتزلة المرحلة التي نتحدث عنها - القرن التاسع الميلادي، من وقفة نقفها في بغداد - علمنا أن كبار شيوخهم مقيمون في البصرة، ويكفي أن يكون من بينهم أبو الهذيل العلاف (752-849م) الذي ينعت بأنه «شيخ المعتزلة» والذي يتبعه مذهب يحمل اسمه فيقال «الهذيلية»، وكذلك تلميذه إبراهيم بن سيار النظام (بتشديد الظاء) (ت نحو 845م أو قبل ذلك بقليل).

فلم يكن لنا بد من قطع الوقفة البغدادية لنعود إلى البصرة؛ حتى يتاح لنا أن نستمع لهؤلاء الشيوخ الأعلام قبل أن نستأنف السير على طريقنا المرسوم.

هذا هو شيخ المعتزلة العلاف، ينفرد وحده بعشر قواعد - كما يقول صاحب «الملل والنحل» - نقرؤها عنه فإذا هي تمس لطائف أفكار تكاد تفلت منك رؤيتها لدقة الفواصل فيها ورقتها، وإذن فقد أصبحنا أمام عقل مرهف بالمعنى الدقيق لصفة الإرهاف؛ لأنه عقل كحد الموسى، فلا غلظة في الفكرة المطروحة ولا خشونة في طريقة تناولها وتحليلها، كأنما المفكر هنا يعالج لفيفة من خيوط الحرير، يريد أن تستقيم بين أصابعه تلك الخيوط فلا يتداخل بعضها في بعض.

وانظر إلى مسألته الأولى، وهي خاصة بذات الله وصفاته؛ فهو يريد أن يقول أن ليس ثمة وجود حق إلا للذات دون الصفات، ولكن ماذا يقول في هذه الصفات الإلهية؟ ماذا يقول في «العلم» الإلهي مثلا، أو «القدرة» الإلهية؟ لقد كان السائد فيمن يؤثرون الوقوف عند حرفية النص أنه ما دام هنالك «اسم» فلا بد أن يكون هنالك «المسمى» - ليلحظ القارئ أن الشرح في هذا وفيما يأتي هو شرح أبسطه بلغتي وعلى الطريقة التي فهمت بها ما يقال، فإذا ترتب عليه خطأ في الفهم أو في تحديد المعاني، فاللوم إنما يقع علي لا على مرجع معين استعنت به - وأعود فأقول: إنه كان هنالك فريق يؤثرون الوقوف عند حرفية النص، وما دام في النص «أسماء » فلا بد أن يكون لها «مسميات»، فإذا وردت «أسماء» مثل «علم» و«قدرة» وغيرهما من أسماء الله الحسنى المعروفة، فلا بد أن يكون هنالك كيان معين أطلق عليه اسم «العلم» وكيان معين آخر أطلق عليه اسم «القدرة» وهلم جرا، ولا يغير من الموقف شيئا أن تكون هذه الكيانات التي أطلق عليها هذه الأسماء، هي نفسها الذات الإلهية، وليست شيئا سواه! إنني أكتب هذه السطور وأمامي في الغرفة نافذة فيها ثلاثة قوائم من معدن تقسم مستطيلا معدنيا أيضا ثلاثة أقسام، ويملأ كل قسم منها لوح من زجاج، فلكي أتابع قول الفئة التي ذكرت قولها في صفات الله، قلت لنفسي: ربما يكون المقصود هو شيء كهذا: المستطيل المعدني والقوائم المعدنية الثلاثة وثلاثة الألواح الزجاجية إنما هي كيانات قائمة بذاتها، ولكن هل منع ذلك من أن تكون هي نفسها في الوقت ذاته «النافذة»؟ النافذة هي هي هذه المكونات، وهذه المكونات هي هي النافذة، ومع ذلك فلكل منها كيانه الذي ندركه وهو قائم برأسه؛ ولذلك سميت هذه الفئة من الناس باسم «الصفاتية»؛ لتمسكها بأن تفهم وجود الصفات الإلهية على هذا النحو الذي بيناه.

فماذا يقول العلاف في ذلك؟ يقول: «إن الله تعالى عالم بعلم، وعلمه ذاته» و«قادر بقدرة، وقدرته ذاته» وهكذا قل في سائر صفاته؛ فعلى أي وجه نفهم قوله هذا؟ نأخذ فكرة «المثلث» مثلا يوضح المراد كما يفهمه كاتب هذه الصفحات؛ إذا قلنا إن من «صفات» المثلث أنه محوط بثلاثة خطوط مستقيمة، وكذلك من صفاته أن مجموع زواياه الداخلية يساوي زاويتين قائمتين، فهل يعني ذلك أننا نتصور «الإحاطة بالأضلاع الثلاثة» على أنها كيان قائم بذاته أم أنها هي نفسها المثلث؟ أو بعبارة أخرى: إن كلمة «مثلث» وعبارة «محوط بثلاثة خطوط مستقيمة» مترادفتان، تكونان معادلة رياضية يمكن وضع أحد شطريها مكان الآخر حيثما ورد في سياق الحديث، وإذن فالمثلث إنما هو مثلث بكونه محوطا بثلاثة خطوط مستقيمة ، والثلاثة الخطوط المستقيمة هي المثلث - وعلى هذا الغرار نفسه ما يقوله العلاف حين يقول: إن الله تعالى عالم بعلم، وعلمه ذاته.

وأما المسألة الثانية عند «العلاف» فهي خاصة بالإرادة عندما تنسب إلى الله تعالى؛ فلقد ألفنا أن تنسب الإرادة إلى مريد مشخص معين، كالفرد الواحد من بني الإنسان، كما ألفنا أن تتمثل هذه الإرادة في عزمات جزئية، لكل منها ظروفها المكانية والزمانية، كأن نقول عن فلان الفلاني: إنه عزم بإرادته أن يسافر من القاهرة إلى الإسكندرية في الساعة الفلانية من اليوم الفلاني، وأن يستخدم السيارة وسيلة للسفر ... إلخ، لكننا لو ظللنا نقيد «الإرادة» في كل حالة من حالاتها بمثل هذه الظروف المكانية الزمانية، لما استطعنا أن نتصور المقصود بنسبة الإرادة إلى الله تعالى؛ ولذلك حاول «العلاف» أن يبين كيف تكون هنالك إرادات مطلقة من قيود الظروف المحددة هذه، حتى إذا ما فرغ من إثبات ذلك، جعل الإرادة الإلهية من هذا القبيل المطلق؛ فهو يريد ما يريده في غير لحظة معينة من زمان، ولا محل معين من مكان.

وهذا ينقلنا إلى مسألته الثالثة، وهي خاصة بأمر «التكوين» الذي يتمثل في قوله تعالى «كن» لما يريد له أن يكون بين الكائنات؛ فمثل هذا الأمر هو أيضا مطلق من قيود الزمان والمكان، ومن ثم فهو مختلف عما يسمى بأمر «التكليف» لأن هذا الأخير لا يفهم إلا إذا ارتبط بمكلف معين عليه أن يؤدي ما كلف به في لحظة معينة وفي مكان محدد معلوم.

ولما كانت أوامر التكليف قد تعصى وقد تطاع، كانت المسألة الرابعة عند «العلاف» هي حرية الاختيار عند الإنسان، فهو - كسائر المعتزلة - «قدريون»، بمعنى أن للإنسان قدرة على أن يطيع الأمر وقدرة على أن يعصي، ليكون الثواب والعقاب بعد ذلك قائمين على أساس عادل، لكن «العلاف» يضيف إلى هذا الموقف المعتزلي العام، إضافة خاصة به؛ إذ يقول إن الإنسان وإن تكن لديه هذه الحرية في الحركة وهو ما يزال في الحياة الدنيا، فهو إذا ما صار إلى الآخرة بات مجبرا يتحرك كما يراد له أن يتحرك، ولست أدري ماذا نفيد بهذه الفكرة العجيبة؟ إننا إذ نطرح للمناقشة مسألة الحرية بالنسبة للإنسان، هنا على هذه الأرض، إنما نلتمس ما يبرر أو لا يبرر المسئولية الخلقية التي تستتبع ثوابا أو عقابا، أما أن نطرح الموضوع نفسه بالنسبة إلى حركات الناس في آخرتهم فضرب من الترف العقلي الذي لا يشغل - في رأينا - إلا من لم يأخذ المشكلة أخذا جادا.

ولعل «العلاف» وهو في صدد هذا الجزء من معالجته لمشكلة الإرادة متى تكون حرة ومتى تكون مقيدة، استدرك أمرا فاته، وهو الذي جعله مسألة خامسة؛ إذ كأنما أفاق ليسأل نفسه قائلا: وهل تكون في الحياة الآخرة «حركة» على الإطلاق، حتى نقول عنها إنها حرة أو مجبرة؟ أليس الصواب المعقول هو أن تنقطع الحركة بانقطاع الحياة الدنيوية المادية الطبيعية، لتصير الكائنات في آخرتهم إلى «سكون» دائم؟ وبرهان ذلك قريب؛ فكل ما ليس له أول لا يكون له آخر، وأما ما يتناهى إلى أول يبدأ عنده الظهور والحدوث، فهو أيضا يتناهى إلى آخر يختفي عنده وتبطل حوادثه، فإذا كانت «الحركة» ذات أول بدأت به، فلا بد أن يكون لها آخر تقف عنده.

فكأنما الأساس عنده هو «السكون» تطرأ عليه الحركة ثم تزول عنه، ولا يسعنا في هذا السياق إلا أن نقارن مقارنة عابرة سريعة بين ثقافتين؛ الأولى - وهي التي سادت خلال القرون الماضية - تجعل «الحركة» فرعا و«السكون» أصلا، أي إننا إزاء الحالة السكونية لا نسأل: من الذي أحدث هذا السكون؟ وأما إزاء الشيء المتحرك، فيجوز لنا السؤال: من الذي بث فيه الحركة؟ وأما الثانية - وهي ثقافة عصرنا نحن - فتعكس الوضع؛ فالحركة أصل أصيل لا يستدعي السؤال عن علة، والسكون فرع يطرأ، فنسأل عندئذ: من الذي أوقف الحركة؟ وإنه لفرق بعيد عميق بين الوقفتين؛ في الوقفة الأولى نرى الناس يلتمسون عوامل التسكين والتثبيت؛ فمن تجميد للأوضاع وكراهية تغييرها، إلى قوانين عرفية وتقاليد تنهض كالأطواد الرواسخ في أوجه من أرادوا تحريكا وتغييرا وتطويرا، وعكس ذلك هو الصحيح بالنسبة إلى عصرنا الراهن.

وننتقل إلى المسألة السادسة عند «العلاف» وفيها تفرقة لطيفة بين ما تهفو إلى فعله بقلبك، فتطاوعك جوارحك في تنفيذه أو لا تطاوعك لعلة فيها، وبين ما تتحرك جوارحك في فعله غير صادرة في ذلك عن توجيه من القلب؛ ففي الحالة الأولى يكون الجانب الجوهري الهام قد تحقق لمجرد أن تعلق به الهوى، وأما قدرة الجوارح على التنفيذ الفعلي فأمر عرضي ثانوي، والعكس في هذا غير صحيح، أي إن الجوارح قد ترغم إرغاما على فعل لا يهواه القلب، وعندئذ يكون أقرب إلى حركات الجوامد. الفاعلية الإنسانية الحق تتوافر للحالة الأولى، وأما في الحالة الثانية فالذي يتحكم في الأمر هو الطبيعة وقوانينها، وهل ترى في إنسان يسقط من شاهق شيئا أكثر من حجر يسقط بفعل قانون الجاذبية؟ فالإنسان إنسان بخوالجه ونواياه وميوله، لا بما تؤديه جوارحه أداء آليا لا دخل له هو فيه، الجوارح بالنسبة إلى القلوب أدوات للتنفيذ، فإن أدت فعلها كان خيرا، وإلا فقد فرغ الإنسان من تبعته إذا ما صحت عزيمة قلبه؛ شيء كهذا هو ما أراد «العلاف» أن يقوله، إذا كنت قد أحسنت فهمه، وهو موقف لا أظننا نفيد منه كثيرا لو أحييناه في عصرنا، وأقل ما نعلق به على ذلك تعليقا عابرا، هو أن «الفرد» في عصرنا قد جاوز جدران فرديته لتربطه الأواصر العضوية بجماعة ينتمي إليها، أريد أن أقول: إن مفهوم «الفردية» قد تغير، وأصبح الفرد بلا وجود حقيقي وإنساني ما لم يكتمل بسواه، فإذا هو قد اختزن نواياه في قلبه، لم تخرجها له الجوارح أفعالا تصب في الوعاء الاجتماعي المشترك، فماذا تكون جدواه؟ بل على أي وجه يجوز القول عنه إنه موجود؟ قد تقول لي: لكنك تتحدث من زاوية علاقة الإنسان بالإنسان، على حين كان «العلاف» - وكل الأقدمين - إنما يتكلمون من زاوية علاقة الإنسان بربه، فأجيب: نعم، إني أعلم ذلك؛ ولهذا قلت إن للعلاف ومعاصريه زمانهم، ولنا نحن زماننا.

وكانت المسألة السابعة عند «العلاف» هي عن وجوب أن «يعرف» الإنسان ربه معرفة قائمة على العقل وأدلته؛ لأن ذلك وحده ما يستلزم أن يعلم ما يجوز فعله وما لا يجوز علما لا يتوقف على مجرد الرواية المسموعة، فإذا لم يحصل الإنسان مثل هذه المعرفة كان مسئولا عن جهله، وهو موقف شبيه بقولنا اليوم إن جهل المواطنين بالقانون لا يعذرهم في ساحات القضاء، فالعلم هو الحالة المفروض قيامها، ومعنى قول «العلاف» في هذا الصدد، هو أن الإنسان إذ يسلك السلوك الفاضل، فإنما يتبع في ذلك إملاء عقله قبل أن يتبع تكليفا مفروضا عليه، برغم كون التكليف وإملاء العقل شيئا واحدا نعرفه عن أحد الطريقين أو عن الطريقين معا.

والمسألة الثامنة عند «العلاف» هي قوله في الآجال بأنها لا تزيد ولا تنقص، وأحسب أن قائل هذا القول لو كان صادقا مع نفسه فيه، لما أخذ الحذر من المهلكات، ولست أدري كيف يمكن التوفيق بين أن يكون الأجل غير قابل لزيادة أو نقصان وبين الأمر بألا ألقي بنفسي إلى التهلكة، ويخيل إلي أنه لو كان هذا القول مقصودا بمعناه الظاهر في لفظه لما كانت هنالك حكمة في بحوث طبية نجريها؛ لنجنب الإنسان بعض المواقف التي من شأنها أن تجلب الموت لو تركت لتفعل فعلها بغير وقاية قائمة على علم، لكن هذا استطراد منا قد لا يكون واردا في موضع مناسب من سياق الحديث.

ومسألته التاسعة خاصة بالإرادة الإلهية أتكون هي نفسها ما يتعلق بها من الأشياء، بمعنى ألا يكون ثمة فاصل يفصل الإرادة عن الشيء المراد، أم يكون لها كيانها المنفصل المستقل غير المرتبط بعملية معينة من عمليات الخلق التي ترتبط بها وتترتب عليها؟ عن ذلك يجيب «العلاف» بأن إرادة الله لخلق يخلقه هي نفسها خلقه له، لكن خلقه للشيء ليس هو الشيء نفسه؛ إذ الخلق عند الله أمر مطلق لا يتحيز في مكان معين، على خلاف الشيء المخلوق، فهو مجسد متعين ذو مكان وزمان معلومين محدودين. وكاتب هذه الصفحات لا يتصور كيف تكون «إرادة» قائمة برأسها غير موصولة بما يراد؟ إن ذلك كقولنا: رؤية بغير شيء تراه، وسمع بغير صوت تسمعه، فمهما علونا بفكرة «الإرادة» من المتعين إلى المجرد ومن النسبي إلى المطلق، فسوف تظل الفكرة مبتورة مستعصية على الفهم حتى نتصور الصلة الرابطة بينها وبين ما تستحدثه وتخلقه، وإلا فلو أصررنا على أن يكون التجريد والإطلاق على درجة من الانفصال عن الخلق الفعلي المنصب على مخلوقات بأعينها، بحيث نطالب بأن نتصور إرادة لا تريد وخلقا لا يخلق، ورؤية لا ترى وسمعا لا يسمع، ومشيا لا يمشي، وقولا لا يقول ... وهكذا، كنا نردد «ألفاظا» لا تسمى لا أفكارا ولا أشياء، كأنها الأصابع التي تشير إلى خلاء، ومع ذلك، فما الذي نفيده من زعمنا بأن لله تعالى إرادة منفصلة عما يراد، أعني أن له إرادة لا تريد بالضرورة، إلا حين «يريد» لها أن تريد؟

وأما المسألة العاشرة والأخيرة من المسائل التي يذكرها صاحب «الملل والنحل» ليميز «العلاف» بها دون سائر المعتزلة، فهي مسألة منهجية؛ إذ يشترط «العلاف» للحجة المقامة على صدق زعم يزعمه لنا زاعم، أن تستند لا إلى رأي تواتر بين الرواة مهما كثر عددهم، بل إلى ولي من أولياء الله المعصومين عن الخطأ، أو بعبارة أخرى، لا تكون الحجة المقامة على حكم مقبولة إلا إذا كانت بدورها إلهاما من الله تعالى يخص به رجالا بأشخاصهم. ويخيل إلي أن هذه القاعدة المنهجية وحدها كفيلة بهدم البنيان العقلي الذي كان «العلاف» يحاول إقامته بالطريقة التي ناقش بها المسائل المشكلة؛ إذ فيم العقل ومنطقه إذا كان التصديق آخر الأمر مرهونا بوحي يوحى به إلى ولي معصوم؟

أما بعد، فقد أطلت الوقوف مع «شيخ المعتزلة» أبي الهذيل العلاف؛ لعلي أعود منه بزاد عقلي أقدمه لأبناء عصري، يدخلونه في زادهم الفكري، فيكونون به وارثين لسلف عظيم، لكني أخدع نفسي وأخدع أبناء عصري، لو توهمت وأوهمتهم أن في الموروث عن «العلاف» إرثا ذا بال ينفع من أحاطت به مشكلات عصرنا، اللهم إلا إذا اجتزأنا نتفا من هنا ومن هناك، من أهمها الإيمان بقدرة الإنسان على الاختيار الحر المسئول؛ إذ نحن أحوج ما نكون إلى بث هذا الإيمان في أنفس المعاصرين، ليفعلوا ويفعلوا، أفعالا تتسم بالنشاط المبتكر الخلاق، لا يحد من نشاطهم المغامر خوف من تبعة، فإنسانية الإنسان مرهونة بإرادة الاختيار في خلقه الأفعال والأشياء خلقا يتصدى به الإنسان الحر لكل ما يترتب على ذلك من تبعات.

24

وهل نترك البصرة لنعود إلى بغداد فنستأنف السير على طريقنا المرسوم، قبل أن نمر على معتزلي آخر، لصيق ب«العلاف» من وجوه كثيرة؛ فهو من ذوي قرباه الأقربين، ثم هو من تلاميذه المقربين، وذلك هو «إبراهيم بن سيار النظام»، ويبدو أن التلميذ تفوق على أستاذه تفوقا ظاهرا، لم يخطئه المعاصرون لهما، وهذا هو الجاحظ - وقد عاصرهما في البصرة قبل أن ينتقل إلى بغداد - يقول عن «النظام»: «كان الأوائل يقولون: في كل ألف سنة رجل لا نظير له، فإن كان ذلك صحيحا فهو النظام» (والقول مأخوذ من رواية المرتضى في «المنية والأمل»، ص29).

إن كاتب هذه الصفحات ليقدر الجاحظ تقديرا لا يكاد يكون له حدود، فإذا وجده يقول قولا كهذا في «النظام» كان خليقا به أن يأخذ أهبته، ويشحذ قريحته؛ ليلتقي ب«النظام» وهو في أعلى قدراته، فماذا كانت أفكار النظام الأساسية، بناء على ما ذكره الشهرستاني في «الملل والنحل»؟ إنه يذكر لنا ثلاثة عشر موضوعا، تميز بها «النظام»، فلنستمع إلى هذا المفكر، الذي لا يجود بمثله الزمان إلا مرة واحدة كل ألف عام في تقدير الجاحظ، لنستمع إليه وهو يعرض موضوعاته تلك بما يرى فيها من رأي، وقد استبحنا لأنفسنا أن نتقمصه لننوب عنه في العرض على نحو ما صنعنا مع «العلاف».

كانت مسألته الأولى عن القدر - أي حرية الإرادة الإنسانية في الاختيار - فذهب إلى ما ذهب إليه المعتزلة جميعا من أن الإنسان مريد لما يفعل، ومسئول عما يفعل، لا فرق في ذلك بين خير يأتيه أو شر يقترفه، ولو أخذنا برأي غير هذا الرأي لتعذر علينا أن نفهم كيف يكون الإنسان مسئولا، وعلى أي أساس عادل يثاب على خير يفعله ويعاقب على شر يجني به على نفسه وعلى الناس؟ ولكن «النظام» يضيف إلى هذا القول المشترك بين سائر المعتزلة، بعدا يتميز به، وهو أن الله لا يجوز وصفه بالقدرة على فعل الشر والمعصية، وليست الشرور والمعاصي مقدورة له بأية صورة من الصور، وهذا مذهب نقبله من «النظام» قبولا مطلقا وبغير تحفظ؛ لأنه مذهب إذا حوكم أمام العقل كان مقبولا، وإذا حوكم بالإحساس العام كان مقبولا كذلك، وإننا لنعجب من قوم عارضوه - وكانوا نفرا كثيرا - بحجة أن هذا يحد من قدرة الله المطلقة، كأنما «القدرة» يمكن فهمها فهما صحيحا إذا نحن عزلناها عن طبيعة الذات القادرة، وإلا فهل تشع الشمس ظلمة؟ هل يخرج الماء نارا؟! إننا إذ نصف الله بالقدرة المطلقة، فإنما نتصورها قدرة فيما هو به إله؛ إننا إذ نقول عن فنان: إنه قادر على إبداع فني من هذا النوع أو ذاك، لا يحق لنا أن نقول عنه إنه كذلك قادر على تحطيم الأثر الفني بعد إبداعه! نعم إنه يستطيع ذلك، لكنه يستطيعه لا من حيث هو فنان، وكذلك قل إن الله تعالى قادر على خلق ما يتفق مع كونه إلها، وأما أنه قادر كذلك على فعل الشر وإتيان المعاصي فقول يتضمن أنه بمثل هذا الفعل يبطل أن يكون إلها، وفي ذلك من التناقض ما فيه، ثم ماذا يفيده القائلون بقول كهذا؟ ما الذي يستقيم به في حياتهم مهما تنوعت تلك الحياة من عبادة إلى صناعة وتجارة وزراعة؟ أم هي لجاجة عمياء تضر ولا تفيد؟

كان «النظام» على حق، وكان معارضوه على باطل، حين قال هو: إن الله قادر على فعل ما يعلم أن فيه صلاحا لعباده، وليس هو بقادر - من حيث هو إله - على أن يفعل بعباده في الدنيا ما ليس في صالحهم وصلاحهم، وحين قال المعارضون بأن ذلك يجعل الله مجبرا على ما يفعله؛ إذ القادر - عندهم - هو من يستطيع الفعل والترك، أيا كان ذلك الفعل، وإننا اليوم لنحيي «النظام» حين رد على معارضيه بما قد يرد به مفكر يعيش في عصرنا؛ إذ قال ما معناه: ما الفرق بين أن أقول: إن الله غير قادر على فعل الشر ، وبين أن أقول: إنه قادر على ذلك لكنه لا يفعله؟ أليس هو في كلتا الحالتين لا يفعله؟ وهو رد يأخذ فيه «النظام» معاني العبارات بما تتضمنه من الجوانب العملية وحدها، وما لا يستحيل أن يتحول إلى عمل فهو - في الحقيقة - بغير معنى.

وننتقل مع «النظام» إلى مسألته الثانية، وهي خاصة بالإرادة الإلهية، فنراه يقول فيها قولا شبيها بما قلناه عند تعليقنا على رأي «العلاف»، إذ قال ما معناه: إن الله لا يوصف بالإرادة إلا وهو يخلق ما يخلقه ويفعل ما يفعله، أما أن نتصور إرادته قائمة بغض النظر عن كل مجال للخلق والفعل، فأمر يتعذر عليه وعلينا، ومهما يكن من أمر فهذا وحده هو القول الذي قد يفيد ويهدي؛ إذ أين وكيف تكون الهداية لنا في مواقف حياتنا إذا صدرنا عن عقيدة بأن إرادة الله صفة تصف ذاته دون ما يوجب استخدامها في خلق الأشياء وتسييرها؟

وأما المسألة الثالثة عند «النظام» ففيها لفتة تكاد - لو أحسنا فهمها واستخدامها - أن تضعه معنا في عصرنا، فمن أهم ما يميز عصرنا بغير نزاع وجهة النظر الآخذة بمبدأ الحركة والتغير بدل النظرة التي سبقت ذلك من أن الأصل في حقيقة الكون سكون إلى أن يحركه ما يحركه، إننا إذا وضعنا منظار عصرنا هذا على أعيننا لترى، لما فرقنا بين «عقل» و«جسم» من حيث إن كليهما قوامه «حركة» وفعل ونشاط، لقد كان يمكن للسابقين أن يتصوروا العقل كائنا متأملا في سكون، وأما البدن فهو وحده الذي يلزم أن يضطرب مع سائر الأشياء الجوامد في تيارات الحركة الدافقة خلال الكون، أما نحن اليوم فلا نعلم كيف تكون «فكرة» إلا أن تكون ضربا من الفاعلية يؤديها هذا العضو أو ذاك من أعضاء البدن.

وشيء كهذا يقوله «النظام» - لو كنت قد أحسنت فهم ما يريده - حين يقول ما معناه إنه ليست الأفعال البدنية وحدها هي التي تتألف من «حركة» بل كذلك «العلم» و«الإرادة» - وكان يمكن أن يعمم القول ليشمل كل جوانب الإنسان في حياته الفكرية والوجدانية - ف «العلم» حركة تنتقل بها النفس من حالة إلى حالة، وكذلك قل في الإرادة، وإن هذا القول ليصدق حتى إذا فهمنا «الحركة» لا على أنها نقلة من مكان إلى مكان، بل فهمناها على أنها تغير من حالة إلى حالة أخرى.

وننتقل مع «النظام» إلى مسألته الرابعة، وكأنما أراد بها أن يضع تعريفا يحدد الإنسان، فكان هذا التعريف عنده هو أن الإنسان إنسان بنفسه وروحه، وأما البدن فهو آلة التنفيذ، كما أنه هو وسيلة التشكل، وما النفس أو الروح في هذا السياق إلا جملة الاستعدادات التي يتهيأ بها للإنسان أن يفعل ما يفعله، فهي ليست هذه الجزئية الخاصة أو تلك الجزئية الخاصة من جزئيات العلوم، أو من جزئيات السلوك، أو من حالات القدرة أو حالات الإرادة، بل هي هذه القوى عندما تكون في عالم الممكن، قبل إخراج هذا الممكن ليكون واقعا، كاليدين - مثلا - «يمكن» أن تقبضا على الأشياء، دون تحديد لشيء معين قد قبضتا عليه بالفعل، أو قل: إن النفس أو الروح - التي هي هي الإنسان في أكمل معانيه - هي «وظائف» يمكن أن تؤدى، فإذا ما أديت بالفعل كانت هي الأفكار المعينة أو الأفعال المعينة التي يتألف منها تاريخ الفرد الإنساني على هذه الأرض، وبالطبع قد يتفاوت الأفراد في أشواط هذه القدرات الممكنة، وبالتالي في آماد ما يفعلونه، ولست أعلم بماذا يجيب «النظام» لو سألناه: كيف يكون البعث لروح كل صفتها أنها مجموعة استعدادات وقدرات؟ إن نظرة «النظام» إلى النفس أو الروح على أنها قدرات، قد تلتئم التئاما كاملا مع تيار الفكر في عصرنا نحن، ولكني ما زلت أتساءل: كيف كان وقعها في محيط عصرها؟ أم تراني لم أحسن فهمه في هذا الصدد؟!

وأما المسألة الخامسة فقد أراد بها أن يبين الحدود الفاصلة بين ما هو من قدرة الإنسان وما هو من قدرة الله، والفكرة على طرافتها ولطافتها، لا أظنها تفيدنا شيئا، فهو يقول ما معناه: إن الإنسان إذ يتناول بفعله شيئا ما، فإن ما يقع في حدود فعله هذا إنما هو من قدرته، غير أن الشيء لا تقف حركته عند هذه الحدود وحدها، بل يجاوزها، فيكون هذا القدر الذي جاوز به هو من قدرة الله، أفرض أنني قذفت بحجر، فعندئذ تكون حركة الحجر نتيجة فعلي ومقدورة بقدرتي، لكن الحجر لا يظل عالقا في الهواء، بل إن طبيعته تقتضيه أن يسقط على الأرض بفعل الجاذبية، فهذا السقوط وهذه الجاذبية الأرضية لم يكونا جزءا من فعلي، ولا مقدورة بقدرتي، إنما هما لازمان عن طبائع الأشياء ذاتها، ولما كانت هذه الطبائع هي من خلق الله وصنعه، كانت الأفعال التي تقع من الأشياء - بعد استنفاد نتائج قدراتنا نحن - هي من فعل الله وبقدرته، هذا ما يقوله «النظام»، وفاته - فيما يبدو - أن لا فرق في حقيقة الأمر بين الشطر الذي نسبه لفعل الإنسان والشطر الذي نسبه لفعل الله؛ لأنه لو كانت سقطة الحجر وجاذبية الأرض قد جاوزت حدود فعلي، فتحتم علينا أن ننسبها إلى طبيعة الحجر وطبيعة الأرض، أو بعبارة أخرى، ننسبها إلى فعل الله؛ لأن هذه الطبائع هي من فعله، فإن قدرة الذراع على القذف، واستجابة الحجر بانقذافه، هما كذلك من طبيعة الذراع البشرية ومن طبيعة الحجر، ففيم التفرقة إذن؟ لقد كان «النظام» ليكون أدنى إلى الصواب إذا هو رد الحركة كلها؛ ذراعا بشرية كانت هي المتحركة، أو حجرا منقذفا، أو حجرا ساقطا منجذبا للأرض، أو أرضا جاذبة، إلى قوانين، وليقل إذا شاء: إن هذه القوانين من فعل الله، فلا يغير ذلك من الأمر شيئا؛ لأن الذي يبقى بين أيدينا هو قوانين يمكن أن نفهم بها ما يحدث، وأن نتنبأ على أساسها بما عساه أن يحدث، ومع ذلك فإن التفرقة التي يميز بها «النظام» جزءا من الفعل عن جزء، جاعلا أحد الجزأين مقدورا للإنسان، والجزء الآخر محتوما بحكم طبائع الأشياء، تفرقة تدعو إلى إمعان النظر.

ولو أفضنا القول في المسألتين السادسة والسابعة، لوجدنا أنفسنا نتحدث بلغة إحدى المدارس الفلسفية المعاصرة، التي تجعل حقيقة الشيء في مجموع ظواهره، وهو مذهب يمكن القول - مع قليل من التجوز - إن بادئه في الفلسفة الأوروبية الحديثة هو ديفيد هيوم في القرن الثامن عشر، وخلاصته إنكار لأن يكون للشيء المعين جوهر مغيب وراء ظواهره التي تبدو منه للحواس المدركة له، فليست البرتقالة - مثلا - إلا لون وطعم ورائحة وشكل وملمس ... إلخ، اجتمعت معا مرتبطا بعضها ببعض بطائفة من علاقات، فإذا طرحنا هذه الصفات البادية من حسابنا واحدة في إثر واحدة، كان باقي الطرح لا شيء؛ على حين كانت وجهة النظر الأخرى تقول: إن الذي يبقى في أذهاننا بعد طرح هذه الصفات البادية هو «جوهر» البرتقالة، وها هو ذا «النظام» يذهب إلى أن الجواهر - جواهر الأشياء أو حقائقها - مؤلفة من أعراض اجتمعت، وليس وراءها شيء.

والذي يستثير سؤالنا في هذا الموضع هو: ترى هل قصر «النظام» قوله هذا على الأشياء الجوامد دون الأحياء؟ أو هل قصره على الأشياء الجوامد والأحياء دون الإنسان وحده؟ ولست أظنه قد بلغت به الجرأة الفكرية حدا يجعله يوسع هذا القول ليشمل الإنسان مع سائر الأشياء والأحياء، كما فعل هيوم في الفلسفة الأوروبية الحديثة؛ وذلك لأن تطبيق القول على الإنسان، يجعل الإنسان في حقيقته حزمة من صفات لا ترتكز على جوهر داخلي، لكن هذا القول ينفي وجود نفس أو روح، مما كانت تستلزمه العقيدة الدينية والرأي العام في آن معا، لقد استطاع هيوم أن يشمل بالفكرة كل شيء؛ إنسانا وغير إنسان، فلم يحل بينه وبين ذلك عقيدة ولا رأي عام شائع بين الناس، ولا أظن «النظام» قد أراد هذا الشمول الواسع للفكرة، وعلى كل حال فحتى هذه النظرة المبتورة المجزوءة في إنكاره ل«الجوهر» واكتفائه ب«الظواهر» عند الإشارة إلى حقائق الأشياء، كفيلة له عندنا بإحلاله محلا رفيعا في دنيا «العقل» والعقلاء.

لكننا - وا أسفاه - لم نكد ننزله هذه المنزلة العقلية الرفيعة لحصره حقائق الأشياء في ظواهرها، حتى نجده في المسألة الثامنة قد نقض نفسه بنفسه، ونسخ بيسراه ما كانت خطته يمناه؛ لأنه حين انتقل إلى مسألته الثامنة قدم لنا فكرة تذكرنا بفلسفة ليبنتز بأوروبا في القرن السابع عشر، فما ظنك برجل واحد يعرض عليك في آن واحد أفكارا، بعضها يحملك على أن تضعه مع هيوم - الفيلسوف الإنجليزي التجريبي المعروف - في زمرة واحدة، وبعضها الآخر يحملك على أن تضعه مع ليبنتز - الفيلسوف الأوروبي العقلاني - في زمرة واحدة أيضا؟ اللهم إلا إذا كنت قد أخطأت فهم ما قصد إليه «النظام»، ولنوضح هذا التناقض بين الرأيين فنقول:

لا بد لنا بادئ ذي بدء أن نلقي للقارئ ضوءا يبين له معاني زوجين من المصطلحات الفلسفية التي يكثر ورودها عند الفلاسفة المحدثين والمعاصرين لنا بصورة خاصة، أما أول هذين الزوجين فهو التباين القائم بين «الجوهر» و«العرض»، وأما ثانيهما فهو بين «العلاقات الداخلية» و«العلاقات الخارجية» (ويفضل بعض الكاتبين في الفلسفة من زملائنا أن يقول «الإضافات» بدل «العلاقات»؛ جريا على طريقة العرب الأقدمين في التسمية، كما يفضل أن يقول «المحايثة» بدل «الداخلية»)، والآن فلنستأنف الحديث:

كان الفلاسفة الأقدمون، وكثير من الفلاسفة المعاصرين، عندما يحللون حقائق الوجود الظاهرة ليردوها إلى أول أصولها، ينتهون إلى فكرة شديدة الشبه بما كان ليقوله عامة الناس بفطرتهم السليمة لو أنهم أوتوا القدرة على التعبير الفلسفي عن وجهات نظرهم، وذلك أنهم إذ يرون الأشياء من ظواهرها البادية، كألوانها وأشكالها وأصواتها ... إلخ، لا يتصورون أن تكون هذه الظواهر البادية للحواس معلقة في الخلاء بغير حامل يحملها أو دعامة تسندها، فكيف تكون حقيقة هذا «القط» مثلا هي مجموعة صفات وحركات؟ وهل إذا ما اختفى القط عن مجال إدراكي له بحواسي، بحيث اختفت صفاته وحركاته الظاهرة، أقول عنه إنه انعدم ولم يعد له وجود؟ أئذا تغيرت صفاته وحركاته أقول إنه قط آخر غير القط الذي رأيته منذ حين؟ لا، إنه لا بد أن يكون له جانب آخر ذو ثبات، هو الذي يخلع عليه هويته الثابتة، فيظل هو هو القط بعينه مهما تغيرت صفاته، أو اختفى عن مجال إدراكي الحسي، وإن الأمر ليزداد تعقيدا وعسرا إذا ما وضعنا الإنسان موضع النظر، فقد يسهل علينا أن نتصور فناء القط فناء تاما إذا ما اختفت عن حواسنا صفات بدنه وحركاته، لكنه لا يكون بهذه السهولة كلها إذا ما كان «الإنسان» هو موضع أنظارنا، فهل يسهل علينا أن نقول عن رجل نعرفه على مدى أعوام طوال، اعتورته خلالها تغيرات كثيرة. إنه ليس رجلا «واحدا»، بل هو عدد من الرجال يكثر بمقدار ما كثرت تغيراته؟ وإذا قلنا بل إنه «واحد» كان علينا أن نبحث فيما ربط كثرته ربطا خلع عليه هوية واحدة وتظل واحدة ما عاش، بل ربما تظل واحدة كذلك بعد موته، بدليل أنه سوف يبعث يوم البعث للحساب.

ومن أجل هذا كله؛ وجد الفلاسفة الأقدمون وكثير من المعاصرين ألا مفر من «افتراض» وجود «جوهر» وراء هذه الظواهر البادية، هو الذي يحمل تلك الظواهر، وهو الذي يظل ثابتا وذا دوام؛ ولذلك فهو الذي يضفي على الكائن الواحد وحدانيته وهويته، وأما الظواهر التي تظهر آنا وتختفي آنا، تجيء وتذهب، فيكون الكائن المعين على صفة معينة اليوم وعلى غيرها غدا، فهي «أعراض» تعرض لذلك الكائن دون أن تكون جزءا ضروريا من حقيقته الواحدة الثابتة.

وأمام هذين الطرفين: الجوهر والعرض، ترى أصحاب المذاهب الفلسفية على اختلاف، فمنهم من يجعل الجوهر من الشيء أو من الكائن هو كل حقيقته، ولا معول إطلاقا على الأعراض الطارئة، وهؤلاء هم الفلاسفة «المثاليون»، ومنهم من يتخذ الموقف المضاد، فيقول إن حقيقة الشيء أو الكائن هي ما أدركه منه، فإذا كان هذا الذي أدركه هو صفات تتبدل وتتغير وتظهر وتختفي، كانت هذه الصفات هي حقيقته، فإذا سألتهم: وما الذي يكسب الكائن الواحد هويته الواحدة؟ أجابوك: ليس لكائن ما هوية واحدة، إلا ما تعطيه إياها مجموعة العلاقات التي تربط تلك الصفات الظاهرة، ولما كانت الصفات الظاهرة تجاوز الحصر، كانت العلاقات التي تربطها بعضها ببعض تجاوز الحصر أيضا، ومن ثم أمكننا أن نتصور تركيبة منها تختلف عند كل فرد عنها في سائر الأفراد، وهنا تكمن ما نسميه «بالهوية» الواحدة .

وها نحن أولاء قد مسسنا بالحديث فكرة «العلاقات»؛ فالفلاسفة قديمهم وحديثهم على السواء يفرقون فيها بين نوعين ؛ داخلية، وخارجية. أما الأولى فهي التي تنبثق من طبيعة الشيء نفسه أو من طبيعة الفكرة نفسها، ولا تفرض عليها من الخارج فرضا موقوتا، فالعدد (12) - مثلا - تنبثق منه نفسه عدة علاقات تربطه بسواه، ولا يكون للحوادث الجارية دخل في ذلك؛ فهو «ضعف» العدد (6) وهو «ثلاثة أمثال» العدد (4) وهكذا. إن علاقته بالعدد (6) وبالعدد (4) نابعة من حقيقته، بحيث لا يمكن القول إنها علاقة قد تظهر اليوم وتختفي غدا، ومثل هذه العلاقات النابعة من حقائق الأشياء أو الأفكار، يعممه الفلاسفة المثاليون ليشمل كل كائن في الدنيا وكل فكرة عقلية كائنة ما كانت، ولم لا؟ أليس عندهم أن لكل شيء «جوهرا» ثابتا هو حقيقته؟ إذن فمن هذا الجوهر تلزم بعض العلاقات لزوما منطقيا اقتضته طبيعته، ولم يكن للحوادث العابرة دخل فيها.

لكن فريق التجريبيين من الفلاسفة لا يذهب هذا المذهب، نعم، إن لكل شيء ولكل فكرة علاقات تربطه أو تربطها بسواها، لكنها علاقات تطرأ عليه ولا تنبعث منه، فإذا كانت الورقة التي أكتب عليها الآن هي «فوق» المنضدة، و«على يمين» النافذة، و«تحت» المظلة، فكل هذه العلاقات قد تتغير إذا ما تغير وضعها، فلا مانع عند منطق العقل أن أرى الورقة في لحظة أخرى وقد أصبحت «تحت» المنضدة لا فوقها، و«إلى يسار» النافذة لا إلى يمينها، و«فوق» المظلة لا تحتها، وهم يسمون أمثال هذه العلاقات القائمة بحكم الظروف المحيطة، والتي تتغير إذا تغيرت الظروف دون أن تتغير حقيقة الشيء، يسمونها بالعلاقات الخارجية.

ونعود بعد هذا الاستطراد الطويل إلى صاحبنا «النظام»؛ فلقد أسلفنا له قولا يذهب به إلى أن حقائق الأشياء هي «أعراض اجتمعت» وليس «للجوهر» معنى إلا هذه الأعراض المجتمعة، هذا جميل، إذن فأنت يا صاحبي أميل إلى التجريبيين من طراز الفيلسوف الإنجليزي هيوم، لكنه لا يلبث في المسألة التالية أن يأخذ برأي آخر، يجعل الكائنات «كامنا بعضها في بعض»، وتأخر كائن منها عن كائن هو تأخر في تاريخ الظهور وحده، أي إن أول كائن خلقه الله لو كان قد أتيح لنا أن نحلل مضموناته، لوجدنا كامنا في هذه المضمونات كل الكائنات التي ظهرت بعد ذلك، فليس في الأمر أكثر من أن نتصور ذلك الكائن الأول وكأنه شريط التف حول نفسه، ثم أخذ على مر العصور ينبسط لتظهر كوامنه، فهذا الظهور وإن تأخر وقوعه، إلا أنه من حيث «الوجود» نفسه قد كانت تلك الكوامن موجودة منذ وجد الكائن الأول، وما دام «النظام» قد أخذ بهذا الرأي، فهو فيه لم يعد فيلسوفا تجريبيا من طراز هيوم، بل إنه يصبح بهذا الرأي فيلسوفا مثاليا عقلانيا من طراز ليبنتز، وإنه لمن العجب أن نرى «النظام» هنا يذكر مثالا على سبيل التطبيق لفكرته، هو نفسه المثال الذي يضربه ليبنتز على سبيل التطبيق كذلك، وهو مثل آدم وبنيه الذين هم أفراد الإنسانية جميعا، فكلا الرجلين يعتقد أن لو حللنا آدم - من حيث هو أصل - لوجدنا متضمنا فيه كل فرد إنساني ظهر بعد ذلك على مدار الدهر، تماما كما نجد نتيجة القياس المنطقي في مقدماته، وفي ذلك يقول «النظام» إن خلق آدم عليه السلام لم يتقدم خلق أبنائه؛ لأن هؤلاء الأبناء فروع لزمت عن أصلها، كانت في حالة الكمون أولا ثم انتقلت إلى حالة الظهور بعد ذلك.

وموضع المؤاخذة هو أن «النظام» قد جمع في أقواله رأيين، هما باختلاف منطقهما لا يجتمعان في عقل رجل واحد؛ لأنه إذا كانت حقائق الأشياء هي «ظواهرها»، فمعنى ذلك أن تختفي الأشياء فور اختفاء تلك الظواهر، وإذا كانت حقائق الأشياء هي «جواهر» خافية عنا بذاوتها، بادية لنا فيما يتعلق بها من ظواهر، إذن فبعد اختفاء الظواهر وزوالها تبقى الجواهر قائمة ولودا، فأي هاتين الوقفتين يريد «النظام»؟ في ظني أنه لو خير لتحتم أن يختار - باعتباره مسلما يؤمن بالبعث، والبعث يقتضي أن يكون هنالك جوهر يدوم ولا يفنى - أقول إنه لو خير لتحتم باعتباره مسلما أن يختار الوقفة التي تنفي أن تكون حقائق الكائنات مقصورة على ظواهرها، وأما أن يجمع بين الرأيين معا فأمر يمتنع على المنطق العقلي السليم.

ثم ننتقل مع «النظام » إلى المسألة التاسعة، وهي خاصة بإعجاز القرآن؛ ما مصدره؟ فنرى «النظام» يرد الإعجاز إلى مصدرين معا، فهو - أولا - معجز لأنه ينبئ عن أخبار الماضي وعن أخبار الآتي، وبديهي أنه إذا كان هذا الإنباء دليل إعجاز، فمعناه أنه ليس في وسع بشر أن ينبئ بمثل هذه الأخبار عن الماضي والآتي، وربما كان ذلك لأن الماضي الذي يخبر عنه سابق على كل تسجيل، والآتي الذي يخبر عنه مجاوز لكل استدلال يمكن الاهتداء إليه استنادا إلى الواقع الحاضر، أو إلى الماضي المعلوم للناس؛ لأنه لو كانت أخبار الماضي الواردة في القرآن مما «يجوز» أن نجد له أثرا في وثيقة، ثم لو كانت أخبار الآتي الواردة فيه مما «يجوز» استدلاله استدلالا عقليا مما قد وقع بالفعل، لما قلنا إن ذلك الإخبار معجز للبشر. وأما المصدر الثاني لإعجاز القرآن عند «النظام» فهو في أن الله تعالى قد صرف الناس عن معارضته ومحاكاته؛ لأنه لو لم يصرفهم هذه الصرفة عنه «لكانوا قادرين على أن يأتوا بسورة من مثله بلاغة وفصاحة ونظما»، وهنا كذلك نلاحظ تناقضا في موقف «النظام»؛ لأن التعليل الثاني لا ينفي «قدرة» البشر على أن يأتوا بمثل القرآن، لولا أن الله تعالى صرفهم عن هذه المحاولة، على حين أن التعليل الأول يتضمن نفي هذه القدرة عن البشر؛ صرفهم الله عن ذلك، أو لم يصرفهم.

وأما المسألة العاشرة فخاصة بماذا يكون، أو بمن ذا يكون حجة علينا في قبول ما تعنيه النصوص القرآنية؟ هبنا قد وقفنا عند حكم شرعي نختلف على إسناده إلى نص من القرآن، فمن ذا يكون فيصلا في هذا الخلاف؟ أنقبل إجماع الناس على أحد الرأيين حجة مقبولة؟ لا، هكذا يجيب «النظام»؛ فليس الإجماع عنده بحجة على أحد. إذن هل نستند إلى القياس، بحيث نحكم على القضية المطروحة بما حكمنا به على قضية أخرى شبيهة بها؟ لا، هكذا مرة أخرى يجيب «النظام»؛ فمثل هذا القياس لا يصلح في الأحكام الشرعية. وأما الحجة الحاسمة - في رأيه - فهي أن يكون لنا «إمام» معصوم من الخطأ، عصمة مردها إلى أن أحكامه موحى بها إليه من الله تعالى؛ وعلى ذلك فلا محيص للناس عن مثل هذا الإمام المعصوم، وهو نفسه مذهب الشيعة، لا سيما فريق «الإمامية» منهم، وإنا لنلحظ - مرة أخرى - تناقضا واضحا في هذا الموقف من «النظام»، أيريد أن يستند إلى «العقل» أم لا يريد؟ لقد ظننا في المعتزلة جميعا - «نظاما» وغير نظام - أنهم أصحاب منطق عقلي، وهكذا وجدناهم في معظم الحالات، وإذن فلا حرج من أن نقف موقف المتردد أمام «النظام». وموضع التناقض - فيما نرى - أنه لو كانت الحجة تستلزم قيام إمام معصوم يلهم الفكرة السديدة من الله تعالى، ثم ينقلها إلينا لنكون على هدى، فأين فاعلية «العقل» هنا؟ ومن جهة أخرى، لو كان سندنا في الأحكام هو الأدلة «العقلية» فما حاجتنا عندئذ إلى إمام؟

لقد كان أبو العلاء المعري أصفى نظرا حين أدرك أن الركون إلى إمامة والاحتكام إلى عقل هما ضدان لا يجتمعان، وذلك حين قال:

كذب الظن، لا إمام سوى العق

ل مشيرا في صبحه والمساء

ولقد استطرد «النظام» في حديثه عن «الإمام» حتى انتقل به إلى المسألة الحادية عشرة من مسائله؛ وذلك أن القائلين «بالإمامة» يومئذ، لم يكونوا جميعا على رأي واحد في الأساس الذي يقيمون عليه ذلك الرأي، فكان بعضهم يشترط أن يكون أمام الناس نص فيه تعيين ظاهر مكشوف لمن ذا يكون هو الإمام؛ لأنك قد تقبل فكرة «الإمامة» ثم تختلف في صاحب الحق فيها، وكان «النظام» ممن يشترطون قيام نص واضح يبين شخص الإمام، فأخذ مع من أخذ بأن ثمة نصا معينا منسوبا إلى النبي عليه السلام، يجعل الإمامة لعلي، وكان الصواب أن يكون علي هو الخليفة الأول بعد موت النبي عليه السلام، لولا أن عمر بن الخطاب قد كتم هذا النص عن الناس؛ لتتم البيعة لأبي بكر يوم السقيفة (!).

وينتقل النظام إلى المسألة الثانية عشرة، فإذا هو «عقل» صرف ! وذلك لأنه زعم أنه لو لم يكن هناك وحي يهدينا إلى معرفة الذات الإلهية، لكان في وسع المفكر بمحض عقله أن يحصل تلك المعرفة عن طريق الاستدلالات المنطقية وحدها.

وختم «النظام» مسائله بعرض لمشكلة «الوعد والوعيد» التي تمس فكرة «العدل» الإلهي، أفيكون أو لا يكون عدلا من الله أن يفلت مرتكب الذنب مما توعده الله به من عقاب، وأن يحرم المطيع مما وعده الله به من ثواب؟ ففي هذا يأخذ المعتزلة جميعا بأن الوعد بالثواب والوعيد بالعقاب واقعان حتما كما أراد لهما الله، وإلا لانتفى العدل، على حين عارضهم آخرون بقولهم إنه ليس من حق الإنسان أن يحدد معنى العدل الإلهي بمقولات بشرية، فهو تعالى مطلق العلم ومطلق القدرة، لا تحد علمه أو قدرته حدود.

أما بعد، فها نحن أولاء قد تركنا بغداد - في رحلتنا - بعد أن شهدنا بها نشاط الترجمة عن علوم اليونان وفلسفتهم، وتلفتنا حولنا لنرى أحدا من أصحاب «العقل» عندئذ، لنعلم إلى أي حد تأثروا في نظراتهم بالمنقول عن اليونان، فلما علمنا بوجود علمين من أعلام المعتزلة - وهم من هم من نظر عقلي إلى المسائل المعروضة - في البصرة، وهما «العلاف» شيخ المعتزلة، و«النظام» الذي تتلمذ عليه لكنه تفوق، أقول إننا لما علمنا بوجود هذين العلمين في البصرة، آثرنا أن نقطع الرحلة برجعة قصيرة الأمد، نرجع بها إلى البصرة، فنلتقي بهذين الرجلين، نستمع إلى شيء مما يقولانه، فلما ألممنا إلمامة موجزة بما كانا يشتغلان به، تركناهما والذهن يملؤه سؤالان يريدان الجواب؛ أولهما: كم عند هذين الرجلين من زاد عقلي يمكن الرجوع به إلى عصرنا الراهن لنقدمه إلى أهله؟ وثانيهما: كم تأثر هذان الرجلان بما نقله الناقلون عن فلسفة اليونان الأقدمين؟

لست أريد لأحد أن يأخذ عني الرأي، لكن ذلك لا يمنعني من عرضه سريعا موجزا، وهو أنني لم أشعر أثناء قراءتي لهذين الرجلين أنهما يسعفانني بشيء أعالج به مسائل عصري، كما أني لم أجد عندهما إلا قليلا من زاد اليونان المنقول، برغم علمي أن ما يشبه الإجماع بين الباحثين في هذا الميدان من معاصرينا، يقرر تسرب هذا الزاد اليوناني إلى شرايين الفكر المعتزلي، وأيا ما كان الأمر، فليس هو من قبيل الامتياز لهم، ولا هو من قبيل النقص الذي يؤخذ عليهم، أن تكون مسائلهم الشاغلة لعقولهم مختلفة أشد اختلاف عن مسائلنا التي تشغل عقولنا، أو أن يكونوا قد تزودوا بزاد يوناني أو لم يتزودوا، لكنه انطباع انطبعت به وأردت إثباته، وللقارئ أن يعتقد في كل ذلك بما يشاء.

لكني لو أفرغت وقفة المعتزلة كما وجدتها عند «العلاف» و«النظام» من مضمونها الفكري، أعني لو أفرغتها من المسائل المعينة التي شغلتهم فعرضوها، لبقي لي «إطار» هو إطار النظر العقلي، الذي يحاول أن يحتكم إلى الاستدلال المنطقي الذي لا تشوبه الأهواء، وعندئذ سيكون هذا الإطار العقلي هو أنفس ما أعود به إلى معاصري من أبناء القرن العشرين، ألسنا نبحث عن الرباط الحيوي الذي يرتبط به الأبناء مع الآباء؟ إنه - فيما أزعم - هو النظرة العقلانية المنزهة عن الهوى، كلما كان الأمر المعروض للبحث ضاربا بجذوره في أسس الحياة، لا مجرد فروع نامية على السطح مما يجوز أن يتمايز به الأفراد.

25

لقد آن لنا أن نعود إلى بغداد، بعد أن وقفنا هذه الوقفة مع معتزلة البصرة عندئذ، لكننا نؤثر أن تكون عودتنا من البصرة إلى بغداد في صحبة «الجاحظ» (775-868م)، فلقد قضى أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ الشطر الأول من حياته في البصرة حتى صهرته تلك المدينة صهرا بما كانت تعج به أحياؤها من نشاط فكري مبدع عجيب، ثم انتقل ليقضي الشطر الثاني من حياته في بغداد، وإنني لأضع الجاحظ من فكر عصره حيث يوضع عمالقة الفكر جميعا بالنسبة إلى عصورهم الفكرية وذلك على امتداد التاريخ، فماذا يكون عملاق الفكر في كل العصور وفي مختلف الثقافات، إذا لم يكن هو الرجل الذي امتص ثقافة عصره بأسرها، من أصولها إلى فروعها، لا لكي يتلقاها راضيا شاكرا حامدا، بل لكي يتناولها ناقدا ساخرا؛ ابتغاء تحويرها وتبديلها، ولكم شهدنا رجالا أجهضوا إجهاضا في ولادتهم الفكرية، حتى جاء تكوينهم مبتورا شائها، فترى أحدهم إما اجتزأ ثقافة عصره اجتزاء فحصل منها جانبا وفاته جانب، وإما حصل ما حصله في سلبية لا تحرك ساكنا ولا تغير قائما، فأما عمالقة الفكر فتراهم يقفون في ميدان عصرهم الثقافي وقفة المحور تدور حوله الأفلاك، ثم إلى جانب ذلك تراه يصور ما يصوره لينقده أو يعدله، ومن هذا القبيل الضخم كان الجاحظ في عصره.

إنني في هذا الكتاب أسير على طريق «العقل» من تراثنا الفكري، فإذا كنت قد وقفت على الطريق لأستمع إلى الجاحظ، فإنما وقفت لأستمع إلى رجل هو أقرب الناس إلى فولتير في سخريته النافذة، وفي عقلانيته الصارمة، إنه هو نقطة التحول في الثقافة العربية كلها، من ثقافة كان محورها الشعر، إلى ثقافة محورها النثر، وإذا قلنا ذلك فقد قلنا إنه تحول من نظرة وجدانية إلى أخرى عقلية؛ فبعد أن كانت الثقافة العربية قبل الجاحظ تخاطب الأذن بالجرس والنغم، أصبحت بعد الجاحظ تخاطب العقل بالفكرة، إنه انتقال من البداوة وبساطة استرسالها مع المشاعر، إلى حياة المدينة وما يكتنفها من وعي العقل ويقظته، فيلتفت إلى الدقائق واللطائف التي تميز الأشياء والأفكار بعضها من بعض، لقد قرأت مرة لكاتب معاصر لنا يحاول تعريف «المثقف»، من طبقة ما يسمى «بالأنتلجنسيا» - أو طائفة المفكرين - فيقول إنه هو من استطاع تحديد الفوارق الدقيقة بين رقائق الفكرة الواحدة، أو هو من استطاع رؤية الظلال المتدرجة الخفيفة، إذ ما أيسر على غير المثقف أن يقبل الأفكار على غلظتها بغير تحليل، دون أن يحس أنه بهذا لا يكاد يدرك من تلك الأفكار شيئا، تقول له - مثلا - أفكارا كالحرية أو الديمقراطية أو المساواة، وما إليها من أفكار تمتلئ أجوافها بشتى الكائنات، فيقبلها على لبسها هذا بغير قلق يساوره، وهكذا تكون بساطة البداوة في إرسال القول، حتى إذا ما انتقل الأمر إلى المدينة وجدت العام قد أخذ يتشقق إلى خواص، وكل خاص بدوره يتفرع إلى فروع، وهلم جرا.

لقد تصادف فيمن يكتبون عن التراث الفكري الذي خلفه لنا الآباء، فيصفونه بفقر في المضمون الفكري نفسه، لكن يغطيه بريق خاطف من لفظ مصقول، حتى لتعمى العين بهذا البريق فلا تدرك كم هو خواء ما يحمله اللفظ من معنى، أو يصفونه في بعض حالاته بالغنى الغزير في المضمون الفكري، لكن اللفظ الذي صيغ فيه ذلك المعنى ينوء بما يحمل، فتثقل العبارة على قارئها ثقلا ربما دفعه إلى تركها إلى غير رجعة، أو يصفونه في معظم حالاته بأنه تراث مفعم بالشواهد حتى لتضيع فيه الفكرة التي جيء بتلك الشواهد لتشهد على صوابها، كما يضيع الفكر وتذوب شخصيته ذوبانا كاملا فلا تراه. لكن هذه الأوصاف الثلاثة التي يمكن أن يوصف بها تراثنا في هذا الجانب منه أو في ذلك، تنتفي كلها أمام الجاحظ، فيوشك هذا الرجل أن يبدأ لنا صفحة جديدة كل الجدة في تاريخنا الفكري؛ فالفكرة على يديه غنية غزيرة الغنى، ومن ثم فهي لا تحتاج إلى بريق لفظ يستر منها فقرا، واللفظ عنده ميسور كل اليسر كأنه الشراب السائغ، لا توقفك فيه عقبة كائنة ما كانت، ومن ثم فلا ثقل ينفرك منه، فتمضي في القراءة ما وسعت ذلك ساعات الفراغ، وطريقة العرض وذكر الشواهد لا تخفي من شخصية الكاتب شيئا؛ فالجاحظ هناك ماثل أمام عينيك وفي مسمعيك عند كل فقرة من كل صفحة مما كتب.

إنك مع الجاحظ إنما تقف بإزاء رجل واضح النظرة العقلية، فهو إذا ما تناول موضوعا بالبحث، جمع الآراء المتضاربة كلها، ليعرض أمام عقله الفكرة ونقيضها، ويدافع عن كل منهما دفاعا يكاد يوهمك أنها هي الفكرة التي يتبناها لنفسه، لكنك سرعان ما تجد الحرارة نفسها في دفاعه عن نقيضها، فتراه يكتب في ذم الشيء وفي مدحه بدرجة واحدة من القوة، وقد يخلق لنفسه أشخاصا يحاورهم ويحاورونه - كما فعل أفلاطون في محاوراته - وذلك ليسبغ شكلا مقبولا على الحوار، فكأنما لكل جانب من الجانبين مؤيد يؤيد جانبا ويعارض الجانب الآخر.

كان الجاحظ في كل هذا ينشد اقترابا من اليقين فيما هو بصدد بحثه، عن طريق الشك فيما يقال عن ذلك الموضوع المطروح للبحث؛ يقول الجاحظ بعد أن روى ما كان سمعه عن نوع من الحية أنها تلد، وعن نوع من الوعول أن أنثاه تلد مع كل ولد تضعه أفعى، «لم أكتب هذا لتقر به، ولكنه رواية أحببت أن تسمعها، ولا يعجبني الإقرار بهذا الخبر، وكذلك لا يعجبني الإنكار له، ولكن ليكن قلبك إلى إنكاره أميل، وبعد هذا فاعرف مواضع الشك وحالاتها الموجبة له، لتعرف بها مواضع اليقين والحالات الموجبة له، وتعلم الشك في المشكوك فيه تعلما؛ فلو لم يكن في ذلك إلا تعرف التوقف ثم التثبت، لقد كان ذلك مما يحتاج إليه، ثم اعلم أن الشك في طبقات عند جميعهم، ولم يجمعوا على أن اليقين طبقات في القوة والضعف، ولما قال أبو الجهم للمكي: أنا لا أكاد أشك، قال المكي: وأنا لا أكاد أوقن، ففخر عليه المكي بالشك في مواضع الشك، كما فخر عليه ابن الجهم باليقين في مواضع اليقين» (الحيوان، ج6، ص10).

إن رجلا كالجاحظ جدير أن يستمع إليه؛ فربما كانت الطريقة المثلى هنا هي أن ندعه يتكلم بألفاظه، بادئين بقليل مما ورد في بعض «رسائله» ومنتهين إلى شيء مما ورد في كتابه الموسوعي الضخم «الحيوان» الذي لا يتقيد موضوعه بحدود عنوانه، وإن يكن الحديث عن الحيوان هو أوسع من الحديث عن أي موضوع آخر مما ورد فيه، وقد نتطرق من «الحيوان» إلى رائعته الأخرى، وهي «البيان والتبيين».

يقول الجاحظ في «رسالة المعاش والمعاد» - وهي في أساسها نصح وتوجيه في الأخلاق المحمودة، خاطب به محمد عبد الملك الزيات، وفي رواية أخرى أنه خاطب به محمد بن أبي داود الذي تولى قضاء بغداد في عهد المتوكل - «اعلم أن الله جل ثناؤه خلق خلقه، ثم طبعهم على حب اجترار المنافع ودفع المضار وبغض ما كان بخلاف ذلك، هذا فيهم طبع مركب، وجبلة مفطورة، لا خلاف بين الخلق فيه، موجود في الإنس والحيوان» (رسائل الجاحظ، ج1، ص102) - فأرجو أن يتمهل القارئ معي عند القول بأن حب المنافع ودفع المضار هو موقف يمليه الطبع، تمليه الفطرة البشرية، وأن الأساس في هذا واحد في «الإنس والحيوان» جميعا، فإذا كان مقطوعا بأن الجاحظ في تراثنا الفكري علم شاهق، فإننا لا نجاوز حدود التراث إذا أخذنا بمذهب أخلاقي في عصرنا الراهن هذا، يجعل الأخلاق قائمة على أساس «المنفعة» وحدها، فليس من الأخلاق المحمودة ما تثبت تجارب الحياة على طول السنين أنه ضار، وبهذا المبدأ وحده تزول عن التقاليد قدسيتها أو ما يشبه القدسية عند كثير من مواطنينا المعاصرين، فليست أولوية القبول لما قد جرى به عرف الأقدمين، بل الأولوية هي لما يثبت أنه جالب للمنافع دافع للمضار، ولما كانت المنافع تتغير بتغير الظروف عصرا بعد عصر؛ وجب أن تراجع مبادئ الأخلاق عصرا بعد عصر كذلك، أو قل تراجع حضارة بعد حضارة، ولقد ذهب كاتب هذه الصفحات هذا المذهب النسبي في القيم على اختلافها، فقامت عليه القيامة كأنه خرج بهذا القول عن مبادئ تراثنا المجيد! نعم، قد نجد في الموروث رجلا آخر غير الجاحظ، يجعل مبدأ الأخلاق التزام «الواجب» الذي أمرنا به، لا «المنفعة» التي تقتضيها ظروف المعاش، لكن النقطة الهامة هنا، هي أنه إذا جاز للأسلاف أن يختلفوا في ذلك مذهبا، فهل يحرم علينا نحن المعاصرين مثل هذا الاختلاف في المذهب؟

ونمضي مع الجاحظ في هذه الرسالة عينها «رسالة المعاش والمعاد» لنسمع: «واحذر كل الحذر أن يختدعك الشيطان عن الحزم، فيمثل لك التواني في صورة التوكل، ويسلبك الحذر، ويورثك الهوينا بإحالتك على الأقدار؛ فإن الله إنما أمر بالتوكل عند انقطاع الحيل، والتسليم للقضاء بعد الإعذار!» (الرسائل، ج1، ص91) - فماذا يقول مفكر عقلاني معاصر لنا أكثر من هذا التحذير، إذا أراد لنا أن يكون «العقل» وحده هو الحكم في أمورنا؟ إنها خدعة من الشيطان أن يخلط لنا في أوهامنا بين حالتين، نظنهما متشابهتين، وبينهما من التباين ما بين الأرض والسماء، وهو نفسه التباين الذي يفرق بين أمة تقدمت وأخرى تخلفت، فليس «التواني» هو «التوكل»؛ الأول هو اللامبالاة - إذا استخدمنا لغة عصرنا - ومن أبرز نتائجه أن نحيل على الأقدار تصاريف الحياة، ثم ننتظر في رخاوة فاغري الأفواه كمن سلبت إرادتهم وأفلت زمامهم، وأما الثاني - «التوكل» - فأمر لا محيص لنا عنه ، ولكن بأي معنى؟ بالمعنى الذي يجعلك تبذل كل جهد ممكن، وتلجأ في قضاء حاجاتك إلى كل حيلة ممكنة، ثم تترك ما يجاوز حدود جهدك وحيلتك للأقدار، هذا أمر واضح؛ لأن الجملة هنا جملة «تحليلية» كما يقول رجال المنطق، أي أنها جملة تفسر شطرها الأول بشطرها الثاني، ولا تضيف إليه معنى جديدا؛ لأنني إذ أطالب إنسانا بأن يبذل في أموره كل جهده، ويحاول حل مشكلاته بكل ما يسعه من حيلة، كان متضمنا في هذا القول أنه لا قبل له فيما يجاوز جهده وحيلته، وإذن فلا مناص له من ترك هذا إلى عوامل أخرى تصرفه.

ويمضي الجاحظ ليكمل القول السابق بهذه الفقرة: «... واجب على كل حكيم أن يحسن الارتياد لموضع البغية، وأن يبين أسباب الأمور ويمهد لعواقبها؛ فإنما حمدت العلماء بحسن التثبت في أوائل الأمور، واستشفافهم بعقولهم ما تجيء به العواقب، فيعلمون عند استقبالها ما تئول به الحالات في استدبارها، وبقدر تفاوتهم في ذلك تستبين فضائلهم، فأما معرفة الأمور عند تكشفها وما يظهر من خفياتها، فذاك أمر يعتدل فيه الفاضل والمفضول، والعاملون والجاهلون» (نفس المرجع السابق).

ألا إن في هذه العبارة لمنهجا عقليا كاملا، فانظر إلى أجزائها متدبرا: (1)

المهمة الأولى في كل عملية فكرية هي أن تحسن تحديد الهدف، وهو ما يسميه الجاحظ: «موضع البغية»؛ لأنه على هذا التحديد الواضح لما نبتغيه تتوقف خطوات السير على الطريق المؤدي إليه، تريد - مثلا - أن تزيل الفقر من أمتك بأن يكون الحد الأدنى لدخل الفرد الواحد هو كذا في العام، إذن فاجمع الأرقام الدالة على عدد الأفراد وعلى مجموع الموارد القائمة، وانظر كم يكون الفرق بين ما هو قائم وما هو مرتجى، ثم انظر كيف تقام الموارد الجديدة الكفيلة بتغطية هذا الفرق، وهكذا يجيء الهدف - أو «البغية» - أولا؛ ليستقيم لك منهج التفكير، إنه بغير هدف واضح لا يكون تفكير بأي معنى من معانيه، فضلا عن أن يكون هنالك منهج ينظم العملية الفكرية تنظيما منتجا. (2)

أما وقد حددنا «موضع البغية» فالخطوة التالية هي أن أنظر في موضوع بحثي نظرة ألتمس بها الروابط السببية التي تصل مراحله بعضها ببعض؛ فلكل موضوع مقدماته ونتائجه - أو «أسباب وعواقب» بلغة الجاحظ في العبارة السابقة - ولنعد إلى مثلنا السالف، وهو البحث في رفع مستوى العيش لأمة من الأمم، فها هنا يحدثنا رجال الاقتصاد أي الجهود تنتج كم من الحصيلة، فقد تكون «الأسباب» هي مشروعات للري تكون «العواقب» امتدادا للأرض المزروعة، أو إكثارا من المحصول، فواضح من هذا النظر الذي يلتمس الروابط بين «الأسباب» و«عواقبها» أن الأمر يحتاج إلى الدارسين المتخصصين في كل موضوع على حدة؛ لأنهم هم وحدهم القادرون على ربط العوامل بنتائجها، ويقول الجاحظ إن العلماء إنما يتفاوتون مقدارا بتفاوتهم في «حسن التثبت في أوائل الأمور واستشفافهم بعقولهم ما تجيء به العواقب.» (3)

وانظر بدقة إلى هذه العبارة الأخيرة، تجدها تعبيرا عن عملية «التخطيط» فما «التخطيط»؟ هو رسم لخطة السير رسما يمكنك منذ البدء معه معرفة النتائج قبل وقوع تلك النتائج وقوعا فعليا، والتخطيط السديد هو الذي يبنى على الواقع لا على الأوهام، افرض أن حاكما زج بأمته في حرب مقدرا لها نتائج معينة تنبني على واقع معين قائم، فإذا بهذه النتائج تنعكس مخالفة لما توقع، وإذا بذلك الواقع الذي افترضه لم يزد على أوهامه وأحلامه، وقل لي: كم يقترب أو يبتعد مثل هذا الحاكم عن طريق العقل الذي يرسمه الجاحظ وغير الجاحظ من أصحاب الفطنة وحسن النظر؟ ولم نقل شيئا بعد عن حاكم آخر لم يصدر في السير بأمته عن خطة مرسومة لها أوائل ولها أواخر، بل أراد لها أن تسير وأن تسير؛ ليرى ماذا عسى أن تكون النتائج، وبعبارة أخرى نستخدم فيها ألفاظ الجاحظ، إنه أراد أن يرجئ معرفته للأمور حتى تتكشف له النتائج، وتظهر له الخافيات، أي إن هذه النتائج وتلك الخافيات ظلت مجهولة له وغير مقدرة حتى نبتت أمام عينيه وكأنها برزت من دنيا العدم بغير مقدمات، فذاك أمر - كما يقول الجاحظ - «يعتدل فيه الفاضل والمفضول، والعالمون والجاهلون.»

وللجاحظ ربط جميل - في هذه الرسالة نفسها، رسالة «المعاش والمعاد» - بين تلك الفكرة العاقلة التي تطالبنا بتوضيح الأهداف ثم التخطيط المدروس لبلوغها، وبين «الشجاعة» متى تجوز ومتى لا تجوز، فإذا كانت خطتك واضحة المعالم، أواخرها بينة، وأوائلها مؤدية إلى تلك الأواخر تأدية لا موضع فيها لخطأ الحساب، فعندئذ لا مجال «للشجاعة»؛ إذ أمامك خط السير وما يؤدي إليه، فكأن الأمر كله عملية حسابية تخضع لقواعد الحساب، لكن هنالك مواقف كثيرة قد يتعذر فيها هذا التخطيط المحسوب الواضح، بحيث يكون بها هامش ضيق أو عريض لما هو محتمل الوقوع، لا ما هو متيقن الحدوث، فها هنا يكون الأمر مرهونا بالترجيح، ثم تكون «الشجاعة» ضرورية، لتحثنا على الإقدام الذي ربما استتبع المغامرة والمخاطرة، لكن ما حيلتنا إذا أردنا العمل المنتج في حالة كهذه؟ أنؤثر العافية والسلامة ثم لا نفع؟ أم نشجع ونغامر ما دمنا نرجح الوصول حتى ولو لم نستيقن منه كامل اليقين؟ يقول الجاحظ: «وليست تكون الشجاعة إلا في كل أمر لا يدرى ما عاقبته، يخاطر فيه بالأنفس والأموال، فإذا أردت الحزم في ذلك فلا تشجعن نفسك على أمر أبدا إلا والذي ترجو من نفعه في العاقبة أعظم مما تبذل فيه في المستقبل، ثم يكون الرجاء في ذلك أغلب عليك من الخوف» (المرجع السابق، ص114).

وقد يجمل بنا قبل أن نترك رسالة «المعاش والمعاد»، أن نقتبس منها فقرة عن «الصداقة»، فربما انتفع بذكرها كثيرون، يقول: «... فلا تكونن لشيء مما في يدك أشد ضنا، ولا عليه أشد حدبا، منك بالأخ الذي قد بلوته في السراء والضراء ... فإنما هو شقيق روحك، ومستمد رأيك، وتوءم عقلك، ولست منتفعا بعيش مع الوحدة، ولا بد من المؤانسة ... ثم لا يزهدنك فيه أن ترى منه خلقا أو خلقين تكرههما؛ فإن نفسك التي هي أخص النفوس بك لا تعطيك المقادة في كل ما تريد، فكيف بنفس غيرك؟» (المرجع السابق، ص122) وأنا أوصيك بخلق قل من رأيته يتخلق به ... ألا يحدث لك انحطاط من حطت الدنيا من إخوانك استهانة به ... ولا يحدث لك ارتفاع من رفعت الدنيا منهم تذللا وإيثارا على نظرائه من الحفظ والإكرام (ص128).

وننتقل مع الجاحظ إلى رسالة أخرى من رسائله؛ لننصت إلى حكمة العقل وقد بلورت تجارب الحياة في نظرات نافذات إلى الطبيعة البشرية، ألا وهي رسالة «كتمان السر وحفظ اللسان»؛ يقول فيها: «ليس ملوما على تضييع القليل من قد أضاع الكثير، ولا يسام إصلاح يومه وتقويم ساعته من قد استحوذ الفساد على دهره، ولا يحاسب على الزلة الواحدة من لا يعدم منه الزلل والعثار، ولا ينكر المنكر على من ليس من أهل المعروف؛ لأن المنكر إذا كثر صار معروفا، وإذا صار المنكر معروفا صار المعروف منكرا، وكيف يعجب ممن أمره كله عجب؟! وإنما الإنكار والتعجب ممن خرج عن مجرى العادة، وفارق السنة والسجية» (رسائل الجاحظ، ج1، ص139).

في أي عصر كتب هذا الرجل ملاحظته تلك؟ أكتبها حقا في بغداد القرن التاسع، أم كتبها في العواصم العربية في النصف الثاني من القرن العشرين؟! إن في هذه الفقرة لأحكاما لم أكتب حكما منها إلا وقفز إلى ذهني حالة بعينها صادفتها في حياتي متمثلة في رجل، بل في عشرة رجال، بل في مائة أو ألف، أيحكم الجاحظ إذن على عصره دون سائر العصور؟ أم يحكم على الخلق العربي أنى كان وأينما ظهر؟ وإذا كان ذلك كذلك فهل نأخذ لعصرنا هذه القطعة من تراثنا لنعرف منها من نحن وبأي الخصال نتميز؟ فلقد شهدت رجالا في مواضع الزعامة من شعوبنا أضاعوا على الناس الكثير الكثير الكثير، فكانوا بعدئذ إذا ضيعوا عليهم القليل قال الناس: «ليس ملوما ...» ولقد شهدت رجالا ونساء يعدون بالمئات والألوف، خلصت نياتهم لإصلاح أوطانهم، حتى إذا ما هموا بالتنفيذ أقعدهم الحمل الثقيل، وأيأسهم أنهم كلما أصلحوا جزءا عاد هذا الجزء وازداد فسادا، فسرعان ما تراهم يتساءلون وقد ثبطت منهم العزائم؛ «لا يسام إصلاح يومه وتقويم ساعته من قد استحوذ الفساد على دهره»، ثم كيف في عصور الفساد الشامل تميز بين المخطئ والمصيب؟ إن الحكم بالصواب أو الخطأ لا يكون إلا منسوبا إلى قاعدة قائمة، كما تحكم على من ينصب الفاعل ويرفع المفعول بالخطأ؛ قياسا على القاعدة النحوية بأن يرفع الفاعل وينصب المفعول، وهكذا قل في أفعال الناس بصفة عامة؛ فهنالك «معروف» أي إن هنالك للسلوك قواعد تعارف عليها الناس، فيميزون بها متى يجيء سلوك السالك صوابا ومتى يخطئ ويضل سواء السبيل، أما حين يعم الفساد، فالناس يتنكرون «للمعروف»، للقواعد التي تواضعوا عليها وتعارفوا على التزامها، ويصبح المستمسك بالمعروف في أعينهم مغفلا فاتته روح زمانه، فلا يعود الشاذ عند الناس هو من خرج على قواعد العرف القائم، بل يكون الشاذ هو من تخلف عن الركب ولبث قابضا بكلتا يديه على قواعد سلوكية فات أوانها، فكما يقول الجاحظ بحق: «أن المنكر إذا كثر صار معروفا، وإذا صار المنكر معروفا صار المعروف منكرا» ولقد صدق بالنسبة إلى عصرنا، ولا أعلم إن كان كذلك قد صدق بالنسبة إلى عصره.

يريد الجاحظ للإنسان أن يقيد نفسه فلا ينفلت منه الزمام، وبالقيد المنظم وحده يكون «العاقل» عاقلا، «وإنما سمي العقل عقلا وحجرا ... لأنه يزم اللسان ويخطمه، ويشكله ويربثه (الربث هو الحبس)، ويقيد الفضل ويعقله عن أن يمضي فرطا في سبيل الجهل والخطأ والمضرة، كما يعقل البعير، ويحجر على اليتيم» (المرجع السابق، ص141).

وبعد ذلك التمهيد فيما يقتضيه الصواب من قيود وما يصاحب الخطأ من انسياب على غير هدى، ينتقل الجاحظ إلى تناول موضوعه وهو عن «كتمان السر وحفظ اللسان» فيقول: إن الصمت أسهل على الناس من القول المحكم الصائب، أما إذا أطلقنا اللسان بما يجوز وما لا يجوز، فعندئذ يكون مثل هذا القول السائب أيسر من حفظ اللسان. ثم

رووه عن بعض فقهائهم أنه كان يحمل أخبارا مستورة لا يحتملها العوام، فضاق صدره بها، فكان يبرز إلى العراء فيحتفر بها حفيرة يودعها دنا، ثم ينكب على ذلك الدن فيحدثه بما سمع، فيروح عن قلبه، ويرى أنه قد نقل سره من وعاء إلى وعاء» (المرجع السابق، ص145).

وكان الأعمش (المحدث المعروف) إذا ضاق صدره بما فيه ، وتطلعت الأخبار إلى الخروج منه، يقبل على شاة كانت له، فيحدثها بالأخبار والفقه، حتى كان بعض أصحاب الحديث يقول: «ليت أني كنت شاة الأعمش» (نفس المكان السابق). «والسر إذا تجاوز صدر صاحبه وأفلت من لسانه إلى أذن واحدة، فليس حينئذ بسر، بل ذاك أولى بالإذاعة ... وإنما بينه وبين أن يشيع ويستطير أن يدفع إلى أذن ثانية، وهو مع قلة المأمونين عليه وكرب الكتمان حري بالانتقال إليها في طرفة عين، وصدر صاحب الأذن الثانية أضيق، وهو إلى إفشائه أسرع ... ثم هكذا منزلة الثالث من الثاني، والرابع من الثالث، أبدا إلى حيث انتهى» (المرجع نفسه، ص146-147). «هذا إذا كان المؤتمن على السر عاقلا، فكيف به إذا كان بطبعه نماما؟ فاللوم إذ ذاك على صاحب السر أوجب؛ لأنه كان مالكا لسره فأطلق عقاله وفتح أقفاله» (ص147).

واقرأ هذه اللفتة الجميلة عمن تودعه سرك كيف يكون أميل إلى إفشائه كلما ازددت أنت تحذيرا له: «... من أكثر الأعوان على إظهار السر ... التحذير من نشره؛ فإن النهي أغرى، لأنه تكليف مشقة، والصبر على التكليف شديد، وهو حظر، والنفس طيارة متقلبة، تعشق الإباحة وتغرم بالإطلاق» (ص154).

ثم ننتقل مع الجاحظ إلى رسالة أخرى، لنستمع إلى مختارات منها، فنزداد إيمانا بأننا حيال كاتب عقلاني من الطراز الأول يستشف الحجب ليواجه النفس الإنسانية عارية، والرسالة هذه المرة هي «في الجد والهزل» يقول فيها عن الغضب: «الغضب يصور لصاحبه مثل ما يصور السكر لأهله، والغضبان يشعله الغضب، ويغلي به الغيظ، وتستفرغه الحركة، ويمتلئ بدنه رعدة، وتتزايل أخلاطه، وتنحل عقده، ولا يعتريه من الخواطر إلا ما يزيده في دائه، ولا يسمع من جليسه إلا ما يكون مادة لفساده، وعلى أنه ربما استفرغ حتى لا يسمع، واحترق حتى لا يفهم ... وليس يصارع الغضب ... شيء إلا صرعه، ولا ينازعه قبل انتهائه وإدباره شيء إلا قهره، وإنما يحتال له قبل هيجه، ويتوثق منه قبل حركته، ويتقدم في حسم أسبابه وفي قطع علله، فأما إذا تمكن واستفحل، وأذكى ناره واشتعل، ثم لاقى ذلك من صاحبه قدرة، ومن أعوانه سمعا وطاعة، فلو سعطته (أي أدخلت في أنفه بالمسعط) بالتوراة، ووجرته بالإنجيل (أي أدخلته في فمه بالميجر) ولددته بالزبور (أي صببته بالمسعط في أحد شدقي الفم) وأفرغت على رأسه القرآن إفراغا، وأتيته بآدم عليه السلام شفيعا، لما قصر دون أقصى قوته ولتمنى أن يعار أضعاف قدرته» (رسائل الجاحظ، ج1، ص260-61).

فماذا تريد من أديب مفكر لماح لخصائص النفس البشرية أدق من هذا التصوير وأعمق إنسية؟ ثم لنقرأ معا هذه العبارة التالية التي تتضمن تأكيدا شديدا على وجوب أن يكون للفظ ما يشير إليه - هو المعنى - وإلا كان «كالظرف الخالي» الذي تفضه بغية أن تخرج منه ما يحتويه فإذا هو فارغ لا يعطيك شيئا، سبحانك ربي! لقد استخدم كاتب هذه الصفحات هذا التشبيه بعينه للألفاظ التي يتداولها الناس، ويظنون أنهم فهموا دلالتها حتى إذا ما ظهر بينهم رجل أخذته الريبة من قدرتها على الإشارة إلى مدلولات بعينها، ثم أخذ يحللها ليرى ماذا في جوفها، فإذا هي فارغة، كان كاتب هذه الصفحات قد أخذته الحماسة المشتعلة ذات حين معتقدا أن الناس عامة، والأمة العربية خاصة، قد ملأت لغتها بألفاظ لا تدل، بأسماء لا تسمي، فكانت النتيجة أنهم كتبوا وكتبوا، وقالوا ثم قالوا، لكن حصيلة الفكر أضأل جدا من هذا الدوي الهائل الذي أحدثوه! ولقد أورد هذا الكاتب تشبيه «الظرف الخالي» في كتاب له صدر سنة 1953م وعنوانه «خرافة الميتافيزيقا» فقامت جماعة من الناس ظنت أن في جماجمها ثقافة، وكتب أحدهم وقد ظن أن أعواما قضاها في أوروبا قد زودته بالسلاح المرهف الذي يرد به على «الكفرة»، فكان أن علق هذا الرجل على هذا التشبيه بعينه ليبين للناس إلى أي حد ذهب الضلال بصاحب «خرافة الميتافيزيقا» ... مسكين أنت يا أبا عثمان يا ابن بحر يا جاحظ، لو كان حظك قد شدك من زمنك في القرن التاسع لتعيش مع «المعاصرين!» لنا في القرن العشرين! فماذا قال الجاحظ في اللفظ ومعناه؟ قال: «ولا يجوز أن يعلمه [كان هذا القول تعليقا على تعليم الله لآدم عليه السلام الأسماء كلها ] الاسم ويدع المعنى، ويعلمه الدلالة ولا يضع له المدلول عليه، والاسم بلا معنى لغو، كالظرف الخالي، والأسماء في معنى الأبدان، والمعاني في معنى الأرواح؛ اللفظ للمعنى بدن، والمعنى للفظ روح، ولو أعطاه الأسماء بلا معان لكان كمن وهب شيئا جامدا لا حركة له، وشيئا لا حس فيه، وشيئا لا منفعة عنده، ولا يكون اللفظ اسما إلا وهو مضمن بمعنى، وقد يكون المعنى ولا اسم له، ولا يكون اسم وليس له معنى» (رسالة في «الجد والهزل»، رسائل الجاحظ، ج1، ص262).

26

وصلنا إلى بغداد مرة أخرى، قادمين من البصرة، وكنا هذه المرة في صحبة الجاحظ، الذي أخذ يقرأ لنا مختارات من رسائله، فكان لا بد لهذا الرجل فور بلوغه بغداد أن يقف ذاهلا أمام حركة الترجمة عن تراث اليونان الأقدمين، والتي أشرنا إليها عند زيارتنا «لبيت الحكمة» في بغداد؛ فكأنما قال لنفسه: لئن كان العجم قد عرفوا في حضارتهم بالبنيان، والعرب قد عرفوا بالشعر، فهؤلاء اليونان قد عرفوا «بالكتاب»، ويبدو أن الكتاب أخلد من البنيان، فهو - كما نرى - أولى بتخليد مآثر الحضارات من «بنيان الحجارة وحيطان المدر؛ لأن من شأن الملوك أن يطمسوا على آثار من قبلهم، وأن يميتوا ذكر أعدائهم» (الحيوان، ج1، ص73).

فماذا - إذن - عن شعر العرب بالقياس إلى «كتب» اليونان؟ الجواب عنده باختصار، هو أن عيب الشعر في تخليده لأصحابه أنه لا يترجم فتعرفه الشعوب المتكلمة بلغات أخرى، على حين أن «الكتب» المحتوية على فكر وعلم وفلسفة يمكن ترجمتها - كما نرى - فتتسع دائرة من يعرفونها؛ يقول في ذلك: «وفضيلة الشعر مقصورة على العرب (!) وعلى من تكلم بلسان العرب، والشعر لا يستطاع أن يترجم، ولا يجوز عليه النقل، ومتى حول تقطع نظمه، وبطل وزنه، وذهب حسنه، وسقط موضع التعجب ... وقد نقلت كتب الهند ، وترجمت حكم اليونانية، وحولت آداب الفرس [ليلحظ القارئ أن الجاحظ قد لخص في هذه العبارة الأخيرة موارد نقل الثقافات الأجنبية إلى اللغة العربية كما شهد ذلك بعينيه في بغداد] فبعضها ازداد حسنا، وبعضها ما انتقص شيئا، ولو حولت حكمة العرب [الواردة في شعرهم] لبطل ذلك المعجز الذي هو الوزن، مع أنهم لو حولوها لم يجدوا معانيها شيئا لم تذكره العجم في كتبهم» (الحيوان، ج1، ص75).

ويمضي الجاحظ في حديثه عن حركة الترجمة التي شهدها أمامه قائمة على قدمين وساقين، فيقول: «إن الترجمان لا يؤدي أبدا ما قال الحكيم، على خصائص معانيه، وحقائق مذاهبه، ودقائق اختصاراته، وخفيات حدوده، ولا يقدر أن يوفينها حقوقها، ويؤدي الأمانة فيها، ويقوم بما يلزم الوكيل ويجب على الجري (الجري هو كالوكيل)، وكيف يقدر على أدائها وتسليم معانيها، والإخبار عنها على حقها وصدقها، إلا أن يكون في العلم بمعانيها، واستعمال تصاريف ألفاظها وتأويلات مخارجها، مثل مؤلف الكتاب وواضعه» (الحيوان، ج1، ص76).

فهذا القول من الجاحظ عن الترجمة عموما، من استحالة أن تؤدي ما في الأصل بلا نقص أو زيادة، هو كالذي نقوله اليوم من أن الترجمة مهما جادت وحسنت، فهي تخون الأصل خيانة ليس في وسعها اجتنابها ولو حرصت، وهو قول حق بلا ريب، لكن ترى ما الذي دعا الجاحظ إلى هذا التعليق؟ أيكون قد لاحظ نقصا وتشويها فيما قرأه مما نقل المترجمون إلى العربية، لا بمراجعته الترجمة على الأصل؛ لأنه فيما أظن لم يعرف إلا العربية وحدها، بل باستدلاله ذلك من نصوص الترجمة التي تعذر فهمها لرداءة لغتها، فرجح ألا يكون الأصل بهذه الركاكة، وأن يكون المترجمون قد بذلوا جهدهم، لكن القصور منشؤه طبيعة الترجمة نفسها، ولقد تداعت المعاني في رأس الجاحظ وهو يكتب هذا، فمضى يتصور للترجمان الجيد شروطا وخصائص حتى يؤتمن على هذه العملية الخطيرة في نقل الثقافات من أمة إلى أمة؛ يقول: «ولا بد للترجمان من أن يكون بيانه في نفس الترجمة، في وزن علمه في نفس المعرفة، وينبغي أن يكون أعلم الناس باللغة المنقولة والمنقول إليها؛ حتى يكون فيهما سواء وغاية، ومتى وجدناه أيضا قد تكلم بلسانين، علمنا أنه قد أدخل الضيم عليهما؛ لأن كل واحدة من اللغتين تجذب الأخرى، وتأخذ منها، وتعترض عليها، وكيف يكون تمكن اللسان منهما مجتمعين فيه، كتمكنه إذا انفرد بالواحدة؟ وإنما له قوة واحدة، فإن تكلم بلغة واحدة استفرغت تلك القوة عليها، وكذلك إن تكلم بأكثر من لغتين، على حساب ذلك تكون الترجمة لجميع اللغات، وكلما كان الباب من العلم أعسر وأضيق، والعلماء به أقل، كان أشد على المترجم، وأجدر أن يخطئ فيه، ولن تجد البتة مترجما يفي بواحد من هؤلاء العلماء» (الحيوان، ج1، ص76-77).

مرة أخرى نحس يأس الجاحظ من أن يجد في المادة المترجمة إلى العربية صورة مطابقة للأصل الذي نقلت عنه، فإذا كان هذا هكذا والمادة المنقولة علم وفلسفة مما يسهل نقله نسبيا، فماذا نقول إذا أردنا ترجمة القرآن الكريم وترجمة الشعر العربي؟ إنه عندئذ يكون ضربا من المحال، ولما كان العرب أصحاب دين وشعر، فلا أمل في أن يعرف فضلهم غير العرب.

ويترك الجاحظ حديثه عن الترجمة، الذي نلخصه في أنه لم يسترح إليها من وجهين، فهي من جهة يستحيل عليها أن تنقل الأصول نقلا أمينا، ومن جهة أخرى فهي يستحيل عليها أن تنقل ثقافة العرب من دين ومن شعر لغير العرب، وإني لأقف هنا متأملا متسائلا: فيم كان عناء الترجمة وما أنفق عليها من أموال، إذا كان هذا رأي أعلام المثقفين عندئذ فيها؟ ترى هل نكون على حق في الريبة التي أحسسنا بها، وأشرنا إليها فيما سبق، من أن يكون لها هدف سياسي تخفى وراء ظاهرها الثقافي النزيه؟ وإذا كان الأمر كذلك، فماذا يكون ذلك الهدف السياسي إلا محاربة الثقافة العربية الصميمة من دين ومن شعر معا، وذلك بأن توضع إلى جانبها ثقافة أخرى من صنف آخر، فأقل ما تفعله هذه المجاورة هو أن تحدث في النفوس بلبلة، ويتشقق إيمان الناس بقيمة ما يعتزون به، ولنذكر دائما أن القائمين على حركة الترجمة وهي في عزها وعنفوانها هم خلفاء الدولة العباسية الذين هم الأعداء الألداء لخلفاء الدولة الأموية التي سبقتهم إلى الحكم، فإذا كان هؤلاء الخلفاء الأمويون ذوي نعرة قومية تشيد بالعروبة الخالصة، أفلا نتوقع من خلفاء بني العباس أن يلتمسوا السبل الممكنة - في دهاء وفي خفاء - التي من شأنها أن تلقي ظلا كثيفا على موضع اعتزاز أعدائهم؟ فإذا أضفت إلى هذا أن العباسيين قد جاءوا إلى الحكم بمعونة الفرس - جيوشا وقادة - حين كانت نفوس هؤلاء الفرس قد أصيبت بغثيان شديد لما لاقوه على أيدي الأمويين من زراية واستخفاف برغم إسلامهم، لا لشيء إلا لأنهم من غير الأرومة العربية الخالصة، عرفت أن خلفاء بني العباس إذا كانوا يحاربون النعرة العربية مرة لغرض في نفوسهم، فقد كان وراءهم صفوف كثيفة من الفرس أرادوا هم كذلك أن يحاربوا تلك النعرة العربية ألف مرة ... هذه كلها تأملات توحي إلينا بها علامات كثيرة نراها، منها ما ذكرناه لتونا من وقفة الارتياب التي وقفها الجاحظ إزاء حركة الترجمة التي شهدها عندما انتقل من البصرة إلى بغداد.

أعيد القول بأن الجاحظ يترك الحديث عن الترجمة ليكتب عن قيمة الكتب في حد ذاتها، وعن الأسلوب الجيد كيف يكون؛ فالكتاب عنده أعز من الولد؛ لأن لفظه أقرب نسبا إلى كاتبه من ابنه إليه، ولأن ذلك اللفظ ومعانيه أمس بالكاتب رحما من ولده، وكيف لا يكون الأمر كذلك والكتابة شيء أحدثه من ذات نفسه، فكأنما العبارة المكتوبة كانت جزءا من صميم نفس الكاتب وجوهره ثم انفصلت لتقوم وحدها على صحيفة، أما الولد «فكالمخطة يتمخطها، والنخامة يقذفها، فهل يتساوى إخراجك شيئا لم يكن جزءا من حقيقة وجودك، مع إظهارك معنى في لفظ، ما كان ليكون لولا انبعاثه من عين جوهرك؟» (راجع الحيوان، ج1، ص89).

ذلك هو الكتاب وقيمته، وأما الأسلوب الجيد عند الجاحظ فشرطه الأساسي أن يبسط الكلام ليفهم؛ «فليس الكتاب إلى شيء أحوج منه إلى إفهام معانيه» (ص90)، ويستطرد الجاحظ ليفصل رأيه بعض الشيء، فيقول إن الكاتب المجيد في أسلوبه هو الذي لا يتعقب ألفاظه تهذيبا وتنقيحا وتصفية وتزويقا حتى يحذف منها كل ما ليس مطلوبا لأداء المعنى المراد لها أن تؤديه؛ وذلك لأن الكاتب الذي لا يبقي من لفظه إلا ما ينطق بلب اللب، حاذفا فضوله مسقطا زوائده، يتعذر فهمه على القارئين «لأن الناس كلهم قد تعودوا المبسوط من الكلام، وصارت أفهامهم لا تزيد على عاداتهم» (ص90).

وإنما جودة الأسلوب تتطلب حذف زوائد اللفظ بالقدر الذي لا يكون سببا في إغلاق المعنى على الناس، وبعد ذلك تكون الإطالة مما يعيب الأسلوب، على أن الجاحظ يعود فيتحوط فيقول إن من ضروب القول ما يطيب فيه الإسهاب، ومنها ما يطيب فيه الإيجاز (ص93)، ثم ينبهنا الجاحظ هنا إلى ملاحظة طريفة، حين يقول (ص94): إن العرب يميلون إلى الإيجاز، على حين أن غيرهم يحتاجون إلى الإطناب؛ لأن العرب تكفيهم الإشارة الخاطئة ليفهموا، ولا كذلك سواهم، ولذلك - وهنا موضع الطرافة الذي أشرت إليه - «رأينا الله تبارك وتعالى، إذا خاطب العرب والأعراب، أخرج الكلام مخرج الإشارة والوحي والحذف، وإذا خاطب بني إسرائيل أو حكى عنهم، جعله مبسوطا، وزاد في الكلام.»

لا شك أن دهشة تأخذ الآن بالقارئ منذ انتقلت به إلى الحديث عن كتاب «الحيوان» للجاحظ، فطفقت أنقل عنه نظرات في الترجمة وفي الكتابة وأسلوبها وغير ذلك، أين «الحيوان» في هذا كله؟ لكن هذا هو الكتاب، أغلبه عن الحيوان، لكن تناثرت في غضونه وقفات فكرية كثيرة جدا عن مختلف الموضوعات بغير تحديد، شأن «التأليف» في منهج العرب الأقدمين؛ إذ ترى مؤلف الكتاب يرسل الحديث إرسالا وكأنه يسمر مع أصدقائه، فهنالك موضوع رئيسي، لكن هذا الموضوع الرئيسي لا يحول دون الاستطراد وراء كل فكرة تلمع على الطريق، وسأقدم للقارئ نماذج غاية في الإيجاز؛ حتى يتبين على أي نحو كان الجاحظ يتحدث عن صنوف الحيوان، غير أني أرجئ ذلك قليلا لتتاح لنا فرصة أوسع نورد فيها مزيدا من أفكار الجاحظ التي سيقت في هذا الكتاب الضخم الموسوعي العظيم.

لعله من أبرز ما نادى به فلاسفة التربية في عصرنا رأي يقول بضرورة أن يجد الناشئ فرصة كافية ومواتية ليخرج كوامن طبيعته؛ لأنه إذا فرض على النشء محصول فكري معين، بغض النظر عن قدراتهم واستعداداتهم، فالأرجح أن يفلت من أيدينا طاقة خلاقة لو تركت لتنفس عن نفسها لتغير وجه الأرض ولسعد الإنسان، ترى هل يكون هذا المعنى هو ما عناه الجاحظ حين قال : «... قد زعم أناس أن كل إنسان فيه آلة لمرفق من المرافق، وأداة لمنفعة من المنافع، ولا بد لتلك الطبيعة من حركة وإن أبطأت، ولا بد لذلك الكامن من ظهور، فإن أمكنه ذلك بعثه، وإلا سرى إليه كما يسري السم في البدن» ويستطرد الكاتب ليشبه ذلك بالبذور الكامنة في أرحام الأرض كيف تكون إذا أسعفت بما يخرج كوامنها، وكيف تصبح إذا حيل بينها وبين النماء (الحيوان، ج1، ص201).

وللجاحظ وقفات عجيبة إزاء الطبيعة البشرية كلما عرض له موضوعها أثناء الحديث، فعندئذ ترى الفكرة النافذة الصائبة؛ يعرض له موضوع الخير والشر، لماذا لا يكون الخير صرفا لا تشوبه شائبة من الشر؟ فيجيب بما معناه أن وجودهما معا يستلزم من الإنسان أن يختار، ولكي يختار فلا بد له من تدبر وموازنة، أما إذا فرضنا أنه ليس أمام الإنسان إلا الصواب وحده - مثلا - بحيث لا يجد ما يدعوه إلى الوقوف ليبحث عن مواضع الصواب فيميزها من مواضع الخطأ، فماذا يبقى بعد ذلك من التفكير ومن العلوم؟ (ص204).

ثم يمضي في ذلك قائلا وموضحا: «... من لم يعرف كيف الطمع لم يعرف اليأس، ومن جهل اليأس جهل الأمن، وعادت الحال من الملائكة الذين هم صفوة الخلق، ومن الإنس الذين فيهم الأنبياء والأولياء، إلى حال السبع والبهيمة ... وإلى حال النجوم في السخرة، فإنها أنقص من حال البهائم في الرتعة، ومن هذا الذي يسره أن يكون الشمس والقمر والنار والثلج، أو برجا من البروج أو قطعة من الغيم، أو يكون المجرة بأسرها، أو مكيالا من الماء أو مقدارا من الهواء؟» (ص205).

رحمك الله يا جاحظ! هلا عددتني من أتباع أتباعك في هذا الإصرار على أن تترك للإنسان حريته! فلا حرية، بل ولا كرامة لإنسان إذا قدم له الطريق جاهزا؛ لأن كل حريته وكل كرامته في أن يختار لنفسه بنفسه طريق السير؛ إنه لا يغريه أن يكون شمسا ولا قمرا ولا نجما، بل لا يغريه أن ينقلب مجرة بأسرها إذا كان ثمن ذلك هو أن يخط له مساره ويسلب اختياره، حتى لو تعرض اختياره للخطأ والضلال، فيكفيه أنه هو الذي قرر لنفسه وهو الذي يحمل تبعات ما قرره، لكن من ذا تخاطب بهذا القول؟ أتخاطب قوما لا يطيب لهم العيش إلا في ظل قيادة وزعامة تفكر نيابة عنهم وتختار نيابة عنهم كأنهم هم الحجر الأصم لا يتحرك بذاته فينتظر اليد القوية التي تحركه حيث تريد هي وحيث لا يعلم هو! ولست من الرومانسيين عباد الماضي؛ إذ ما أسرع ما يطير الوهم ببعضنا إلى الظن بأن فقدان الحرية بالنسبة للأفراد، والحرية شبه المطلقة لمن يتصرف بإرادته الواحدة في هؤلاء الأفراد، أقول: إنه ما أسرع ما يطير الوهم ببعضنا فيظن أن هذا حالنا نحن وفي عصرنا، أما عصر الجاحظ الذي كتب هذا فقد كان الناس أحرارا ذوي أكتاف عريضة قوية قادرة على حمل التبعات، ولكني أقولها - على سبيل الترجيح - أنه لولا أن الجاحظ قد رأى أفراد الناس من حوله تسير كالجوامد ولا تسير كالأحياء الحرة الطليقة، لما قذف بكلام كهذا في كتاب خص به عالم الحيوان!

أأقول إنه خلق عربي متأصل فينا - لا فرق بين أقدمين ومحدثين - أن يتحكم بعضنا في رقاب بعض كلما وجد إلى ذلك طريقا؟ إن للسلطان عندنا شهوة أين منها كل ما في الدنيا من صنوف النعيم، مادية كانت أو معنوية تلك الصنوف؟! إننا نحب الجبروت حبا لا يعلو عليه حب لشيء آخر، ومع الجبروت إذا ظفرنا به يقل فيا العدل ويكثر الظلم، حتى ظن المتنبي قديما أن هذا الظلم ليس مقصورا علينا، بل هو من شيم النفوس، «فإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم»، فليس السؤال عندنا هو لماذا ظلم من ظلم؟ لأن ظلم الظالم هو القاعدة السارية التي تعم الجميع، ولكن السؤال عندنا هو: كيف حدث أن توافرت العفة لفلان وكان في مستطاعه أن يظلم ولا يعف؟ إننا نسأل هنا عن «العلة» لأنه هو الوضع الشاذ الذي يتطلب التعليل؛ يقول الجاحظ: «... وأين تقع لذة درك الحواس الذي هو ملاقاة المطعم والمشرب وملاقاة الصوت المطرب، واللون المونق، والملمسة اللينة، من السرور بنفاذ الأمر والنهي، وبجواز التوقيع، وبما يوجب الخاتم من الطاعة ويلزم من الحجة» (الحيوان، ج1، ص205). وأرجو أن يلاحظ القارئ معي الجملة الأخيرة من هذه العبارة؛ جملة «... يلزم من الحجة»! إن «الحجة» تكون ملزمة إذا وقعها صاحب الأمر والنهي فينا، وختم بخاتمه عليها، وليذهب إلى جهنم عقل يقيس إلزام الحجة بمقاييس منطقه، ليرى أين تكون المقدمات العقلية التي تلزم بالنتيجة!

أراد الجاحظ لكل فرد من الناس كرامة موفورة كاملة، فليتفاوت الناس في كل شيء؛ ليتفاوتوا في ارتفاع المناصب وانخفاضها، في كثرة المال وقلته، لكن المساواة بينهم في الكرامة الإنسانية أمر ليس عنه محيص؛ يقول في ذلك هذه العبارة الآتية التي تريد منا وقفة المتأمل المعتبر: «فسبحان من ... جعل في الجميع تمام المصلحة، وباجتماعها تتم النعمة، وفي بطلان واحد منها بطلان الجميع ... فإن الجميع إنما هو واحد ضم إلى واحد، وواحد ضم إليهما، ولأن الكل أبعاض، ولأن كل جثة فمن أجزاء، فإذا جوزت رفع واحد - والآخر مثله في الوزن، وله مثل علته وحظه ونصيبه - فقد جوزت رفع الجميع، لأنه ليس الأول بأحق من الثاني ... ألا ترى أن الجبل ليس بأدل على الله تعالى من الحصاة، وليس الطاووس المستحسن بأدل على الله تعالى من الخنزير المستقبح؟ والنار والثلج - وإن اختلفا في جهة البرودة والسخونة - فإنهما لم يختلفا في جهة البرهان والدلالة ... فلا تذهب إلى ما تريك العين، واذهب إلى ما يريك العقل» (الحيوان، ج1، ص206-207).

وحسبنا هذا القدر القليل من أمثلة نسوقها للمحات الفكرية التي يرسلها هذا الرجل إرسالا لا تحس فيه إعناتا لعقله، فكأنه يلهو برمال الشاطئ يكومها ويهدمها بغير عناء، وليت دارسا يجمع لنا أفكار الجاحظ ويرتبها في شيء من التصنيف المنظم لتسهل رؤيتها واستخدامها؛ إذ لو تركناها مبعثرة في ثنايا الصحف - فلا هي الموضوع الرئيسي للكتاب فنهتدي إليها، ولا هي واردة في مواضعها على نسق معلوم - لضاع علينا كنز نفيس.

ولننقل من كتابته عن الحيوان نموذجا واحدا، وليكن مختارا نقبسه مما قاله الجاحظ في جزأيه الأول والثاني من كتاب «الحيوان» عن الكلب والديك! يقول شارل بلا في كتابه عن الجاحظ: إنه قد قصد بحديثه الطويل المستفيض عن الموازنة بين الكلب والديك رمزا يشير به إلى رجلين معينين من رجال عصره، وإني لأرجح هذا الرأي ترجيحا شديدا، على أية حال فهاك بضعة أسطر مما قاله في الكلب وما قاله في الديك، مع ملاحظة أنه جعل المناظرة وكأنها تدور بين شيخين من شيوخ المعتزلة؛ أحدهما يدافع عن الكلب، والآخر يدافع عن الديك، مما يرجح لنا أن الكلام كله رمز لما لست أعلمه من شئون عصره، وسألت بعض رجال التخصص في هذا الميدان لعلي أهتدي وما اهتديت.

هاك نبذة قصيرة مما يقوله في الكلب:

فيه خليط من طباع السباع كأكل اللحوم، ومن طبائع البهائم كإلفه للإنسان، غير أنه إذا سمن فقد يهاجم صاحبه، وفي المثل: سمن كلبك يأكلك، وهو «حارس محترس منه، ومؤنس شديد الإيحاش من نفسه، وأليف كثير الخيانة على إلفه، وإنما اقتنوه على أن ينذرهم بموضع السارق، وهو أسرق من كل سارق ... فهو سراق، ... وهو نباش، وآكل لحوم الناس، ألا إنه يجمع سرقة الليل مع سرقة النهار، ثم لا تجده أبدا يمشي في خزانة أو مطبخ أو عرصة دار، أو في طريق أو في براري، أو في ظهر جبل، أو في بطن واد، إلا وخطمه في الأرض يتشمم ويستروح، وإن كانت الأرض بيضاء حصاء ... حرصا وجشعا، وشرها وطمعا، نعم، حتى لا تجده أيضا يرى كلبا إلا اشتم استه، ولا يتشمم غيرها منه، ولا تراه يرمى بحجر أيضا أبدا إلا رجع إليه فعض عليه؛ لأنه لما كان لا يكاد يأكل إلا شيئا رموا به إليه، صار ينسى - لفرط شرهه وغلبة الجشع على طبعه - أن الرامي إنما أراد عقره أو قتله، فيظن لذلك أنه إنما أراد إطعامه والإحسان إليه ...» (الحيوان، ج1، ص193). «والكلب على ما فيه يعرف صاحبه، وهو والسنور يعرفان أسماءهما، ويألفان موضعهما، وإن طردا رجعا، وإن أجيعا صبرا، وإن أهينا احتملا» (ص196).

وفي العبارة الموجزة الآتية نقدم نموذجا لما يقول عن الديك، وخلاصة القول فيه (انظر الحيوان، ج1 ، ص193-196): إنه ليس مما يطرب بصوته، ولا مما يمتع الأبصار حسنه، ولا هو مما يطير، فهو طائر لا يطير، وبهيمة لا يصيد، ولا هو مما يكون صيدا فيمتع من هذه الجهة، والديك لا يألف منزله، ولا يحن إلى ولده، وهو أبله لا يعرف أهل داره، ومبهوت لا يثبت وجه صاحبه ...

27

أما بعد: فماذا نأخذ وماذا ندع من هذه الموسوعة الضخمة التي هي كتاب «الحيوان» الذي يقع في سبعة مجلدات (في إحدى طبعاته) امتلأت صفحاتها بما يقطع بما كان لهذا الرجل من اطلاع واسع، وتنوع في الاهتمام؛ كأنما كان كل معرفة عنده واجبة التحصيل جديرة بالحفظ، وبرغم أن معظم حديثه في هذا السفر الموسوعي هو - بالطبع - عن صنوف الحيوان، إلا أنه قد تخللته من صنوف المعارف الأخرى ما يمكن أن يضم بعضه إلى بعض، فيكون صورة فكرية تشف عن وجهة نظره، ولعلك لمست من النماذج القليلة التي قدمناها لتمثل كتابته عن الحيوان، أنه يكتب عنه وكأنه يكتب عن جماعات بشرية؛ وذلك لأنه يتناول موضوعه تناول أديب أكثر مما يتناوله تناول عالم.

كان الجاحظ قارئا ممتازا كما كان كاتبا ممتازا، فحياته عاشها في عالم الكتب بأدق معنى لهذه العبارة، لا يكاد يبعد عن الكتاب قارئا إلا لينشر أوراقه كاتبا، وكان من حسن حظه أن قامت حركة الترجمة عن الثقافات الأخرى على النحو الذي أسلفناه، برغم أنه قد ذكر لنا عن حركة الترجمة هذه ما يدل على ريبته في تمام نفعها، كما أوردنا لك في الصفحات السابقة؛ ففي كتابه الحيوان - وغيره - ترد أسماء لأعلام الفكر الأجنبي من أمثال أرسطو وأفلاطون وأبقراط وبطليموس وجالينوس، بل إن مادة كتابه الخاصة بالحيوان نفسه قد تجد من الدارسين من يظن أنها مأخوذة في قدر كبير منها عن أرسطو.

وجد الجاحظ أن كتابه قد طال، وخشي أن يمله القارئ لطوله هذا، فأورد دفاعا عنه كشف به لنا عن طريقته في كتابته، فهو يقول: «ينبغي لمن كتب كتابا ألا يكتبه إلا على أن الناس كلهم له أعداء، وكلهم عالم بالأمور، وكلهم متفرغ له، ثم لا يرضى بذلك حتى يدع كتابه غفلا، ولا يرضى بالرأي الفطير؛ فإن لابتداء الكتاب فتنة وعجبا، فإذا سكنت الطبيعة وهدأت الحركة، وتراجعت الأخلاط، وعادت النفس وافرة، أعاد النظر فيه، فتوقف عند فصوله توقف من يكون وزن طبعه في السلامة أنقص من وزن خوفه من العيب»، ثم يردف هذه العبارة المنهجية الجميلة التي كنت أتمنى لو قرأها عدد كبير ممن يتصدون اليوم للكتابة قبل أن ينضجوا لها؛ فلعلهم إذا رأوا في سعة اطلاع الجاحظ وحدة ذكائه وسيطرته على القلم، أن هذا كله لم يمنعه - كما يقول - من التردد والحرص قبل أن يعرض ما يكتبه على الناس، أقول: لعل ذلك يردعهم بعض الشيء عن سرعة الجري إلى الطابع والناشر بكل غث يرد على خواطرهم ... يردف الجاحظ عبارته المنهجية السابقة بعبارة أخرى تبين في وضوح طريقه في السير، إذ يقول: «فرأيت أن جملة الكتاب وإن كثر عدد ورقه، أن ذلك ليس مما يمل ويعتد علي فيه بالإطالة؛ لأنه وإن كان كتابا واحدا فإنه كتب كثيرة، وكل مصحف منها فهو أم على حدة، فإن أراد قراءة الجميع لم يطل عليه الباب الأول حتى يهجم على الثاني، ولا الثاني حتى يهجم على الثالث، فهو أبدا مستفيد ومستظرف، وبعضه يكون جماما لبعض، ولا يزال نشاطه زائدا، ومتى خرج من آي القرآن صار إلى الأثر، ومتى خرج من أثر صار إلى خبر، ثم يخرج من الخبر إلى شعر، ومن الشعر إلى نوادر، ومن النوادر إلى حكم عقلية ومقاييس سداد، ثم لا يترك هذا الباب ولعله أن يكون أثقل والملال إليه أسرع، حتي يفضي به إلى مزح وفكاهة، وإلى سخف وخرافة، ولست أراه سخفا إذ كنت إنما استعملت سيرة الحكماء وآداب العلماء.»

إن الصورة التي لا تبرح ذهني إذ أراني أقف مع القوم أرقب ما ينشطون به في عالم الفكر، هي هذه العصبية الثقافية التي فرقتهم فرقتين، تتعصب إحداهما للتراث العربي الأصيل ومعظمه كما نعلم لغة وشعر، وتتعصب الأخرى للمنقول من ثقافات الآخرين ، وربما تبادر إلى الذهن عن الجاحظ - لهذا الإلمام الواسع بالثقافتين معا - أنه يقف من هذا الصراع موقفا محايدا؛ فكتاب واحد مثل «البيان والتبيين» كفيل له بأن يوضع في مقدمة الفريق الأول، وكتاب واحد أيضا مثل «الحيوان» كفيل له بأن يوضع في مقدمة الفريق الثاني، لكنه مع ذلك أشد حنينا إلى الجانب العربي الخالص، يدلنا على ذلك موقفه من حركة الترجمة الذي أسلفنا لك ذكره، كما يدلنا عليه أقوال له صريحة، منها ما ورد في كتاب الحيوان من أن كل ما ورد في كتب العلماء وارد في أشعار العرب، إذ يقول: «وقل معنى سمعناه في باب معرفة الحيوان من الفلاسفة، وقرأناه في كتب الأطباء والمتكلمين، إلا ونحن قد وجدنا قريبا منه في أشعار العرب والأعراب، وفي معرفة أهل لغتنا وملتنا.»

لقد كان بودي أن أصحب الجاحظ في «البيان والتبيين» كما صحبته في بعض «الرسائل» وفي «الحيوان»، لكن وقفتي معه قد طالت، فضلا عن أن رحلتي هي على طريق العقل، و«البيان والتبيين» أكثره معتمد على «ذوق» الأديب.

الفصل الخامس

زجاجة المصباح

28

لقد اجتزنا حتى الآن من طريق العقل في تراثنا الفكري مرحلتين، رمزنا للأولى بالمشكاة؛ لأن التفكير العقلي فيها كان أقرب إلى إدراك البديهة الحاضرة منه إلى الحجاج المنطقي الذي يقدم المقدمات لينتهي منها إلى نتائجها، وإنما أردنا بذلك التفكير الفطري المعتمد على السليقة السليمة، ما كان في القرن السابع. ثم انتقلنا إلى مرحلة ثانية عقلية، امتدت خلال قرنين، هما الثامن والتاسع، ورأينا أن نقسم تلك المرحلة قسمين، جعلنا أحدهما للقرن الثامن، ورمزنا له بالمصباح ، وجعلنا ثانيهما للقرن التاسع الذي رأيناه امتدادا لمصباح العقل، ولكن وهجه اشتد لمعانا في هذه الفترة الثانية بالقياس إلى الفترة الأولى من المرحلة نفسها، وها نحن أولاء ننتقل إلى مرحلة ثالثة من الطريق، نغطي بها معالم القرن العاشر، وها هنا سيعلو التفكير العقلي من المقدمات المباشرة إلى مقدمات أعم وأشمل، أو بمعنى آخر، فهو سيعلو من مستوى العلوم إلى مستوى الفلسفة.

ولما كنت في هذه الرحلة الثقافية أستهدف ينابيع الثقافة بالمعنى الوسط لهذه الكلمة، فلا هو المعنى الذي يضيق حتى يكون هو التخصص، ولا هو المعنى الذي يتسع حتى يشمل طرائق العيش بأسرها، إنما هو معنى وسط بين الضيق والسعة، كان تطبيق ذلك بالنسبة لتفكير القرن العاشر المتميز بلون فلسفي، هو ألا أقف عند «الفلاسفة» الذين تناولوا «الفلسفة» بمعناها الاصطلاحي المعروف، كالفارابي وابن سينا، بل أكتفي من أصحاب الفكر الفلسفي عندئذ بمن أخذوا «الفلسفة» بمعنى أوسع قليلا، كإخوان الصفا، وأبي حيان التوحيدي، وربما أضفنا إليهما رجلا يمثل النقد الأدبي إذا رأينا هذا النقد عنده يرتكز على ما يشبه المبادئ الفلسفية العامة مثل عبد القادر الجرجاني (وإن لم يكن مقيما ببغداد) ورجلا آخر يمثل البحث اللغوي من زاوية فلسفية أيضا، مثل ابن جني.

29

أما «إخوان الصفا وخلان الوفا» فهم جماعة تألفت خفية في القرن العاشر الميلادي، وكان موطنها بين البصرة لطائفة منهم وبغداد لطائفة، ولم يعرف شيء عن أشخاصهم إلا خمسة يكتنفهم كثير من الغموض والشك، ذكرهم لنا أبو حيان التوحيدي في «الإمتاع والمؤانسة»، وكما هو واضح من نعتهم، هم جماعة ربطت بينهم روابط العشرة الأخوية الصافية المنزهة عن الهوى، المبرأة من كل خيانة وغدر، وقد تآلفت قلوبهم على الطهر وصدق النية وتبادل النصح الخالص، واشتركوا معا في وضع مذهب فكري زعموا له أنه يقربهم من سعادة الحياة الآخرة، ولعلنا نكون أقرب إلى الوصف الصحيح لو قلنا عن مضمون تلك الرسائل: إنه «تلخيص» جيد شامل للنظرة العلمية الفلسفية عندئذ، أو قل إنها خلاصة ما قد وصلت إليه معارف القوم في ذلك الحين، لكنهم عرضوا مادتهم في تلك الرسائل عرضا شائقا تخللته القصص الموضحة الشارحة لما أرادوه، فكأنهم جماعة من أصحاب الأدب الفلسفي، أو الفلسفة الأدبية، يريدون فلسفة وعلما، ويتوسلون إلى ذلك بأسلوب الأدب التصويري.

والشائع فيما يكتبه الدارسون عن هذه الرسائل أن عددها إحدى وخمسون رسالة، تضاف إليها رسالة جامعة تلخص ما ورد في سائرها، لكن كاتب هذه الصفحات، وهو يطالع الرسائل في أجزائها الأربعة، قد صادفته دلائل متناقضة مضطربة بالنسبة إلى عدد الرسائل، حتى تعذر عليه آخر الأمر أن يعرف كم هي على وجه التحقيق، فأنت إذا تتبعت فصولها فصلا فصلا، وجدتها تبدأ بمقدمة تلخص لك ما أنت واجده في الفصول التالية، ثم تدخل بعد ذلك في أربع عشرة رسالة كلها خاص بالعلوم الرياضية، وهي كلها في المجلد الأول، وتنتقل إلى المجلد الثاني فإذا أنت مع اثنتي عشرة رسالة في العلوم الطبيعية، وتنتقل إلى المجلد الثالث فتجده يبدأ بخمس رسائل أخرى في العلوم الطبيعية، وإذن فلهذه العلوم سبع عشرة رسالة، ثم تنتقل إلى المجلد الثالث فتطالع فيه عشر رسائل عن العلوم العقلية والنفسية، يتلوها رسالة واحدة في العلوم الشرعية، وبها ينتهي المجلد الثالث، وأخيرا يأتي المجلد الرابع وفيه عشر رسائل في العلوم الشرعية أيضا، إذا أضفنا إليها الرسالة الواحدة التي ختم بها المجلد الثالث كان عددها إحدى عشرة رسالة لهذه العلوم الشرعية، وبذلك تنتهي الرسائل كما وردت في المجلدات الأربعة، فاجمع الأربع عشرة الرياضية، إلى السبع عشرة الطبيعية، إلى العشر العقلية والنفسية، إلى الإحدى عشرة الشرعية، يكن المجموع اثنتين وخمسين رسالة، وليس بينها الرسالة الجامعة، ولا «رسالة الفهرست» التي ترد في مطلع الكتاب، والتي تبدأ هكذا: «هذه فهرست رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا ... وهي اثنتان وخمسون رسالة في فنون العلم وغرائب الحكم وطرائف الآداب وحقائق المعاني عن كلام الخلصاء الصوفية ... إلخ.»

ولكنك تقع في صلب الرسائل على إشارات كثيرة توقفك موقف الحيرة من العدد؛ كم يكون على الحقيقة؟ مثال ذلك: تبدأ الرسالة الأخيرة من الجزء الرابع الأخير، وهي الرسالة الثانية والخمسون، بهذه العبارة: «... إنا قد ذكرنا في خمسين رسالة تقدمت لنا قبل هذه الرسالة فنون العلم وغرائب الحكمة ... إلخ»، مع أن الذي تقدم عدده إحدى وخمسون رسالة لا خمسون.

30

ولعل هدفهم الرئيسي من هذه الرسائل على اختلاف موضوعاتها، هو أن يبينوا في جلاء أن الشريعة الإسلامية والفلسفة اليونانية لا يتعارضان في شيء، وهو - كما نعلم - هدف مشترك للحركة الفلسفية كلها إبان القرون الوسطى جميعا، إسلامية كانت في الشرق العربي، أو مسيحية في أوروبا، وفي هذا قال أصحاب الرسائل: إن الشريعة قد دنستها الجهالات، واختلطت بالضلالات، ولا سبيل إلى غسلها وتطهيرها إلا بالفلسفة؛ لأن هذه الفلسفة قوامها الحكمة، فإذا رأينا حكمة الفلاسفة اليونان قد انتظمت مع شريعة الدين، كان لنا بذلك كمال ليس بعده أكمل.

ولقد روى لنا أبو حيان التوحيدي في سياق حديثه عنهم في «الإمتاع والمؤانسة» أن أحدهم (وهو المقدسي) قال عن الشريعة والفلسفة ما يأتي: «الشريعة طب المرضى، والفلسفة طب الأصحاء، والأنبياء يطبون للمرضى حتى لا يتزايد مرضهم، وحتى يزول المرض بالعافية فقط، وأما الفلاسفة فإنهم يحفظون الصحة على أصحابها، حتى لا يعتريهم مرض أصلا، فبين مدبر المريض وبين مدبر الصحيح فرق ظاهر وأمر مكشوف؛ لأن غاية تدبير المريض أن ينتقل به إلى الصحة، هذا إذا كان الدواء ناجعا، والطبع قابلا، والطبيب ناصحا، وغاية تدبير الصحيح أن يحفظ الصحة، وإذا حفظ الصحة فقد أفاده كسب الفضائل، وفرغه لها وعرضه لاقتنائها، وصاحب هذه الحال فائز بالسعادة العظمى، وقد صار مستحقا للحياة الإلهية، والحياة الإلهية هي الخلود والديمومة، وإن كسب من يبرؤ من المرض بطب صاحبه الفضائل فليست تلك الفضائل من جنس هذه الفضائل؛ لأن إحداهما تقليدية والأخرى برهانية، وهذه مظنونة وهذه مستيقنة، وهذه روحانية وهذه جسمانية، وهذه دهرية وهذه زمانية ...»

ولم تكن هذه النظرة من إخوان الصفا، التي تعلي قدر الفلسفة على قدر الشريعة من حيث الوظيفة التي تؤديها كل منهما، لتقع من كثيرين مواقع الرضى، لكن هكذا كانوا أميل إلى التفكير العقلي، منهم إلى التقليد وقبول الرواية، مما أدى بهم إلى ضرب من التسامح الديني وسعة الأفق، بحيث لم يكادوا يفرقون بين دين ودين، فالأديان كلها سواء في تحقيق الغاية؛ يقولون: «... ينبغي لإخواننا - أيدهم الله تعالى - ألا يعادوا علما من العلوم، أو يهجروا كتابا من الكتب، ولا يتعصبوا على مذهب من المذاهب؛ لأن رأينا ومذهبنا يستغرق المذاهب كلها، ويجمع العلوم جميعها، وذلك أنه هو النظر في جميع الموجودات بأسرها، الحسية والعقلية، من أولها إلى آخرها، ظاهرها وباطنها، جليها وخفيها، بعين الحقيقة من حيث هي كلها من مبدأ واحد، وعلة واحدة، وعالم واحد، ونفس واحدة، محيطة جواهرها المختلفة، وأجناسها المتباينة، وأنواعها المفننة، وجزئياتها المتغيرة.»

فلا عجب أن وجدنا من رجال الدين بعد ذلك من لم يطمئن إلى إخوان الصفا في وقفتهم هذه التي تسوي بين الديانات جميعا، بل قيل عنهم: إنهم ما دانوا بالإسلام إلا ليتخذوا منه قاعدة تؤلف لهم مذهبهم الشامل، لا ليعتقدوا بعقيدته من حيث هي عقيدة خالصة متميزة، كما هو واضح في الرسالة الرابعة والأربعين، وقد ورد فيها: «أعلم أيها الأخ البار الرحيم - أيدك الله وإيانا بروح منه - أنا نحن - جماعة إخوان الصفا - أصفياء وأصدقاء كرام، كنا نياما في كهف أبينا آدم مدة من الزمان، تتقلب بنا تصاريف الزمان ونوائب الحدثان، حتى جاء وقت الميعاد بعد تفرق في البلاد، في مملكة صاحب الناموس الأكبر، وشاهدنا مدينتنا الروحانية المرتفعة في الهواء ... وهي التي أخرج منها أبونا آدم وزوجته وذريتهما لما خدعهما عدوهما اللعين وهو إبليس، وقال: «هل أدلكما على شجر الخلد وملك لا يبلى؟» واغترا بقوله، وحملهما الحرص والعجلة، فبادرا وطلبا ما ليس لهما أن يتناولاه قبل استحقاقه في أوانه، فسقطت مرتبتهما وانحطت درجتهما، وانكشفت عورتهما، وأخرجاهما وذريتهما جميعا، بعضهم لبعض عدو، وقيل لهم: اهبطوا منها، ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين، فيها تحيون وفيها تموتون، ومنها تخرجون يوم البعث إذا انتبهتم من نوم الجهالة، واستيقظتم من رقدة الغفلة، إذا نفخ فيكم بالصور، فتنشق عنكم القبور، وتخرجون من الأجداث سراعا ...

فهل لك يا أخي ... أن تبادر وتركب معنا في سفينة النجاة التي بناها أبونا نوح عليه السلام، فتنجو من طوفان الطبيعة قبل أن تأتي السماء بدخان مبين، وتسلم من أمواج بحر الهيولى ولا تكون من المغرقين؟

أو هل لك يا أخي أن تنظر معنا حتى ترى ملكوت السموات التي رآها أبونا إبراهيم لما جن عليه الليل حتى تكون من الموقنين؟ أو هل لك يا أخي أن تتمم الميعاد وتجيء إلى الميقات عند الجانب الأيمن، حيث قيل: يا موسى، فيقضى إليك الأمر فتكون من الشاهدين؟ أو هل لك يا أخي أن تصنع ما عمل فيه القوم كي ينفخ فيك الروح فيذهب عنك اللوم حتى ترى الأيسوع (= يسوع) عن ميمنة عرش الرب، قد قرب مثواه كما يقرب ابن الأب، أو ترى من حوله الناظرين؟ أو هل لك أن تخرج من ظلمة أهرمن ترى اليزدان قد أشرق منه النور في فسحة أفريمون؟ أو هل لك أن تدخل إلى هيكل عاديمون حتى ترى الأفلاك التي يحيكها أفلاطون، وإنما هي أفلاك روحانية لا ما يشير إليه المنجمون؟»

هكذا رأى إخوان الصفا في فريق واحد متجانس: آدم، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ويزدان المجوسي، وأفلاطون الفيلسوف ... كلهم في أعينهم مصدر للهداية على حد سواء، فنفهم إذن لماذا ازور عنهم كثيرون من أهل الرأي كلما ورد ذكرهم؛ يقول أبو حيان التوحيدي عنهم: «قد رأيت جملة من رسائل الإخوان، وهي مبثوثة من كل فن بلا إشباع ولا كفاية، وهي خرافات وكنايات، وتلفيقات وتلزيقات، وحملت عدة منها إلى شيخنا أبي سليمان المنطقي السجستاني محمد بن بهرام، وعرضتها عليه، فنظر فيها أياما، وتبحرها طويلا، ثم ردها علي، وقال: تعبوا وما أغنوا، ونصبوا وما أجروا، وحاموا وما وردوا، وغنوا وما أطربوا، ونسجوا فهلهلوا، ومشطوا ففلفلوا.»

كان المدار في الأحكام عند إخوان الصفا هو البراهين العقلية وحدها، ومن ثم لم يكونوا - بالطبع - ممن يرضى عنهم كثيرون؛ لأن الكثيرين، بل لعلها الكثرة الغالبة من البشر تقلقلها أحكام العقل، ويرضيها أن تلوذ بالعاطفة والإيمان وما إليهما، نقول ذلك عنهم بالرغم من أنهم كانوا مصدر إيحاء في أمور كثيرة عند فرق كثيرة في العالم الإسلامي بعد ذلك؛ كالباطنية، والإسماعيلية من هؤلاء بصفة خاصة.

لكن الذي يستوقفنا منهم هو إصرارهم على النظرة العقلية الحسية، إصرارا يكاد يسلكهم في تيار واحد مع أوغل المدارس الفلسفية في عصرنا هذا نزوعا نحو تأسيس المعرفة الصحيحة على إدراك الحواس فإدراك العقل بناء على ما تدركه الحواس في دنيا التجربة؛ يقولون في البراهين العقلية ومنزلتها: «اعلم أن البراهين هي ميزان العقول، كما أن الكيل والذرع والشاهين موازين الحواس، وكما أن الناس إذا اختلفوا في حزر شيء وتخمينه من الأشياء المحسوسة، رجعوا إلى حكم الكيل والذرع ورضوا بها، وارتفع الخلف من بينهم، فهكذا العقلاء الذين يعرفون البراهين الضرورية إذا اختلفوا في حكم شيء من الأشياء التي لا تدرك بالحواس، ولا تتصور بالأوهام، رجعوا عند ذلك إلى دليل وبرهان وما ينتج من المقدمات الضرورية، وأقروا بها وقبلوها، وإن كانت لا تدركها الحواس ولا تتصورها الأوهام» (ج3، ص403). وهكذا كان الإخوان من الحيطة بحيث تركوا للفكر هامشا ربما جاوز التجربة الحسية، فعندئذ يكون البرهان العقلي دليلنا.

لكن هذه الحيطة قليلة الأثر في نظرتهم العامة التي هي نظرة تجريبية في أساسها، نظرة قد تنادي بها اليوم فتجد من الناس مقاومة وازورارا، من ذلك قولهم في صراحة: إن البدن هو وسيلة الإدراك، حتى في دنيا المعقولات، فيقولون في ذلك: «... نبدأ أولا بذكر القوى الحساسة الخمس، إذ كانت هي أول قوى النفس التي ينال بها الإنسان العلوم والمعارف، ثم نذكر القوة المتخيلة التي مسكنها مقدم الدماغ، ثم القوة المفكرة التي مسكنها وسط الدماغ، ثم القوة الحافظة التي مسكنها مؤخر الدماغ» (ج3، ص404). ولكي يؤكدوا لك أن الأمر كله مرهون بوظائف الأعضاء؛ يستطردون في القول: «ثم اعلم أن الناس متفاوتون في الدرجات في هذه القوى بين الجودة والرداءة في إدراكهم المعلومات، تفاوتا بعيدا، وهي أحد أسباب اختلافهم في الآراء والمذاهب؛ وذلك أن من الناس من يكون حاد البصر، يرى الأشياء الصغيرة البعيدة، ومنهم من يكون دون ذلك، ومنهم من لا يبصر شيئا البتة، وهكذا نجد حالهم في القوة السامعة ... وعلى هذا القياس يكون حكمهم في سائر قوى حواسهم من الذوق واللمس والشم، وهكذا حكمهم في ذكاء نفوسهم وجودة قرائحهم وصفاء أذهانهم ...» (ج3 ، ص405).

فماذا تريد من فيلسوف تجريبي أكثر من أن يرد لك اختلاف الناس في مذاهبهم إلى اختلاف درجات حواسهم في الإدراك؟ يقولون: «اعلم أن هذه التفاوتات ... في إدراك صور المعلومات، علتها ... اختلاف أدواتها، واختلاف آلاتها في الجودة والرداءة؛ وذلك أنه لما كان كل عضو من الجسد هو آلة وأداة لقوة من قوى النفس، وكانت أعضاء الجسد مختلفة الهيئات المتفاوتة في الجودة والرداءة في بعض الناس أو في بعض الأحايين، اختلفت أفعال هذه القوى بحسب تلك الاختلافات، مثال ذلك «الحدقتان» فإنهما عضوان من الجسد، وهما أداتان للقوة الباصرة، فإذا كانتا سليمتين من الآفات العارضة ... تراءت فيهما صور المرئيات المقابلات لهما، كما يتراءى في المرايا صور الأشياء المقابلة لها، فأدركت هذه القوة تلك المبصرات على حقائقها ... وهكذا أيضا القوة السامعة ... وهكذا أيضا القوة الشامة ... وهكذا أيضا القوة الذائقة ... وهكذا أيضا القوة اللامسة ... وهكذا أيضا حالات القوة المتخيلة، فإنه متى كان مقدم الدماغ معتدلا سالما من الآفات، تخيلت فيه رسوم المحسوسات التي أدتها إليها القوة الحساسة بحقائقها ... وهكذا أيضا حكم القوة المفكرة المستنبطة وسط الدماغ، متى كان معتدلا على الأمر الطبيعي سالما من الآفات العارضة كان فكر الإنسان ورؤيته وتمييزه وفهمه على ما ينبغي ...» (ج3، ص405-407). «النفس هي مزاج البدن» (407)، «أما الإلهيون فيرون خلاف ذلك» (408). أرأيت إذن إلى أي حد أراد إخوان الصفا أن يقفوا عند «البدن» وحده، بما فيه من أعضاء للحس وأجزاء للدماغ؟ فهذه وحدها هي أدوات المعرفة، إذا اختلفت قدراتها عند أفراد الناس اختلفت بالتالي معلوماتهم، ثم اختلفت آخر الأمر عقائدهم ومذاهبهم.

ولقد يقال لهم ما يسارع أغلب الناس عادة إلى قوله، وهو أن الحواس قد تخدع، فترى حقا ما ليس بحق، فكيف نجعلها مصدر العلم؟ وللتجريبيين المعاصرين لنا دفع لهذا الرد، وهو أن الحواس لا تخطئ أبدا فيما تراه أو تسمعه، وإنما يجيء الخطأ من أحكامنا التي نرتبها على ما تدركه الحواس، نقول مثلا: إن العين ترى قرص الشمس صغيرا مع أنه في حقيقته عالم ضخم، والجواب على ذلك هو: إن قرص الشمس في رؤية العين هو صغير كما تراه، فإذا عن لك أن تستدل من هذه الرؤية البصرية حكما عن حجم الشمس في حقيقتها الخارجية، فأنت الذي أخطأ (راجع ما يقوله في ذلك الفيلسوف الإنجليزي المعاصر «آير» في كتابه «أسس المذهب التجريبي»). وإنما سقت للقارئ هذه اللمحة عن فيلسوف معاصر، لأعقب عليها بما قاله إخوان الصفا في خداع الحواس؛ ليتبين كم كانوا تجريبيين في مذهبهم الفلسفي بروح تكاد تكون شبيهة بالتجريبيين المعاصرين، يقولون: «اعلم أن لكل حاسة مدركات بالذات ومدركات بالعرض، وهي لا تخطئ في مدركاتها التي لها بالذات، وإنما يدخل عليها الخطأ والزلل في المدركات التي لها بالعرض، مثال ذلك البصر، فإن الذي له من المدركات بالذات هي الأنوار والظلمة، وهي لا تخطئ في إدراكها في جميع الأوقات البتة، فأما إدراكها الألوان والأشكال والأوضاع والأبعاد والحركات وما شاكلها فهي تدركها بتوسط النور والضياء على الشرائط التي ذكرناها، وقد يدخل عليها الخطأ والزلل في ذلك إذا نقصت الشرائط التي تحتاج إليها ... ثم اعلم أن لكل قوة من هذه الحواس الخمس خاصية ليست للأخرى، ولكن الخاصية التي تعمها هي أنها لا تخطئ في مدركاتها إذا تمت شرائطها، ولم يعرض لها عائق، وخاصة أخرى: أنها لا تدرك كل واحدة منها محسوسات أخواتها التي لها بالذات، مثال ذلك البصر؛ فإنه لا يدرك الأصوات ولا الروائح ولا الطعوم، وهكذا أخواتها، ولكن بما تشترك في المحسوسات اللاتي لهن بطريق العرض مثل الحركة، فإنها تدرك وتعلم بالبصر واللمس والسمع جميعا» (ج3، ص411-412).

تجريبيون حسيون ماديون هؤلاء الإخوان في تصورهم لعملية المعرفة كأشد ما يكون التجريبيون اعتمادا على مادة الأبدان وخصائصها، يقولون: «العلة في تفاوت الناس في القدرة على التصور الذهني ليست من اختلاف جواهر نفوسهم، ولكن من أجل اختلاف تركيب أدمغتهم واعتدال أمزجتها أو فسادها وسوء مزاجها» (ج3، ص418).

ونمضي مع إخوان الصفا في حديثهم الممتع هذا، الذي هو جدير بأن يذكر لمعاصرينا - لا أقول من عامة الناس - بل لمعاصرينا من الأجلاء أساتذة الفلسفة في الجامعات، الذين شالوا الدنيا وحطوها من الغضب حين ساير كاتب هذه الصفحات شعبة من الفلسفة المعاصرة أرادت أن تقصر المعرفة العلمية على الحواس فالعقل، فهم حريصون على أن يكون للغيب المبهم المجهول من طبيعة الإنسان كل الأثر في علم الإنسان ، حتى إذا كان هذا العلم علما بالطبيعة! ... نمضي مع هؤلاء الإخوان في حديثهم عن تحليل المعرفة ومصادرها، فهم يقولون: أما تحكيم القوة المفكرة فيما ينشب بين العقلاء «من المنازعات والخصومات في الآراء والديانات والمذاهب؛ فهي لا تحكم لأحد بين الخصمين بالصواب ولا بالخطأ إلا بعدما شهد شاهدان من الحواس الخمس، أو نتائج مقدمات جزئية من أوائل العقول.»

آه! هكذا ربما صاح في وجهي أنصار «الجوانية» من أساتذة الفلسفة المعاصرين لنا في مصر بالذات، سوف يقولون: أرأيت؟ إنهم يعلقون العلم أيضا على «أوائل العقول» وهي عبارة يقصدون بها ما قد اصطلحنا نحن على تسميته بالمعرفة «القبلية» (أي المعرفة التي ندركها قبل ممارسة التجربة بحواسنا)، ولما كانت المعرفة القبلية هذه مستقلة عن دنيا التجربة، فهي عندهم دليل على أن الحواس ليست المصدر الوحيد، بل ليست المصدر الهام في تحصيل المعرفة، وأن المعول الأول هو على الصور العقلية الفطرية «الأولانية» التي تكون للعقل بحكم أنه عقل وكفى، وهي هي ما يسميه إخوان الصفا بعبارة «أوائل العقول»، لكن هؤلاء الإخوان لا يتركوننا قبل أن يحددوا ما يريدون بعبارتهم هذه، فيقولون: «ثم اعلم أن كثيرا من العقلاء يظنون أن الأشياء التي تعلم بأوائل العقول مركوزة (أي فطرية) فنسيتها لما تعلقت بالجسم، فهي تحتاج إلى التذكار، ويسمون العلم تذكرا، ويحتجون بقول أفلاطون: «العلم تذكر»، وليس الأمر كما ظنوا، وإنما أراد أفلاطون بقوله: «العلم تذكر» أن النفس علامة بالقوة، فتحتاج إلى التعليم حتى تصير علامة بالفعل، فسمي العلم تذكرا ، ثم إن أول طريق التعاليم هي الحواس، ثم العقل، ثم البرهان، فلو لم يكن للإنسان الحواس لما أمكنه أن يعلم شيئا، لا المبرهنات ولا المعقولات ولا المحسوسات البتة» (ج3، ص424).

إننا لنقرأ لإخوان الصفا النص الآتي، فيخيل إلينا أننا إنما نقرأ نصا مقتبسا من «هيوم» الذي قد يعد أبا للتيار التجريبي كله في فلسفة أوروبا الحديثة والمعاصرة، فاقرأ معي قولهم: «إن كل ما لا تدركه الحواس بوجه من الوجوه لا تتخيله الأوهام، وما لا تتخيله الأوهام لا تتصوره العقول، وإذا لم يكن شيء معقول فلا يمكن البرهان عليه؛ لأن البرهان لا يكون إلا من نتائج مقدمات ضرورية مأخوذة من أوائل العقول، والأشياء التي هي في أوائل العقول إنما هي كليات أنواع وأجناس ملتقطة من أشخاص جزئية بطريق الحواس، والدليل على ذلك: الصبي، لولا أنه قدر أن عشر جوزات أكثر من خمس، أو خشبة طولها عشرة أذرع أطول من أخرى لها ستة أذرع، فمن أين كان يمكنه أن يعلم أن الكل أكثر من الجزء؟» (ج3، ص424).

هكذا يقف إخوان الصفا من رد الأصول العقلية كلها من تصورات عامة إلى ما يطلق عليه أحيانا اسم «البديهيات»، ردها إلى انطباعات حسية تأثرت بها حواس الإنسان بمؤثرات جاءت إليها من مصادر الأشياء الخارجية، وهو موقف قوي صريح، لم نعهده بهذه القوة والصراحة والوضوح إلا في أعلام الفلسفة التجريبية المحدثين والمعاصرين، من «هيوم» إلى «جون ستيوارت مل» إلى أصحاب الوضعية المنطقية في زماننا، فإذا رأينا هذا عجبنا أشد العجب من نفر من الزملاء، سواء فيهم من جعل تدريس الفلسفة في الجامعات العربية حرفته، أو من اكتفى بثقافة عامة، سمعوا من مؤلف هذا الكتاب دفاعا عن موقف كهذا في تحليل المعرفة العلمية، فاتهمه بالكفر من اتهم، وبالجهل آخرون، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء ساعات قلائل يقضونها في قراءة تصلهم بأصول هذه الفكرة وفروعها، فماذا نقول أكثر مما قاله إخوان الصفا في ذلك السياق نفسه من رسائلهم؛ إذ قالوا: «إن أشد بلية على الصناعة [يقصد التخصص العلمي في فرع معين من فروع العلم] وأعظم محنة على أهلها، هو أن يتكلم عليها من ليس من أهلها، ويحكم في فروعها ولا يعرف أصلها، فيسمع منه قوله، ويقبل منه حكمه، وهذا الباب من أجل أسباب الخلاف الذي وقع بين الناس في آرائهم ومذاهبهم، وذلك أن قوما من القصاص وأهل الجدل يتصدرون في المجالس ويتكلمون في الآراء والمذاهب، ويناقضون بعضها بعضا وهم غير عالمين بماهياتها، فضلا عن معرفتهم بحقائقها وأحكامها وحدودها، فيسمع قولهم العوام ويحكمون بأحكامهم، فيضلون ويضلون وهم لا يشعرون» (ج3، ص438).

31

لكننا نخطئ لو سبق إلى أوهامنا ظن بأن هؤلاء «الإخوان» قد اطردت معهم الوقفة التجريبية العلمية في كل ما تعرضوا له من مسائل، إننا لو توقعنا منهم شيئا كهذا لفاتتنا - إذن - روح عصرهم، فكيف نتجاهل حقيقة كبرى في روح الثقافة التي أحاطت بهم من أنها ثقافة استمدت روافدها من عيون مختلفة، فلما صبت تلك الروافد ماءها في وعاء واحد، امتزج بعضها ببعض امتزاجا عضويا متكاملا آنا، وتنافر بعضها مع بعض فكانا أقرب إلى العناصر المتجاورة منهما إلى العناصر الممتزجة.

وها هم أولاء أصحابنا «الإخوان» يميلون مرة نحو النظرة التجريبية الحسية، كالتي رأينا نموذجا منها في الصفحات السالفة، ثم يميلون مرة أخرى نحو نظرة عقلانية الأسس، فلا تقوم على حس ولا تجربة، سواء شعروا بتلك المفارقات أو لم يشعروا، فربما كانوا على وعي بمفارقاتهم تلك، لكنهم آثروا أن يقفوا من كل مجال فكري الموقف الذي يناسبه، دون أن يكلفوا أنفسهم شطط التوحيد الشامل الكامل في نظرة واحدة متسقة أصولها مع فروعها، وكلياتها مع جزئياتها.

فقد جعلوا القسم الأول من رسائلهم للفكرة الرياضية التي نقلوها نقلا عن الفيثاغوريين الأقدمين، وإذا قلنا «الفكرة الرياضية» هنا، فكأننا قلنا إن النظرة أساسها عقلاني، ثم تجيء التجربة على سبيل التطبيق المؤيد، لا على سبيل الينبوع الذي نشتق منه ونستقي، فنحن نعلم أن فيثاغورس وأصحابه قد جعلوا «العدد» أساسا لتفسير الكون بكل ما فيه من كائنات، بمعنى أن الأشياء «صنعت» صنعا من العدد تماما كما نقول مثلا إن هذه المنضدة مصنوعة من الخشب، وذلك المفتاح مصنوع من حديد، كيف؟ ابدأ النظر كما بدأ فيثاغورس بأن تنظر إلى الأشياء نظرة «هندسية»، واجعل المميز الذي يميز شيئا من شيء هو «الشكل» الذي صيغ فيه، فعندئذ لا يكون الفارق بين كتابي هذا وقلمي أن الكتاب من ورق والقلم من معدن، بل يكون الفارق هو أن الكتاب مستطيل الشكل والقلم أسطواني، فإذا بدأت هذه البداية ونظرت إلى الأشياء هذه النظرة، سهل عليك بعد ذلك أن تصنف الأشياء على أساس «الأشكال» الهندسية، فمنها ما هو «نقطة» ومنها ما هو «خط» ومنها ما هو «سطح» ومنها ما هو «مثلث» أو «مربع» أو «مستطيل» أو «دائري» إلى آخر الأشكال التي يمكن أن تتفرع من هذا الأصل، إن كان لهذه الأشكال آخر.

فالأساس - كما ترى - عقلي صرف، ثم تجيء بعد ذلك ممارستنا التجريبية للأشياء الواقعة، فنردها إلى تلك الأقسام العقلية النظرية، ولعل الغلطة «الرياضية» الأولى التي وقع فيها الفيثاغوريون، والتي تتابعت منها بقية الأغلاط الفرعية، هي أنهم وحدوا بين وحدة الهندسة (التي هي النقطة) ووحدة الحساب (التي هي الواحد)، ومن ثم جعلوا فكرة «النقطة» وفكرة «الواحد» مترادفتين، فإذا وضعنا نقطة إلى جوار نقطة أخرى، نشأ - هندسيا - خط، وهنا يقفز الفيثاغوريون من مستوى الهندسة إلى مستوى الحساب، فيقولون: إن الخط هو اثنان، وهكذا دواليك في سائر الأشكال؛ كل شكل يقابله عدد، فإذا رأينا شيئا على شكل مثلث - هندسيا - رمزوا له هم بالعدد ثلاثة، على أساس أن أقل عدد يمكن أن يكون منه النقاط على شكل مثلث هو الثلاثة، بأن تجعل اثنين منها قاعدة، ثم تضع الثالث عليهما ليكون رأسا للمثلث، وهكذا.

أخذ إخوان الصفا هذه الفكرة وتبنوها لأنفسهم، ولا غرابة؛ فطريقة تكوينهم نفسه من حيث هم جماعة من الخلان الأوفياء بعضهم لبعض، هي كطريقة الفيثاغوريين حين ألفوا من أنفسهم أول الأمر جماعة من الإخوان تربطهم الصداقة والطهر وخلوص النصح وصفاء النية، فكان أن جعل إخوان الصفا «العدد» أصلا للأشياء، كما فعل الفيثاغوريون سواء بسواء ، ورتبوا على ذلك نتائجهم، سواء بالنسبة إلى الأمور الطبيعية أو الأمور الروحانية بغير تمييز.

وهم يعترفون بتبعيتهم للمذهب الفيثاغوري صراحة، فتراهم يقولون: «نقول على رأي فيثاغورس الحكيم: إن طبيعة الموجودات بحسب طبيعة العدد، فمن عرف العدد وأحكامه، وطبيعته وأجناسه، وأنواعه وخواصه، أمكنه أن يعرف كمية أجناس الموجودات وأنواعها» (ج3، ص178)، «فلما كان الباري هو مبدع الموجودات، فهو الواحد بالحقيقة» وإن جميع الأشياء تتجانس من حيث الهيولى - أي من حيث مادتها - فإذا اختلفت بعد ذلك وتباينت، فإنما يكون ذلك من حيث الصورة، والصور تختلف بين شيء وشيء ، بحسب مقادير الشكل فيهما، فهنالك من الأشياء ما هو ثنائي، وما هو ثلاثي، أو رباعي، وهكذا.

فمن الثنائيات: الهيولى والصورة، الجوهر والعرض، العلة والمعلول، البسيط والمركب، المظلم والمنير، المتحرك والساكن، العالي والسافل، الحار والبارد، الرطب واليابس، الخفيف والثقيل، الخير والشر، الصواب والخطأ، الذكر والأنثى؛

ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون .

ومن الثلاثيات: الأبعاد الثلاثة؛ الطول والعرض والعمق، والمقادير الثلاثة؛ الخط والسطح والجسم، والأزمان الثلاثة؛ الماضي والحاضر والمستقبل، ودرجات الحق؛ الواجب والممتنع والممكن، والعلوم الثلاثة؛ الرياضية والطبيعية والإلهية.

ومن الرباعيات: الطبائع الأربع؛ الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، والأركان الأربعة؛ النار والهواء والماء والأرض، والأخلاط الأربعة؛ الصفراء والدم والبلغم والسوداء، والفصول الأربعة؛ الربيع والصيف والخريف والشتاء، والجهات الأربع؛ الشرق والغرب والشمال والجنوب، ومراتب العدد؛ آحاد وعشرات ومئات وألوف.

ومن الخماسيات: الخمسة الأجناس من الحيوان؛ الإنسان والطير والسابح والمشاء ذو الرجلين وذو الأربع، والذي ينساب على بطنه، والخمسة الأجزاء الموجودة في النبات؛ الأصل والعروق والورق والزهر والثمر، والخمسة الأيام الملقب أسماؤها بالعدد؛ الأحد والإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، والصلوات الخمس، والخمس القواعد التي بني عليها الإسلام، والحروف المستعملة في أوائل السور القرآنية، فمنها ما هو من حرف واحد، وما هو من حرفين ... إلى خمسة أحرف.

حتى إذا ما وصل «إخوان الصفا» في ذلك إلى العدد سبعة، وأخذوا يذكرون الأشياء «المسبعة» ذكروا المسبعة أو السبعية من غلاة الشيعة الذين ذهبوا إلى أن النطقاء بالشريعة سبعة، وهم: آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، ثم محمد المهدي سابع النطقاء (وهو عندهم الإمام)، وبين كل اثنين من النطقاء سبعة أئمة.

واستطرد «الإخوان» هنا ليبينوا كيف جاءت الفرق الدينية كلها على أساس «العدد»، فهنالك الديانة الثنوية كالمانوية التي جاءت مصدقة للمذهب الزرادشتي الذي يجعل للكون إلهين: إله النور وإله الظلمة، وهما لذلك إله الخير وإله الشر، وإله للنهار وإله لليل، وهنالك الديانة المثلثة عند النصارى، وبالطبع هنالك الموحدون وهم المسلمون (ج23، ص178-182). «فما من عدد من الأعداد إلا وقد خلق الباري جل ثناؤه جنسا من الموجودات مطابقا لذلك العدد؛ قل أو كثر» (ج3، ص205).

32

ونترك هذا الجانب الرياضي من وقفة إخوان الصفا، وهو جانب - كما رأيت - امتزج فيه الأساس العقلاني بالتهاويم الخرافية الشاطحة، وننتقل إلى جانب آخر يصح أن نقول عنه إنه جانب بيولوجي من وجهة النظر عندهم؛ وذلك أنهم حاولوا أولا أن يرتبوا الوجود إلى مراتبه العليا والسفلى، ثم أن يروا بعد ذلك الطريقة التي يخلص بها الأدنى من الأعلى آنا، والأعلى من الأدنى آنا آخر.

فمراتب الوجود الهابطة من أعلى إلى أدنى هي عندهم: أولا الله الذي قالوا عنه إنه «الواحد» بلغة الرياضة التي قرءوا بها الكون، ومن الواحد الأعلى خرج جوهر روحاني بسيط في تكوينه، وهو ما أسموه بالعقل الفعال، وثالث المراتب مرتبة النفس التي صدرت عن العقل الفعال، ولك أن تسميها كذلك بالعقل المنفعل؛ لأنها قابلة لتلقي الصور التي يلهمها إياها العقل الفعال كما يتلقى طالب العلم تعاليم أستاذه، ومن هذه النفس الكلية برزت مرتبة رابعة هي المادة الخالصة التي لم تتشكل، واسمها عندهم - كما هي تسمى عادة في مجال الفلسفة الناقلة عن أرسطو - «الهيولى»، ثم جاءت المرتبة الأخيرة وهي التي صيغت فيها تلك الهيولى الأولى في مقادير معينة من حيث الطول والعرض والعمق، فصارت بذلك جسما مطلقا، أي إنه بعدئذ يكون قابلا للتشكيل في مختلف الأجسام التي نراها من حولنا.

ذلك هو الكون بمراتبه المتتالية هبوطا، ولقد جاء الإنسان ليمثل - بمقياس مصغر - تلك المراحل نفسها التي اجتازها العالم في نشأته، ومن ثم جاز لنا أن نسمي الإنسان عالما صغيرا، او أن نسمي العالم كله إنسانا كبيرا؛ لأن كلا منهما يعكس بحقيقته حقيقة الآخر، ومن أجل هذا التقابل بين الجانبين قيل إن الإنسان إذا أراد دراسة الكون، فما عليه إلا أن يبدأ بدراسة نفسه؛ لأنه واجد فيها نموذجا مصغرا (ج3، ص189).

فإذا هممنا بدراسة كهذه، كان أول ما يلفت النظر، هو أن الإنسان - ومثله الكون في جملته - وحدة عضوية يستحيل علينا أن نحللها إلى أجزاء مستقل بعضها عن بعض وإلا بطل وجوده على حقيقته، وفي ذلك يقول إخوان الصفا: «ومن يريد أن يفهم حكم العالم ومجاري أموره في فروع الموجودات التي في العالم من أصولها، تلك الأصول من أصول أخر قبلها، إلى أن تنتهي إلى أصل يجمعها كلها، كمثل شجرة واحدة لها عروق وأغصان، وعليها فروع وقضبان، وعلى تلك الفروع والقضبان أوراق وتحتها نور وثمار لها لون وطعم ورائحة ...

كمجرى حكم جنس الأجناس الذي تحته أنواع ... وتحت تلك الأنواع أشخاص كثيرة مختلفة الصور والأشكال، والهيئات والأعراض ...

كمثل قبيلة لها شعوب ولشعوبها بطون، ولبطونها أفخاذ، ولأفخاذها عمائر، ولها عشائر وأقارب ...

كمجرى حكم شريعة واحدة فيها مفروضات كثيرة، ولتلك المفروضات سنن مختلفة، ولتلك السنن أحكام متباينة، ولتلك الأحكام حدود متغايرة يجمعها كلها دين واحد، لأهله مذاهب مختلفة، ولكل أهل مذهب مقالات متغايرة، وتحت كل قالة أقاويل كثيرة مفننة ...

كمجرى حكم دكان لصانع واحد، وله فيه أدوات وآلات مختلفة الصور، وله بها ومنها أفعال وحركات مفننة، ومصنوعاتها مختلفات الصور والأشكال والهيئات، وقوة نفسه سارية فيها كلها، وحكمه جار عليها بحسب ما يليق بواحد واحد منها ...

كمجرى حكم دار، فيها بيوت وخزائن، وفي تلك الخزائن آلات وأوان وأثاث لرب الدار، وله فيها أهل وخدم وغلمان، وحكمه جار فيها وفيهم جميعا ...

كحكم مدينة حولها أسوار، وفي داخلها محال وخانات ونواح فيها شوارع وطرقات وأسواق، في خلالها منازل ودور فيها بيوت وخزائن فيها أموال وأمتعة وأثاث وآلات وحوائج، يملكها كلها ملك واحد، له في تلك المدينة جيوش ورعية وغلمان وحاشية وخدم وأتباع، وحكمه جار في رؤساء جنده وأشراف مدينته ...» (ج3، ص212-216).

وأظنه وصفا أبرع ما يكون الوصف من الناحية الأدبية، تصويرا لفكرة الوحدة العضوية التي تضم الكون كله في كائن واحد، تجري فيه نفس كلية واحدة غير منقسمة، برغم ما ينشعب عنها من فروع، فهي - هذه النفس الكلية الواحدة الشاملة - «كجنس الأجناس، والأنفس البسيطة كالأنواع لها، والأنفس التي دونها كنوع الأنواع، والأنفس الجزئية كالأشخاص، مرتبة بعضها تحت بعض كترتيب العدد؛ فالنفس الكلية كالواحد، والبسيطة كالآحاد، والجنسية كالعشرات، والنوعية كالمئات، والأنفس الجزئية الشخصية كالألوف، وهي التي تختص بتدبير جزئيات الأجسام » (ج3، ص216).

وما الذي جعل النفس الجزئية آخر الأمر تدخل جسما فتكون به شخصا معينا محددا بمكان وزمان، بعد أن كانت حرة طليقة؟ هنا نجد لفتة جميلة من إخوان الصفا، يفرقون بها بين إنسان صغير القدر وإنسان آخر ذي همة وقدر عظيمين؛ فقد كان المألوف - في علاقة النفس بجسدها - أن يقال إن الجسد سجن والنفس سجينة فيه تريد الفكاك، أما إخوان الصفا فيفرقون في ذلك بين حالة وحالة؛ «فليس كل نفس وردت إلى عالم الكون والفساد تكون محبوسة فيه، كما أنه ليس كل ما دخل الحبس يكون محبوسا فيه، بل ربما دخل الحبس من يقصد إخراج المحبوسين منه، كما أنه قد يدخل بلاد الروم من يستنقذ أسارى المسلمين، وإنما وردت النفوس النبوية إلى عالم الكون والفساد لاستنقاذ هذه النفوس المحبوسة في حبس الطبيعة الغريقة في بحر الهيولى، الأسيرة في الشهوات الجسمانية» (ج3، ص218).

ومرة أخرى يعود إخوان الصفا إلى «العدد» يفسرون به - في تسلسله - ترتيب الموجودات في هذا الكون الأرضي ترتيبا يخرج أعلاها من أسفلها، مما يحق لنا تسميته بنظرية للتطور عندهم؛ يقولون: «الموجودات ... مرتبة بعضها تحت بعض، متصل أواخرها بأوائلها كترتيب العدد ...

بيان ذلك أن المعادن متصلة أوائلها بالتراب، وأواخرها بالنبات، والنبات متصل آخره بالحيوان، والحيوان متصل آخره بالإنسان، والإنسان متصل آخره بالملائكة ...

وأما أواخر المعادن مما يلي النبات فهو الكمأة والفطر وما شاكل ذلك ، وذلك أن هذا الجنس من الكائنات يتكون في التراب كالمعدن، ثم ينبت ... كما ينبت النبات، ولكن من أجل أنه ليس له ثمرة ولا ورقة، ويتكون في التراب كما تتكون الجواهر المعدنية وعلى أشكالها، صار يشبه المعادن، ومن جهة أخرى يشبه النبات ...

وأما النبات، فأقول: إن هذا الجنس من الكائنات متصل أوله بالمعدن ... وآخره بالحيوان ...

والنخل آخر مرتبة النباتية، ما يلي الحيوانية، وذلك أن النخل نبات حيواني؛ لأن بعض أفعاله وأحواله مباين لأحوال النبات وإن كان جسمه نباتيا، بيان ذلك أن القوة الفاعلة فيه منفصلة من القوة المنفعلة، والدليل على ذلك أن أشخاص الفحولة منه مباينة لأشخاص الإناث ... وأيضا فإن النخل إذا قطعت رءوسها جفت وبطل نموها ونشوءها وماتت ...

وأول مرتبة من الحيوانية متصلة بآخر النبات ... فأدون الحيوان وأنقصه هو الذي ليس له إلا حاسة واحدة فقط، وهو الحلزون ... فليس للحلزون سمع ولا بصر ولا شم ولا ذوق، إلا اللمس فحسب ... لأن الحكمة الإلهية لا تعطي الحيوان عضوا لا يحتاج إليه في جر المنفعة أو دفع المضرة ... فهذا النوع (أي دودة الحلزون) حيواني نباتي؛ لأنه ينبت جسمه كما ينبت بعض النبات، ويقوم على ساقه قائما، وهو من أجل أن يحركه حركة اختيارية حيواني، ومن أنه ليست له إلا حاسة واحدة فهو أنقص الحيوانات رتبة في الحيوانية ...

مرتبة الحيوانية مما يلي الإنسانية، ليست من وجه واحد، ولكن من عدة وجوه؛ وذلك أن رتبة الإنسانية لما كانت معدن الفضائل، وينبوع المناقب، لم يستوعبها نوع واحد من الحيوان، ولكن عدة أنواع، فمنها ما قارب رتبة الإنسانية بصورة جسده مثل القرد، ومنها بالأخلاق النفسانية كالفرس ...

وأدون رتبة الإنسانية مما يلي الحيوانية هي رتبة الذين لا يعلمون من الأمور إلا المحسوسات، ولا يعرفون من الخيرات إلا الجسمانيات ...» (ج3، ص224-229).

33

وأعتذر للقارئ عن وقفة طويلة عند موضع من رسائل إخوان الصفا، جذبني إلى قراءته جذبا؛ لما فيه من طلاوة عرض وجدة فكرة، فلئن كان العرض ذا طابع فني يحيله إلى قطعة من الأدب الفلسفي، فإن الفكرة عقلية موغلة في عقلانيتها، ولا يستطيعها إلا من أوتوا رجاحة العقل التي تمكنهم من تحطيم المألوف ليتسنى لهم النظر الموضوعي الخالص.

وإنما قصدت تلك الصفحات الطوال من الجزء الثاني، تلك الصفحات التي أجرى فيها كاتبوها محاكمة بين بني الإنسان وأنواع الحيوان؛ إذ ترفع هذه الأنواع الحيوانية شكاتها إلى ولي الأمر مما تعانيه من الإنسان، رافضة أن يكون للإنسان فضل عليها من حيث إنها هي وهو معا صنعة الله، فيسأل ولي الأمر بني الإنسان ماذا يقولون دفاعا عن أنفسهم، ويجيبون بما يظنونه مؤيدا لموقفهم من آيات القرآن الكريم، لكن الحيوان سرعان ما يجد التأويل لهذه الآيات تأويلا يبين أن الإنسان قد جاوز حدود الحق حين فهمها على الوجه الذي فهمها به، وأما ولي الأمر هنا فلا هو إنسان ولا حيوان، ليكون محايدا في نظره وحكمه بين الطرفين؛ إذ هو ملك من الجان يقال له «بيراست الحكيم».

وتبدأ الصورة الأدبية الرائعة هذه، بأن جعلت مقر «بيراست الحكيم» جزيرة في وسط البحر الأخضر مما يلي خط الاستواء، وهي طيبة الهواء والتربة، فيها أنهار عذبة وعيون جارية وأشجار مختلفة ألوانها وثمارها، وحدث ذات يوم أن طرحت الرياح العاصفة مركبا من سفن البحر إلى ساحل تلك الجزيرة، وكان على المركب قوم من التجار والصناع وأهل العلم، فخرجوا من مركبهم إلى أرض الجزيرة وطافوا بها، فرأوا فيها من ضروب النبات ومن صنوف الحيوان من بهائم وأنعام، وطيور وسباع، ووحوش وهوام وحشرات، وكان الكل يألف الكل ويأنس له، فاستطاب القوم الجزيرة وما عليها، واستوطنوا بها، وأخذوا يبنون ويعمرون وينشطون بحياتهم على نحو ما اعتادوا في بلادهم أن يفعلوا، وعندئذ لم تأخذهم ريبة من أنفسهم حين تعرضوا لما استطاعوا أن يتعرضوا له من صنوف الحيوان ليستخدموها وليركبوها، حتى فزعت صنوف الحيوان لهذه المصيبة التي نكبت بها من حيث لا تدري، لكن هؤلاء الناس تعقبوها حتى أمسكوا بها وأعادوها معهم لتكون مسخرة لأغراضهم.

فجمعت البهائم والأنعام زعماءها وخطباءها، وذهبت إلى «بيراست الحكيم» - ملك الجن - وشكت إليه ما لقيت من جور بني آدم، وتعديهم عليها، واعتقادهم فيها بأنها عبيد لهم، فبعث ملك الجن رسولا إلى أولئك القوم ودعاهم إلى حضرته، فذهبت منهم طائفة عدادها نحو سبعين رجلا، اختاروهم ممن ينتمون إلى بلدان شتى، فلما مثلوا بين يدي ملك الجن، قال لهم على لسان ترجمان: ما الذي جاء بكم إلى بلادنا؟

قال قائل منهم: دعانا ما سمعنا من فضائل الملك وعدله، وها نحن أولاء بين يديه ليحكم بيننا وبين عبيدنا الآبقين من صنوف البهائم والأنعام.

فقال الملك: بينوا ما تريدون.

قال زعيم الإنس: نقول إن هذه البهائم والأنعام والسباع والوحوش أجمع عبيد لنا، ونحن أربابها، لكننا نراها إما هاربة آبقة عاصية، وإما مطيعة وهي كارهة منكرة لحقوقنا فيها.

قال الملك: وما حجتك فيما زعمت للإنس من سلطان عليها؟

قال الإنسي: لنا على ذلك دلائل شرعية سمعية على ما قلنا، وحجج عقلية تؤيد ما زعمنا. [هنا يمضي النص فيقول: قام الخطيب من الإنس من أولاد العباس، ورقي المنبر، وخطب الخطبة، وقال: ... مما يؤكد أن الصورة الرمزية كلها إنما صيغت من قبيل الثورة على حكم العباسيين وما يلقاه الناس منهم من صنوف الجور، وكأنما هؤلاء الناس عبيد لهم (راجع ج2، ص206 وما بعدها).]

وبالطبع كان مما أورده المتكلم تأييدا لزعمه السيادة على الحيوان قول الله عز وجل:

والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون

وقوله تعالى:

وعليها وعلى الفلك تحملون

وقوله تعالى:

وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس

وقوله:

والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ... آيات كريمة تدل كلها على أن صنوف الحيوان إنما خلقت للإنسان ومن أجله.

فتوجه الملك بالسؤال إلى جماعة الحيوان: قد سمعتم يا معشر البهائم والأنعام ما قال الإنسي من آيات القرآن، فاستدل بها على دعواه، فماذا تقولون في ذلك؟

فقام عند ذلك زعيمها - وهو البغل - وقال: ليس في شيء مما قرأ هذا الإنسي من آيات القرآن دلالة على ما زعم من أنهم أرباب لنا ونحن عبيد لهم، إنما هي آيات تذكرهم بما أنعم الله عليهم به، فقال لهم:

سخرها لكم

كما قال: «سخر الشمس والقمر والسحاب والرياح» أفترى أيها الملك بأنها قد أصبحت بذلك عبيدا للإنسان؟ وأن الناس هم أربابها؟ ألا إن الله تعالى خلق كل ما في السموات والأرض، وجعلها مسخرة بعضها لبعض، إما لجلب المنفعة أو لدفع الضرر.

واستطرد زعيم البهائم ليقول: أيها الملك! كنا نحن وآباؤنا سكان الأرض قبل خلق آدم أبي البشر، قاطنين في أرجائها، تذهب وتجيء كل طائفة منا في بلاد الله طلبا للعيش، كل منا مقبل على شأنه في مكان يوافق مآربه من برية أو أجمة أو جبل أو ساحل أو تلال أو غياض أو رمال، آمنين في أوطاننا، معافين في أبداننا، ومضت على ذلك الدهور والأزمان، حتى جاء بنو آدم، وانتشروا في الأرض برا وبحرا وسهلا وجبلا، وضيقوا علينا الأماكن والأوطان، وأخذوا منا من أخذوا أسيرا، من الغنم والبقر والخيل والبغال والحمير، وسخروها واستخدموها وأتعبوها بالكد والعناء في الأعمال الشاقة، من الحمل والركوب والشد في الدواليب والطواحين بالقهر والضرب والهوان وألوان من العذاب طول أعمارنا، فهرب منا من هرب في البراري والقفار ورءوس الجبال، لكن بني آدم تعقبونا حتى وقع في قبضتهم منا من وقع، فشدوه بالغل والقيد، والقنص والذبح والسلخ، وشق الأجواف وقطع المفاصل، ونتف الريش وجز الشعر والوبر، ثم نار الطبخ والوقد والتشوية، وألوان من العذاب لا يبلغ الوصف كنهها.

فسأل الملك زعماء الإنس (بعد أن حصن نفسه بأعوانه وجنده من قبائل الجن): ما تقولون فيما تحكي هذه البهائم والأنعام من الجور، وما يشكون من الظلم والعدوان؟

فقال زعيم الإنس: نقول إن هؤلاء عبيد لنا ونحن مواليها، ولنا أن نتحكم عليها تحكم الأرباب.

فقال الملك للإنسي: إن الدعاوى لا تصح عند الحكام إلا بالبينات، ولا تقبل إلا بالحجة الواضحة.

فقال الإنسي: إن لنا حججا عقلية ودلائل فلسفية تدل على صحة ما قلنا.

قال الملك: ما هي؟

قال الإنسي: حسن صورتنا، وتقويم هيكلنا، وانتصاب قامتنا، وجودة حواسنا، ودقة تمييزنا، وذكاء نفوسنا، ورجحان عقولنا.

فقال الملك لزعيم البهائم : ما تقول فيما قال الإنسي؟

قال: ليس شيء مما قال بدليل على ما ادعى.

قال له الملك: كيف؟ أليس انتصاب القيام واستواء الجلوس من شيم الملوك، وانحناء الأصلاب والانكباب على الوجوه من صفات العبيد؟

قال زعيم البهائم: إن الله - جل ثناؤه - ما خلقهم على تلك الصورة لتكون دالة على أنهم أرباب، ولا خلقنا على هذه الصورة لتكون دلالة على أننا عبيد، ولكن لعلمه واقتضاء حكمته بأن تلك البنية هي أصلح لهم، وهذه أصلح لنا، وبيان ذلك أن بني آدم عراة بلا ريش على أبدانهم، ولا وبر ولا صوف على جلودهم يقيهم الحر والبرد، ولما كانت أرزاقهم من ثمر الأشجار، ودثارهم من أوراقها ، وكانت الأشجار منتصبة في جو الهواء؛ خلقت قامة بني آدم منتصبة ليسهل عليهم تناول الثمر والورق منها، وأما نحن فلأن أرزاقنا من حشيش الأرض، فقد جعلت أبداننا منحنية؛ ليسهل علينا تناولها، وإذن فلا أحسن ولا أردأ في هذا الاختلاف، بل هي طبيعة العيش في كلتا الحالتين وما تقتضيه.

فقال الملك لزعيم البهائم: وماذا تقول في قول الله عز وجل:

لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ؟

فقال الزعيم: الآية تعني أنه خلقه في تناسب تام مع ظروفه، فلم يجعله طويلا دقيقا، ولا قصيرا لزيقا، بل ما بين ذلك، وكذلك الأمر معنا؛ فنحن من هذه الناحية سواء.

قال الإنسي لزعيم البهائم: من أين لكم اعتدال القامة واستواء البنية وتناسب الصورة، وقد نرى الجمل عظيم الجثة، طويل الرقبة، صغير الأذنين، قصير الذنب، ونرى الفيل عظيم الخلقة، طويل النابين، واسع الأذنين، صغير العينين؟ ...

فأجاب زعيم البهائم: ذهب عليك - أيها الإنسي - أحسنها، وخفي عليك أحكمها، أما علمت أنك لما عبت المصنوع فقد عبت الصانع؟ أولا ترى بأن هذه كلها مصنوعات الباري الحكيم، خلقها بحكمته لعلل لا يعلمها إلا هو والراسخون في العلم؟ فإذا كان الجمل طويل الرقبة، فلكي يكون ذلك مناسبا لطول قوائمه لينال الحشيش من الأرض، وليبلغ مشفره إلى سائر أطراف بدنه فيحكها، وأما خرطوم الفيل فعوض عن طول الرقبة، وكبر أذنيه ليذب البق والذباب عن مآقي عينيه وفمه، إذ كان فمه مفتوحا أبدا لا يمكنه ضم شفتيه لخروج أنيابه منه، وأنيابه سلاح له يمنع بها السباع عن نفسه ... وأما الذي ذكرت - أيها الإنسي - من حسن الصورة، وافتخرت به علينا، فليس فيه شيء من الدلالة على ما زعمت بأنكم أرباب ونحن عبيد، فإذا كان حسن الصورة شيئا مرغوبا فيه لتنجذب ذكوركم إلى إناثكم، وإناثكم إلى ذكوركم، فلنا كذلك ما ينتج هذا التجاذب بين ذكورنا وإناثنا.

وأما الذي ذكرته من جودة حواسكم ودقة تمييزكم، وافتخرتم به علينا، فليس ذلك لكم خاصة تنفردون به دون سائر الحيوان، لأن فيها ما هو أجود منكم حاسة وأدق تمييزا ، فالجمل يرى موضع قدميه في الطرقات الوعرة في ظلم الليل، مما لا يرى أحدكم إلا بسراج، وترى الفرس الجواد يسمع وطء الماشي من البعد في ظلمة الليل، حتى إنه ربما نبه صاحبه من نومه بركضه رجله حذرا عليه من عدو أو سبع ...

وأما الذي ذكرته من رجحان العقول، فلسنا نرى له أثرا أو علامة؛ لأنه لو كان لكم عقول راجحة لما افتخرتم علينا بشيء ليس هو من أفعالكم، وإنما العقلاء يفتخرون بأشياء هي أفعالهم؛ من صنائع وأفكار، وعلوم ومذاهب، ومن استقامة وعدل.

قال ملك الجن للإنسي: قد سمعت من زعيم البهائم جوابه، فهل عندك شيء غير ما ذكرت؟

فقال الإنسي: نعم، هنالك مناقب غير ما ذكرت، تدل على أننا أرباب وهم عبيد لنا؛ فمن ذلك بيعنا وشراؤنا لها، وإطعامنا وسقينا لها إذا مرضت، وندفع عنها السباع أن تفترسها ...

قال زعيم البهائم: أما قوله إنا نبيعها ونشتريها، فهكذا يفعل أبناء فارس بأبناء الروم، وأبناء الروم بأبناء فارس، إذا ظفر بعضهم ببعض، أفترى أيهم العبيد وأيهم الموالي والأرباب؟ وهكذا قل في أبناء السند مع أبناء الهند، وفي أبناء الحبشة مع أبناء النوبة، وفي الأعراب والأكراد والأتراك، فأي هؤلاء وأولئك العبيد؟ وأيهم الموالي بالحقيقة؟ وهل هي إلا دول ونوب تدور بين الناس؟ وأما الذي ذكره الإنسي بقوله: إنا نطعمها ونسقيها وبقية ما ذكره من سائر ما يفعلون بنا، فليس ذلك لشفقة علينا منهم، بل مخافة أن نهلك فيخسروا أثماننا وتفوتهم منافعنا لهم.

وهنا تكلم الحمار ليؤيد البغل زعيم البهائم، فقال: أيها الملك! لو رأيتنا ونحن أسارى في أيدي بني آدم، موقرة ظهورنا بأثقالهم، وبأيديهم العصا والمقارع يضربون أدبارنا بحنق وعنف وضجر، لرحمتنا، فأين الرحمة بنا التي زعمها الإنسي؟

وعقب الثور فقال: لو رأيتنا أيها الملك مشدودين في دواليبهم وأرحيتهم مغطاة وجوهنا، وهم مع ذلك يضربوننا، لرحمتنا، فأين الرأفة منهم علينا التي زعمها الإنسي؟

ثم تكلم الكبش فقال: لو رأيتنا - أيها الملك - وبنو آدم يأخذون صغارنا، فيفرقون بينها وبين أمهاتها، ليأخذوا ألبان الأمهات لأولادهم ، وليجلعوا أولادنا مشدودة أرجلها وأيديها، محمولة إلى المذابح والمسالخ، جائعة عطشانة، تصيح فلا ترحم، وتصرخ وتستغيث فلا تغاث، ثم نراها مذبوحة مسلوخة مشقوقة أجوافها، مفرقة أعضاؤها ورءوسها وكروشها ومصارينها وأكبادها في دكاكين القصابين، مقطعة بالسواطير مطبوخة في القدور، مشوية في التنور، ونحن سكوت لا نبكي ولا نشكو! فأية رحمة علينا منهم كما زعم الإنسي؟

وبمثل هذا تكلم الجمل، وتكلم الفيل، وتكلم الفرس، ثم تكلم كذلك البغل زعيمهم ...

فلما فرغ البغل من كلامه، التفت الجمل إلى الخنزير، فقال له: قم وتكلم واذكر ما تلقون - معشر الخنازير - من جور بني آدم.

فقال حكيم من حكماء الجن: لا، لعمري ليس الخنزير من الأنعام بل من السباع، ألا ترى أن له أنيابا ويأكل الجيف؟ وقال قائل آخر من الجن: بل هو من الأنعام، ألا ترى أن له ظلفا ويأكل العشب والعلف؟ ثم قال ثالث: بل هو مركب من السباع والأنعام والبهائم، مثل الزرافة، فهي مركبة من الحمار والجمل.

فقال الخنزير للجمل: والله ما أدري ما أقول، من كثرة اختلاف الرأي في أمرنا، ألم تسمع كيف اختلف فينا حكماء الجن؟ وأما الإنس فهم أكثر اختلافا؛ فالمسلمون يقولون إنا ممسوخون ويستقذرون لحومنا، وأبناء الروم يتنافسون في أكل لحومنا، واليهود يلعنوننا من غير ذنب منا إليهم، لكن لعداوة بينهم وبين النصارى ...

هكذا لبث الحوار قائما وممتعا، حتى إذا ما فرغ الفريقان مما أرادا قوله، سأل ملك الجن مستشاريه من الحكماء، فكاد الرأي يلتقي عند فكرة رأوها عادلة، وهي أن الحق هو في جانب صنوف الحيوان، وأن بني آدم جائرون بالحيوان ظالمون، وإذن فالصواب هو أن يأمر الملك البهائم والأنعام الأسيرة في أيدي بني آدم أن تهرب كلها في ليلة واحدة، وتبعد من ديار بني آدم كما فعلت حمر الوحش والغزلان والسباع.

لكن رئيس الحكماء نبه الحاضرين إلى أمر يجعل ذلك الهرب مستحيلا؛ لأن الآدميين يقيدون ما في حوزتهم من بهائم وأنعام، أثناء الليل، ويغلقون دونها الأبواب، فاقترح أحدهم أن يبعث الملك بقبائل من الجن يفتحون الأبواب المغلقة ويفكون القيود ويخبلون حراسها إلى أن تبعد البهائم وتنجو. •••

هذه صورة واحدة قبستها للقارئ لأقدم له بها صورة عن طريقة إخوان الصفا في استخدامهم للحيوان رمزا يرمزون به إلى ما يريدون أن يقولوه، وهي طريقة تجدها شائعة في رسائلهم، وخصوصا في الجزء الثاني الذي نقلنا عنه هذه الصورة التي قدمناها، وأول ما يتبادر إلى ذهن القارئ هنا، أن إخوان الصفا أرادوا شيئا كالذي أراده «جورج أورويل» - الأديب الإنجليزي المعاصر - في كتابه «مزرعة الحيوان»، ففي هذا الكتاب يجمع الكاتب حيوان المزرعة لتتبادل الرأي فيما بينها عما عساها فاعلة تجاه صاحب المزرعة الذي يستغلها لنفسه أبشع استغلال؟ فلماذا لا يكون لها رأي في حياتها، فتؤدي ما توافق هي على أدائه، وتمتنع عما تريد أن تمتنع عنه؟ وواضح من الكتاب أن «أورويل» يسخر من الشيوعية في تصورها بأن العمال يجب أن يثوروا على صاحب المصنع، كما يجب أن يكون لهم الرأي الأول في إدارة ذلك المصنع؛ إذ لا مبرر على الإطلاق أن يكون كل الجهد المبذول جهدها، وكل الثمرة العائدة لصاحب المال الذي لا يحرك ساعديه بعمل ... وربما أخطأ «أورويل» فيما تصوره وصوره، وربما أصاب؛ فليس هذا موضوعنا الآن، لكن ما أردنا الإشارة إليه هو هذا الشبه الشديد بين الصورة التي رسمها «الإخوان» لمجتمع الحيوان وهو يشكو ظلم الإنسان به واستغلاله له، وبين تلك التي رسمها «أورويل» لهذا المجتمع الحيواني وقد أخذت أفراده تتشاور فيما تصنعه إزاء ظلم صاحب المزرعة.

ولئن كان «أورويل» قد رمز بصورته تلك إلى أوجه النقص في مذهب الشيوعية، فليس لدينا شك في أن إخوان الصفا كذلك رمزوا بصورتهم التي قدموها إلى أوجه الجور والعسف في حكم بني العباس، فقد وردت إشارة تكاد تقطع بذلك - ولقد جذبنا انتباه القارئ إليها في حينها - والذي يبقى على دارسي التاريخ العربي والأدب العربي، هو أن يتقصوا لنا معاني الرموز التفصيلية إن كان لها من معان، فمن ذا الذي يرمزون إليه بالبغل، وهو كما رأينا في الحوار السابق زعيم البهائم والناطق باسمها، ثم من يكون الحمار؟ والثور؟ والكبش؟ والجمل؟ والفيل؟ والفرس؟ والخنزير؟ ... ألا إننا لو فككنا هذه الرموز لنطقت لنا الصورة الأدبية بما يفصح عن دخائل الحياة العربية عندئذ (القرن العاشر الميلادي) والحياة السياسية منها بوجه خاص.

وأيا ما كان الأمر، فكم كنا نود لوقفتنا مع إخوان الصفا أن تطول أكثر مما طالت، لكن قطرة من البحر قد تغني بطعمها عن البحر كله، ويكفينا أن هذه الجماعة من الأصدقاء كانت في عصرها لسانا معبرا عن أشياء كثيرة حولها، فأولا: قد لخصت لنا أجود تلخيص حياة العلم والعلماء في عصرها، وثانيا: يمكن اعتبارها طليعة تقدمية إذا قسناها بتيارات كثيرة حولها أرادت أن تشد الناس شدا إلى الوراء، وحسبنا هذه الوقفة من الحيوان التي وقفها «الإخوان» والتي ربما قصدوا بها إلى تمجيد الحياة كائنا ما كان لبوسها، أو إن شئت فقل: تمجيد الباري في كل كائن من خلقه، فكل كائن حي هو في ذاته آية تستحق التمجيد، ولا يفوتني في نهاية الحديث عن «الإخوان» أن أشير إلى أسلوب الرمز الذي كان مألوفا عند الباطنية والصوفية والشيعة، فهؤلاء جميعا لم يريدوا أن يأخذوا الأمور من سطحها الظاهر، بل كانوا أميل إلى «تأويل» كل ما يصادفهم من آيات الكتاب الكريم في إشارتها إلى كائنات الأرض والسماء، وكثيرا ما يدل استنطاق الرموز وتأويلها لتكشف عن حقيقتها المستورة، على ذكاء شديد ممن يضطلع بالمحاولة، وهكذا كانت الحال عند إخوان الصفا كلما رمزوا بقصة عما يريدونه، وكلما أولوا رموزا ليكشفوا عما وراءها.

كانت نظرة الإخوان إلى كثير من المسائل نظرة عقلية فيها نفاذ ودقة تحليل، لكن ذلك لم يمنع من ورود لحظات كثيرة جدا قد تنبئ بأنهم لم يكونوا من العقلانيين الخلص، بل مزجوا عقلانيتهم بكثير من النظرات اللاعقلية القائمة على احترام ما هو كائن بين أيديهم من التقليد؛ لأنه كائن وكفى، فانظر - مثلا - إلى موقفهم من «السحر والطلسمات» جاعلين إياها «علما» من العلوم! بل إنهم ليعجبون ممن تنكر لها بين معاصريهم، فقد ورد عن السحر والطلسمات (الجزء الرابع، ص284 وما بعدها) كلام كثير يسوده التصديق، ويبدأ حديثهم في هذا الموضوع هكذا: «واعلم أيها الأخ - أيدك الله - أننا رأينا اليوم أكثر الناس المتغافلين إذا سمعوا بذكر السحر، يستحيل واحد منهم أن يصدق به، ويتكافرون بمن يجعله من جملة العلوم التي يجب أن ينظر فيها أو يتأدب بمعرفتها، وهؤلاء هم المتعالمون والأحداث من حكماء دهرنا المتخلفين والمدعين بأنهم من خواص الناس المتميزين؛ وذلك لأنهم لما رأوا بعض المتعاملين بهذا العلم، والخائضين في طلبه من غير معرفة له إما أبله قليل العقل، أو امرأة رعناء، أو عجوزا خرفة بلهاء، فرفعوا أنفسهم عن مشاركة من هذه حاله، إذا سمعوا بذكر السحر والطلسمات، أنفة منهم؛ لئلا ينسبوا إلى الجهل وإلى التصديق بالكذب والخرافات»، ألا ليتهم ترفعوا كما ترفع أولئك الذين وردت الإشارة إليهم دون أن نعرف من هم! ولكن «إخواننا» صورة «لعقل» عصرهم بما شاب ذلك العصر من قوة وضعف.

34

كان أبو حيان التوحيدي، الذي عاش في النصف الثاني من القرن العاشر الميلادي - في كتابه «الإمتاع والمؤانسة» هو الذي كشف للناس عن شخصيات إخوان الصفا؛ إذ لبثوا في طي الكتمان حتى أذاع هو سرهم، وإذن فمن الملائم - وقد ختمنا لقاءنا مع هؤلاء الإخوان - أن نقابل هذه الشخصيات الفذة، أبا حيان التوحيدي، وليكن لقاؤنا معه، أساسا، على صفحات مؤلفه ذي الأجزاء الثلاثة في طبعته الحديثة: «الإمتاع والمؤانسة»، وسوف نرى أننا إذ نتحرك مع هذا الكتاب صفحة بعد صفحة، وموضوعا بعد موضوع، أننا إنما نتحرك في صميم الحياة الثقافية العربية حينئذ، فنلقى القوم في اهتماماتهم الفكرية، وفي طريقة معالجتهم لتلك الاهتمامات.

كان أبو حيان التوحيدي بائسا في حياته وبعد مماته، أما في حياته فقد عاش فقيرا، وأما بعد موته فلم يجد من المؤرخين من يترجم له ترجمة وافية، وذلك برغم اتساع آفاقه وعمق أغواره، حتى ليعد الفيلسوف الأديب المعبر عن ثقافة النصف الثاني من القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، فاسمع هذه الرسالة الحزينة التي يختم بها الجزء الثالث من كتاب الإمتاع والمؤانسة، موجها إياها إلى صديقه أبي الوفاء المهندس، الذي كان له فضل تقريبه من الوزير أبي عبد الله العارض، وهو الوزير الذي قيلت في حضرته أحاديث السمر الثقافي التي جمعت في كتاب الإمتاع والمؤانسة هذا؛ فهو يقول في رسالته تلك: «خلصني أيها الرجل من التكفف، أنقذني من لبس الفقر، أطلقني من قيد الضر، اشترني بالإحسان، اعتبدني بالشكر، ... اكفني مئونة الغداء والعشاء، إلى متى الكسيرة اليابسة، والبقيلة الذاوية، والقميص المرقع ...؟ إلى متى التأدم بالخبز والزيتون؟ ... اجبرني فإنني مكسور، اسقني فإنني صد، أغثني فإنني ملهوف، شهرني فإنني غفل، حلني فإنني عاطل، قد أذلني السفر من بلد إلى بلد، وخذلني الوقوف على باب باب، ونكرني العارف بي، وتباعد عني القريب مني ...»

ولعل أبا الوفاء المهندس قد استجاب إلى استغاثة أبي حيان فأغاثه، بأن قدمه إلى الوزير أبي عبد الله العارض، فجعله الوزير من سماره، وسامره أبو حيان ثماني وثلاثين ليلة [هكذا يقول ناشرا الكتاب، لكني عددت هذه الليالي فوجدتها تبلغ تسعا وثلاثين] وبعد ذلك طلب أبو الوفاء من أبي حيان أن يسجل كل ما دار بينه وبين الوزير، وهكذا فعل أبو حيان، فكان له - ولنا - من هذا كتاب «الإمتاع والمؤانسة».

هكذا يدور السمر المسجل «الإمتاع والمؤانسة» على ليال، لكل ليلة موضوع رئيسي يحدده الوزير بسؤال يلقيه، ولكن سرعان ما يستطرد ويتشعب، فيتناول أمورا كثيرة منوعة، وغالبا ما يختتم ب «ملحة الوداع».

في الليلة الأولى جرى السمر حول متعة الحديث، وخصائص الحديث الجيد، وكانت خلاصة الرأي المعروض، أن الحديث الجيد هو الذي يجري على أحكام العقل، ويشتمل على فكاهة، ويكون ذا جدة وطرافة، وإن الإنسان ليسأم من كل شيء إلا من الحديث الطلي؛ ففي المحادثة تلقيح للعقول، وترويح للقلب، وتسريح للهم، وتنقيح للأدب، وأما الموضوعات العرضية التي تناولها الكلام في الليلة الأولى، فتحديدات لغوية تفرق بين معنى كلمة «عتيق» ومعنى كلمة «قديم»، وذلك بمناسبة المقارنة بين الحديث الذي يكون فيه جديد، والحديث الذي يقتصر على ذكر القديم: «التعجب كله منوط بالحادث، وأما التعظيم والإجلال فهما لكل ما قدم»، وكذلك تناول أبو حيان بالتحديد معاني هذه الكلمات: حادث، ومحدث، وحديث، وأخيرا ختمت الليلة بملحة الوداع، وهي نكتة عن بناء بنى جدارا لرجل، وبينما هما مختلفان على الأجر، سقط الجدار، فقال الرجل للبناء: هذا عملك الحسن؟ فقال البناء: وهل أردت أن يبقى الجدار ألف سنة؟ فأجاب الرجل: لا، ولكن كان يبقى إلى أن تستوفي أجرتك.

ويدور حديث الليلة الثانية حول شخصيات بارزة يومئذ في ميادين العلم والأدب، يصفهم أبو حيان للوزير ويقول رأيه فيهم: فمنهم أبو سليمان المنطقي الذي يقول عنه: «أما شيخنا أبو سليمان فإنه أدقهم نظرا، وأقعرهم غوصا، وأصفاهم فكرا، وأظفرهم بالدرر، وأوقفهم على الغرر، مع تقطع في العبارة، ولكنة ناشئة من العجمة، وقلة نظر في الكتب، وفرط استبداد بالخاطر، وحسن استنباط للعويص، وجرأة على تفسير الرمز، وبخل بما عنده من هذا الكنز.»

ومنهم ابن زرعة، فهو: «حسن الترجمة، صحيح النقل، كثير الرجوع إلى الكتب، محمود النقل إلى العربية، جيد الوفاء بكل ما جل من الفلسفة» ومنهم ابن الخمار، وابن السمح، والقومسي، ومسكويه الذي يصفه بقوله: «فقير بين أغنياء، وعيي بين أبيناء؛ لأنه شاذ ...»

فطلب منه الوزير أن يحدثه عن آراء هؤلاء العلماء في «النفس»، فأخذ أبو حيان يفصل القول في ذلك، وملخص ما قاله: إنهم متفقون على أن النفس جوهر خالد، وكان من أدق ما قاله كذلك في العلم بمسائل الحكمة أنه وسط بين اليقين الكامل وبين اليأس من المعرفة، وكذلك قال في علم الطب إنه وسط بين الصواب والخطأ، وفي الحياة إنها وسط بين السلامة والعطب، وكذلك فرق أبو حيان بين العلم والتعليم؛ «فالعلم صورة المعلوم في نفس العالم، وأنفس العلماء عالمة بالفعل، وأنفس المتعلمين عالمة بالقوة، والتعليم هو إبراز ما بالقوة إلى الفعل، والتعلم هو بروز ما هو بالقوة إلى الفعل»، وختمت الليلة بأربعة أبيات في الغزل.

وفي الليلة الثالثة يدور الحديث عن بعض رجال السوء، فبهرام «رجل مجوسي معجب زميم، لا يعرف الوفاء، ولا يرجع إلى حفاظ» وابن كخيا «رجل نصراني أرعن خسيس، ما جاء يوما بخير قط، لا في رأي ولا في عمل ولا في توسط» ...

وتدور الليلة الرابعة كلها تقريبا على الحديث عن ابن عباد، يسأل الوزير أبا حيان عن رأيه في ابن عباد، وما يقال في ذمه أحيانا، فيقول أبو حيان: «إن الرجل كثير المحفوظ، حاضر الجواب، فصيح اللسان ...» ويمضي في تحليل شخصيته تحليلا مسهبا، ويقول عنه: إنه يمدح نفسه بشعر، ثم يعطيه لمن يلقيه كأنما هو شعر قيل فيه من سواه، فهو محب للثناء لدرجة الإسراف، وهو مزيج من عقل وحمق، ويأخذ أبو حيان في مقارنته بابن العميد، ويصف ابن عباد بمرض النفس: «فللنفس أمراض كأمراض البدن.»

ومما ورد في الليلة نفسها كذلك ذكر لأعلام العلماء والأدباء وما يمتاز فيه كل منهم؛ فالخليل في العروض، وأبو عمرو بن العلاء في اللغة، وأبو يوسف في القضاء، والإسكافي في الموازنة، وابن نوبخت في الآراء والديانات، وابن مجاهد في القراءات، وابن جرير في التفسير، وأرسطو طاليس في المنطق، والكندي في الجوهر الفرد (أي الجزء الذي لا يتجزأ) وابن سيرين في العبارة، وأبو العيناء في البديهة، وابن أبي خالد في الخط، والجاحظ في الحيوان ... إلخ.

ومن أصدق ما جاء في حديث هذه الليلة، قول أبي حيان بضرورة التثقيف لمن يتصدى للكتابة الأدبية مع التواضع في تقديره لنفسه، قال: «ليس شيء أنفع للمنشئ من سوء الظن بنفسه، والرجوع إلى غيره وإن كان دونه في الدرجة، وليس في الدنيا محسوب (أي ليس فيها أحد) إلا وهو محتاج إلى تثقيف، والمستعين أحزم من المستبد ...» ومن لطيف ما قاله في التفرقة بين كتاب يكتب وحديث يقال: إن الكاتب لا يشفع له خطؤه أن يكون قد أسرع في الكتابة، فليس يعلم القارئ أأسرعت في كتابة ما كتبت أم أبطأت «وإنما ينظر أصبت فيه أم أخطأت، وأحسنت أم أسأت.»

وفي الليلة الخامسة عود إلى الحديث عن ابن عباد، ثم الحديث عن أبي إسحاق الصابي، أما ابن عباد فقد نجح رغم عيوبه؛ لأن أحدا لا يقول له: أخطأت، فمن كان مجدودا جعل الناس خطأه صوابا، وأما أبو إسحاق الصابي «فإنه أحب الناس للطريقة المستقيمة ... وإنما ينقم عليه قلة نصيبه من النحو.»

وأما الليلة السادسة فحديثها عن خصائص الأمم؛ فالفرس تقتدي ولا تبتكر، والروم لا يحسنون إلا البناء والهندسة، والصين أصحاب صنعة لا فكر لها ولا روية، والترك سباع للهراش، والهند أصحاب وهم وشعبذة، وأما العرب فقد علمتهم العزلة التفكير، وساعدتهم بيئتهم على دقة الملاحظة، وهم ذوو قيم خلقية عليا.

ومن رأي أبي حيان أن الفضائل موزعة على الأمم، وإذا وصفت أمة بفضيلة أو برذيلة فلا يكون ذلك إلا على سبيل التعميم في القول؛ ولذلك إذا أريدت مقارنة بين أمة وأمة، وجب أن يفاضل بين الكامل في كل منهما أو بين الناقص في كل منهما، وإن تعصب الإنسان لقومه ليجعل من العسير عليه أن يقول أي الأمم أفضل من سواه، فلكل أمة عصر تعلو فيه، ثم يجيء عصر آخر فتعلو أمة أخرى، وهكذا، وليس من الإنصاف أن نقارن أمة إبان صعودها بأخرى إبان هبوطها! على أن أبا حيان يعود فيخص العرب بالثناء، ويتناول بحديثه اللغة العربية فيقول: إنه استعرض غيرها من اللغات فلم يجد في أي منها «نصوع العربية، أعني الفرج التي في كلماتها، والفضاء الذي نجده بين حروفها، والمسافة التي بين مخارجها ...» ويتصدى أبو حيان لما قاله الجيهاني في ذم العرب، ليتولى الدفاع عنهم أمجد دفاع وأبلغه.

وفي الليلة السابعة مقارنة بديعة بين علم الحساب والبلاغة - أو قل بين العلوم الرياضية وفنون الأدب - أيهما أنفع؛ فقد كان هناك من فضل الأولى على الثانية لأن الأولى جد والثانية هزل (!) والأولى مستندة إلى مبدأ، موصولة بغاية، وحاضرة الجدوى، أما الثانية فزخرفة وحيلة، الأولى شبيهة بالماء والثانية شبيهة بالسراب، ولئن اكتفت الدول بكاتب واحد، فلا يكفيها مائة محاسب.

ويرد أبو حيان بقوله: إنه لا غنى للحساب نفسه عن الإنشاء، وإن البلاغة مستندة إلى عقل؛ لأن بها تقام الحجة، فهي تبدأ بأفكار عقلية، ثم تمر خلال ألفاظ، وأخيرا تستقر في خط، وأما أن الدولة يكفيها منشئ واحد فليس حجة على شيء؛ لأننا نحتاج إلى خياطين أكثر مما نحتاج إلى أطباء، ولا يدل ذلك على أن صناعة الطب دون صناعة الخياطة، وليس صحيحا أن الكلام الملحون يؤدي المعنى؛ لأن المعنى يتغير دائما بتغير الإعراب.

وفي الليلة الثامنة رويت مناقشة فلسفية دقيقة وعميقة، كانت قد دارت بين أبي سعيد السيرافي وأبي بشر متى بن يونس القنائي، وكان ذلك في حضرة الوزير ابن الفرات، وموضوعها المنطق اليوناني والنحو العربي (وهي مناقشة وردت كذلك في كتاب آخر للتوحيدي، هو «المقابسات» وقد خصصت لهذا الموضوع المقابسة الثانية والعشرون) وخلاصة الرواية أن الوزير ابن الفرات كان قد سأل مجالسيه ذات يوم إن كان بينهم من يستطيع أن يتصدى لمناظرة أبي بشر متى في المنطق، فإنه يقول أن «لا سبيل إلى معرفة الحق من الباطل والصدق من الكذب والخير من الشر والحجة من الشبهة والشك من اليقين، إلا بالمنطق»، فاستجاب أبو سعيد السيرافي لدعوة الوزير، ثم واجه متى فقال: حدثني عن المنطق ما تعني به؟ فقال متى: أعني به أنه آلة من آلات الكلام يعرف بها صحيح الكلام من سقيمه، وفاسد المعنى من صالحه، كالميزان؛ فإني أعرف به الرجحان من النقصان.

فقال أبو سعيد ردا على ذلك: إن صحيح الكلام من سقيمه يعرف بالإعراب المعروف إذا كنا نتكلم بالعربية، وفاسد المعنى من صالحه يعرف بالعقل إذا كنا نبحث بالعقل ... وكأنما أراد أبو سعيد بذلك أن يقول: إن صورية المنطق وحدها لا تغني؛ إذ لا بد من معرفة بحقائق المواد المرتبط بعضها ببعض بتلك الصور، والتشبيه بالميزان ناقص؛ لأن من الأشياء ما لا يوزن، وإذا كان المنطق الأرسطي ملزما لمن يتكلم اللغة اليونانية، فليس هو بملزم لمن يتكلم العربية. فيرد متى قائلا: إن المنطق يعنى بالمعقولات، والناس في المعقولات سواء، فأربعة وأربعة تساوي ثمانية عند اليونان وعند العرب وعند غيرهما من الأمم على السواء. فيعود أبو سعيد إلى الكلام قائلا: إن التشبيه بأربعة وأربعة وأنها تساوي ثمانية عند كل الأمم هو تشبيه لا يؤدي؛ لأن حقائق الرياضة بينة، على خلاف المطلوبات بالعقل والمذكورات باللفظ، على أننا إذا كنا نعني بالمعقولات تلك المعاني التي يوصل إليها باللغة الجامعة للأسماء والأفعال والحروف، فقد لزمت الحاجة إلى معرفة اللغة، فكيف تدرس منطق اليونان دون لغتهم؟ فضلا عن أننا ننقل المنطق اليوناني عن اللغة السريانية، والمعاني إنما يصيبها التحول عند الترجمة من لغة إلى لغة؟

هنا يقول أبو بشر متى: إن الترجمة عن اليونانية تكفينا في هذا الصدد، ويعود أبو سعيد إلى الرد قائلا: افرض أن الترجمة تكفينا في ذلك، فهل اختص اليونان دون سواهم بالعقل؟ أليس العلم مقسما بين الأمم؟ أليس اليونان كغيرهم من الناس يصيبون ويخطئون؟ ومع ذلك، فليس واضع المنطق أمة بأسرها، بل هو راجل واحد، هذا إلى أن منطقه لم يغير من العالم شيئا؛ لأن الأمر مرهون بالفطرة، وحال الناس من حيث الفطرة هي بعد ظهور المنطق كما كانت قبل ظهوره، إننا نعلم أن عقول الناس متفاوتة، فكيف تزعم أن في وسع المنطق أن يسوي بينها جميعا؟

ويسأل أبو سعيد مناظره فيقول: هل في وسع المنطق الأرسطي أن يدلنا على معاني حرف الواو في اللغة العربية؟ فقال له متى: هذا نحو وليس هو من شأن المنطق، فأجابه أبو سعيد بأن المنطق هو نحو، والنحو هو منطق، فإذا كانت المعاني مشاعا بين الأمم ، فلا تكون يونانية ولا هندية، وإنما يكون اختلاف في اللغة التي يعبر بها كل قوم عن تلك المعاني، كانت دراسة اللغة لا مندوحة عنها. ويضرب أبو سعيد مثلا بالحرف في اللغة العربية: الواو، والياء، وحرف «في»؛ فلكل منها أحكام تقضي بها اللغة العربية وليست هي نتاجا للعقل اليوناني، مما يبين أنه لا بد للمنطقي من دراسة اللغة التي بها يكون التفكير، فالنحو يمس المعاني ولا يقتصر أمره على اللفظ، إنه بغير مادة الفكرة لا يوصل إلى حل لأي مشكلة، فالمنطق في صوريته المجردة لا يرفع خلافا بين متناظرين، ولا يؤدي بصاحبه إلى معتقدات بعينها. وخلاصة القول عند أبي سعيد السيرافي أن دراسة المنطق بغير دراسة اللغة العربية لا تجدي نفعا.

وبعد الفراغ من ذكر هذه المناقشة الفلسفية، انتقل الحديث في تلك الليلة الثامنة إلى وصف لشخصية أبي سعيد السيرافي وإلى آخرين غيره كأبي علي النحوي، وطائفة من الشعراء، ثم يتناول الحديث مسكويه وابن نباتة وغيرهما، فكأنما هي سجل حافل لحركة علمية ثقافية واسعة المدى.

وفي الليلة التاسعة أوصاف دقيقة لصنوف الحيوان وما تتميز به، وكيف أن صفات الحيوان موجود مثلها في الإنسان؛ إذ في الإنسان وحده تتجمع صفات الحيوانات كلها، فهو - إذن - مختلف عنها، لا بالنوع، ولكن بكثرة ما فيه من صفات تجمعت فيه وتفرقت في الحيوان؛ فللسبع والفأرة صفة الكمون، وللذئب صفة الثبات، وللخنزير صفة الحذر، وهكذا، انظر مثلا إلى الصفات التي لا بد من توافرها في القائد، تجدها كلها مما يتصف به الحيوان أيضا: «ينبغي للقائد العظيم أن يكون فيه عشر خصال من ضروب الحيوان؛ سخاء الديك، وتحنن الدجاجة، ونجدة الأسد، وحملة الخنزير، وروغان الثعلب، وصبر الكلب، وحراسة الكركي، وحذر الغراب، وغارة الذئب، وسمن «بعروا»، وهي دابة بخراسان تسمن على التعب والشقاء.»

نعم إن من أهم ما يفرق بين الحيوان والإنسان أن الأول يعمل مدفوعا بإلهام (= غريزة) على حين أن الثاني يعمل بعد اختيار إرادي منه، لكن للإنسان من إلهام الحيوان نصيبا، كما أن للحيوان من اختيار الإنسان نصيبا.

وذكر أبو حيان أن للإنسان أنفسا ثلاثا: النفس الناطقة، والنفس الغضبية، والنفس الشهوانية، وأن لكل نفس منها أخلاقها، فمن خصال النفس الناطقة أن تبحث عن حقيقة الإنسان والكون والله، وكذلك من وظائفها أن تضبط نوازع النفسين الأخريين. وبعد ذلك أخذ أبو حيان يتناول الفضائل وأضدادها واحدة واحدة؛ ليحدد مقوماتها وعناصرها، فما الحسن وما القبيح؟ ما الصواب وما الخطأ؟ ما الخير وما الشر؟ ما العدل وما الجور؟ ما الشجاعة وما الجبن ... إلخ.

ويختم أبو حيان القول في الأخلاق بأن يصنف الناس من حيث أخلاقهم بحسب أمزجتهم، فإذا غلبت الحرارة على الإنسان كان شجاعا بذالا ملتهبا سريع الحركة والغضب قليل الحقد ذكي الخاطر حسن الإدراك، وإذا غلبت عليه البرودة كان بليدا غليظ الطباع ثقيل الروح، وإذا غلبت عليه الرطوبة كان لين الجانب سمح النفس سهل التقبل كثير النسيان، وإذا غلبت عليه اليبوسة كان صابرا ثابت الرأي.

ومما هو جدير بالذكر عن هذه الليلة أن أبا حيان يذكر فيها أنه قد أضاف من عنده عند الكتابة ما لم يرد في غضون الحديث، وذلك استكمالا للموضوع.

وفي الليلتين العاشرة والحادية عشرة قرئ بحث عن خصائص الحيوان، منها ما هو فسيولوجي ومنها ما هو متصل بالطباع.

وفي الليلة الثالثة عشرة [هكذا أوردها ناشرا الكتاب: أحمد أمين وأحمد الزين، ثم تتابع الخطأ إلى آخر الكتاب، وكان الصواب أن يجعلوها الليلة الثانية عشرة] قرئ بحث فلسفي عن النفس، فهي تعمل بغير عضو خاص من أعضاء البدن؛ ولذلك فهي لا تفسد بفساد البدن؛ هي جوهر لا مادي، وغير قابل للمقاييس الكمية، ثم ينتقل الحديث إلى الحركة، فهي إما من داخل، وعندئذ تكون إما حركة داخلية متواصلة، وإما حركة داخلية تسكن أحيانا، أو من خارج، وعندئذ تكون إما حركة بالدفع من خلف أو بالجر من أمام، وحركة الجسم الإنساني إنما تكون بفعل نفسي، وإذن فالنفس حية، وهي جوهر قابل لأن تطرأ عليه الأضداد دون أن يتغير هو في جوهريته، وقوام النفس بذاتها لا بكونها حالة في بدن، ومن الفوارق بين الجسم والنفس أن الجسم لا يقبل صورة إلا إذا زالت عنه الصورة التي كانت حالة فيه؛ لأن الضدين لا يجتمعان فيه، أما النفس فتقبل الصور الأضداد دفعة واحدة.

أما الليلة الرابعة عشرة فتبدأ بمعنى السكينة وأنواعها، فهناك سكينة طبيعية وأخرى نفسية وثالثة عقلية ورابعة إلهية، أما الطبيعة فهي اعتدال المزاج في العناصر الطبيعية، وأما النفسية فهي ما نسميه بالروية حين تأتي مماثلة لحكم البديهة، والسكينة العقلية هي في التئام الخواطر والأفكار، وأما السكينة الإلهية «فلا عبارة عنها على التحديد؛ لأنها كالحلم في الانتباه، وكالإشارة في الحلم، وليست حلما ولا انتباها في الحقيقة» أي إنها سكينة روحانية.

وبعد ذلك ينتقل الحديث إلى ما تشترك فيه الأمم وما تختلف فيه من صفات وخصائص، فكلها مشترك في الفطرة الواحدة، وتأتي بعد ذلك أوجه الاختلاف، فاليونان يميزهم الفكر، والهند يميزهم الوهم (أي الخيال) والعرب ميزتهم الفصاحة، والفرس السياسة، والترك الشجاعة.

وفي الليلة الخامسة عشرة حديث فلسفي عن «الممكن» و«الواجب» و«الممتنع» (وهي درجات من الصدق، فالممكن حالة يحتمل فيها القول أن يكون صادقا أو أن يكون كاذبا، والواجب حالة يتحتم فيها أن يكون القول صادقا بالضرورة التي لا تقبل احتمالا، والممتنع حالة يكون فيها صدق القول مستحيلا).

ثم ينتقل الحديث بعد ذلك إلى نقطة فلسفية أخرى، هي التفرقة بين العقل والحس؛ فالأول ثابت، والثاني متغير، ومما قاله في ذلك أن العقل يوصف بشهادة الحس، وكذلك الحس يوصف بشهادة العقل، «إلا أن شهادة الحس للعقل شهادة العبد للمولى، وشهادة العقل للحس شهادة المولى للعبد»، و«العقل يحكم في الأشياء الروحانية البسيطة الشريفة من جهة الصور الرفيعة» بالقياس إلى الحواس التي تتعلق بالفاسدات البائدات المتغيرات ... وبعد ذلك انتقل الحديث إلى مسائل لغوية.

وفي الليلة السادسة عشرة حديث عن الجبر والقدر، تعليقا على كتاب العامري المعنون «إنقاذ البشر من الجبر والقدر».

وبهذه الليلة ينتهي الجزء الأول من كتاب الإمتاع والمؤانسة، ويبدأ الجزء الثاني بالليلة السابعة عشرة، وهي الليلة التي ورد فيها ذكر إخوان الصفا ، ويقال إن هذا هو النص الوحيد الذي كشف لنا عن أفراد هذه الجماعة التي ألفت «رسائل إخوان الصفا» المشهورة، والتي عرضناها في الفقرات السابقة من هذا الفصل، ثم نقل عنه القفطي، وعن القفطي نقل سائر من كتبوا عن «الإخوان»؛ يقول التوحيدي عنهم: «وكانت هذه العصابة قد تآلفت بالعشرة، وتصافت بالصداقة، واجتمعت على القدس والطهارة والنصيحة، فوضعوا بينهم مذهبا زعموا أنهم قربوا به الطريق إلى الفوز برضوان الله والمصير إلى جنته؛ وذلك أنهم قالوا: الشريعة قد دنست بالجهالات، واختلطت بالضلالات، ولا سبيل إلى غسلها وتطهيرها إلا بالفلسفة ... وزعموا أنه متى انتظمت الفلسفة اليونانية والشريعة العربية فقد حصل الكمال، وصنفوا خمسين رسالة في جميع أجزاء الفلسفة، علميها وعمليها، وأفردوا لها فهرستا وسموها رسائل إخوان الصفا وخلان الوفاء، وكتموا أسماءهم ...»

وعقب التوحيدي على ذلك بذكر بعض الآراء في تلك الرسائل، ومنها ما يدحض قولهم في أن الشريعة من الفلسفة؛ لأن الشريعة وحي إلهي، نسلم بها ولا نعللها، وهي لا تخضع للمقادير، ولا تشبه العلم الطبيعي ولا علم الهندسة، ولا تحتاج إلى المنطق، وعند اختلاف على شيء في العقيدة لا نلجأ إلى العلم، فأين الدين من الفلسفة؟ وأين الشيء المأخوذ بالوحي النازل، من الشيء المأخوذ بالرأي الزائل؟ والعقل وحده لا يكفي ولا بد معه من وحي ينزل على نبي، والنبي فوق الفيلسوف.

ثم يورد أبو حيان رد المقدسي على هذا كله؛ «فالشريعة طب المرضى والفلسفة طب الأصحاء»، ثم رد الحريري على المقدسي في مقارنة الشريعة بالفلسفة، ويورد كذلك رأي أبي سليمان المنطقي القائل بأن الشريعة والفلسفة كلتيهما حق، دون أن تكون إحداهما مأخوذة من الأخرى، وقد تجتمع الشريعة والفلسفة في رجل واحد، وقد تظهر كل منهما على حدة ...

ونقفز من الليلة السابعة عشرة، التي أجملنا حديثها، إلى الليلة الثانية والعشرين، التي دار الحديث فيها حول موضوع فلسفي عويص، هو موضوع الجزئي والكلي وإدراكهما والعلاقة بينهما، ومن أبرع ما قاله أبو حيان في ذلك - نقلا عن أبي الحسن العامري - «الكل مفتقر إلى الجزئي، لا لأن يصير بديمومته محفوظا، بل لأن يصير بتوسطه موجودا، والجزئي مفتقر إلى الكلي، لا لأن يصير بتوسطه موجودا، بل لأن يصير بديمومته محفوظا (أي إن الكلي بحاجة إلى الجزئي ليتجسد فيه وجودا فعليا، والجزئي بحاجة إلى الكلي ليدوم).

ومما قاله في الكلي والجزئي أيضا أن «ما هو أكثر تركيبا فالحس أقوى على إثباته، وما هو أقل تركيبا فالعقل أخلص إلى ذاته.»

وفي هذه الليلة أيضا حديث عن مشكلة الواحد والكثير، وهي مشكلة معروفة في الفلسفة، وذات علاقة بالكلي والجزئي، وفيها أيضا حديث عن أنواع الخطاب؛ خطاب العاقل للعاقل، وخطاب العاقل للأحمق، وحديث عن «العادة»، وحديث عن الفقر بمعناه الصحيح، فليس الفقر في قلة المال ، بل هو في كثرة الشهوات وإن كثر المال.

ونقفز لنصل إلى الليلة الخامسة والعشرين، التي دار حديثها عن الموازنة بين النظم والنثر، فبعد مقدمة طريفة عن كون الحديث في موضوع النظم والنثر كلاما على كلام: «والكلام على الكلام صعب ... لأنه يدور على نفسه، ويلتبس بعضه ببعضه؛ ولهذا شق النحو وما أشبه النحو من المنطق، وكذلك النثر والشعر»، ثم رويت آراء تحبذ النثر وتفضله على الشعر؛ فالنثر أصل والنظم فرعه، والكتب المنزلة منثورة، والوحدة أظهر من النثر منها في الشعر، والنثر طبيعي والشعر صناعي، وترتيب الكلام في النثر لا يحتاج إلى تكلف، والنثر من قبل العقل، ونجوم السماء منثورة، والأحاديث النبوية نثر.

وبعد ذلك رويت آراء في تفضيل الشعر، فله صناعة تقتصر على القلة، أما النثر ففي وسع الجميع، والنظم صالح للغناء والحداء، وشواهد النحو واللغة لا توجد إلا في الشعر، والشعراء هم الذين ظفروا بجوائز الخلفاء، ثم تختم المحاورة برأي معتدل، فلكل من النثر والنظم فضائله، ولكل منهما بلاغة.

أظن أن هذه الخلاصة لكتاب أبي حيان التوحيدي «الإمتاع والمؤانسة» كافية لترسم لنا صورة عن أحاديث «العقلاء» في جلسات السمر، على أي شيء تدور، وبأي درجة من العمق، وما الذي كان يستوقف انتباههم ويثير اهتمامهم، وواضح مما قدمناه أن تلك العلية المثقفة كانت قد شربت من المنقول عن اليونان حتى ارتوت، موضوعا ومنهجا.

فلنمض في رحلتنا إلى مشهد آخر.

35

سنختار لوقفتنا هذه رجلا من فلاسفة اللغة، نكاد ألا نجد له ضريبا في عقلانية النظر إلى موضوع - هو موضوع اللغة - لم يشهد تراثنا الفكري موضوعا آخر ينافسه في مدى ما ظفر به من اهتمام المفكرين، اللهم إلا استثناء واحدا - ربما - هو الدين، لكن هذا الرجل - وأعني به عثمان بن جني - قد استطاع أن يعلو برأسه فوق كثرة الرءوس؛ لأنه لم يقف عند السطح الظاهر من الموضوع، بل حاول الغوص إلى جذوره ومبادئه، وإن أمره ليزيد عجبا، حين نعلم أنه من أصل يوناني، فلا يسعنا إلا أن نسأل: وكيف استطاع؟ لكن الاهتمام والعناية والدرس تفعل الأعاجيب، وقد عاش ابن جني على طول القرن العاشر الميلادي كله تقريبا (912-1002م).

ها هو ذا كتابه «الخصائص» - أي خصائص اللغة العربية - بأجزائه الثلاثة، فلا نكاد ندير غلاف الجزء الأول، حتى يفجأنا بما يستوقف أنظارنا، ويشدنا شدا إلى متابعته في دقة تحليلاته، حتى ولو لم نكن أساسا من رجال هذا الميدان من ميادين البحث، ولعل ما يشدنا إليه هو قبس نلمحه منذ السطر الأول، يدل على حدة الذهن وشمول النظر، فلئن فاتنا أن نتابعه لأهمية الموضوع، فسوف نتابعه لدقة المنهج.

يبدأ حديثه بالتفرقة بين «الكلام» و«القول»، فيأخذ في تحليل كل من اللفظتين إلى أحرفها، ثم يأخذ في تقليب هذه الأحرف لتأخذ جميع الأوضاع الممكنة، حتى إذا ما أدرك معنى ضاربا في تلك الأوضاع جميعا، كان هذا المعنى هو اللب العميق الذي تنطوي عليه اللفظة، فالأحرف التي منها «القول» هي: ق و ل، ومن هذه الأحرف الثلاثة تستطيع أن تخرج ستة تراكيب كلها واردة في اللغة، وفيها جميعا تدل الكلمة بأحرفها الثلاثة هذه «أين وجدت، وكيف وقعت، من تقدم بعض حروفها على بعض، وتأخره عنه» على الخفوف والحركة، ففي الوضع الأول، الذي هو: «قول» يكون المشار إليه باللفظ هو الفم واللسان حين يخفان بالحركة؛ ولذلك فهو ضد السكوت الذي هو داعية إلى السكون، ومن ثم فلا يكون الحرف المبدوء به إلا متحركا؛ لأنه شروع في «القول» - أي في حركة الفم واللسان - كما لا يكون الحرف الموقوف عليه إلا ساكنا؛ لأن الانتهاء من القول هو أخذ في السكوت ... وبعد ذلك يتتبع المؤلف الأوضاع الخمسة الأخرى لهذه الحروف الثلاثة؛ ليبين أن معانيها دائما موصولة بالحركة.

وأما مادة «ك ل م» - التي منها الكلام - فحيث تقلبت حروفها فمعناها الدلالة على القوة والشدة، فلا عجب أن يجيء منها كلمة «كلم» (بسكون اللام) للجرح؛ لما يعنيه الجرح من شدة، فالمسافة قريبة بين جرح اللسان وجرح اليد: «جرح اللسان كجرح اليد» كما قيل.

فنخلص من هاتين المقدمتين (أعني المقدمة التي نحلل بها كلمة «قول» والأخرى التي نحلل بها «كلم») إلى نتائج في أسس اللغة، بل وفي أسس المنطق العقلي ذاته، منها أن يكون شرط الكلام أن يستقل بنفسه وأن يجيء مفيدا لمعناه، وهو ما يسميه النحويون «جملة»، أما القول فلا يشترط فيه هذا الاكتمال في البناء، فكل ما تحرك به اللسان هو قول، تاما كان أو ناقصا، وبهذا يكون كل كلام قولا، وليس كل قول كلاما، ولما كان «القول» غير مشروط بصورة محددة معينة، اتسع معناه ليدل على الاعتقادات والآراء، كأن تحكي عن فلان بأنه يقول بقول أبي حنيفة، وإنه لمما يدل على الفرق بين «القول» و«الكلام» إجماع الناس على أن يقولوا: القرآن كلام الله، ولا يقال عن القرآن: قول الله؛ وذلك لأنك حين تأخذ بقول معين، فليس شرطا أن تلتزم بحروف الأصل، بل يكفي أن تأخذ الرأي أو تأخذ الرأي أو الفكرة والمحتوى، ولما كان القرآن ثابتا على صورة لفظية معينة، لم يعد جائزا أن يقول القائلون: لقد أخذنا بقول القرآن ... ولست أدري بماذا كان يجيب ابن جني إذا سألناه: ألسنا نقول: قال الله تعالى كذا وكذا؟

وما دام الشرط في «الكلام» أن يكون تام المعنى، لم يكن الحرف الواحد، بل ولا الكلمة الواحدة كلاما؛ فالكلمة الواحدة لا تتملك قلب السامع، وهل يمكن لسامع أن يستعذب قولا حين لا يكون القائل قد نطق إلا بحرف واحد أو بكلمة واحدة؟ بل إن الحرف الواحد لا وجود له في النطق، فحاول أن تنطق بحرف واحد وهو في حالة سكون؛ إنك عندئذ ستضطر اضطرارا إلى إضافة حرف الألف إليه ليمكنك النطق به، وكذلك إن كان الحرف متحركا وأردت الابتداء به والوقوف عليه، فلا بد لك عندئذ أن تنطق بالحرف مقرونا بحركة، وإلا استحال عليك النطق به.

وتمضي مع المؤلف أربعين صفحة ليوقفك أمام سؤال طالما طرح من قبل ومن بعد، وهو عن اللغة؛ أهي إلهام أم اصطلاح؟ أو بعبارة أخرى كثيرا ما يستخدمها الباحثون العرب في هذا المجال: أهي توقيف أم تواضع؟ والمعنى المقصود بالسؤال هو ما إذا كانت اللغة كلها رموزا اصطلح على استخدامها مجموعة الناس، وكان في مستطاعهم أن يصطلحوا على سواها، أم هي هكذا أوحي بها إلى الناس ولم يكن لهم قبل بتغييرها؟ ولطالما عجب كاتب هذه الصفحات من سؤال كهذا يطرح للبحث، والأمر فيما يرى أوضح من أن يكون موضعا لسؤال، وأقل ما يقال في هذا الصدد هو أن اختلاف اللغات باختلاف الشعوب، ثم الطريقة التي تتطور بها نتيجة لاختلاط هذه الشعوب بعضها ببعض، أمران يحسمان الأمر حسما لا سبيل إلى تردد فيه.

لكن السؤال قد طرح مرارا، ومرارا أجاب المجيبون بأن اللغة إلهام من الله، وليست من صنعة الإنسان، ولعل أصحاب هذا الجواب كانوا على حيطة فيه؛ خشية أن يؤدي القول باصطلاحية اللغة إلى شكوك تحيط بلغة القرآن وصدورها عن الله، والحمد لله؛ فإن ابن جنى لم يكن من هؤلاء، بل قرر في وثوق باصطلاحية اللغة؛ يقول: «... أكثر أهل النظر على أن أصل اللغة إنما هو تواضع واصطلاح، لا وحي وتوقيف، إلا أن أبا علي - رحمه الله - قال لي يوما: هي من عند الله، واحتج بقوله سبحانه:

وعلم آدم الأسماء كلها ، وهذا لا يتناول موضع الخلاف؛ وذلك أنه قد يجوز أن يكون تأويله: أقدر آدم على أن واضع عليها، وهذا المعنى من عند الله سبحانه لا محالة ، فإذا كان ذلك محتملا غير مستنكر سقط الاستدلال به» (ج1، ص40-41). «فإن قيل: فاللغة فيها أسماء وأفعال وحروف، وليس يجوز أن يكون المعلم من ذلك الأسماء دون غيرها مما ليس بأسماء، فكيف خص الأسماء وحدها؟ - قيل: اعتمد ذلك من حيث كانت الأسماء أقوى القبل الثلاثة، ولا بد لكل كلام مفيد من الاسم، وقد تستغني الجملة المستقلة عن كل واحد من الحرف والفعل، فلما كانت الأسماء من القوة والأولية في النفس والرتبة - على ما لا خفاء به - جاز أن يكتفى بها مما هو تال لها، ومحمول في الحاجة إليه عليها» (نفس الموضع السابق ذكره، وكذلك انظر في ذلك ج2، ص30).

وليس يمكن فيما أعتقد أن يكون الأمر على غير هذا الذي ذهب إليه ابن جني، لا من حيث اللغة العربية وحدها، بل من حيث اللغة على إطلاقها؛ فالإنسان إنما يستيقظ وعيه أول ما يستيقظ - في العالم المحيط به - على «أشياء»، ومهما بلغت بنا درجة اليقين من أن «الأشياء» حين تقع في مجال الخبرة الإنسانية، فإنما تقع وهي ذوات علاقات وأفعال تؤثر بها أو تتأثر، ومن ثم يكون وعي الإنسان الأول بالأشياء المحيطة به، والداخلة في مجال إدراكه وخبرته، وعيا في الوقت نفسه بعلاقات الشيء المعين بسواه، وبما يمكن أن يحدثه ذلك الشيء من أثر في حياتنا، ومن إدراك العلاقات تكون الحروف في اللغة، ومن الأثر الحادث تكون الأفعال في اللغة. أقول: إننا مهما بلغت بنا درجة اليقين في صدق هذا القول، فذلك لا ينفي - بل يؤكد - أن الأولوية المنطقية ما زالت للأشياء، ومن ثم فهي للأسماء، ولك أن تلحظ الطفل في أول علاقته بلقط الألفاظ الدالة من ذويه، فسوف تراه يبدأ - ويظل كذلك فترة - بلقط أسماء الأشياء التي تصادفه أو يصادفها، فهو يعرف لفظة «كرسي» قبل أن يتعلم الفعل «يجلس» أو الحرف «على».

ونسير مع المؤلف بضع صفحات بعد ذلك، لنقف عنده على سؤال آخر، كانت إجابته عليه إجابة تقع في صميم الصميم من موضوع كتابنا هذا، الذي أردنا به أن نتعقب بعض المعالم البارزة على طريق «العقل» في تراثنا الفكري، وأما السؤال فهو عن اللغة العربية: أكلامية هي أم فقهية، والمقصود من ذلك هو: هل تخضع قواعد النحو العربي للتعليل العقلي، وبذلك تكون اللغة كلامية الطابع، أو هي تستعصي على التعليل العقلي لكونها سماعية تقليدية، وعندئذ تكون فقهية الطابع؟ فمن الفروق بين علماء الكلام والفقهاء، هو أن الأولين يبحثون عن تفسيرات عقلية لأصول العقيدة، وأما الآخرون فلا تعليل عندهم لأحكام الشريعة؛ إذ لا ندري لماذا كانت صلاة العصر أربع ركعات وصلاة المغرب ثلاثا، فهكذا أمرنا أن نفعل، أما علم الكلام فغير ذلك، فلو قيل لنا مثلا: إن الله أحد صمد كان علينا أن نبين استحالة أن يكون كثيرا وفانيا.

يقول ابن جني جوابا على السؤال المذكور، بالنسبة إلى اللغة العربية: «اعلم أن علل النحويين ... أقرب إلى علل المتكلمين منها إلى علل المتفقهين» (ج1، ص48)، فإذا وجدنا العرب يرفعون الفاعل وينصبون المفعول، كان علينا أن نبحث: لماذا كان الأمر هكذا؟ ولا يجوز أن نكتفي بذكر القاعدة النحوية قائلين: هكذا سمعنا العرب يتكلمون ولا تعليل، ولست أرى كيف يمكن أن تبلغ العقلانية بقوم مبلغا يجاوز هذا الهدف الذي استهدفه ابن جنى، فما كان أيسر أن يقال عن اللغة وقواعدها: إنها منقولة هكذا ولدا عن والد، وما علينا إلا أن نستخلص القواعد من حالات الاستعمال الفعلي للغة عند أصحابها الأولين الذين خلقوها، ثم ما أعسر أن نتعقب هذا المسموع المنقول إلى علله العقلية التي تبرر وجوده على نحو معين دون سواه؟ إن طائفة من الفلاسفة المعاصرين لنا اليوم - ومنهم برتراند رسل - يعتقدون أن طرائق تركيب اللغة المعينة، تكشف لنا عن اعتقادهم الميتافيزيقي، أنها تكشف عن تصورهم للطريقة التي ركب بها العالم، فليس المعول هنا على الأسماء المفردة التي يستخدمها شعب معين في لغتهم؛ لأن الأسماء وبقية المفردات اللغوية متغيرات لا تدوم حتما، وكثيرا ما يصيبها التغير على مر الزمن وتغير الحضارة، وأما الذي نعول عليه فهو طريقة «تركيب» الجملة، ومثل هذا الإطار الصوري هو الذي قلما يصيبه التغير مهما امتد الزمان، وأحسب أن ابن جني حين أراد التعليل العقلي لقواعد اللغة، فإنما أراد طرائق التركيب، وإذا كان ذلك كذلك، فهو بهذا التعليل يقدم لنا نافذة نطل منها على عقيدة العربي في تركيب العالم الخارجي.

فلماذا كانت قاعدة العربي في الكلام أن يرفع الفاعل وأن ينصب المفعول؟ لماذا لم يصطلح المتكلمون بالعربية على عكس ذلك؟ هنا لم يقل ابن جني: هكذا جرى الأمر ولا تعليل، بل هو يحاول التعليل، فيقول: «... الذي فعلوه أحزم؛ وذلك أن الفعل لا يكون له أكثر من فاعل واحد، وقد يكون له مفعولات كثيرة، فرفع الفاعل لقلته، ونصب المفعول لكثرته؛ وذلك ليقل في كلامهم ما يستثقلون، ويكثر في كلامهم ما يستخفون» (ج1، ص49). وتصور ابن جني سائلا يسأل: أليس في اللغة أشياء كثيرة لا نستطيع تعليلها على هذا النحو؟ فيجيب ابن جني: «... لسنا ندعي أن علل أهل العربية في سمت العلل الكلامية البتة، بل ندعي أنها أقرب إليها من العلل الفقهية» (ص53). وهو في هذا الموقف ذو منهج علمي دقيق؛ لأنه إذا كان بعض أوضاع اللغة ممكن التعليل دون بعض، فلا بأس من تعليل ما يمكن تعليله، ثم تعليق ما لا يمكن تعليله حتى تعرف العلة؛ إذ لا يجوز أن نهمل الممكن من أجل غير الممكن.

لقد قضت على ابن جني نظرته العقلية المنطقية الخالصة إلى اللغة، أن يتصور الاشتقاق على كل ما يمكن تخريجه منطقيا من الأصل، بغض النظر عما سمع من تلك الصور الممكنة وما لم يسمع، فليست العبرة بما استعمله العرب فعلا من مشتقات، بل العبرة بما يمكن أن يستعملوه، ليس المعول على ما قد وقع بالفعل، بل المعول على ما يمكن أن يقع، هذه هي النظرة المنطقية الخالصة إلى الأمور، وإن شئت فقل: هذه هي النظرة الرياضية المحض؛ إذ ما الفرق بين التصور المنطقي أو الرياضي وبين التصوير للواقع الفعلي؟ الفرق هو هذا؛ في الحالة الأولى ترسم إطارا للممكن، وفي الحالة الثانية تتقيد بالواقع، ولا ينبغي أن يفوتك هنا أن الأمر الواقع هو حالة واحدة من حالات كثيرة كانت ممكنة الحدوث، خذ هذا المثل للتوضيح: افرض أن معك كتابين، أحدهما أخضر الغلاف والآخر أسوده، وافرض كذلك أنك قد وضعتهما أمامك بحيث يكون الأخضر فوق الأسود، فهذه هي الحالة الواقعة لهما، لكن الحالات الممكنة منطقيا أو رياضيا أكثر من ذلك؛ فقد كان يمكن للأسود أن يكون هو الأعلى، وكان يمكن أن يتجاورا، وعندئذ يكون للتجاور عشرات الصور الممكنة - ولنعد بعد ذلك إلى ابن جني في نظرته إلى اللغة نظرة عقلية رياضية (ولنذكر أن مثل هذه النظرة العقلية إلى اللغة وإلى النحو كانت تيارا متصلا عند الأقدمين، يسايره تيار آخر يجعل معوله على الاستعمال الفعلي لا على مجرد الإمكان العقلي، ولقد سبق لنا أن ذكرنا ذلك عند حديثنا عن الخليل وسيبويه من أعلام البصرة في القرن الثامن الميلادي (وقد كان يساير تيار البصرة العقلي ذاك تيار يأخذ بتقليد المسموع وكان مقره الكوفة))؛ أقول: لنعد بعد ذلك إلى ابن جني ونظرته العقلية إلى اللغة، فهو ينظر إلى الصور الممكنة، فإذا سأله سائل: وما السر في أن أهمل العرب استخدام بعض هذه الصور واكتفوا ببعض؟ أجاب: أكثر المتروك متروك لاستثقال نطقه، لا لاستحالة استعماله، فمن ذلك - مثلا - ما رفضوا استعماله لتقارب حروفه مثل «ظث» (ج1، ص54).

ولكننا ونحن نعرض النظرة العقلية لابن جني، لا يسعنا إلا أن نقف في شيء من الحيرة، عندما نجده في موضع من كتابه يقول: إنه إذا تعارض القياس العقلي مع ما جاء عليه المسموع وجب الأخذ بالمسموع؛ لأنها «لغتهم» شريطة ألا تقيس على الشاذ المسموع بعد ذلك - لكنها حيرة سرعان ما تزول، ما دمنا ننتبه جيدا إلى هذا الشرط الأخير، وهو ألا نقيس على المسموع إذا كان خارجا على ما يقتضيه القياس، وبهذا نجمع إلى احترام العقل احترام ما قد جرى به الاستعمال عند أصحاب اللغة الأولين؛ يقول في هذا المعنى: «إذا تعارض السماع والقياس نطقت بالمسموع على ما جاء عليه، ولم تقسه في غيره ...» (ج1، ص117). وفي موضع آخر يقول: «واعلم أنك إذا أداك القياس إلى شيء ما، ثم سمعت العرب قد نطقت فيه بشيء آخر على قياس غيره، فدع ما كنت عليه إلى ما هم عليه، فإن سمعت من آخر مثل ما أجزته، فأنت فيه مخير، تستعمل أيهما شئت» (ج1، ص125).

ويلقي ابن جني على نفسه سؤالا ليحاول الإجابة عليه إجابة على أساس المنطق العقلي: لماذا يكثر الأصل الثلاثي في اللغة العربية؟ فيجيب: «... إن الأصول ثلاثة: ثلاثي، ورباعي، وخماسي، فأكثرها استعمالا وأعدلها تركيبا الثلاثي؛ وذلك لأنه حرف يبتدأ به وحرف يحشى به، وحرف يوقف عليه، وليس اعتدال الثلاثي لقلة حروفه حسب، لو كان كذلك لكان الثنائي أكثر منه؛ لأنه أقل حروفا، وليس الأمر كذلك ... وأقل منه [أي من الثنائي] ما جاء على حرف واحد ... فتمكن الثلاثي إنما هو لقلة حروفه - لعمري - ولشيء آخر، وهو حجز الحشو، الذي هو عينه، بين فائه ولامه، وذلك لتباينهما، ولتعادي حاليهما، ألا ترى أن المبتدأ لا يكون إلا متحركا، وأن الموقوف عليه لا يكون إلا ساكنا؟ فلما تنافرت حالاهما وسطوا العين حاجزا بينهما، لئلا يفجئوا الحس بضد ما كان آخذا فيه ومنصبا إليه» (ج1، ص55-56).

ثم يستدرك ابن جني على ما قد يعترض به من أن الحشو إذا كان متحركا، كانت النقلة منه إلى اللام الساكنة فيها نقلة من الحركة إلى السكون أو كانت ساكنة، كانت النقلة من الفاء إليها فيها نقلة من الحركة إلى السكون كذلك، فيقول - ردا على مثل هذا الاعتراض لو وجه إليه: إذا كانت العين متحركة، أحدثت الحركتان [أي حركة الفاء والعين] مللا يهيئ النفس لقبول السكون بعد ذلك، وإذا كانت العين ساكنة، فانتقالك منها سيخفف السكون ولا يجعله كسكون الوقف» (ص57).

ويتابع ابن جني حديثه عن الثلاثي ولماذا كان أكثر الأصول استعمالا، فيلحظ لنا أنه أخف من الرباعي ومن الخماسي، فبينما الثلاثي يتركب منه ستة أصول، ترى الرباعي يتركب منه أربعة وعشرون أصلا يكثر فيها المهمل، والخماسي يتركب منه مائة وعشرون أصلا، لا يستعمل منها إلا القليل.

ومما يدل على أن مدار الاستعمال أو الإهمال ليس هو ما يجوز عقلا وما لا يجوز، بل هو ما يستثقله العربي عند النطق وما يستخفه، أقول: إنه مما يدل على ذلك أنك لا تجد في الثنائي - على قلة حروفه - ما أوله مضموم إلا القليل (فاذكر أن الفتحة أخف نطقا على العربي من الضمة، ومثل الضمة في الثقل الواو)، وإنما عامة الثنائي على الفتح، نحو: هل، بل، عن، كم ... (ص69).

وكذلك قل عن جميع ما جاء من الكلم على حرف واحد؛ عامته على الفتح إلا الأقل، وذلك نحو همزة الاستفهام، واو العطف، فاء العطف، لام الابتداء، كاف التشبيه ... إلخ (ص71).

36

ويطرق ابن جني موضوعا آخر، هو الإيجاز والإطالة، أيهما أقرب إلى الطبع العربي، وفي ذلك يروي عن أبي عمرو أنه سئل : «أكانت العرب تطيل؟» فقال: «نعم، لتبلغ.» قيل: «أفكانت توجز؟» قال: «نعم، ليحفظ عنها، واعلم أن العرب - مع ما ذكرنا - إلى الإيجاز أميل، ومن الإكثار أبعد» (ص83).

فبالرغم من أن مقتضى الحال قد يوجب الإطالة أحيانا، والإيجاز أحيانا أخرى، فإنه إذا تعادل العاملان، وترك العربي نفسه عندئذ على سجيتها، آثر الإيجاز؛ «إنهم إذا كانوا في حال إكثارهم وتوكيدهم مستوحشين منه، ... علم أنهم إلى الإيجاز أميل، وبه أعنى، وفيه أرغب، ألا ترى إلى ما في القرآن وفصيح الكلام من كثرة الحذوف؛ كحذف المضاف، وحذف الموصوف، والاكتفاء بالقليل من الكثير، كالواحد من الجماعة، وكالتلويح من التصريح؟ فهذا ونحوه - مما يطول إيراده وشرحه - مما يزيل الشك عنك في رغبتهم فيما خف وأوجز، عما طال وأمل» (ص86).

وهنا لا بد لنا من وقفة نتأمل فيها هذا الميل العربي الأصيل نحو الإيجاز في القول ونحو الإضمار بدل الإفصاح، فإذا أدركنا أن ذلك الموقف إنما يتضمن التعميم والتجريد، وعدم العناية - إلا بأقل قدر ممكن - بالتفصيلات الجزئية المتعينة بمكانها وزمانها، أو، بعبارة أخرى، عدم العناية أكثر مما يلزم بالأفراد والمفردات؛ لأنها زوائل عوابر، ولا يحسن الوقوف عندها إلا بمقدار ما نتكئ عليها للصعود نحو الأعم ونحو المجرد، أقول: إذا أدركنا ذلك كنا قد وضعنا أصابعنا على ركن ركين من وجهة النظر العربية الأصيلة، فالتفصيلات الجزئية - على أهميتها في الحياة العملية - هي رواسب على الأرض كالحجر والحصى، وأما الارتفاع عنها بالقول العام المجرد فهو أخذ في الطيران على جناحي العقل إلى السماء، وبعدئذ تكون الخطوة قصيرة نحو «المطلق»، نعم إننا في هذه التثنية التي تشطر العالم إلى ما هو أعلى وما هو أدنى، والتي قد تجد انعكاسها في قسمة الإنسان إلى روح وجسد، بحيث تكون للروح المكانة العليا الجديرة بالعناية والرياضة، ويكون للجسد المكانة الدنيا التي تستحق الزراية والإهمال والكبت. أقول: إننا في هذه التثنية التي تركل الأدنى بقدميها وتشرئب برأسها إلى الأعلى، نكشف عن جوهر فينا أصيل، محال علينا أن نرى عصرنا هذا من خلاله، فعصرنا هذا القائم على العلم وعلى الصناعة في الاقتصاد، وعلى الحرية والديمقراطية في الحكم، إنما يتعذر على أهله أن يصطنعوا وجهة نظر تغض النظر عن المفردات وعن الأفراد، فالمفردات الجزئية الواقعية هي الينبوع الذي تنبثق منه نظريات العلم وقوانينه، وهي الأرض التي تكون عليها تطبيقات الصناعة وضروب نشاطها، وكذلك الأفراد - أفراد الناس - هم الدعامة الأولى التي بغيرها يصبح الحديث عن الحرية وعن الديمقراطية في الحكم حديثا أجوف فارغا، فإذا كانت روح اللغة تهديك إلى فلسفة المتكلمين بها، ثم إذا كان الأغلب على العربي أن يطير عن أرض الوقائع الجزئية إلى حيث القول المجمل المحكم السريع، فهو في ذلك إنما يصدر عن فلسفة مركوزة في أعماق طبعه، وهي أن العبرة بالفكرة لا بالمفردات التي تجسدها، لا سيما إذا صيغت الفكرة في لفظ مصقول متين البناء، فعندئذ صح: إلى الجحيم بالدنيا وما فيها ومن فيها، من فقر هو في حقيقته «فقراء»، ومن مرض هو في واقعه «مرضى»، ومن ظلم هو على الأرض «ظالمون» و«مظلومون».

37

ونترك هذا لنمضي مع المؤلف وهو يطرح علينا قضية أخرى، ثم يقف منها موقفا عقليا لا يتسلل إليه ذرة من هوى، والقضية المطروحة لغوية، لكن المبدأ الكامن وراءها يصح أن يكون مبدأ لكل جانب آخر من جوانب الحياة الاجتماعية والسياسية، وهي: إجماع أهل العربية على شيء، متى يكون حجة؟

يجبب ابن جني قائلا: «اعلم أن إجماع أهل البلدين إنما يكون حجة إذا أعطاك خصمك يده ألا يخالف المنصوص والمقيس على المنصوص، فأما إن لم يعط يده بذلك، فلا يكون إجماعهم حجة عليه؛ وذلك أنه لم يرد ممن يطاع أمره في قرآن ولا سنة أنهم لا يجتمعون على الخطأ» (ج1، ص189).

ولكي نلقي شيئا من الضوء على هذا المبدأ الفكري العظيم، نقول: إن الصواب والخطأ - كائنا ما كان الموضوع الذي يوصف بأيهما - لا يكون لهما معنى إلا بالقياس إلى مرجع يرجع إليه خارج الحقيقة نفسها التي نصفها بالصواب أو بالخطأ، أي إن الجملة نفسها لا تحمل في ذاتها مقياسا، فأولا - حين تكون الجملة دالة على أمر من أمور العالم الخارجي، كأن تقول مثلا: إن ذرة الماء تتألف من ذرتين من الأيدروجين وذرة من الأوكسجين، فعلى أي أساس نقيم صوابها؟ إننا لا نقيمه بمجرد النظر إليها وإلى مفرداتها وإلى طريقة تركيبها، بل نقيمه بأن نجاوز حدودها إلى شيء سواها وهو عينة فعلية من الماء، نحللها في المخابير؛ لنستوثق أنها على هذا النحو ركبت، بل إن الجملة الرياضية نفسها، كقولنا «2 + 3 = 5»، وهي ضرب من القول نزعم له دائما أنه يحمل صدقه في طريقة بناء أجزائه، دون الرجوع إلى معدودات خارجية في الواقع الفعلي؛ وذلك لأنه يكفينا أن ننظر في شطري المعادلة لنعلم أن أحد الشطرين يقول ما قاله الشطر الآخر برغم اختلاف الرموز التي يستخدمها، وما دام الأمر كذلك، فكأننا نقول في هذه الحالة إن «س» هي «س»، وبذلك يتحتم الصدق، ولماذا يتحتم؟ لأنه قائم على مبدأ الهوية بين الشطرين، فهذا الشطر من المعادلة هو نفسه ذاك، أو هو قائم - من ناحية أخرى - على مبدأ عدم التناقض، فليس بين الشطرين قول ونقيضه، لكننا نلاحظ هنا أن حكمنا بصواب القول إنما استند إلى «مبدأ» ذي وجود عقلي يجاوز حدود المعادلة نفسها .

صفوة القول: إن المتجادلين في أي موضوع - من اللغة أو من غيرها - لا يسيران في الجدل على هدى، إلا إذا اتفقنا بادئ ذي بدء على «المرجع» الذي يرجع إليه عند الحكم بصواب أو بخطأ على قول يقوله أحدهما، فإذا اتفقا على هذا المرجع، وضح أمامهما سبيل الاتفاق، وإلا فكل منهما يسير على طريق غير طريق الآخر، فلا يلتقيان.

ونرجع إلى عبارة ابن جني عن قيمة «الإجماع» من حيث هو معيار يفصل في مواضع الخلاف كلما نشأت بين متجادلين، فهو يقول: إن إجماع العالم بأسره على أمر لا يكفي حجة، اللهم إلا إذا اتفق الخصمان منذ البداية على أن يكون حجة بينهما، أما إذا لم يسلم لك خصمك بأن يكون المنصوص والمقيس على المنصوص معيارا، ففيم إذن ذكرك أمامه لنص قاله قائل وأجمع عليه ألف ألف قائل؟

لكن ابن جني سرعان ما يصده «الإيمان» عن المضي مع المبدأ العقلي إلى آخر الشوط، وذلك حين يبرر الخروج على الإجماع بأن مثل هذا الخروج لم يرد منعه ممن يطاع أمره في قرآن ولا سنة، ناسيا - فيما يظهر - أن القرآن والسنة بدورهما «نصوص»، وإذا كانت هذه النصوص واجبة الطاعة عند المؤمنين بها، فليست هي كذلك عند غير المؤمنين، ولا كذلك الأخذ بمقاييس المنطق العقلي الصرف؛ لأنه عندئذ لا يكون فرق بين إنسان وإنسان على أساس من الإيمان، افرض - مثلا - أنني قلت إنه إذا كانت «س» أكبر من «ص»، وكانت «ص» أكبر من «م»، فإن «س» تكون أكبر من «م»، فها هنا يكون الأمر ملزما بالقبول على مبدأ يقول: إنه إذا صدق حكم على شيء ما، كان صادقا على كل جزء من أجزائه؛ فقد كان ابن جني ليصبح أكثر فهما لمعايير العقل وأشد استمساكا بها لو أنه حذف من عبارته السالفة جزءها الأخير.

ولابن جني في هذا السياق نفسه عبارة أخرى تستحق الذكر، ويستحق التمجيد من أجلها؛ إذ يقول: «... فكل من فرق له عن علة صحيحة، وطريق نهجة، كان خليل نفسه، وأبا عمرو فكره» (ج1 ، ص190). ومعناها أن كل من اهتدى بتدليل عقلي سديد إلى تعليل مصيب، أخذ فيه النهج المنطقي السليم، فهو عندئذ يكون إمام نفسه، ولا حاجة به إلى الرجوع إلى إمام آخر يطلب منه التأييد؛ إذ لا ينقصه عندئذ أن يجد الموافقة عند الخليل بن أحمد أو عند أبي عمرو بن العلاء أو غيرهما من أئمة اللغة، فكما يقول المعري: «لا إمام سوى العقل» فلو توافرت لك مناهجه وأدلته ونتائجه فحسبك ذلك إماما.

أليس من أعجب العجب بالنسبة إلينا نحن، وفي عصرنا بكل ما قد دعا إليه وجاء به من جديد لم يكن ليطرأ ظل منه على بال أحد من الأقدمين، نجد بيننا من يحمله عمى البصيرة على الاعتقاد بأن الأوائل لم يتركوا للأواخر شيئا، وإذن فما على هؤلاء الأواخر إلا أن يرتدوا إلى الأوائل يعبون العلم كل العلم من صحائفهم؟! فإذا رجعنا إلى هؤلاء الأوائل وجدناهم يحذرون أنفسهم من الوهم بأن أوائلهم قد سدوا عليهم الطريق! فها هو ذا ابن جني، وهو في سياق القول بأن كل فرد يستطيع أن يكون إمام نفسه، إذا هو أحسن النظر والاستدلال، ويستشهد بقول الجاحظ: «ما على الناس شيء أضر من قولهم: ما ترك الأول للآخر شيئا» (عن ابن جني، ج1، ص190). فإذا لم يهدنا تراث آبائنا إلى هذه المبادئ العليا، فإلى أي شيء يهدي؟

إن دراستنا للتراث دراسة واعية تنتهي بنا هي نفسها إلى ترك مادة التراث من حيث هي مضمون فكري بذاته وخصائصه، وإني ليحضرني هنا موقف مشابه لما أريد قوله، وهو موقف الفيلسوف التحليلي المعاصر «فتجشتين» في كتابه المكثف الغزير «رسالة في المنطق الفلسفي»؛ وذلك بأن جعل آخر عبارة في كتابه تقول ما معناه: إن هذه الرسالة تكون قد أدت غرضها إذا هي علمت القارئ كيف يستغني عنها، فكأنها سلم خشبي يصعد عليه الصاعد إلى حيث يريد، ثم يقذف به لأنه لم يعد يريد النزول إلى حيث كان، فكم هي مواقف الأعظمين من آبائنا، التي رفضوا بها إهدار آدميتهم أمام النماذج المثلى ! فالنموذج يكفيه أن يقيم للإنسان الشخصية التي تستطيع بعد ذلك أن تستغني عنه لتشق طريقها على نحو مستقل فريد.

ونعود إلى ابن جني في السياق الذي كنا بصدد الحديث عنه، وهو سياق القول في الإمامة العلمية للعلماء السابقين متى تجوز ومتى لا تجوز، وهي - عنده - لا تجوز إذا وثق المرء من سداد منهجه العقلي عند النظر إلى مسألة مطروحة، فهو في ذلك يقول أيضا في موضع آخر ما معناه: إن ما يثبت لك بالدليل العقلي لم يعد بك حاجة إلى البحث له عن شاهد عند الأقدمين يؤيده، وهذه هي عباراته: «أما إذا دل الدليل، فإنه لا يجب إيجاد النظير ... لأن إيجاد النظير بعد قيام الدليل إنما هو للأنس به لا للحاجة إليه، فأما إن لم يقم دليل فإنك محتاج إلى إيجاد النظير» (ج1، ص197).

38

وننتقل مع ابن جني إلى موضوع آخر يطرحه ويرى فيه الرأي، وهو موضوع أقرب جدا إلى ما يكثر فيه اللغط في أيامنا هذه، عما يسمونه بالشكل والمضمون؛ أيهما أولى بالعناية ليصبح الأدب أدبا والفكر فكرا؟ كأنما الفصل بينهما ممكن إلا في التحليل الذهني، غير أن الموضوع على يدي ابن جني يركز على ناحية اللفظ والمعنى، وذلك دفعا للتهمة التي وجهت إلى اللغة العربية من أنها تعنى باللفظ أكثر من عنايتها بالمعنى، وسننقل - في شيء من الإفاضة - ما قاله ابن جني في دفعه للتهمة ودفاعه عن العربية، ثم قد يكون لنا بعد ذلك تعقيب برأي نراه؛ يقول: «... إن العرب كما تعنى بألفاظها فتصلحها وتهذبها وتراعيها وتلاحظ أحكامها، بالشعر تارة، وبالخطب أخرى، وبالأسجاع التي تلتزمها وتتكلف استمرارها، فإن المعاني أقوى عندها، وأكرم عليها، وأفخم قدرا في نفوسها.

فأول ذلك عنايتها بألفاظها؛ فإنها لما كانت عنوان معانيها، وطريقا إلى إظهار أغراضها ومراميها، أصلحوها ورتبوها، وبالغوا في تحبيرها وتحسينها؛ ليكون ذلك أوقع لها في السمع، وأذهب بها في الدلالة على القصد، ألا ترى أن المثل إذا كان مسجوعا، لذ لسامعه فحفظه؟ فإذا هو حفظه كان جديرا باستعماله؟ ولو لم يكن مسجوعا لم تأنس النفس به، ولا أنقت لمستمعه، وإذا كان كذلك لم تحفظه، وإذا لم تحفظه لم تطالب أنفسها باستعمال ما وضع له، وجيء به من أجله، وقال لنا أبو علي يوما: قال لنا أبو بكر [المقصود هو ابن السراج]: إذا لم تفهموا كلامي فاحفظوه؛ فإنكم إذا حفظتموه فهمتموه، وكذلك الشعر؛ النفس له أحفظ، وإليه أسرع، ألا ترى أن الشاعر قد يكون راعيا جلفا، أو عبدا عسيفا، تنبو صورته وتمج جملته [وربما كان الصواب «خلقته»] فيقول ما يقوله من الشعر، فلأجل قبوله، وما يورده عليه من طلاوته وعذوبة مستمعه، ما يصير قوله حكما يرجع إليه ويقتاس به؟» (ج1، ص215-216). «فإذا رأيت العرب قد أصلحوا ألفاظها وحسنوها، وحموا حواشيها وهذبوها، وصقلوا غروبها وأرهفوها، فلا ترين أن العناية إذ ذاك إنما هي بالألفاظ، بل هي عندنا خدمة منهم للمعاني، وتنويه بها وتشريف منها، ونظير ذلك إصلاح الوعاء وتحصينه ، وتزكيته وتقديسه، وإنما المبغي بذلك منه الاحتياط للموعى عليه، وجواره بما يعطر بشره، ولا يعر جوهره، كما قد نجد من المعاني الفاخرة السامية ما يهجنه ويغص منه كدرة لفظه وسوء العبارة عنه» (ص217). «ويدلك على تمكن المعنى من أنفسهم، وتقدمه للفظ عندهم، تقديمهم لحرف المعنى في أول الكلمة، وذلك لقوة العناية به، فقدموا دليله ليكون ذلك أمارة لتمكنه عندهم؛ وعلى ذلك تقدمت حروف المضارعة في أول الفعل، إذ كن دلائل على الفاعلين: من هم؟ وما هم؟ وكم عدتهم؟ نحو أفعل، ونفعل، وتفعل، ويفعل» (ص225). «أفلا ترى إلى حروف المعاني: كيف بابها التقدم؟ وإلى حروف الإلحاق والصناعة: كيف بابها التأخر؟ فلو لم يعرف سبق المعنى عندهم وعلوه في تصورهم إلا بتقدم دليله وتأخر دليل نقيضه، لكان مغنيا من غيره كافيا.

وعلى هذا حشوا بحروف المعاني، فحصنوها بكونها حشوا، وأمنوا عليها ما يؤمن على الأطراف المعرضة للحذف والإجحاف؛ وذلك كألف التكسير وياء التصغير، نحو دارهم ودريهم، وقماطر وقميطر، فجرت في ذلك - لكونها حشوا - مجرى عين الفعل المحصنة في غالب الأمر، المرفوعة عن حال الطرفين من الحذف » (ص225). «... فهذا يدلك على ضنهم بحروف المعاني، وشحهم عليها، حتى قدموها عناية بها، أو وسطوها تحصينا لها» (ص226).

تلك نصوص مما قاله ابن جني دفعا للتهمة الموجهة إلى العربية بأن معظم عنايتها منصرف إلى اللفظ لا إلى المعنى، فيبين في شيء من البراعة، كيف أن طرائق بناء الألفاظ نفسها تدل على أنها إنما صيغت على نحو يضمن للفظة وجود الحرف الذي هو ذو علاقة وثيقة بالمعنى.

ولست أملك أن أقول شيئا سوى أن الشقة بعيدة بين «المعنى» الذي نبحث عنه حين نقول عن الكاتب: إنه يعنى باللفظ دون المعنى، و«المعنى» الذي يتحدث عنه ابن جني، فهو مشغول بمعنى اللفظة الواحدة، ونحن يشغلنا المعنى المراد تأديته من مقالة أو من كتاب أو من قصيدة أو قصة أو مسرحية، فالمعنى في استعماله هو كالإشارة إلى المسمى، والمعنى في استعمالنا هو كالفكرة المراد تحليلها وتقويمها، وإنه لشرح يطول بي لو أردت هنا أن أؤيد الاتهام تأييدا فيه كثير من التحفظ، فلم تكن العناية باللفظ أغلب على العناية بالمعنى في مجالات الفقه والفلسفة والرحلات والعلوم، لكنها أغلب في مجالات الأدب بمعناه الضيق من شعر ونثر فني، فها هنا نقول: إن ما نراه هو أن الشاعر والناثر قد يكتبان كثيرا ولا يقولان إلا قليلا؛ لأن معظم العناية بالصقل والتزويق وإظهار القدرة اللغوية بالإكثار من المترادفات، حتى لتتصيد المعنى تصيدا.

39

ولنقف معه عند موضوع آخر ذي شأن كبير في فلسفة اللغة، وكيف أن هذه الفلسفة كثيرا ما تكشف لنا عن مبادئ النظر الأولية عند أصحاب اللغة المعنية؛ ما طبيعتها ومنحاها؟

يحاول ابن جني هنا أن ينظر في أنواع الكلمة، أيها أسبق من أيها؟ فهنالك الأسماء والأفعال والحروف، فهل يا ترى ظهرت هذه الأنواع الثلاثة دفعة واحدة، أو هي تعاقبت في الظهور بحسب الحاجة إلى التعبير؟ ثم إذا كانت قد ظهرت كلها معا دفعة واحدة، فهل تكون - مع ذلك - على درجة واحدة من الأولوية، أو أن منها ما هو أسبق منطقيا من الآخر؟

ويبدأ ابن جني إجابته بذكر ما قاله أستاذه، الذي لا ينقطع عن الرجوع إليه من أول الكتاب إلى آخره، وهو «أبو علي»، فيقول: «اعلم أن أبا علي - رحمه الله - كان يذهب إلى أن هذه اللغة - أعني ما سبق منها ثم لحق بها ما بعده - إنما وقع كل صدر منها في زمان واحد، وإن كان تقدم شيء منها على صاحبه، فليس بواجب أن يكون المتقدم على الفعل الاسم، ولا أن يكون المتقدم على الحرف الفعل، والفعل قبل الحرف، وإنما يعني القوم بقولهم: إن الاسم أسبق من الفعل، أنه أقوى في النفس، وأسبق في الاعتقاد من الفعل، لا في الزمان، فأما الزمان فيجوز أن يكونوا عند التواضع قدموا الاسم قبل الفعل، ويجوز أن يكونوا قدموا الفعل في الوضع قبل الاسم، وكذلك الحرف؛ وذلك أنهم وزنوا حينئذ أحوالهم، وعرفوا مصاير أمورهم، فعلموا أنهم محتاجون إلى العبارات عن المعاني، وأنها لا بد لها من الأسماء والأفعال والحروف ، فلا عليهم بأيها بدءوا: أبالاسم أو بالفعل أم بالحرف؛ لأنهم قد أوجبوا على أنفسهم أن يأتوا بهن جمع؛ إذ المعاني لا تستغني عن واحد منهن» (ج2، ص30).

فإذا أعدنا هذا الذي رواه ابن جني عن أستاذه - وذهب فيه مذهبه - بطريقة أوضح عرضا لنقاطه الرئيسية، قلنا:

لا فرق في طبيعة اللغة بين حالتها عند أول ظهورها، وحالتها في أي مرحلة لاحقة من مراحل تاريخها، فالصورة التي بدأت بها هي الصورة التي دامت عليها، اللهم إلا في اتساعها وغزارتها، أما «الكيف» فلم يتغير.

وهذه الصورة التي تتغير كيفا، هي أنها نشأت بأنواع الكلمة الثلاثة؛ الأسماء والأفعال والحروف، كلها معا.

فإذا فرضنا جدلا أن هذه الأنواع قد تلاحقت ظهورا على مجرى الزمن، فلسنا نرى - من طبائع هذه الأنواع - أيها تقدم الآخر؟ لأنها في هذا سواء، إذ ربما كان التقدم في الظهور للأسماء، وربما كان للأفعال، وربما كان للحروف، فليس بين أيدينا شاهد عقلي يحسم الأمر لواحد دون الآخر.

ومع ذلك فالشائع بين من تناولوا الموضوع بالنظر، أن الاسم أسبق من الفعل، لكن القائلين بهذا لم يقصدوا بالأسبقية أسبقية في زمن الظهور، بل هي عندهم أولوية منطقية، وأما زمان الظهور فواحد في كليهما، والمقصود بالأولوية المنطقية أن الاسم قد يستغني عن الفعل عند الاستعمال، أما الفعل فلا يستغني عن الاسم.

لو كانت هذه الأنواع الثلاثة قد تعاقبت ظهورا، ولم تتزامن في لحظة واحدة، فقد كان المعول في هذا هو «المعاني» التي طرأت بأذهانهم وأرادوا التعبير عنها، فربما وجدوا المطلوب لهذا التعبير اسما، أو فعلا، أو حرفا، فكان البدء بأيها تطلب المعنى المراد إخراجه في لفظ - ولما كانت هذه المعاني إنما تستوجب للتعبير عنها أسماء وأفعالا وحروفا في وقت معا، إذن فلا بد أن تكون الأنواع الثلاثة قد نشأت معا.

وتعليقا على هذه الوقفة العقلية الرائعة من اللغة ونشأتها، نقول: إنها - برغم ذلك - وقفة قد خلط فيها صاحبها بين ما هو «منطق» وما هو «نحو» خلطا أدى به إلى خطأ النتائج التي انتهى إليها، فأولا - تقسيم الكلمة إلى اسم وفعل وحرف هو تقسيم يعرفه النحو لما بين هذه الأقسام من اختلافات في قواعد الاستعمال وقواعد الإعراب، وأما المنطق فله في ذلك نظرة أخرى، وهي أن الكلمة كائنة ما كانت هي اسم على كل حال، وكل ما في الأمر أن الاسم أحيانا يطلق على كائن ذي درجة نسبية من الثبات، وأحيانا أخرى يطلق على مسيرة حركية، وأحيانا ثالثة يطلق على علاقة قائمة بين أشياء، هي كلها «أسماء» نطلقها على ما هنالك من وقائع، خذ مثلا قولنا: «محمد يلعب الكرة في الحديقة»، أتقول إن الأسماء هنا ثلاثة، هي: محمد والكرة والحديثة، وأما «يلعب» فهي فعل، وأما «في» فهي حرف؟ لكن دقق النظر قليلا تجدك قد أطلقت لفظة «يلعب» على مجموعة حركية من نمط معين، تماما كما أطلقت «الكرة» على جسم اتخذ مجموعة أوضاع متباينة، وكذلك الأمر في حرف الجر «في»؛ لأنه الرابطة المرئية بين الأطراف الأربعة الأخرى: محمد، كرة، حديقة، يلعب، وإذا شئت تعبيرا فلسفيا مألوفا، فقل: إن هذه الأطراف الأربعة هي بمثابة «مادة» الفكرة، وأما «في » فهي «صورتها» التي لولاها لما تكونت لنا فكرة من تلك الأطراف المتفرقات.

ومع هذه التسوية بين الألفاظ الخمسة جميعا في كونها جميعا أسماء برغم الفوارق بين المسميات: أهي أشياء أم حركات أم علاقات، لا بد لنا من تفرقة منطقية بينها، تجعلها في مستويين لا في مستوى واحد، فأما الأطراف الأربعة التي هي: محمد، كرة، حديقة، يلعب - فكلها سواء تقع في درجة وحدها، هي الدرجة التي تكون فيها المسميات كائنات أو أفعالا ذوات مكان وزمان، ويمكن الإشارة إليها، فنقول: هذا محمد، وهذه كرة، وهذه حديقة، وهذه مجموعة حركية مما نسميه لعبا، وأما كلمة «في» فهي في درجة منطقية وحدها؛ لأنه ليس لها ما يشار إليه بها، ومع ذلك فهي في الجملة كلها بمثابة «الروح» التي لولاها لبقيت الأطراف وكأنها الأشلاء المبعثرة لا الأعضاء ذات الوظائف الحيوية؛ ولذلك يطلق على أمثال هذه الكلمات في الفكر الفلسفي التحليلي المعاصر «كلمات منطقية» بالقياس إلى النوع الآخر من الكلمات التي هي «كلمات شيئية» أي كلمات تشير إلى أشياء، وسواء كانت الكلمة منطقية من شأنها أن «تبني» الفكرة، أو كانت شيئية من شأنها أن تشير إلى ما هو كائن في الموقف الذي نتحدث عنه، فهي في كلتا الحالتين «اسم» على كل حال، له ما يعنيه.

ونعود إلى مقالة ابن جني التي أخذها عن أستاذه أبي علي في اللغة، فنلاحظ أنه:

قد أخطأ الظن حين زعم أنه لو كانت أنواع الكلمة الثلاثة قد ظهرت متعاقبة على الزمن، فليس في طبائعها ما يحتم أن يكون لنوع منها دون النوعين الآخرين أسبقية في الظهور؛ إذ إن الكلمات «المنطقية» كان لا بد لها أن تنتظر حتى يفرغ الإنسان من إطلاق الأسماء على الأشياء والأفعال، ثم يهم بإقامة أحكامه عليها، أعني ببناء جمل عنها، وها هنا تلزمه الروابط التي تشد أطراف الجملة في وحدة واحدة هي «الفكرة».

وكأنما جاءه الصواب عفوا حين أدرك للأسماء أسبقية منطقية على سواها؛ لأن مثل هذا القول لم يكن ليتفق مع الزعم بأن البدء كان يجوز له أن يكون بأي من الأنواع الثلاثة. نعم، هنالك فرق بين الترتيب الزمني والترتيب المنطقي، بحيث يمكن أن يأتي شيء بعد شيء في الزمن، مع أنه أسبق منه في الفكر، فدراسة الطالب في الجامعة - مثلا - تأتي قبل حصوله على الدرجة الجامعية من حيث الترتيب الزمني، لكن الحصول على الدرجة كان هو الهدف الذي سبق إلى الفكر، فترتب عليه أن ينتظم الطالب في دراسته الجامعية؛ ليحقق ذلك الهدف.

فهل أراد ابن جني أن يقول: إنه كان يمكن للحرف - مثلا - أن يظهر قبل الاسم في الزمن، لكن الاسم يظل أسبق منه في الفكر على نحو ما شرحنا؟ فأقول: إن ذلك التصور محال الحدوث؛ فمحال أن أبدأ بالحرف «في» قبل أن تكون قد تجمعت لدي طائفة من أسماء لأشياء وأفعال أربطها بهذه الأداة إذا اقتضى الأمر مثل هذا الربط.

ويقول ابن جني - نقلا عن أبي علي - إنه لو كانت الفكرة الأولى التي أراد الإنسان أن يعبر عنها قد وجدت عبارتها في «حرف» لبدأ الإنسان بالحرف! وهذا - فيما نرى - خلط معيب بين مستويين: مستوى الأشياء والأفعال، ثم مستوى البناء المنطقي من تلك الأشياء والأفعال، والتعبير عن أي «معنى» لا يجيء إلا بعد اجتياز المستوى الأول صعودا إلى المستوى الثاني.

ومن هنا نتردد في قبول ما يزعمه ابن جني - تأييدا منه لوقفة أستاذه - من أن الثلاثة الأنواع من الكلمة بدأت معا؛ لأنه لا فكر بغيرها مجتمعة، إنه لأصوب الصواب ألا ينشأ فكر إلا والأنواع الثلاثة هناك، ولكن «الفكر» لم ينشأ هكذا في لمحة خاطفة كأنه الصاعقة أو لمعة البرق: في لحظة تكون بعد أن لم تكن، بل هو قمة طريق تطوري طويل، لا يبعد أن يبدأ بالرمز إلى الأشياء بما يميزها قبل أن ينتهي إلى ربطها في تصورات وأفكار، فالكلب - مثلا - يشير إلى صاحبه ويميزه، لكنه لا يعرف أن صاحبه هذا هو والد فلان وزوج لفلانة.

وبعد هذه الوقفة منا تجاه ما نقلناه عن ابن جني في مفردات اللغة كيف جاءت، نعود إلى كتابه لنمضي معه في القول، فإذا هو يدرك شيئا من التناقض الذي تورط فيه، فيستدرك ليصحح موقفه أمام قارئه، فجاء استدراكه دليلا على صدق ما اعترضنا به عليه.

وذلك أنه كان قد قرر أن البدء لم يكن العقل يمنع أن يكون بالأسماء أو بالأفعال أو بالحروف، فالعبرة بالمعنى الأول الذي أراد الإنسان أن يجريه في لفظ، فخشي أن يكون هذا القول منه منافيا لقول آخر أورده في النص نفسه الذي نقلناه عنه، وهو أن الأسماء والأفعال والحروف ظهرت كلها، وسارت كلها، صدرا واحدا، لا سبق فيها ولا تخلف، فكتب يقول: «... فإن قلت: هلا ذهبت إلى أن الأسماء أسبق رتبة من الأفعال في الزمان، كما أنها أسبق رتبة منها في الاعتقاد، واستدللت على ذلك بأن الحكمة قادت إليه؛ إذ كان الواجب أن يبدءوا بالأسماء، لأنها عبارات عن الأشياء ثم يأتوا بعدها بالأفعال التي بها تدخل الأسماء في المعاني والأحوال، ثم جاءوا فيما بعد بالحروف لأنك تراها لواحق بالجمل، واستقلالها بأنفسها، نحو: إن زيدا أخوك، وليت عمرا عندك، وبحسبك أن تكون كذا؟ [إن قلت ذلك كله] قيل: يمنع من هذا [أي من أن تكون الأسماء أسبق ظهورا من الأفعال] أشياء، منها: وجودك أسماء مشتقة من الأفعال، نحو قائم من قام، ومنطلق من انطلق، ألا تراه يصح لصحته ويعتل لاعتلاله؟ ... فإذا رأيت بعض الأسماء مشتقا من الفعل، فكيف يجوز أن يعتقد سبق الاسم للفعل في الزمان؟ وقد رأيت الاسم مشتقا منه، ورتبة المشتق منه أن يكون أسبق من المشتق نفسه؟ وأيضا فإن المصدر مشتق من الجوهر، كالنبات من النبت، وكالاستحجار من الحجر، وكلاهما اسم، وأيضا فإن المضارع يعتل لاعتلال الماضي، وإن كان أكثر الناس على أن المضارع أسبق من الماضي، وأيضا فإن كثيرا من الأفعال مشتق من الحروف، مثل قولك: سألتك حاجة فلوليت لي، أي قلت لي: «لولا»، وسألتك حاجة فلاليت لي، أي قلت لي: «لا»، واشتقوا أيضا المصدر - وهو اسم - من الحرف، فقالوا: اللالاة، واللولاة، وإن كان الحرف متأخرا في الرتبة عن الأصلين قبله : الاسم والفعل» (ج2، ص33-34).

وأود هنا أن أعلق بملاحظتين:

الأولى:

أن وجودنا أسماء مشتقة من أفعال، إنما يؤيد ما ذهبنا إليه في تعليقنا السابق، وهو أن التفرقة بين الأسماء والأفعال هي تفرقة في النحو لا في المنطق، ففي المنطق كلاهما أسماء، وإذن فلا عجب أن تشتق اللغة واحدا من الآخر، دون أن يدل ذلك على أسبقية في الرتبة.

الثانية:

أن ابن جني قد خلط بين ما حدث للغة في «تاريخها» وبين ما قد لزم لها في «منطقها»، فوجود قائل يقول ذات يوم «لوليت لي» - أي قلت لي: «لولا»، هو حادث زمني وقع في مجرى تاريخ الاستعمالات اللغوية، ووقوعه مرهون بنزوات قائله وهذا أمر يختلف كل الاختلاف عن الوجوب «المنطقي» - إذا سلمنا به - لظهور الأسماء أو الأفعال قبل الحروف، وإلا فهل يجوز لرجل أنجب طفلا في تاريخ معين، ثم نبتت له شجرة في حديقته بعد ذلك التاريخ، أن يقول: الإنسان ظهر في الوجود قبل النبات ؟ ألا نقول له عندئذ: إن هذا التعاقب الفردي في هذه الحالة المعينة لا يدل على شيء بالنسبة إلى مراحل التطور العامة، والتي كان النبات فيها أسبق من الحيوان، ثم كانت مراتب الحيوان أسبق من الإنسان!

40

وكتاب «الخصائص» لابن جني - بعد ذلك - مشحونة صفحاته باللمعات البارقة الهادية، النافذة إلى عبقرية اللغة العربية، مع محاولات من المؤلف لا تنقطع لتعليل خصائصها تعليلا عقليا منطقيا، كثيرا ما يثير فينا الإعجاب والعجب معا.

ويهمنا بصفة خاصة ألا نختم الحديث عن الرجل وكتابه، قبل أن نشير إلى خاصة مميزة للغة العربية في مفرداتها، ولسنا في الحق ندري لماذا ذهبت عنها هذه الخاصة في حالات تركيبها كلاما وتعبيرا، أو على الأقل هذا ما نراه فيها في غير حالات قليلة، وإنما قصدت إلى خاصة التصوير؛ فبين «المفردات» و«الأحداث» مسايرة تصويرية تلفت النظر ... قال الخليل (برواية ابن جني): «كأنهم توهموا في صوت الجندب استطالة ومدا، فقالوا: صر، وتوهموا في صوت البازي تقطيعا فقالوا: صرصر.

وقال سيبويه في المصادر التي جاءت على الفعلان: إنها تأتي للاضطراب والحركة، نحو الغليان والغثيان، فقابلوا بتوالي حركات المثال حركات الأفعال» (الخصائص، ج2، ص152).

وكذلك «تجد المصادر الرباعية المضعفة تأتي للتكرير، نحو الزعزعة، والقلقلة، والصلصلة، والقعقعة، والجرجرة، والقرقرة ... فجعلوا المثال المكرر للمعنى المكرر ...» (ج2، ص153).

وكذلك «جعلوا تكرير العين في المثال دليلا على تكرير الفعل، فقالوا: كسر، وفتح، وغلق ...» (ص155). «وذلك أنهم لما جعلوا الألفاظ دليلة المعاني، فأقوى اللفظ ينبغي أن يقابل به قوة الفعل، والعين أقوى من الفاء واللام؛ وذلك لأنها واسطة لهما، ومكنوفة بهما، فصارا كأنهما سياج لها، ومبذولان للعوارض دونها؛ ولذلك تجد الإعلال بالحذف فيهما دونها ... وقلما تجد الحذف في العين.

فلما كانت الأفعال دليلة المعاني، كرروا أقواها، وجعلوه دليلا على قوة المعنى المحدث به، وهو تكرير الفعل، كما جعلوا تقطيعه في نحو «صرصر» دليلا على تقطيعه» (ج2، ص155).

وإلى جانب أن تختلف اللفظة في بنيتها باختلاف ما تصوره قوة وضعفا، واتصالا وتقطعا، فهي كذلك تختلف في جرسها بما يتفق مع الصوت الذي جاءت لتقابله؛ «... وذلك أنهم كثيرا ما يجعلون أصوات الحروف على سمت الأحداث المعبر بها عنها، فيعدلونها بها، ويحتذونها عليها، وذلك أكثر مما نقدره، وأضعاف ما نستشعره، من ذلك قولهم: خضم، وقضم، فالخضم لأكل الرطب كالبطيخ والقثاء وما كان نحوهما من المأكول الرطب، والقضم للصلب اليابس، حذوا لمسموع الأصوات على محسوس الأحداث» (ص158).

وإن التعليلات العقلية لأوضاع اللغة لتبلغ مع ابن جني ذروتها، حين يحدثنا عن «الأفعال» في اللغة وطريقة دلالتها على أزمنة حدوثها، فحيثما يخشى اللبس بين ماض وحاضر ومستقبل وجدت «الفعل» قد اتخذ الصورة التي تمنع ذلك اللبس، وأما حيثما استحال عقلا أن نخلط بين أزمنة الحدوث، جاز عندئذ أن يأخذ الفعل صورة غير الصورة التي تدل على زمن الحدوث، اعتمادا على أن السياق يؤدي بالسامع حتما إلى التصور الصحيح، يقول: «كان حكم الأفعال أن تأتي كلها بلفظ واحد؛ لأنها لمعنى واحد، غير أنه لما كان الغرض في صناعتها أن تفيد أزمنتها، خولف بين مثلها ليكون ذلك دليلا على المراد منها ... فإن أمن اللبس فيها، جاز أن يقع بعضها موقع بعض، وذلك مع صرف الشرط، نحو: إن قمت جلست؛ لأن الشرط معلوم أنه لا يصح إلا مع الاستقبال، وكذلك: لم يقم أمس، وجب لدخول «لم» ما لولا هي لم يجز ... ولأن المضارع أسبق في الرتبة من الماضي، فإذا نفي الأصل كان الفرع أشد انتفاء» (ج3، ص331).

ولنترك هذه المائدة الغنية بغذائها الفكري، لنرحل رحلة قصيرة عن بغداد، إلى حيث نلتقي بأحد أعلام النقد البارزين، فما دمنا بصدد الحديث عن اللغة وفلسفتها، فيشوقنا أن نلقي نظرة على ميدان النقد الأدبي، وإذن فإلى «جرجان» لنلقى هناك عبد القاهر الجرجاني، نسمع ماذا يقوله عن تصوره للمعنى كيف يبنى على اللغة التي تحمله، وبعدئذ لنا عودة إلى بغداد؛ فمعظم الصيد - عندئذ - في جوف بغداد.

41

عندما كتب برتراند رسل كتابه «بحث في المعنى والصدق» وقف وقفة تحليلية ليسأل نفسه، وليحاول الجواب عن سؤاله، ما الذي يعطي الجملة المفيدة وحدتها؟ إنها مركبة من مفردات تتوالى فإذا كانت منطوقة جاء تواليها تتابعا على خط الزمن، وإذا كانت مكتوبة، جاء ذلك التوالي تجاورا في حيز المكان، لكننا ما لم نقع وراء هذه المفردات على الرابط المنطقي الذي يربطها، لما استطعنا أن نحدد لأنفسنا ماذا نعني بقولنا «فكرة»، كان يسيرا بالطبع على أناس كثيرين أن يقولوا: اللفظ جسد، والفكرة أو المعنى روحه، أو: اللفظ هو مادة الجملة، والفكرة أو المعنى صورتها، لكن رجلا مثل «رسل» لا يرضى لنفسه أمثال هذه الغوامض، فإذا بحث ووجد أن الرابط المنطقي المنشود إنما يكمن في طريقة «الترتيب» الذي تتوالى به المفردات واصل البحث ليرى: أية طريقة في الترتيب تلك التي إذا توافرت للمفردات صنعت جملة، وبالتالي صنعت فكرة؟

فإذا قرأنا لعبد القاهر الجرجاني كتابيه: «أسرار البلاغة» و«إعجاز القرآن» أدركنا كم هي قوية تلك الصلة التي تنظم الجرجاني في أوائل القرن الحادي عشر (توفي 1078م) وبرتراند رسل في القرن العشرين (توفي 1970م)؛ فالفكرة عندهما واحدة من حيث الأساس، وهو أن المعنى كائن في طريقة الترتيب التي تنظم بها المفردات، لا في المفردات من حيث هي مفردات وكفى، وذلك برغم الاختلاف البعيد الذي يفصل الرجلين في طريقة التناول؛ فبينما الجرجاني قد غلبت عليه النظرة اللغوية النحوية، غلبت على رسل النظرة المنطقية الرياضية، وهو - في الحق - فاصل من أهم الفواصل المميزة بين طريقة التفكير قديما وحديثا.

والآن فلننصت إلى هذا الناقد العقلاني لنسمع ماذا يقول في قضايا ما زالت نابضة بالحياة إلى يومنا هذا، وسنبدأ بكتابه «أسرار البلاغة» لنعقبه بكتابه الآخر «إعجاز القرآن».

يبدأ بقوله في صراحة واضحة: «الألفاظ التي لا تفيد حتى تؤلف ضربا خاصا من التأليف، يعمد بها إلى وجه دون وجه من التركيب والترتيب ...» (ص2، طبعة المنار، ط2)، ثم يمضي شارحا فيقول: إنك لو تناولت بيتا من الشعر أو فصلا من النثر، وعددت كلماته عدا كيف جاء واتفق، مبطلا نظام تلك الكلمات الذي بنيت عليه العبارة بحيث أصبح لها المعنى الذي لها، ومغيرا لترتيب الكلمات الذي بخصوصيته أفاد كما أفاد، لأخرجت البناء اللغوي «من كمال البيان إلى مجال الهذيان» نحو أن تقول في «قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل»: «منزل قفا ذكرى من نبك حبيب.»

فلماذا كان لترتيب اللفظ على نحو معين قدرة على البيان؟ يجيب الجرجاني بقوله: ذلك لأن ترتيب اللفظ على هذا النحو المعين إنما يساير الترتيب نفسه الذي انتظمت به المعاني في ذهن المتكلم، ولقد انتظمت المعاني هناك وفق ما يقتضيه العقل، فالمنطق العقلي نفسه يدلك على أي المعاني يجب أن تسبق، وأيها يجب أن تأتي لاحقة، بحكم طبائعها بالنسبة للموقف الذي نقفه من عالم الأشياء، فالمبتدأ يجب أن يسبق ليلحق به الخبر، والفاعل يجب أن يسبق ليلحق به مفعوله، والموصوف يجب أن يذكر أولا لتلحق به الصفة التي نريد أن ننعته بها ... (ص3). وهنا لا ينبغي لنا أن نترك الجرجاني بغير تعليق؛ فلسنا على ثقة بما يزعمه من أن مثل ذلك الترتيب الذي ضرب له الأمثلة هو من حكم «العقل» و«المنطق»؛ لأنه لو كان كذلك لتساوت فيه لغات الأرض جميعا، لأن المتكلم بلغة - أيا كانت - هو إنسان يتساوى مع بقية الناس فيما هو «عقل» و«منطق»، فإذا رأينا اللغة الإنجليزية مثلا تقدم الصفة على الموصوف بها، عرفنا أن الأمر إذن ليس محتوما بأحكام العقل.

ونمضي معه إلى قضية أخرى يرتبها على ما قد أسلفه من أن «المعنى» هو في ترتيب المفردات، وذلك حين يجيء هذا الترتيب موازيا لترتيب المعاني في الذهن، وهذا الأخير بدوره إنما هو من إملاء المنطق العقلي، فكأنما يسأل بعد ذلك قائلا: وما الذي يخلع «الجمال» على العبارة الأدبية، شعرا كانت أم نثرا؟ فيكون جوابه هو نفسه الجواب السابق الخاص بالمعنى؛ إذ يقول: إن اللفظ في حد ذاته عنصر محايد لا جمال فيه ولا قبح، لكن الذي يعطيه الجمال الأدبي أو يسلبه منه، هو مسايرته للمعاني القائمة في الذهن؛ المعاني وترتيبها العقلي مرة أخرى! ترى هل يريد الجرجاني بذلك أنه ما دام اللفظ قد انساق في ترتيبه مع ترتيب المعاني التي في الذهن، فقد توافر له المعنى والجمال في آن معا؟ أيكون «المعنى» و«الجمال » شيئا واحدا؟ بحيث يجوز لنا القول بأن كل ذي معنى فهو جميل؟ ... أعتقد أن هذا الموقف هو ما يلزم عن مقدماته ولو لم يرد عنده بهذه الصورة الواضحة، فإذا كان هو ما يريده، سلكناه في زمرة الفلاسفة القائلين بأن جمال الشيء هو في أن يكون أداة صالحة لفعل ما أريد لها أن تفعله، وهؤلاء هم الفلاسفة الناظرون إلى الحقيقة نظرة عقلانية محضة، لا دخل «للوجدان» فيها، فهكذا يقول سقراط وأفلاطون وأرسطو وغيرهم من أصحاب المعيار العقلي في مسائل القيم.

وتوكيدا لهذا الأساس النقدي عنده، تراه لا ينفك يردد - صفحة بعد صفحة - بأن اللفظ في ذاته ليس مناط الحكم في وجود الجمال الأدبي أو امتناعه، حتى فيما قد يظن بأن للفظ الدور الأول فيه، كالتجنيس والاستعارة مثلا، فيقول في التجنيس: «ما يعطى التجنيس من الفضيلة أمر لم يتم إلا بنصرة المعنى؛ إذ لو كان باللفظ وحده، لما كان فيه مستحسن، ولما وجد فيه إلا معيب مستهجن ...» (ص5)، «فمن نصر اللفظ على المعنى كان كمن أزال الشيء عن جهته وأحاله عن طبيعته» (الموضع السابق نفسه)، وكذلك يقول في الاستعارة: «أما الاستعارة فهي ضرب من التشبيه، ونمط من التمثيل، والتشبيه قياس، والقياس يجري فيما ... تدركه العقول، وتستفتى فيه الأفهام والأذهان، لا الأسماع والآذان» (ص15).

هكذا أصبح الأمر غاية في الوضوح، فإذا سئلت: ما وجه الجمال في هذا البيت من الشعر، أو في هذه الجملة من النثر؟ كان جوابك: إنه هو الطريقة التي رتبت بها الألفاظ ترتيبا منطقيا معقولا، كما ترتب خطوات البرهان في نظرية هندسية، دون أن يكون للفظ نفسه بما قد يكون فيه من صقل وبريق ونغم أي دخل في صحة الحكم، فالجمال الأدبي هو نفسه أداء المعنى أداء لا يلتاث فيه القول ولا يلتوي؛ لأن الأدب هو فوق كل شيء «للتفاهم»، فهؤلاء الذين يزوقون الكلام ينسون أن المتكلم إنما «يتكلم ليفهم، ويقول ليبين» (ص6)، و«لن تجد ... أجلب للاستحسان من أن ترسل المعاني على سجيتها، وتدعها تطلب لأنفسها الألفاظ، فإنها إذا تركت وما تريد لم تكتس إلا ما يليق بها» (ص10).

على أن المعاني التي يراد لها أن تؤدى، والتي بأدائها على الوجه الأفضل (والوجه الأفضل هو دائما الأقرب إلى التسلسل المنطقي بين لاحق وسابق) يكون للعبارة التي قامت بالأداء «معنى» ويكون لها في الوقت نفسه «جمال» أدبي، أقول إن هذه المعاني التي يراد لها أن تؤدى، ليست كلها سواء في المنزلة والرتبة؛ لأن منها ما هو تافه ومنها ما هو شريف جليل، وكنت أتمنى لو أن الجرجاني أعطانا الميزان الذي نفرق فيه بين المعنى التافه والمعنى الشريف، لكنه لم يفعل، وتحدث كما لو كان الأمر واضحا في ذاته، لا يحتاج إلى مزيد من إيضاح، [وأرجو أن يلاحظ بأن سياق الحديث هنا فيه نوع من الترجمة التي أترجم بها ما ظننت أن الجرجاني يريده، وإلا فلم يذكر هو شيئا صريحا عن هذا التفاوت بين التافه والشريف، وإنما الفهم والتعبير من عندي]، كل ما أراد أن يلفت إليه الأنظار، هو أن عبارتين قد تشتركان في طريقة كل منهما لأداء معناها، لكنهما بعد ذلك يتفاوتان؛ فإحداهما تخلد وتبقى لأن المدار فيها هو جوهر شريف في ذاته، يظل على نفاسته مهما تغيرت صورته، وأما الأخرى فتنطوي على باطن هزيل؛ ولذلك فسرعان ما تفقد قيمتها إذا زالت عنها الظروف التي أكسبتها تلك القيمة، والأمر في هذا شبيه بصياغة واحدة تجريها على قطعة من الذهب وقطعة من الجص، فالأولى تظل ذهبا حتى لو أعدت تشكيلها، وأما الثانية فتفقد قيمتها لو فقدت زخرفها ... «إن من الكلام ما هو كما هو، شريف في جوهره، كالذهب الإبريز، الذي تختلف عليه الصور، وتتعاقب عليه الصناعات، وجل المعول في شرفه على ذاته، وإن كان التصوير قد يزيد في قيمته ويرفع في قدره، ومنه [أي من الكلام] ما هو كالمصنوعات العجيبة من مواد غير شريفة، فلها - ما دامت الصورة محفوظة عليها لم تنقض، وأثر الصنعة باقيا معها لم يبطل - قيمة تغلو ومنزلة تعلو ... حتى إذا خانت الأيام فيها أصحابها ... وفجعتهم فيها بما يسلب حسنها المكتسب بالصنعة ، فلم يبق إلا المادة العارية من التصوير، والطينة الخالية من التشكيل، سقطت قيمتها ...» (ص20-21).

42

وننتقل مع الجرجاني إلى قضية أخرى، لو كان في عصرنا وعرضها كما عرضها، لعد من زمرة أدبية نقدية تجعل «الصورة الذهنية» مدارا يدور عليه الحكم بالقيمة الأدبية وجودا وامتناعا، فلا أدب عند هؤلاء إلا إذا صيغ في «صورة» يكون بينها وبين المعنى المراد عرضه علاقة موازاة؛ بعبارة أخرى، إذا كانت الجملة «العلمية» عليها أن تصف الواقعة أو الحقيقة وصفا مباشرا، فالجملة الأدبية مطالبة بأن تشير إلى المعنى المراد بطريق غير مباشر؛ لأنها ترسم لنا صورة، فننظر نحو إلى هذه الصورة ونتأملها، حتى ننتقل خلالها إلى ما يريد الأديب أن يسوقه إليك من معان أو مواقف.

في ذلك يقول الجرجاني: «جل محاسن الكلام، إن لم نقل كلها، متفرعة عن التشبيه والتمثيل والاستعارة، وراجعة إليها، وكأنها أقطاب تدور عليها المعاني في متصرفاتها، وأقطار تحيط بها من جهاتها» (ص20). ولكن أين الجانب «العقلي» في مبدأ كهذا؟ نجيب فنقول - على ضوء التحليلات المنطقية الرياضية المعاصرة - إن علاقة «التشابه»، أو كما يسمونها في المنطق الرياضي «علاقة واحد بواحد»، هي آخر الأمر ما ينتهي إليه تحليلنا للفكر البشري بأسره؛ فالفكر يبدأ حين يبدأ «التعميم»، والتعميم لا يكون إلا إذا وجدت معطيين حسيين قد وازى أحدهما الآخر في طريقة البناء، انظر إلى الطفل - مثلا - وهو يتعلم حرفا من حروف الهجاء، ولنقل إنه حرف «ج»، فنحن نقدم له أول الأمر هذا الرسم مرة، ثم مرة ثانية، وثالثة ... وقد يختلف الرسم في كل مرة، لونا وحجما، وطريقة كتابة، وفي لحظة من لحظات المقارنة يلقف الطفل أساس البنية التي تشترك فيها هذه الحالات جميعا، بما يلحظه بينها من «علاقة واحد بواحد» (أي التشابه) فكل طرف في إحداها يقابله طرف في الأخرى، وكل علاقة في إحداها بين طرفين، يقابلها علاقة مثلها في الأخرى، وها هنا تتكون لديه «صورة» لما يراد له أن يتعلمه، وإذا لم ترتسم في ذهنه هذه «الصورة»، أي هذا الإطار المكون فقط من أطراف وعلاقات، بغض النظر عن المادة التي كتبنا الحرف بها، أهي الطباشير أم المداد أم الرصاص، وبغض النظر عن اللون، أهو أحمر أم أزرق أم أخضر، وبغض النظر عن الحجم، أهو يملأ الصفحة كلها أو السبورة كلها، أم يملأ نصفها أم يكتفي بمساحة ضئيلة، أقول: إنه إذا لم ترتسم في ذهنه هذه «الصورة» العامة، لما جاز أن نقول عنه إنه «تعلم» ما يراد له أن يتعلمه ... وهذا نفسه ما نبلغه في «الصورة» الأدبية؛ فليس المراد أن نقف عندها لذاتها - عند أصحاب هذا المذهب - بل نؤمل لمطالعها أن يستشف وراءها من مواقف الحياة الفعلية ما يوازيها طرفا بطرف وعلاقة بعلاقة، وإذا كان إدراك البنية المشتركة، أو التشابه، هو أعمق أساس ترتكز عليه العملية العقلية، فكذلك يكون الأخذ بمذهب الاستعانة «بالصور» في البناء الأدبي، موقفا عقليا في صميمه.

ولا يكتفي الجرجاني بأن يذكر هذه الحقيقة ذكرا عابرا، بل - مدفوعا بنظرته المنطقية إلى الأمور - يحاول تعليلها، والتعليل في كل صوره عملية عقلية، فلماذا يشترط في العبارة الأدبية أن تلتمس «صورة ذهنية» توازي في تكوينها الحقيقة المراد ذكرها؟ لماذا لا نذكر تلك الحقيقة المقصودة ذكرا مباشرا، بغير التوسل إليها بصورة نرسمها لتوازيها؟ يجيب الجرجاني بقوله: «إن أنس النفوس موقوف على أن تخرجها من خفي إلى جلي، وتأتيها بصريح بعد مكني، وأن تردها في الشيء - تعلمها إياه - إلى شيء آخر هي بشأنه أعلم، وثقتها به في المعرفة أحكم، نحو أن تنقلها عن العقل إلى الإحساس، وعما يعلم بالفكر إلى ما يعلم بالاضطرار والطبع؛ لأن العلم المستفاد من طرق الحواس أو المركوز فيها من جهة الطبع، وعلى حد الضرورة، يفضل المستفاد من جهة النظر والفكر ... وكما قالوا: ليس الخبر كالمعاينة» (ص102-103).

ها هنا يعطيك الجرجاني التعليل على درجتين؛ فالتعليل على الدرجة الأولى، هو أن قيمة الصورة التي توازي الحقيقة المراد ذكرها، هي في أنها بمثابة ما ينقلنا من حالة الغموض إلى حالة الوضوح، من حالة يكتنفها فيها الضباب فتنطمس الأشياء أمام البصر، إلى أخرى تسطع فيها الشموس فتنجلي أمامنا الأشياء بملامحها وحدودها، والغرض هنا هو أن تكون الحقيقة المراد ذكرها مما تتعذر رؤيته في جلاء، وأن الصورة التي رسمت موازية لها في التكوين هي من خبراتنا المألوفة، ومن ثم فهي واضحة الدلالة، وأما التعليل على الدرجة الثانية، فهو مقام على أساس التدرج الإدراكي عند الإنسان من المحسوس إلى المعقول، أي مما ندركه بإحدى حواسنا من بصر وسمع وغيرهما، إلى ما ندركه بعقولنا وهو في حالة من الفكر المجرد، كما يتدرج الطفل في إدراكه من رؤيته إلى رجل مفرد معين هو أبوه، لا يدرك منه إلا ما يقع عليه البصر من شكل وحركة، وما يقع على سمعه من صوته وهكذا، إلى إدراكه للإنسان من حيث هو فكرة عامة مجردة، لم يكن أبوه إلا مثلا واحدا من أمثلتها، ولا شك أن الانتقال من المحسوس إلى المعقول المجرد هو انتقال أيضا من البساطة إلى التركيب، ومن يسر الإدراك إلى عسره، فإذا كنا نستعين على الحقيقة المراد عرضها بصورة ذهنية توازيها، فالشرط هو أن تكون الصورة مما يحس في دنيا الأشياء الجزئية المجسدة، وإلا فلو كان ما نستعين به على فهمنا لفكرة مجردة هو فكرة مجردة أخرى، فإننا نكون في كلتا الحالتين على مستوى الحقائق النظرية، وتزول الصفة «الأدبية» عن الموقف، وإنما يكون للموقف التعبيري خاصته الأدبية، إذا وازينا بين ما هو مجرد من جهة وما هو محس من جهة أخرى، فيجيء هذا معينا على ذلك.

وفي هذه التفرقة بين المحسوس والمعقول، يقول الجرجاني: «ومعلوم أن العلم الأول أتى النفس أولا من طريق الحواس والطباع، ثم من جهة النظر والروية، فهو إذن [أي العلم الأول] أمس بها رحما، وإذا نقلتها [أي النفس] ... عن المدرك بالعقل المحض، وبالفكرة في القلب، إلى ما يدرك بالحواس، أو يعلم بالطبع ... فأنت كمن يتوسل إليها للغريب بالحميم، وللجديد الصحبة بالحبيب القديم» (الموضع السابق ذكره) ... خذ مثلا لذلك قول القائل: فإن تفق الأنام وأنت منهم، فإن المسك بعض دم الغزال، ها هنا جانبان؛ أولهما فكرة مجردة عقلية، والآخر صورة محسوسة ومستقاة من الخبرة المألوفة، فإذا أخذتك الريبة والدهشة من الحقيقة الأولى حتى شككت في صوابها، جاءتك «الصورة» فأخرجتك من ريبتك إلى حيث ترى الحق واضحا، فربما تساءلت عن الجانب الأول من البيت المذكور؛ كيف يعقل أن يكون الفرد المعين عضوا في مجموعة وفي الوقت نفسه يفوق أقرانه فيها؟ أليس هنالك تناقض بين أن يكون الفرد عضوا في نوع، وفي الوقت نفسه يكون كأنه نوع متميز قائم برأسه؟ إنه لأمر غريب «أن يتناهى بعض أجزاء الجنس في الفضائل الخاصة به، إلى أن يصير كأنه ليس من ذلك الجنس»؟ لكنك عند انتقالك إلى الشطر الثاني تواجهك «صورة» من مألوف خبرتك في حياتك العملية، فها هو دم الغزال يؤخذ ليستخرج منه بعضه فإذا هذا المستخرج مسك، هو من دم الغزال لكنه يفوق سائر العناصر المشاركة له.

خذ مثلا ثانيا «للصورة» كيف تأتي في العبارة الأدبية معينة على جلاء ما في الحقيقة المراد ذكرها من مضمون فكري:

مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا ، إن السامع ليستيقظ وعيه عند ذكر «الحقيقة النظرية» الأولى، فيوشك أن تأخذه الحيرة مما قد يبدو له فيها من تناقض؛ فكيف لإنسان أن يحمل التوراة ولا يحملها في وقت واحد؟ فما هو إلا أن تسارع إلى ذهنه «الصورة» التي يمكن حسها من دنيا الخبرة اليومية المباشرة، وهي صورة الحمار يحمل أسفارا، فالحمار يحمل هذه الأسفار التي هي أوعية العلوم ومستودع ثمر العقول، ثم لا يحس بما فيها ولا يشعر بمضمونها، ولا يفرق بينها وبين سائر الأحمال التي ليست من العلم في شيء، ها هنا يرى رؤية العين كيف يحمل الحمار الأسفار ولا يحملها؛ لأنه يحملها من حيث هي أثقال ولا يحملها من حيث هي معرفة، وعندئذ يسطع ضوء الوضوح على الحقيقة الأولى التي كانت مثار حيرة وتساؤل.

لكن سؤالا ينشأ، يثيره الجرجاني، وهو لا بد مثار عند من يطرح هذا الموضوع للنظر، ويجيب الجرجاني عن السؤال بما لا بد أن يجيب به الناقد النافذ البصيرة في حقيقة الفن ما هي؟ لا اختلاف في ذلك بين الفنون، شعرا كان الفن أم صورة مرسومة أم تمثالا منحوتا في حجر أم نغما موسيقيا معزوفا، والسؤال هو: بماذا نفاضل بين «صورة» و«صورة»؟ هل تتساوى القيمة الفنية في ثمرتين من ثمرات فن بعينه، إذا كانت كل منهما قد توسلت إلى الحقيقة المراد عرضها بصورة محسوسة توازيها في طريقة التكوين؟ لا، هنالك بعد ذلك ما نفاضل به بين صورتين، وهنا تجب العناية في النظر، حتى لا يأخذنا الظن بأن المعول في المفاضلة هو «الكثرة» هناك و«القلة» هنا، دون النظر إلى وحدة التركيب؛ إذ لا بد من سريان الوحدة العضوية في الحالتين ليمكن حسبانهما من الفنون أولا، ثم بعد ذلك، وفي إطار هذه الوحدة العضوية المحتومة لأي عمل فني، نقارن بين كثرة التفصيلات في إحدى الثمرتين وقلتها في الأخرى.

ألا إن الجرجاني هنا ليهديه نفاذ البصيرة الفنية إلى أصل نقدي ليته رسخ في الأذهان أكثر مما رسخ، إذن لاسترحنا من أكداس مكدسة في «تراثنا» الأدبي، وفي «حاضرنا» الأدبي كذلك، مما يسري في الناس وكأنه فن وهو لا يزيد عن عبث العابثين، والأغلب أن يكون وجه النقص فقدان «الوحدة» التي تضم التفصيلات الكثيرة في كيان عضوي واحد.

وليس شرطا أن تجيء هذه التفصيلات إلى رؤية الرائي أو إلى سمع السامع دفعة واحدة، ومن لقطة حسية واحدة، بل إنها لتأتي تدريجا؛ فكل رؤية جديدة تكشف لنا في العمل الفني عن تفصيلات لم نكن قد كشفناها في الرؤية السابقة، ومن ثم جاءت خصوبة الأعمال الفنية الصادقة التي تزداد مع الأيام قيمة لأنها التفصيلات الكامنة في كيانها قد ازدادت انكشافا على توالي الناظرين والناقدين؛ يقول الجرجاني إنك «ترى بالنظر الأول الوصف على الجملة، ثم ترى التفصيل عند إعادة النظر ... وهكذا الحكم في السمع وغيره من الحواس؛ فإنك تتبين من تفاصيل الصوت - بأن يعاد عليك حتى تسمعه مرة ثانية - ما لم تتبينه بالسماع الأول، وتدرك من تفصيل طعم الذوق بأن تعيده على اللسان ما لم تعرفه في الذوقة الأولى، وبإدراك التفصيل يقع التفاضل بين راء وراء، وسامع وسامع» (ص138). وخلاصة القول أنه كلما كانت «الصورة» أخص في تفصيلاتها من «صورة» أخرى، كانت أجود من الناحية الفنية، وبالطبع تكون الوحدة العضوية بين تلك التفصيلات شرطا قائما في الحالتين، فالذي يصف سن الرمح بأنه «كالقبس الملتهب» أقل جودة من الذي يصفه بأنه «سنا لهب لم يتصل بدخان»؛ الوحدة مكفولة للصورة في كلتا الحالتين، لكن الصورة الثانية أغنى في تفصيلاتها، وتشبيهك صوتا معينا بصوت الحيوان مطلق الحيوان، أقل جودة من ذكرك نوعا بذاته من أنواع الحيوان، ووصفك شيئا بأنه أحمر، أقل جودة من أن تورد طيف الأحمر الذي تريده مجسدا في شيء نعرف نحن درجة احمراره، وهكذا.

الحق أنني بهذه الوقفة مع الجرجاني في كتابه «أسرار البلاغة» لا اقتصر على أني وقفت وقفة عقلية مع أحد الأعلام السابقين، بل أزيد على ذلك؛ لأني أستمد من هذا الرجل معيارا في تقويم الفن أستطيع أن أنشره اليوم على العالمين، أفليس مدعاة للحسرة أن يتخبط رجال النقد بيننا اليوم في نظريات نقدية نقلناها عن أصحابها، فهمنا بعضها ولم نفهم بعضها، لكننا في الحالتين نلوك عباراتها بصورة أوشكت بنا على الغثيان دون جدوى، في الوقت الذي نغمض أعيننا فيه عن ناقد كالجرجاني، يستخرج نظريته النقدية استخراجا حميما من جوف الأدب العربي ذاته، فيسهل عينا أخذ النظرية وتطبيقها معا؟!

43

وننتقل مع عبد القاهر الجرجاني إلى كتابه الثاني «دلائل الإعجاز»، وأول ما يستوقف نظرنا هنا - بعد صفحات كثيرة يخصصها للدفاع عن الشعر - تأكيده على وجوب أن يكون النقد الأدبي قائما على أساس موضوعي، أو بعبارة أخرى أن يكون وكأنه بالنسبة لأنماط الأدب التي ينقدها في موقف أي «علم» من العلوم بالنسبة إلى أنماط الظاهرة التي يختصها بالبحث، ها هنا كلام قدم مثله كاتب هذه الصفحات ذات يوم منذ أعوام طوال (انظر كتابي «قشور ولباب») فتصدى له من تصدى، قائلا إن عملية النقد تسلبه أخص خصائصه، وكانوا يعنون التذوق، وعندئذ خرجت عليهم بفكرة أشرح بها موقفي، قلت فيها إن للأدب قراءتين؛ قراءة أولى نعجب فيها - أو لا نعجب - بالقطعة التي نطالعها، ثم قراءة ثانية نحلل فيها تلك القطعة لنقع على العناصر التفصيلية التي لعلها أن تكون مثار الإعجاب أو مدعاة النفور، وما دمنا في هذه القراءة الثانية نحاول جمع الشواهد التي «تعلل» لنا ما قد أحسسنا به في القراءة الأولى، فنحن أقرب إلى النظرة العقلية العلمية منا إلى التذوق؛ لأن كل «تعليل» هو رد للنتائج إلى عللها، وبالتالي فهو عملية عقلية، فما هو إلا أن مرت على ذلك بضعة أعوام، وإذا بعجيبة من عجائب الحياة الثقافية المعاصرة في مصر تظهر في الأفق بلا حياء، وهي أن نسبت هذه الفكرة عينها، للرجل عينه الذي كان قد تصدى لكاتب هذه الصفحات أول الأمر بالمجادلة والمعارضة، ولماذا أخفي الأسماء؟ إنه الدكتور محمد مندور، ومات الدكتور مندور ونهض له مناصرون يبرزون أهم ما قد استحدثه في النقد الأدبي، فإذا بينه فكرة «القراءتين» هذه؛ قراءة أولى للتذوق، وقراءة ثانية للتحليل والتعليل!

لكن ما فائدة الندم على لبن مسكوب؟ لنمض في طريقنا، طاوين الصدر على ضروب من العنت والإهمال لقيناها، ولم يعد لنا قبل في هذه المرحلة من العمر أن نرد وأن نعترك، وإنما هي ذكرى أليمة تنزو بمناسبة ما نرويه عن الجرجاني، وكيف يحرص على أن يكون النقد قائما على أساس موضوعي، تعرف فيه العلل المعقولة لكل حكم نصدره، يقول: «لا بد لكل كلام تستحسنه ولفظ تستجيده من أن يكون لاستحسانك ذلك جهة معلومة وعلة معقولة، وأن يكون لنا إلى العبارة عن ذلك سبيل، وعلى صحة ما ادعيناه من ذلك دليل» (دلائل الإعجاز، ص33).

ويعود الجرجاني في هذا الكتاب ليؤكد ما كان قد قاله في كتاب «أسرار البلاغة» من أن المعول في الحكم بالجودة الفنية إنما هو «المعنى» لا مجرد النغم الحلو في جرس الألفاظ، ويسوق لنا مثلا آية قرآنية هي:

وقيل يا أرض ابلعي ماءك

ويسأل: «أفترى لشيء من هذه الخصائص التي تملؤك بالإعجاز روعة، وتحضرك عند تصورها هيبة تحيط بالنفس من أقطارها، تعلقا باللفظ من حيث هو صوت مسموع وحروف تتوالى في النطق؟ أم كل ذلك لما بين معاني الألفاظ من الاتساق العجيب؟» (ص37). «... إن الألفاظ لا تتفاضل من حيث هي ألفاظ مجردة، ولا من حيث هي كلم مفردة، وإن الألفاظ تثبت لها الفضيلة وخلافها، في ملاءمة معنى اللفظة التي تليها، أو ما أشبه ذلك مما لا تعلق له بصريح اللفظ، ومما يشهد لذلك أنك ترى الكلمة تروقك وتؤنسك في موضع، ثم تراها بعينها تثقل عليك وتوحشك في موضع آخر» (ص37-38)، «فلو كانت الكلمة إذا حسنت حسنت من حيث هي لفظ، وإذا استحقت المزية والشرف استحقت ذلك في ذاتها وعلى انفرادها، دون أن يكون السبب في ذلك حال لها مع أخواتها المجاورة لها في النظم، لما اختلف بها الحال، ولكانت إما أن تحسن أبدا أو لا تحسن أبدا» (ص39).

وما ينفك الجرجاني معيدا ومؤكدا بأن مصدر الجمال الأدبي هو أن تنتظم الألفاظ على نظام المعاني الذي اقتضاه حكم العقل ومنطقه، ولكي يبين لنا الفرق بين مثل ها النسق العقلي في الترتيب، وبين مجرد التجاور الذي لا ينطوي على ضرورة عقلية؛ يوازن لنا بين حروف منظومة في لفظة معينة، وبين عدة ألفاظ منظومة في عبارة، فأما نظم الحروف في اللفظة الواحدة فهو اتفاقي صرف، «فلو أن واضع اللغة كان قد قال «ربض» مكان «ضرب» لما كان في ذلك ما يؤدي إلى فساد» (ص39). ولكن ما هكذا الحال في نظم الكلم؛ لأن هذا يقتفي آثار المعاني، فكما أوجبت الضرورة العقلية أن تتتابع المعاني في الذهن على تسلسل معين، ينبغي أن تجيء الجملة على هذا الترتيب نفسه لتتم الموازاة الكاملة بين ما جرى في النفس وما جرى في اللفظ، فلئن كانت حروف الكلمة الواحدة قد ضم بعضها إلى بعض بغير ضرورة توجب صورة بعينها دون أخرى، فإن نظم الكلم لا يقتصر أمره على توالي الألفاظ في النطق، بل إن الألفاظ ليتبع بعضها بعضا على نحو يصون للفكرة وحدتها وكيانها، إنه ليقال عن الألفاظ إنها أوعية للمعاني، فإذا كان أمرها كذلك، «وجب لا محالة أن تتبع المعاني في مواقعها، فإذا وجب لمعنى أن يكون أولا في النفس، وجب للفظ الدال عليه أن يكون مثله أولا في النطق» (ص42).

ويرى الجرجاني أن الترتيب الذي يقتضيه النحو، هو نفسه الترتيب الذي يقتضيه العقل، وبالتالي فهو نفسه الترتيب الذي تنساب به المعاني في الذهن، وإذا كان ذلك كذلك، فما عليك إلا أن تسوق عبارتك ترتيبا يتفق مع قواعد النحو، فإذا هو الترتيب «الجميل»، ويسوق الجرجاني مثلا لذلك هذه الجملة: «ضرب زيد عمرا يوم الجمعة تأديبا له»؛ هكذا يستقيم الترتيب النحوي، والترتيب المنطقي في آن معا؛ فالضارب أولا، والمضروب ثانيا، وتاريخ الضرب ثالثا، والغرض من الضرب رابعا.

لكننا في الحقيقة نحس شيئا من القصور في فكرة الجرجاني، ولا ندري كيف نحدده؛ لأنه لو كان المعنى، والمعنى وحده، هو مدار الحكم، وأن كل ما نطلبه من ألفاظ العبارة هو أن يجيء ترتيبها وفق ترتيب المعاني، فلنذكر أن المعنى الواحد يمكن وضعه في أكثر من تركيبة لفظية، كل منها تنساق كلماته على سياق المعنى، فهل تتساوي القيمة الفنية عندئذ بين هذه التركيبات المتساوية جميعا؟ ليس هذا هو الأمر الواقع؛ إذ ترانا نفاضل بين عبارتين متساويتين في الأداء، وإلا فماذا يكون الفرق بين البيت من الشعر أو الآية من القرآن وبين الشرح لذلك البيت أو هذه الآية؟

يقيم الجرجاني نفسه هذا الاعتراض من الوجهة النظرية ليتيح لنفسه فرصة الرد، فيقول: إن الأمر في هذه الحالة يكون كصياغة الذهب مثلا، فتكون قطعة الذهب غفلا ثم يصوغها الصائغ سوارا، فكذلك يكون المعنى «غفلا ساذجا عاميا موجودا في كلام الناس كلهم، ثم تراه نفسه وقد عمد إليه البصير بشأن البلاغة وإحداث الصور في المعاني، فيصنع فيه ما يصنع الصانع الحاذق» (ص303)، لكننا نرى أن الاعتراض ما زال قائما في أساسه، فنحن لا نريد المقارنة بين المعنى من جهة وعبارة معينة تجسده في لفظها حتى يقال لنا إن المعنى بمثابة الذهب الغفل، والعبارة بمثابة السوار الذي يصوغه صائغ من ذلك الذهب، وإنما نحن أمام مقارنة مطلوبة بين عبارتين، كلتاهما تسوق المعنى بترتيب يرضى عنه منطق العقل، فكيف نفاضل بينهما؟ ولنستخدم لغة الجرجاني فنقول: إننا أمام سوارين صاغهما صائغان من ذهب غفل، فكيف نفاضل بين سوار منهما وسوار؟ ذلك هو السؤال الذي نعتقد أنه ترك عند الجرجاني بغير جواب حاسم، لا في كتابه «أسرار البلاغة» ولا في كتابه هذا «دلائل الإعجاز».

ومهما يكن من أمر، فإن الجرجاني بعد أن يضع هذا الأساس العام للبلاغة في رأيه، ينتقل إلى موضوعه، وهو إعجاز القرآن؛ فبناء على الأساس الذي وضعه، يصبح الأمر واضحا، وهو أن الإعجاز إنما هو في المعاني الواردة في القرآن، لا في طرائق صياغتها اللفظية، فإذا سأل سائل: ما موضع التحدي حين يقول الله تعالى:

قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ؟ جاء جواب الجرجاني على سؤال السائل هكذا: إن موضع التحدي هو في معنى القرآن لا في لفظه، وأخذ يسوق على ذلك حججا على سبيل البرهان، نلخصها فيما يلي:

محال أن تكون مفردات اللغة المستعملة في القرآن هي موضع الإعجاز؛ وذلك لأنه إنما استعمل مفردات كانت مستعملة قبل نزوله، واستعملها بنفس معانيها السابقة ... «لا يجوز أن يكون في الكلم المفردة؛ لأن تقدير كونه [أي الإعجاز] فيها يؤدي إلى المحال، وهو أن تكون الألفاظ المفردة التي هي أوضاع اللغة قد حدث في حذاقة حروفها وأصدائها أوصاف لم تكن لتكون تلك الأوصاف فيها قبل نزول القرآن، وتكون قد اختصت في أنفسها بهيئات وصفات يسمعها السامعون عليها إذا كانت متلوة في القرآن، ولا يجدون لها تلك الهيئات والصفات خارج القرآن، ولا يجوز أن تكون [دلائل الإعجاز] في معاني الكلم المفردة التي هي لها بوضع اللغة؛ لأنه يؤدي إلى أن يكون قد تجدد في معنى الحمد والرب، ومعنى العالمين والملك واليوم والدين وهكذا، وصف لم يكن قبل نزول القرآن» (ص277).

ولا يكون موضع الإعجاز في القرآن هو ما فيه من مقاطع وفواصل ... «وإنما الفواصل في الآي كالقوافي في الشعر، وقد علمنا اقتدارهم على القوافي كيف هو، فلو لم يكن التحدي إلا إلى فصول من الكلام يكون لها أواخر أشباه القوافي، لم يعوزهم ذلك ولم يتعذر عليهم» (ص278).

وليس موضع الإعجاز فيما نجده في القرآن من استعارة؛ لأن كثيرا منه يخلو من الاستعارة.

وإنما موضع الإعجاز هو في النظم والتأليف، أي في نظم المعاني والتأليف بينها، ويتخيل الجرجاني أن معترضا يعترض على ذلك فيقول بأن هذا المبدأ يخرج ما في القرآن من استعارة ومن سائر ضروب المجاز، على اعتبار أن هذه أمور تتعلق باللفظ لا بالمعنى، فيرد الجرجاني على الاعتراض قائلا: «بل ذلك يقتضي دخول الاستعارة ونظائرها فيما هو به معجز؛ لأنها ... من مقتضيات النظم، وعنها يحدث، وبها يكون؛ لأنه لا يتصور أن يدخل شيء منها في الكلم وهي أفراد لم يتوخ فيما بينها حكم من أحكام النحو» (ص281).

ليس الإعجاز في مجرد ضم كلمة إلى كلمة بحيث يكون لهما جرس خاص، بل لا بد أن يكون في ضم المعنيين؛ فالضم «لا يصح أن يراد به النطق باللفظة بعد اللفظة من غير اتصال يكون بين معنييهما؛ لأنه لو جاز أن يكون لمجرد ضم اللفظ إلى اللفظ تأثير في الفصاحة، لكان ينبغي إذا قيل: «ضحك خرج» أن يحدث من ضم «خرج» إلى «ضحك» فصاحة، وإذا بطل ذلك لم يبق إلا أن يكون المعنى في ضم الكلمة إلى الكلمة توخي معنى من معاني النحو فيما بينهما» (ص282).

وليس موضع الإعجاز في القرآن هو «أن يكون قد تحفظ مما تخطئ فيه العامة، ولا بأن يكون قد استعمل الغريب؛ لأن العلم بجميع ذلك لا يعدو أن يكون علما باللغة، وبأنفس الكلم المفردة، وبما طريقه طريق الحفظ دون ما يستعان عليه بالنظر ويوصل إليه بإعمال الفكر» (ص283)، «وتأمل ما جمعه العلماء في غريب القرآن، فترى الغريب منه - إلا في القليل - إنما كان غريبا من أجل استعارة فيه» (ص284).

وليس الإعجاز في سلامة الإعراب؛ وذلك أن حكمنا بالفصاحة «لا يكون من أجل شيء يدخل في النطق، لكن من أجل لطائف تدرك بالفهم » (ص286)؛ فالتفاضل بين كلامين إنما يكون بعد أن يكونا قد برئا من اللحن، وسلما في ألفاظهما من الخطأ.

ولو كانت فصاحة اللفظة في ذاتها لا في معناها، للزم أن تكون فصيحة أينما وردت، لكنها تكون فصيحة آنا وغير فصيحة آنا، حسب موضعها حين تشترك مع غيرها في أداء معنى مقصود (ص287).

ولما كانت الفصاحة وضعا للمتكلم لا لواضع اللغة، كانت بالتالي وصفا مترتبا على المعنى الذي يؤديه المتكلم بكلامه؛ إذ إنه لم يغير من أوضاع اللغة شيئا، وإلا لما كان متكلما يتكلم ليفهم (ص288)، وهذه هي عبارة الجرجاني في ذلك: إن المتكلم «لا يستطيع أن يصنع باللفظ شيئا أصلا، ولا أن يحدث فيه وضعا، كيف، وهو إن فعل ذلك أفسد على نفسه، وأبطل أن يكون متكلما؛ لأنه لا يكون متكلما حتى يستعمل أوضاع لغة على ما وضعت هي عليه ...»

الحكم في فصاحة اللفظ لا يكون بحاسة السمع، بل بالعقل، وفي ذلك يقول: «لا تخلو الفصاحة من أن تكون صنعة في اللفظ محسوسة تدرك بالسمع، أو تكون صفة فيه معقولة تعرف بالقلب، فمحال أن تكون صفة في اللفظ محسوسة؛ لأنها لو كانت كذلك لكان ينبغي أن يستوي السامعون للفظ الفصيح في العلم بكونه فصيحا، وإذا بطل أن تكون محسوسة وجب الحكم ضرورة بأنها صفة معقولة، وإذا وجب الحكم بكونها صفة معقولة، فإنا لا نعرف للفظ صفة يكون طريق معرفتها العقل دون الحس إلا دلالته على معناه» (ص291).

لو كانت فصاحة اللفظ في سمعه، لحكمنا بوجودها عند سمعه، لكننا في الحقيقة ننتظر حتى يتم النطق بالجملة كلها ثم نحكم عليها بالفصاحة فكأننا - إذا كان المدار على السمع - نحكم بوجود الصفة بعد زوال موصوفها، وهذه هي عبارة الجرجاني في ذلك: «إن القارئ إذا قرأ قوله تعالى:

واشتعل الرأس شيبا

فإنه لا يجد الفصاحة التي يجدها، إلا بعد أن ينتهي الكلام إلى آخره، فلو كانت الفصاحة صفة للفظ «اشتعل» لكان ينبغي أن يحسها القارئ فيه حال نطقه به، فمحال أن تكون للشيء صفة ثم لا يصح العلم بتلك الصفة إلا من بعد عدمه، ومن ذا رأى صفة يعرى موصوفها عنها في حال وجوده، حتى إذا عدم صارت موجودة فيه؟ وهل سمع السامعون في قديم الدهر وحديثه بصفة شرط حصولها لموضوعها أن يعدم الموصوف؟» (ص292).

إن منطق الذين يقولون إن العبرة باللفظ ينتهي بنا إلى أن تكون مفردات الكلمة الواحدة (أي حروفها) ذات جمال في ذاتها؛ إذ من هذه المفردات يتكون المجموع، فإن قال قائل: لا، بل إني أزعم الفصاحة للكلمة مجموعة لا لحروفها مفردة، كان كالذي «يزعم أن ها هنا غزلا إذا نسج منه ثوب كان أحمر، وإذا فرق ونظر إليه خيطا لم تكن فيه حمرة أصلا» (ص293).

إذا اتفقنا على أن الاستعارة تضفي جمالا على اللفظ المستعار، أفلا يكون الأساس هو في المعنى المستفاد، ما دام جرس الكلمة لم يتغير في حالة استعارتها، عنه في حالة استعمالها على الحقيقة؟ (ص293). «إنه لا يتصور أن يتعلق الفكر بمعاني الكلم أفرادا ومجردة من معاني النحو، فلا يقوم في وهم، ولا يصح في عقل، أن يتفكر متفكر في معنى فعل من غير أن يريد إعماله في اسم، ولا أن يتفكر في معنى اسم من غير أن يريد إعمال فعل فيه وجعله فاعلا له، أو مفعولا ... [أو غير ذلك من الحالات] وإن أردت أن ترى ذلك عيانا فاعمد إلى أي كلام شئت، وأزل أجزاءه عن مواضعها، وضعها وضعا يمتنع معه دخول شيء من معاني النحو فيها، فقل: «قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل» «من نبك قفا حبيب ذكرى منزل» ثم انظر: هل يتعلق منك فكر بمعنى كلمة منها؟» (ص294).

الوحدة الفنية إنما تكون في تكامل الصورة الذهنية، على الرغم من أن التعبير عن هذه الصورة الواحدة المتكاملة الأجزاء يكون بعده ... ألفاظ يرص بعضها إلى جوار بعض، خذ مثلا الصورة التي يرسمها بشار بالبيت القائل: «كأن مثار النقع ...» إن ألفاظ البيت تتعاون معا على رسم صورة واحدة، لكن ذلك لا يجعل منها لفظا واحدا. ومعنى ذلك هو أن «النظم يكون في معاني الكلم دون ألفاظها، وأن نظمها هو توخي معاني النحو فيها» (ص297).

إنه بالنسبة للمتكلم يجيء ترتيب المعاني أولا ثم الألفاظ ثانيا، وأما بالنسبة للسامع، فترتيب اللفظ يأتي أولا ثم المعاني ثانيا - وحديثنا ينصب على واضع الكلام لا على سامعه، حين نقول بأولوية المعنى على اللفظ (ص299).

ولو كانت الألفاظ تتقدم على المعاني «لكانت أسامي الأشياء قد وضعت قبل أن عرفت الأشياء، وقبل أن كانت» (ص300).

تلك خلاصة وافية للوقفة العقلية التي وقفها عبد القاهر الجرجاني، فإذا كانت سياحتنا هذه التي نسوح بها في أرجاء التراث الفكري، تريد أن تتصيد من ذلك التراث وقفات يمكن نقلها إلى عصرنا، لا لتكون موضع فخر فحسب، بل لتكون كذلك جزءا حيا من حياتنا الفكرية المعاصرة، فأحسب أن وقفة الجرجاني هذه هي من أنفس ما نعود به.

الفصل السادس

الكوكب الدري

44

كان القرنان التاسع والعاشر الميلاديان، وما بعدهما بقليل، هما الدرة الساطعة على طريق تراثنا الفكري، لا لأنه لم يكن قبلهما شيء ولم يأت بعدهما شيء، كلا؛ فلقد شهدنا في طريق رحلتنا الثقافية التي نرصد خطاها في هذا الكتاب، وقبل أن نبلغهما، ضروبا من التفكير القوي الخصيب المثمر، لا سيما في ميادين اللغة والنحو، وتحليل الأحكام الشرعية عندما استثيرت عقول المفكرين بمواقف كانت تقتضي إصدار الحكم في شأن من أخطأ خطيئة صغرى أو خطيئة كبرى، وسوف نشهد بعد هذين القرنين كذلك ضروبا أخرى من التفكير القوي الخصيب المثمر، لكن ما قبل هذين القرنين - فيما نتصور في حدود علمنا المحدود - إنما كان تمهيدا لهما، وما بعد هذين القرنين كان لهما كالصدى والأثر.

ولقد أسلفنا في الفصل الرابع من هذا الكتاب وقفات اخترناها من القرن التاسع؛ حركة الترجمة عن اليونان الأقدمين، ثم العلاف والنظام والجاحظ، كما أسلفنا كذلك في الفصل الخامس وقفات أخرى اخترناها من القرن العاشر؛ إخوان الصفا، وأبو حيان التوحيدي، وابن جني، وعبد القاهر الجرجاني (وهذا امتدت حياته فترة طويلة في القرن الحادي عشر)، لكننا عرضنا هذه الوقفات العقلانية كلها، كما تعرض اللوحات في معرض الفن؛ كي يقف أمامها الرائي متفكرا متأملا ، وأما في هذا الفصل الذي نحن الآن في سبيل إنشائه، فسوف نعنى بشيء من الحوار الحاد العنيف الذي دارت أرحاؤه خلال ذينك القرنين (التاسع والعاشر، وهما الثالث والرابع بالتاريخ الهجري)، وعندنا - عند كاتب هذه الصفحات - أن أصدق معيار يقيس لنا الغزارة الفكرية في عصر من العصور، هو ما يتبادله رجال الفكر فيه من أخذ ورد، ومن عرض ونقد، فتلك هي علامات الحياة، أما أن يتأمل فيلسوف، أو أن يكد دارس، ثم يسجل الفيلسوف تأملاته، والدارس دراساته، في كتاب أو كتب، ثم يمضي بغير رجع للصدى، فذلك قد يكون من قبيل النافع الذي يمكث في الأرض زمنا طويلا، لكنه وحده لا يدل على حيوية المثقفين في عصره، وقد تمضي أعوام أو قرون، ثم يتنبه لذلك الفيلسوف أو ذلك الدارس من يخرجه من بطون كتبه ليلقي عليه ضوء النهار فيراه الناس ويناقشونه فيما ذهب إليه، وعندئذ فقط يكون للعمل الفكري أثره الحي الفعال.

فإذا قبلنا هذا المعيار لحيوية الثقافة في عصر من العصور، أعني معيار الحوار الجاد الذي لا مزاح فيه، نتج لنا صدق ما زعمناه، وهو أن تلك الفترة الزمنية من تاريخنا الفكري - القرنان التاسع والعاشر الميلاديان - هما الكوكب الدري في سمائنا، أو هكذا نرى؛ لشدة ما دار فيهما من مجادلة بين أصحاب الرأي.

كان المعتزلة - على اختلاف نظراتهم - هم الطاقة المفكرة، إذا جاز لنا هذا التعبير؛ فهم الذين يتصدون للمشكلات الناشئة من مواقف الحياة العملية، بتحليلاتهم العقلية التي تنتهي بهم إلى نتائج بعينها، وعندئذ يقبل على نتائجهم هذه من يقبل، وينفر من الناس من ينفر، ومن ثم تتكون المذاهب وتتفرع، ولقد بلغ المعتزلة أوج عزهم في أوائل الدولة العباسية، لا سيما في خلافة المأمون والمعتصم والواثق، الذين عرفوا لهم مكانتهم، ودعوهم إلى مجالسهم، وقدموهم على سائر العلماء، فكان للمعتزلة الرأي الأول، بل الرأي الأوحد، وها هي ذي «محنة» خلق القرآن، التي ابتلي بها السلفيون من أمثال أحمد بن حنبل؛ لمجرد كونهم قد رأوا في القرآن رأيا لم يكن هو رأي المعتزلة، إذ رأي هؤلاء المعتزلة فيه أن كلام الله حادث، يمكن تحديد وقوعه في مجرى الزمن، على حين أن أولئك قد رأوا أن كلام الله لا بد أن يكون كصاحبه كائنا منذ الأزل، لا تحدده لحظة زمنية يبدأ عندها (انظر تفصيلات «المحنة» في الفصل الثاني من كتابنا «تجديد الفكر العربي») - ولقد وقفنا في الفصل الرابع من هذا الكتاب مع اثنين من أعلامهم؛ هما العلاف، والنظام.

ولقد علمنا تاريخ الفكر أن موجات المذاهب إنما تعلو لتبلغ مداها ثم تنحسر، وذلك ما قد حدث للمعتزلة، فلم يكد يستوفي الخليفة الواثق أجله ويعقبه في خلافة المسلمين المتوكل، حتى أدبر عنهم الدهر؛ إذ ما هو إلا أن يطمئن أعداؤهم من أهل السنة ومن الروافض (وقد سموا كذلك لرفضهم خلافة إمامة أبي بكر وعمر؛ لأنها حجبت الحق عن صاحبه، الذي هو علي بن أبي طالب) إلى أن نجم المعتزلة قد بدأ يخبو، حتى خرجوا عليهم بكل ما استطاعوا من قوة في الحجة، وعنف في الجدل، وحرارة في الحوار.

فلنوجز القول في هذا ثم نفصله بعض التفصيل؛ نوجزه فنقول: إن محور الخلاف بين المعتزلة وأهل السنة هو في مسألة صفات الله، فهل ننظر إلى هذه الصفات - كالعلم والقدرة مثلا - وكأنها كيانات قائمة برأسها، نتحدث عنها بما نتحدث به وكأنما هي مستقلة عن الذات الإلهية الموصوفة بها، أو أن ننظر إليها كما ننظر إلى وظائف الأعضاء، لا تستقل الوظيفة عن عضوها؟ أخذ أهل السنة بالنظرة الأولى حتى لأطلق عليهم اسم «الصفاتية» وأخذ المعتزلة بالنظرة الثانية؛ ولذلك أطلق عليهم - على سبيل التقابل - اسم «المعطلة» أي الذين ينفون عن الصفات استقلالها، وأما محور الخلاف بين المعتزلة والرافضة فهو في قبول «التجسيم» لله تعالى أو إنكاره، فالآيات القرآنية التي تشير إلى الله تعالى بما يصوره جسما، كثيرة، فأما المعتزلة فلا يرون بدا من تأويل أمثال هذه الآيات تأويلا نتخلص به من جوانب «التشبيه» وأما السلفيون الروافض فيريدون أن يؤخذ القرآن بما ورد في نصوصه بغير تأويل، ولقد تحرجوا في التأويل لسببين؛ أولهما: ما قد ورد في القرآن مما ظنوه منعا يحرم تأويل كلام الله؛ كقوله تعالى:

فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب ؛ والسبب الثاني: هو أن التأويل مهما تبلغ بصاحبه قدرته العقلية، فهو لا يعدو أن يكون ظنا، ولا يجوز أن تؤخذ صفات الله تعالى بالظنون، ومن «المشبهة» - هكذا يسمى الآخذون صفات الله الدالة على جوانب جسيمة بظاهر نصوصها وبغير محاولة تأويلها - أقول إن من «المشبهة» من يذهب مع مذهبه إلى أقصى أطرافه، فيميل نحو الحلولية، بحيث يجيز أن يظهر الله تعالى مشخصا فيما شاء أن يتجلى فيه، فقد تمثل - تعالى - لمريم بشرا سويا، على أن حلوله تعالى قد يكون بجزء وقد يكون بكل؛ كما كانوا يقولون.

ونفصل القول بعض الشيء؛ لنفهم لماذا احتد الخلاف النظري بين المعتزلة من جهة، والسلفيين والمشبهة من جهة أخرى، بحيث إذا ما أقبلت الدنيا على المعتزلة نالوا من خصومهم إلى درجة التعذيب والتنكيل، حتى إذا ما دارت الأيام ودالت عنهم الدولة لتقبل على خصومهم رد إليهم هؤلاء صاعا بصاع. وقد يحس القارئ آخر الأمر - كما أحسست أنا - أن أمر النزاع بين الفريقين لم يكن يستحق كل هذا الحنق من فريق على فريق، ولكن لنعلم أنه بمقدار ما يفوتنا وجه الإثارة الذي استوجب ذلك القتال، يكون قد استحال علينا أن نعيش مع الأقدمين فيما امتلأت به صدورهم من سعير المشكلات.

إن لمذهب المعتزلة أصولا خمسة؛ يقول عنها «الخياط» في كتابه «الانتصار»: «ليس يستحق أحد اسم الاعتزال حتى يجمع القول بالأصول الخمسة» (ص126)، وهي أصول نعرفها جميعا لكثرة ورودها في كل كتاب يعرض لهم بالحديث:

فأولها: القول بالتوحيد، نعم إن كل مسلم قائل بالتوحيد، لكنهم أرادوا بذلك تخصيصا في القول لم يشاركهم فيه أصحاب المذاهب الأخرى، من ذلك أنهم رأوا نتيجة تلزم عن التوحيد، وهي أن يكون الله قديما (= أزليا ) بذاته، وأما صفاته تعالى فليست كذلك، فإذا كان الله «عالما» فهو عالم بتلك الذات الإلهية نفسها، لا بأن تكون صفة «العلم» قائمة وحدها ولها من الأزلية ما للذات، قائلين في ذلك: إنه لو كانت الصفات مشاركة للذات في القدم، لشاركتها في الألوهية، وفي ذلك كثرة وتعدد لا يستقيم معهما «توحيد».

وإذا جاز لي أن أقرب هذا القول إلى عقول القراء المعاصرين، أجريت مشابهة بينه وبين مشكلة حديثة نشأت في ميدان علم النفس الحديث، وهي خاصة بما كان يسمى «بالملكات»؛ فقد كان يظن أن للإنسان ملكة للحفظ - مثلا - وملكة للتفكير الرياضي، وملكة للغات، إلى آخر هذه القدرات التي تتبدى كلها أو بعضها عند مختلف الأفراد، وكان الظن - كذلك - أن كل «ملكة» من هذه الملكات لها كيانها المستقل؛ ولذلك كان السؤال وارادا: كيف نقوي هذه الملكة أو تلك؟ وقد كانت العملية التربوية في المدارس متأثرة بمثل هذا التصور، إلى الحد الذي جعلها تقيم المناهج الدراسية على أساس هذه «الملكات» وهي فرادى، ثم ظهرت النتائج العلمية في ميدان علم النفس الحديث، فإذا هذه الملكات وهم، وإذا الموجود الوحيد هو الكائن العضوي المكتمل الذي يكون فردا من الأفراد، وهذا الكائن ينضج «كله» ويدرك «كله» ويحفظ أو لا يحفظ «كله»، وأحسب أننا ما نزال - برغم هذه النتائج العلمية الحديثة - نجد صعوبة شديدة في تقبل هذه «الوحدانية» العضوية للفرد، بدليل أننا ما زلنا نتصور «العقل» - مثلا - وكأنه ساكن يسكن الجسد، ليديره كيف شاء، أو كأنه سائق السيارة، ليس هو من السيارة، لكنه مسيرها، وعبثا يحاول بعضنا أن يفهم بأن «العقل» إن هو إلا حالة سلوكية توافرت فيها صفات معينة، ومن ثم فهي الكيان العضوي كله وهو يسلك على ذلك النحو المعين.

شيء كهذا - فيما أتوهم - كان وراء ما اختلف عليه المعتزلة مع أهل السنة، فالمعتزلة يريدون أن يتصوروا الذات الإلهية واحدة وحدانية مطلقة، وهذه الذات الواحدة غير المنقسمة، تعلم «كلها» وتقدر «كلها» وهكذا، وبين ما يترتب على هذا التوحيد الخالص أن ننفي عن الذات الإلهية كل تشبيه مهما تكن صورته، فإذا وجدنا شيئا من التشبيه في آيات الكتاب وجب تأويلها، وأن ننفي كذلك إمكان رؤيته تعالى بالأبصار، لا في الدنيا ولا في الآخرة.

فلم يكن مثل هذا التوحيد الخالص المجرد بالشيء المقبول، بل لم يكن ليفهم إلا عند ذوي النظرات الفلسفية التي من طبعها تجريد الأفكار تجريدا يبعد بها عن المتعين المألوف، فرفضه جماعة المشبهة من أهل السنة ومن غلاة الشيعة على السواء، لكن كلا من هذين أراد أن يتصور الباري بصفاته الواردة في القرآن، فإذا قيل «يد الله» و«وجه الله» و«نور السموات والأرض» وغير ذلك من الصور المجسدة، أخذوا تلك الصور بحرفيتها ولم يؤولوها. على أن أهم ما وقفوا عنده وقفة كانت لها رجة كبرى، صفة «الكلام»؛ فبناء على نظرة المعتزلة إلى الصفات، محال أن تنفرد هذه الصفة بوجود مستقل عن الذات، بحيث يوضع «الكلام» في «كتاب» ثم نزعم أن هذا الكلام المكتوب على صفحات الورق هو هو بعينه ما كان قائما مع الله منذ الأزل؛ ذلك محال عند المعتزلة، وإذن فلا بد أن يكون هذا الكلام المرئي المسموع - الذي نراه مطبوعا في المصاحف والذي نسمعه ممن يتلون آيات الكتاب - أقول إن هذا الكلام كما نراه أو نسمعه لا بد أن يكون حادثا كسائر الحادثات، حدث أول ما حدث عند نزوله على لسان جبريل على النبي عليه السلام، وأما فريق المشبهة الذين لا يجدون حرجا من أخذ الأمور بما جاءت به وكما جاءت، فلا يقرون أن يكون كلام الله صفة قائمة بالذات الإلهية، لا نبصرها ولا نكتبها ولا نقرؤها ولا نسمعها، وإلا فماذا يكون هذا الذي نراه مكتوبا في مصاحف القرآن ونسمعه مقروءا إذا لم يكن هو كلام الله بالمعنى المقصود؟ لذلك فلا يتردد هؤلاء في الإيمان بأن ما بين دفتي الكتاب هو كلام الله، بهذه الصورة المسموعة نزل به جبريل، وبهذه الصورة المكتوبة مثبت في اللوح المحفوظ، وبهذه الصورة يسمعه المؤمنون في الجنة، يسمعونه من الباري جل وعلا، بغير واسطة ولا حجاب ، ولو لم يكن الأمر كذلك فكيف نفهم قوله تعالى:

سلام قولا من رب رحيم

وقوله لموسى عليه السلام:

يا موسى إني أنا الله رب العالمين ...

وكلم الله موسى تكليما ...

إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي ...

وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء ، وبين أن تكون صفة الكلام كما تصورها المعتزلة، وأن تكون كما تصورها السلفيون والمشبهة؟ فارق لم يقف عند حدود الاختلاف النظري بين المفكرين، بل جاوز ذلك ليكون اختلافا قد يؤدي إلى السجن والتعذيب والتشريد، وهنا نعيد ما أسلفناه، وهو أن المعتزلة حين تمكنوا من السلطان في عهود المأمون والمعتصم والواثق، أنزلوا ما أنزلوه بالأئمة القائلين بوجهة النظر المضادة، فلما ذهب سلطانهم بعد ذلك، لم يكن ضد طبائع الأمور أن ينهض أصحاب النظرة السلفية والمشبهة بالانتقام.

ذلك كان أول أصول المعتزلة، وهو «التوحيد» وما تفرع عن الاختلاف في فهمه وتصوره من نتائج نظرية وعملية على حد سواء، وأما الأصل الثاني من أصولهم الخمسة فهو القول «بالعدل»؛ فقد تصور المعتزلة «العدل» الإلهي على نحو خالفوا به الآخرين، وإن هذا السياق لفرصة مواتية يفيد منها القارئ إذا أراد، فيرى كيف أن المعنى الواحد قد يكون مقبولا عند الجميع من حيث اللفظة الدالة عليه، فمن ذا يرفض فكرة «العدل» سواء كان من جهة الله أو من جهة الإنسان؟! لكن ادخل في تفصيل المراد باللفظة، بأن تحدد ما ينبغي توافره ليصح إطلاق الكلمة على الله تعالى - أو على الإنسان إذا كان الإنسان هو موضع الحديث - فها هنا يأخذك العجب كيف يتشقق الرأي، فيصبح ما كان يظن أنه معنى واحد لا اختلاف عليه، عدة معان متباينة، لكل منها فريق يناصره.

يقول المعتزلة: إن «العدل» الإلهي لا يفهم على وجهه الصحيح إلا إذا كان الإنسان قادرا على اختيار أفعاله ليكون مسئولا عن اختياره، ثم يأتي الحساب «العادل» فيثيب من أحسن ويعاقب من أساء، لكن هل يمضي هذا القول المستقيم بغير معارضة؟ كلا؛ لأننا لو قبلناه، فماذا نصنع عندئذ بالآيات الكثيرة الدالة على أن الأمر فيما يفعله الإنسان إنما هو بيد الله؟!

إن المعتزلة لم يكونوا قد أرسلوا هذا القول إرسالا بلا مبرر، بل قالوه ليردوا به على القائلين بالجبر، وعلى من بلغت به الجرأة من الرافضة أن ينسبوا وقوع الظلم إلى الله تعالى، أما الجبرية فلعلها قد بلغت أقصى تطرفها على يدي جهم بن صفوان في منتصف القرن الثامن الميلادي، وتولى الرد عليه معتزلو الموجة الأولى، وأما الروافض فهم الذين نراهم على مسرح الأحداث متحالفين مع أهل السنة برغم ما بين الفريقين من خلاف، ليشددوا الهجمة على المعتزلة بعد أن زال عنهم سلطان التأييد أو تأييد السلطان، ولقد رأينا يكف أخذ الروافض «بالتشبيه»، حتى لقد قال عنهم «الخياط» في كتابه «الانتصار»: «وأما جملة قول الرافضة فهو أن الله عز وجل ذو قد وصورة وحد، يتحرك ويسكن، ويدنو ويبعد، ويخف ويثقل» (ص5-6). ونذكر عنهم الآن قولهم في أن طريق الإنسان مرسوم له، بخيره وبشره على السواء، مما حدا بالمعتزلة أن يردوا بفكرتهم عن «العدل» الإلهي ماذا يكون، يروي عنهم «الخياط» في «الانتصار» فيقول: إن رأيهم في القدر هو «أن الكافر كفر لعلة وبسبب من قبل الله، ألجآه إلى الكفر، بل ألجآه إلى كفره واضطراه إليه وأدخلاه فيه، وإن الله يشاء كل فاحشة ويريد كل معصية» (ص6).

وأما الأصل الثالث من أصول المعتزلة، فهو القول بالوعد والوعيد، ويراد بالوعد أن يثاب من خرج من الدنيا على طاعة وتوبة، ويراد بالوعيد أن يعاقب من خرج من الدنيا من غير توبة عن كبيرة ارتكبها.

وإن هذا الأصل عن الثواب والعقاب لشديد الصلة بالأصل الرابع، وهو القول بالمنزلة بين المنزلتين، وهو قول يراد به أن مرتكب الكبيرة ليس بكافر ولا مؤمن، لكنه فاسق، والفسق حالة تغاير الإيمان والكفر معا؛ فهي في منزلة بين المنزلتين، ولعل هذا المبدأ قد كان نقطة البدء للمذهب المعتزلي كله، ولقد أفضنا القول فيه، عندما تحدثنا (في الفصل الثاني والفصل الثالث) كيف أن القتال بين علي ومعاوية قد أثار في أذهان الناس مشكلة قضائية ملحة، وهي: محال أن يكون الطرفان المتقاتلان على صواب فلا بد أن يكون أحدهما - على الأقل - مخطئا، لكنه في هذه الحالة خطأ قد أودى بأرواح مئات الضحايا من خيرة الناس، فماذا يكون الحكم فيمن يثبت أنه هو المخطئ من الطرفين؟ إنه مرتكب جريمة كبرى، أفلا يكون قد كفر بسببها؟ ها هنا ثار الجدل، وبسطنا لك فيما أسلفناه في الفصول الأول كيف تشعب الرأي؛ فالخوارج قالوا بكفر المخطئ بمثل ذلك الذنب الكبير، والمرجئة آثرت أن يعلق الحكم إلى يوم الحساب، فلما عرض الأمر على مجلس الحسن البصري بعدئذ، وكان واصل بن عطاء بين الحاضرين، أفتى واصل بأن مرتكب هذه الكبيرة لا يكفر بسببها، ولا يظل كامل الإيمان ، بل يقع في منزلة بين المنزلتين، ولم يرض شيخه الحسن البصري عن هذه الفتوى، فترك واصل مجلسه، واتخذ لنفسه مكانا آخر من المسجد، لينضم إليه من يرى رأيه، فكان «اعتزاله» هذا بداية المعتزلة.

وأخيرا يجيء الأصل الخامس من أصول المعتزلة، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وليس الأمر - في نظر أصحاب هذا المبدأ - مقصورا على جملة تقال، بل لا بد من إعمال المبدأ في عالم السلوك، بمعنى أن نتدخل تدخلا فعليا لننهى المقبل على منكر عن فعل منكره، ولنحض الناس، بل لنحملهم بالقوة على أداء ما نراه صوابا متعارفا عليه، وفي الأخذ بهذا المبدأ يكمن الجهاد ضد من كفر بالله أو فسق.

تلك صورة لما أراده المعتزلة للناس من مبادئ الفكر والعمل، وليس من شأننا في هذا السياق أن نؤيد أو نعارض أو نقترح التعديل، لكن ما نبتغيه هنا هو أن نضع أمام القارئ صورة لجماعة فكرية أتاها تأييد من السلطان فتحكمت فيمن يتولى مناصب القضاء ومن يعزل عنها، ثم دالت دولتهم فجاء أهل السنة - أي المحبذون لأخذ السلف نموذجا يحتذى، ولقبول النص القرآني ونص الأحاديث النبوية بظاهر معانيها - كما جاء الشيعة، والرافضة منهم على وجه الخصوص، ليأخذوا بثأرهم من المعتزلة، فأشبعوهم هجوما ونقدا.

وعندئذ أخرج الجاحظ (والجاحظ معتزلي) كتابه «فضيلة المعتزلة» دفاعا عن مذهبهم، فلم يكن من «ابن الراوندي» إلا أن أخرج «فضيحة المعتزلة» ليرد به على الجاحظ، كما أخرج مجموعة من كتب أخرى رصدها جميعا لمهاجمة الإسلام من عدة جوانب، ومن ثم أصبح هدفا لفاعلية فكرية امتدت بعده لأكثر من مائة عام، يحاول خلالها كل من آنس في نفسه قدرة على دفع ما زعمه ذلك «الكافر» ابن الرواندي، فمن هو الرجل الذي أحدث تلك الضجة كلها خلال فترة زمنية طالت إلى ذلك المدى؟ وهل كانت وراء تلك الهجمة الشاذة دوافع مما يمكن أن يضيء لنا جوانب الموقف العقلي خلال القرنين التاسع والعاشر؟

وإننا في هذا لننقل عن مقدمة المستشرق «ينبرج» الذي حقق كتاب «الانتصار» الذي ألفه «الخياط» المعتزلي «للرد على ابن الرواندي الملحد» [جرى ينبرج على رسم الاسم هكذا: «الروندي» بغير الألف، قائلا إنه رسم وجده أشيع استعمالا في الكتب من رسم «الراوندي» بالألف بعد الراء]:

مؤلف كتاب «فضيحة المعتزلة» هو «الراوندي»، ويروى عنه أنه كان من المتكلمين، ولم يكن في زمانه أحذق منه بالكلام ولا أعرف بدقيقه وجليله، وكان في أول أمره حسن السيرة حميد المذهب كثير الحياء، ثم انسلخ من ذلك كله لأسباب عرضت له، وكان علمه أكثر من عقله ... وقد حكى جماعة أنه تاب عند موته مما كان منه، وأظهر الندم واعترف بأنه إنما صار إليه حمية وأنفة من جفاء أصحابه له وتنحيتهم إياه من مجالسهم، ولقد ألف أكثر كتبه الكفريات من أجل يهودي من الأهواز، وفي منزل ذلك اليهودي جاءه الأجل.

ولقد اختلف الكاتبون عنه في سبب إلحاده، فقيل: فاقة لحقته، وقيل: تمنى رياسة لم ينلها فارتد وألحد، ولقد ألف كتبه تلك خدمة لأصحاب العقائد الأخرى كاليهود والنصارى والثنوية، ولما كان المعتزلة ذوي نفوذ، استعانوا بالسلطان على قتل ابن الراوندي لقاء ما اقترف، لكنه هرب إلى يهودي في الكوفة. تضاربت الأقوال عن الرجل، حتى في تاريخ مولده وتاريخ موته، لدرجة أن بعض الرواة اختلف عن بعضهم الآخر في خمسين سنة كاملة، فيجعله بعضهم في سن الأربعين عند موته ، ويجعله الآخرون فوق الثمانين، ويكفينا منه على كل حال أنه عاش في النصف الثاني من القرن التاسع الميلادي، وأنه في ذلك العهد فجر قنبلته الفكرية الإلحادية، فقدم بها ذخيرة عجيبة لمن خالفه ومن أيده على السواء، والأعجب من هذا كله أن نجد ألد أعدائه من أهل السنة، لم يتحرجوا عن الاستعانة بما ورد في كتبه عن المعتزلة من حجج، فأوردوها في مخاصمتهم لمذهب الاعتزال.

وترد عن ابن الراوندي أخبار كثيرة على أقلام المؤرخين، لو ضممنا بعضها إلى بعض تكونت لنا صورة عن شخصية قلقة لم تستقر على رأي تؤمن به حق الإيمان، وطفقت تبيع الآراء لمن يشتري، فكانت تصوغ من هذه الآراء ما يوافق الشاري، على نحو ما نعرفه اليوم ممن نطلق عليهم عبارة «كاتب مأجور»، بمعنى الكاتب الذي يكتب لقاء أجر، ما يطلبه دافع ذلك الأجر، قيل عنه فيما قيل: كان ابن الراوندي يلازم أهل الإلحاد، فإذا عوتب في ذلك قال: «إنما أريد أن أعرف مذاهبهم»، ويقال عنه كذلك: كان أبوه يهوديا فأسلم، وكان بعض اليهود يقول لبعض المسلمين: «ليفسدن عليكم هذا كتابكم كما أفسد أبوه التوراة علينا» وروي عن ابن الرواندي أنه كان يقول لليهود: قولوا إن موسى قال «لا نبي بعدي»!

وذكر الطبري عن ابن الراوندي أنه كان لا يستقر على مذهب، ولا يثبت على حال، حتى إنه صنف لليهود كتاب البصيرة ردا على الإسلام، لأربعمائة درهم أخذها - فيما بلغني - من يهود سامرا، فلما قبض المال رام نقضه حتى أعطوه مائة درهم أخرى، فأمسك عن النقض، ويروى أنه اجتمع مع أبي علي الجبائي يوما على جسر بغداد، فقال له: «يا أبا علي، ألا تسمع شيئا من معارضتي للقرآن ونقضي له؟» فقال له: «أنا أعلم بمخازي علومك وعلوم أهل دهرك، ولكن أحاكمك إلى نفسك، فهل تجد في معارضتك له عذوبة وهشاشة وتشاكلا وتلازما ونظما كنظمه وحلاوة كحلاوته؟» قال: «لا، والله» قال الجبائي: «قد كفيتني، فانصرف حيث شئت.»

وكان من كتبه الكفرية: كتاب «التاج» يحتج فيه لقدم العالم، أي إن الله لم يخلقه من عدم، وكتاب «الزمرذة» يحتج فيه على الرسل، ويبرهن على إبطال الرسالة، وكتاب «الفرند» [وكثيرا ما يرد باسم «الفريد»] في الطعن على نبي الإسلام عليه السلام، وكتاب «اللؤلؤة» في تناهي الحركة، وكتاب «الدامغ» يتهجم فيه على الله تعالى، بمثل قوله: إن الخالق ليس عنده من الدواء إلا القتل، فعل العدو الحنق الغضوب، فما حاجته إلى كتاب ورسول؟ وله كتاب «القضيب» [وقد يرد باسم «القصب»] ... ولقد جاء ذكر ابن الرواندي هذا وكتبه عند أبي العلاء المعري في رسالة الغفران، فسخر منه المعري سخرية مرة، وكان مما قاله عن كتب ابن الراوندي: «وأما «القضيب» فمن عمله أخسر صفقة من قضيب»، والإشارة هنا لرجل كان اسمه القضيب يحكى عنه أنه اشترى قوصرة تمر، وكان فيها بدرة، فلحقه بائعها فاستردها، وكان مع قضيب سكين، فقتل نفسه حسرة على البدرة الضائعة، «وأما «الفريد» [وحقيقة اسم الكتاب «الفرند»]، فأفرده من كل خليل، وألبسه في الأبد برد الذليل»، «وأما «المرجان» فإذا قيل إنه من صغار اللؤلؤ، فمعاذ الله أن يكون «مرجانه» صغار حصى ... وإنما هو مرجان؛ من مرجت الخيل بعضها مع بعض، وتركتها كالمهملة في الأرض، أو لعله مرجان؛ من جنى الشجرة، أو مرجان من الشياطين الفجرة»، وحسبك أن يكون هذا رد فعل المعري عن الرجل وكتبه، بعد أن كان قد مضى عليه نحو قرن من الزمان، لتعلم أي دوي أحدثه في رجال الفكر والثقافة لفترة طويلة من الزمن.

45

ولنقف وقفة قصيرة عند كتاب واحد من كتبه تلك، وهو كتاب «الزمرذة» أو «الزمرذ» لنذكر لمحة من محتواه، تكون كاشفة عن طبيعة ما في سواه، وسوف يكون مرجعنا فيما نذكره هو البحث الذي قام به «بول كراوس»، والذي نقله إلى العربية الدكتور عبد الرحمن بدوي في كتابه «من تاريخ الإلحاد في الإسلام».

كان المصدر الذي أخذت منه الفقرات المقتبسة من كتاب «الزمرذ»، ليس هو الكتاب نفسه، بل كان مصدرها هو ما ورد في «المجالس المؤيدية» للمؤيد في الدين هبة الله بن أبي عمران الشيرازي الإسماعيلي، داعي الدعاة في عهد الخليفة المستنصر بالله الفاطمي، وهو نفسه داعي الدعاة الإسماعيلي الذي حفظ لنا ياقوت مراسلاته مع المعري، وأما كتابه «المجالس المؤيدية» فهو من ثمانية مجلدات تحتوي على ثمانمائة مجلس، هي عبارة عن محاضرات ألقاها مؤيد وهو في القاهرة، ولم يكن لهذه المحاضرات موضوع واحد، بل تنوعت موضوعاتها من شرح العقيدة الإسماعيلية إلى بسط للمسائل السياسية والدينية، وكان مما ورد ذكره في تلك المحاضرات كتاب «الزمرذ» لابن الراوندي، فقد أخذ في مجالسه ما جاء عنه في كتاب داع إسماعيلي غير مذكور الاسم، وهو كتاب أورد اقتباسات كثيرة من كتاب «الزمرذ» ليناقشها ويرد عليها، تكفي للإلمام بمحتوى هذا الكتاب الأخير «الزمرذ» ما دام النص الكامل مفقودا، وسنقتصر فيما يلي على بعض النصوص المأخوذة من «الزمرذ» وطريقة الرد عليها في «المجالس المؤيدية»:

قال ابن الرواندي: «إن البراهمة يقولون إنه قد ثبت عندنا وعند خصومنا أن العقل أعظم نعم الله سبحانه على خلقه، وأنه هو الذي يعرف به الرب ونعمه، ومن أجله صح الأمر والنهي والترغيب والترهيب؛ فإن كان الرسول يأتي مؤكدا لما فيه من التحسين والتقبيح والإيجاب والحظر، فساقط عنا النظر في حجته وإجابة دعوته، إذ قد غنينا بما في العقل عنه، والإرسال على هذا الوجه خطأ، وإن كان بخلاف ما في العقل من التحسين والتقبيح، والإطلاق والحظر، فحينئذ يسقط عنا الإقرار بنبوته.»

كان هذا كلام ابن الراوندي عن النبوة، ونختصر ما فيه بلغة أوضح؛ فهو يقول: إما أن تكون رسالة النبي متفقة مع العقل أو مخالفة له، فإذا كانت متفقة كنا في غنى عنها؛ لأن عقولنا تكفينا، وإذا كانت مباينة له فلسنا بحاجة إليها؛ لأننا نريد أن يكون للعقل زمامنا، وإذن فهي في كلتا الحالين رسالة لا تدعو إليها حاجة.

وفي الرد على الفقرة السالفة عن النبوة، يقول صاحب «المجالس المؤيدية» بعد أن قرأ النص على الحاضرين: «الجواب وبالله التوفيق: أما قوله: ثبت عندنا وعند خصومنا أن العقل أعظم نعم الله سبحانه على خلقه فنقول: إنه قطع على قول لم يحرره؛ وذلك أن العقل كامن في الصورة البشرية كمون النار في الزناد، فلو بقي ما بقي في مضماره عادما لمن يستخرجه ويستدرجه، لم يقع انتفاع به، كالنار الكامنة في الحجر والحديد، لا يستنفع بها ولا يحظى بطائل من خيرها ما عدمت القادح، والذي يقع من الفعل المكمون - في الصورة الآدمية - موقع قادح الزناد هم الأنبياء ... فهم أولى بأن يسموا عقلا؛ لاستخلاصهم العقول من الصورة البشرية، وإخراجهم إياها من حد القوة إلى الفعل.»

قال ابن الراوندي: إن الرسول أتى بما كان منافرا للعقول، مثل الصلاة، وغسل الجنابة، ورمي الحجارة، والطواف حول بيت لا يسمع ولا يبصر، والعدو بين حجرين لا ينفعان ولا يضران، وهذا كله مما لا يقتضيه عقل، فما الفرق بين الصفا والمروة إلا كالفرق بين أبي قبيس وحرى، وما الطواف على البيت إلا كالطواف على غيره من البيوت، إن الرسول شهد للعقل برفعته وجلالته، فلم أتى بما ينافره إن كان صادقا؟

فنقول وبالله التوفيق: إن الرسول صلى الله عليه وآله بعثه الله سبحانه لينشئ النشأة الأخيرة كما أن الوالدين ينشئان أولادهما النشأة الأولى ... وقد وجدنا الوالدين موضوعهما قطع الأولاد عن العادة البهيمية، وكسبهما الأخلاق الإنسانية؛ استخلاصا للنطق فهما منهما، وهو ما يقع الفرقان به بين البهائم وبينها، وإفادة للحياء وحسن الشمائل التي لا قبل للبهائم بمثلها، ولو أنهم كفوا عن رياضتهم هذه الرياضة لخرجوا أشباه البقر والغنم؛ نقول: إن الأنبياء - صلوات الله عليهم - يسلكون بتابعيهم الذين ينشئونهم النشأة الثانية للدار الآخرة مسلك الآباء والأمهات بأولادهم، فيخرقون عليهم العادات الطبيعية ... ولما كان خارجا عن العادات الطبيعية أن يقوم أحد إلى طهارة ويتوجه إلى قبلة ويقوم بصلاة يقصد بجميعها عبادة ربه سبحانه، أوجب الرسول ذلك كله خرقا للعادات الطبيعية ...

قال الملحد (ابن الراوندي) في شأن المعجزات والدفع في وجوهها: إن المخاريق شتى، وإن فيها ما يبعد الوصول إلى معرفته ويدق عن المعارف لدقته، وإن أورد أخبارها بعد ذلك عن شرذمة قليلة يجوز عليها المواطأة في الكذب.

فالجواب عن ذلك : أن المحقين لا يستصحون النبوات إلا من المعجزات العلمية دون تسبيح الحصى وكلام الذئب وغير ذلك مما هو طلبة من قصر باع علمه وفهمه، مشفوعة تلك بالنصوص (واستطرد المتحدث ليبين أن نبوة النبي عليه السلام كانت قد سبقتها نصوص دلت عليها) ثم قال: أما من كانت نفسه أشرف النفوس، فجسمه بمجاورة نفسه أشرف الأجسام، ومن كان في نفسه وجسمه بهذا الكمال في الشرف، لم يكن مستحيلا أن يصدر عنه ما يخرق العادة من إعجاز لا قبل للبشر بمثله.

قال ابن الراوندي عن القرآن: إنه لا يمتنع أن تكون قبيلة من العرب أفصح من القبائل كلها، وتكون عدة من تلك القبيلة أفصح من تلك القبيلة، ويكون واحد من تلك العدة أفصح من تلك العدة، إلى حيث قال: وهب أن باع فصاحته طالت على العرب، فما حكمه على العجم الذين لا يعرفون اللسان، وما حجته عليهم؟

فالجواب على ذلك: إن الكلام ألفاظ مقدرة على معان ملائمة لها، والكلام كالجسد، والمعنى فيه روحه، ومعلوم أن الأجساد - من حيث كونها أجسادا - لا تتفاوت تفاوتا كثيرا ... وليس كذلك التفاوت من جهة النفوس التي هي المعاني ... والكلام في القرآن هو بمثابة الجسد، ومعناه روحه الذي كنى الله سبحانه عنه بالحكمة، فلم يذكره في موضع من الكتاب إلا قرنه بالحكمة، وقد قاربت - أيها الخصم - بالإقرار بكونه معجزا من حيث لفظه للعرب الذين هم أهل اللسان، ثم أردفته بقولك: فما الحجة على العجم الذين ليسوا من اللسان في شيء؟ فنقول: إن في معناه المكني عنه بالحكمة التي قدمنا ذكرها ما يقوم به الحجة ...

قال ابن الراوندي الملحد: إن الملائكة الذين أنزلهم الله تعالى في يوم بدر لنصرة النبي بزعمكم، كانوا مغلولي الشوكة قليلي البطشة على كثرة عددهم واجتماع أيديهم وأيدي المسلمين، فلم يقدروا على أن يقتلوا زيادة على سبعين رجلا، وقال بعد ذلك: أين كانت الملائكة يوم أحد لما توارى النبي ما بين القتلى فزعا، وما باله لم ينصروه في ذلك المقام؟

فلم يزد صاحب «المجالس»، في رده على هذا القول، على أن قال ما معناه: إن في حديث الملائكة من أسرار الحكمة ما لا تبلغه عقولنا، وهو جواب أضعف من الاتهام.

ولعله مما ينفع هنا أن نورد جملة الاتهامات التي هاجم بها ابن الرواندي الإسلام في كتابه «الزمرذ»، والتي ذكرنا بعضها دون بعض؛ أقول: إنه مما ينفع أن نورد جملة الاتهامات ملخصة مبوبة، كما لخصها وبوبها «كراوس» في بحثه الذي نقلنا عنه ما نقلنا؛ يقول:

بافتراضنا أن مؤلف الرد (يريد «الشيرازي» صاحب «المجالس المؤيدية») سرد المقتبسات من كتاب «الزمرذ» بنفس الترتيب الموجود في النص الأصلي للمؤلف، فإننا نستطيع أن نرتب القطع المختلفة المنفردة مع الأجزاء الرئيسية التالية من الكتاب هكذا: (1)

سمو العقل على النقل. (2)

نقد الإسلام: (أ)

الإسلام والشريعة الإسلامية تتناقض مع العقل. (ب)

معجزات محمد (عليه السلام):

فروض عامة.

تواريخ المعجزات، ومن بين المعجزات التي يعدها المسلمون دلائل على نبوة محمد القرآن نفسه؛ نقد إعجاز القرآن. (ج)

نقد التواتر في الإسلام. (3)

العلم ضد النبوة: (أ)

الكلام الإنساني حادث بطبعه، ولا يرجع في أصله إلى الأنبياء. (ب)

والفلك والموسيقى لا يرجعان في أصلهما إلى الأنبياء. على أن ما نهتم له في كتابنا هذا ليس هو الأوجه المعينة التي هاجم بها الإسلام هذا أو ذاك، والأوجه المعينة التي رد بها المدافعون عن الإسلام، بل نهتم في الدرجة الأولى بالحركة العقلية من حيث هي، فيكفينا أن نعلم كيف كان القوم يصطرعون بالحجة ويعتركون بالمنطق والدليل، ولقد بلغوا في ذلك أقصى المدى إبان الفترة التي هي الآن محور حديثنا، أعني القرنين التاسع والعاشر بالتاريخ الميلادي (الثالث والرابع بالتاريخ الهجري)، ولا عجب؛ فها هنا فقط أخذت العقيدة الإسلامية تتخذ صورتها الكاملة من الناحية العقلية الجدلية، بفضل الحوار الذي تبادله المعارضون والمؤيدون، مما أرهف قوة الحجة وضاعف من صلابة الدعائم، وأما قبل ذلك - أعني في القرنين الأولين من تاريخ الإسلام: السابع والثامن، فقد كان المألوف أن نجد شعوبا بأسرها، أو قل جماعات كبرى من تلك الشعوب، قد أسلمت، لكنها - عن وعي منها بذلك أو غير وعي - ظلت محافظة على كثير جدا من ميولهم الوجدانية نحو ما كانت تنزع إليه عقائدهم السابقة على الإسلام؛ وذلك يفسر سهولة انزلاق بعضهم - ومنهم من كانوا من صفوة المثقفين - في طريق «الزندقة»، أعني في طريق الارتداد إلى العقائد الأولى، حتى وإن ظلوا مستمسكين بقشرة إسلامية خارجية، يقول «نيبرج» في مقدمته لكتاب «الانتصار» للخياط: «إن التاريخ يدل على أن أمر الإسلام لم ينفذ إلا تدريجا، ولم يخط إلا خطوة خطوة، ولم يزل في دار الإسلام عدد كبير من [أصحاب الديانات الأخرى الذي أقاموا لعقائدهم قواعد فلسفية ترتكز عليها] على حين كان الإسلام في بادئ أمره لم يبين علماؤه عقائده، ولم يبحثوا عنها على طريق منطقي فلسفي ...» (كتاب الانتصار، ص54-55 من مقدمة نيبرج).

على أنه إذا كان الطريق - في رأينا - صاعدا نحو ازدياد النضج الفكري فقد يراه آخرون طريقا هابطا نحو النقص بعد الكمال، فها هو ذا أبو القاسم الصقلي في «كتاب الأنوار» (نقلا عن ابن عباد الرندي في «الرسائل الصغرى»، ص75) ينظر إلى مسار الفكر الإسلامي منذ بدايته، فيقول: «كان أخص الناس بفهم علم الكتاب وشرح معرفة السنة وعمل الرسول أهل القرن الأول؛ لأنهم أفضل الناس عقلا وأوسعهم علما، ثم جاء القرن الثاني، فكانوا أعقل الناس وأعلمهم - بعد الصحابة - بمعاني آي الكتاب، والعمل بالاقتداء، وفهم ما شرحه الصحابة من البيان، غير أن الإيثار الذي خص به الصحابة رق في التابعين ... ثم جاء القرن الثالث فذهب أكثر العلم ... وقل فيهم الخوف والرجاء، والصبر والشكر، وكثر فيهم الخوض والجدل، والخصومة والمراء ... وصارت الحقيقة خصوصا والجهالة عموما، ثم جاء القرن الرابع فاضطرب الأمر في الحق، واستوحشت طرق الهداية للسالكين لها وكثر النفاق ... وفسدت النيات في ذات الله ... غير أن في الناس بقايا من أهل التصديق بالقدرة، متحققين بالإيمان بالقدر، فإذا حل دخول القرن الخامس اشتد البلاء بأهل الإسلام خاصة فيما بينهم، فكان الكل على الكل في القريب والبعيد ... فإذا دخل القرن السادس ذهب أهل التصديق وبقي أهل الإنكار، وسلب الناس عقل البصيرة، وبقي عقل الحجة عليهم وذهب الإسلام فلم يبق إلا اسمه، ثم العجب العجب أهل القرن السابع وهم أشرار الناس ...» - لكن أبا القاسم الصقلي ربما كان يحصر رؤيته في حدود الإيمان الصادق، وبذلك لم يستطع أن يرى إلا ضعفا فيه يزداد مع الزمن، أما نحن فرؤيتنا موجهة إلى جانب آخر، هو التفكير العقلي فيما يعرض لأهل النظر من مشكلات، وعندئذ لا نرى إلا صعودا حتى آخر القرن العاشر (الرابع الهجري) وقد لا يكون بين النظرتين من تناقض، إذ ربما سار الضعف في الإيمان جنبا إلى جنب مع القوة في الحجاج المنطقي.

46

ذلكما - إذن - طرفان تناقضا وتصارعا؛ المعتزلة في طرف، والمتمسكون بحرفية النص، ومعهم الروافض، في طرف آخر، الأولون ينزعون نحو التجريد العقلي، والآخرون يقفون عند النصوص بحروفها؛ الأولون يبيحون التأويل إلى غير حد، ليتمكنوا من فهم النص فهما يرضى عنه العقل، والآخرون لا يلقون بزمامهم إلى عقل، بل أساسهم هو الإيمان بما نزل، ولا يجيزون التأويل في أقل درجة من درجاته.

وكان لا بد للبندول الفكري المتأرجح بين ذينك الطرفين المتناقضين أن يلتمس نقطة وسطا، فلا يعطى للعقل وحده كل الحق في القبول والرفض، كلا، ولا يحرم العقل حرمانا تاما من أن يكون له حق النظر، ولماذا لا يكون للعقل مجال وللإيمان مجال آخر؟ لماذا لا نسلط العقل إلى آخر ما يستطيع بلوغه، ثم نترك ما بعد ذلك للتسليم الإيماني بلا جدل؟

وذلك هو الموقف الوسط الذي وقفه أبو الحسن الأشعري (873-917م) فبدأ بذلك طريقا للفكر الإسلامي لم ينقطع عنه السائرون إلى يومنا هذا؛ فلقد أشفق الأشعري على دين الله وسنة رسوله من أن يذهبا ضحية الآراء المتطرفة، فالمعتزلة من ناحية ينظرون إلى صفات الله نظرة مجردة حتى لتكاد تفقد وجودها، وأهل النص من جهة أخرى يقاومون النزعة العقلية مقاومة انتهت بهم إلى جمود، وأراد الأشعري أن يوفق بين مذاهب السنة توفيقا يوحدها جميعا في نظرة واحدة؛ لأنها مذاهب تتفق على الأصول ولا تختلف إلا في الفروع.

ولا نترك هذه المناسبة قبل أن نذكر حقيقة أوردها الشهرستاني وهي أن أبا الحسن الأشعري ينتسب إلى أسرة واحدة مع أبي موسى الأشعري (صاحب التحكيم بين علي ومعاوية) وأنه من عجيب الاتفاقات أن أبا موسى كان في وقته يرى رأيا شديد الشبه بما رآه أبو الحسن. ويروي الشهرستاني في ذلك حوارا موجزا دار بين أبي موسى وعمرو بن العاص، على هذا النحو:

عمرو بن العاص :

أو يقدر الله علي شيئا ثم يحاسبني عليه؟

أبو موسى الأشعري :

نعم.

عمرو :

ولم؟

أبو موسى :

لأنه لا يظلمك.

ونعود إلى حديثنا عن أبي الحسن الأشعري، ورفضه أن يكون العقل مقياسا مطلقا لا يدع مكانا لمقياس سواه؛ لأنه يرى أن ثمة من المعطيات الدينية الأساسية ما لا بد من قبوله برغم أنه يجاوز حدود العقل؛ فالإيمان بالغيب مبدأ أساسي في الحياة الدينية، على حين أن «الغيب» يستعصي على البراهين العقلية، ولقد ظن المعتزلة أنهم إنما يدعمون بنيان الدين أن يجعلوا السلطان للعقل وحده، ويتساءل الأشعري: إذا كان العقل أمره كذلك، فماذا تكون قيمة الإيمان بالله وبالكتاب المنزل؟ إنه إذا كانت الأحكام للعقل، فلا تبقى لنا حاجة إلى إيمان نقبله عن عقيدة وتصديق، وإني لأتساءل هنا بدوري: ترى إلى أي حد كان لابن الراوندي فضل التنبيه إلى هذه الفكرة حين قال في كتابه «الزمرذة» ما معناه: إننا إذا جعلنا العقل مقياسنا فلا حاجة بنا إلى نبي ورسالة؛ لأن الرسالة إما جاءت متفقة مع ما يدركه العقل بمنطقه ومن ثم فلا يكون لها مبرر، وإما خالفت منطق العقل فوجب التنكر لها، فهل كان هذا هو ما دعا الأشعري إلى التحوط في النظر، بحيث انتهى إلى رأي يوجب الجمع بين العقل والإيمان ليكون لكل منهما مجال لا ينافسه فيه الآخر؟

وحسبنا دليلا على قوة الموقف الوسط الذي اختاره الأشعري، أن نعلم كم من الأئمة الأعلام بعد ذلك - وعلى طول القرون التالية - اختار الموقف نفسه، وربما كان الشيخ محمد عبده آخر الأتباع الكبار، ولم يكن الجمع بين العقل والإيمان هو كل ما قدموه، بل كان للأشاعرة آراء أخرى ذات خطر عظيم في دنيا الفكر الفلسفي، منها تفسيرهم لعملية الخلق؛ فلقد وجدوا أنفسهم أمام فكرتين في ذلك، رفضوهما جميعا، الأولى هي فكرة «الفيض» التي قال أصحابها - أخذا عن أفلوطين - إن الكائنات تفيض من الجوهر الإلهي كما تفيض أشعة الضوء من الشمس، فاعترض الأشاعرة قائلين: إن هذا التصور ينفي عن الله حرية إرادته في خلق ما يريد على الصورة التي يريد؛ لأن الكائنات الفائضة عن مصدرها قد تفيض دون أن يكون للمصدر إرادة في فيضها أو في منعها، وأما الفكرة الثانية عن الخلق فهي السببية التي تجعل من الله تعالى سببا أولا، ثم تتسلسل الأسباب والمسببات، لكن ذلك يؤدي بنا إلى حتمية لا فكاك منها، فأين عندئذ تكون الحرية المطلقة التي نصف بها الله؟!

فكيف يفسر الأشاعرة عملية الخلق؟ إنهم يستندون في ذلك إلى نظرية الجوهر الفرد، أي الجزء الذي لا يتجزأ، فإذا كان الوجود ينحل إلى ذرات من النوع الذي قال به ديمقريطس قديما، فتكون كل ذرة وحدة قائمة بذاتها، لا سبيل إلى النفاذ خلالها لأنها مصمتة، وأنها ذات شكل معين لا قدرة لها على تشكيل نفسها، إذن فهي بحاجة إلى من يشكلها ويجمعها مع غيرها أو يفرق بينها وبين غيرها، ومن مثل هذا الجمع والتفريق تتكون الأشياء جميعا، نقول: إنها بحاجة إلى من يتولى تشكيلها لأنها بذاتها لا تحمل القدرة على ذلك، وإذن فهي بحاجة إلى مبدأ أعلى منها، وهو الخالق.

47

الظاهر أنه كلما بعد العهد بعصر من العصور، ثم جاء الخلف يحيون الحياة الفكرية التي سادت ذلك العصر البعيد، تعذر عليهم - إن لم نقل استحال عليهم - أن يتغلغلوا في أعماق تلك الحياة عن طريق قراءة الموروث المثبت في الكتب؛ فهذا الموروث الباقي إن هو إلا نصوص مرقومة على ورق، محال علينا أن نستشف ما وراءها إذا كان لها وراء، اللهم إلا إذا وقعنا بين تلك النصوص نفسها على نص هنا ونص هناك نستعين به على الفهم الكامل، وبذلك يفسر العصر الواحد بعضه ببعضه، ونصوصه بنصوصه.

وها نحن أولاء نصادف عبارة أوردها أبو العلاء المعري في رسالة الغفران عن الأشعري، نقف أمامها مشدوهين ذاهلين، نسأل عن المراد بها فلا نستطيع الجواب المقنع، إذ يقول أبو العلاء: «والأشعري إذا كشف ظهر نمي (أي طبع وجوهر)، تلعنه الأرض والسمي (أي الأرض والسماء)» (رسالة الغفران، تحقيق الدكتورة بنت الشاطئ، ص466). فما الذي عرفه أبو العلاء عن الأشعري فأجاز له أن يقول عنه إن ظاهره يخفي وراءه باطنا لو كشف لاستحق لعنة الأرض والسماء؟!

فأما من حيث المنهج الأشعري العام، الذي يقسم مجالات النظر شطرين؛ أحدهما يجوز أن يعرض على العقل ليكون له الرأي فيه على ضوء تحليلاته المنطقية، والآخر لا يجوز فيه مثل ذلك؛ لأنه أمور تؤخذ إيمانا وتصديقا، فلسنا نتصور أن يكون في منهج كهذا ما يستحق لعنة الأرض والسماء، وأما من حيث معتقدات الأشعري بصفة عامة، فهي نفسها معتقدات أصحاب الحديث وأهل السنة التي، حتى إن خالفهم فيها أصحاب المذاهب الأخرى كالمعتزلة وغيرهم، لا تودي بصاحبها إلى حيث تلعنه الأرض والسماء.

لقد ذكر الأشعري في آخر الجزء الأول من كتابه «مقالات الإسلاميين» مجمل ما يقوله أصحاب الحديث وأهل السنة، حتى إذا ما فرغ من ذلك، ختم هذا الفصل بقوله: «وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول، وإليه نذهب» (ص325). فماذا ذكر من «قولهم» مما قرر أنه يتفق معهم فيه؟

قال: جملة ما عليه أهل الحديث والسنة الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله، وما جاء من عند الله، وما رواه الثقات عن رسول الله

صلى الله عليه وسلم ، لا يردون من ذلك شيئا، وأن الله - سبحانه - إله واحد فرد صمد، لا إله غيره، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن الجنة حق وأن النار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور.

وأن الله - سبحانه - على عرشه، كما قال:

الرحمن على العرش استوى ، وأن له يدين بلا كيف، كما قال:

خلقت بيدي

وكما قال:

بل يداه مبسوطتان ، وأن له عينين بلا كيف، كما قال:

تجري بأعيننا

وأن له وجها، كما قال:

ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام .

وأن أسماء الله لا يقال: إنها غير الله، كما قالت المعتزلة والخوارج، وأقروا أن لله - سبحانه - علما، كما قال:

أنزله بعلمه

وكما قال:

وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه .

وأثبتوا السمع والبصر، ولم ينفوا ذلك عن الله، كما نفته المعتزلة، وأثبتوا لله القوة، كما قال:

أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة .

وقالوا: إنه لا يكون في الأرض من خير ولا شر إلا ما شاء الله، وإن الأشياء تكون بمشيئة الله، كما قال عز وجل:

وما تشاءون إلا أن يشاء الله

وكما قال المسلمون: ما شاء الله كان، وما لا يشاء لا يكون.

وقالوا: إن أحدا لا يستطيع أن يفعل شيئا قبل أن يفعله، أو يكون أحد يقدر أن يخرج عن علم الله، أو أن يفعل شيئا علم الله أنه لا يفعله.

وأقروا أنه لا خالق إلا الله، وأن سيئات العباد يخلقها الله، وأن أعمال العباد يخلقها الله عز وجل، وأن العباد لا يقدرون أن يخلقوا منها شيئا.

وأن الله وفق المؤمنين لطاعته وخذل الكافرين ... وأن الله - سبحانه - يقدر أن يصلح الكافرين، ويلطف بهم حتى يكونوا مؤمنين، ولكنه أراد ألا يصلح الكافرين ... وأراد أن يكونوا كافرين كما علم، وخذلهم، وأضلهم، وطبع على قلوبهم.

وأن الخير والشر بقضاء الله وقدره ...

ويقولون إن القرآن كلام الله غير مخلوق ... ويقولون: إن الله - سبحانه - يرى بالأبصار يوم القيامة كما يرى القمر ليلة البدر، يراه المؤمنون، ولا يراه الكافرون؛ لأنهم عن الله محجوبون ... ويعرفون حق السلف الذين اختارهم الله لصحبة نبيه

صلى الله عليه وسلم ، ويأخذون بفضائلهم ... ويقدمون أبا بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم عليا، رضوان الله عليهم، ويقرون أنهم الخلفاء الراشدون المهديون ...

على هذا السرد ذكر الأشعري معتقدات أصحاب الحديث وأهل السنة، ليقرر بعد ذلك أنها هي معتقداته، ونحن وإن كنا لا نرى في أي شيء من ذلك ما يوجب «لعنة الأرض والسماء» - على رأي أبي العلاء المعري - لكننا في الوقت نفسه نقف حيارى متسائلين: أين إذن يكون إعمال العقل الذي قال به الأشعري وحدد له حدوده ليترك الباقي للإيمان؟ أين يكون إعمال العقل إذا كان مما يريدنا على الإيمان به تصديقا وتسليما أن الخير والشر جميعا بقضاء الله وقدره، وأن الله يرى بالأبصار يوم القيامة، وأن الله يقدر أن يصلح الكافرين لكنه لا يريد ذلك، وأن سيئات العباد يخلقها الله ...؟ الحق أننا لا نحن قادرون على رؤية ما يراه المعري في الأشعري من استحقاقه للعنة الأرض والسماء، ولا نحن قادرون على رؤية ما يراه الأشعري من أشياء تستوجب الاعتقاد بغير إعمال العقل في تأويلها .

ومهما يكن من أمر، فيكفينا من الأشعري منهجه من حيث الصورة حتى وإن لم نجد له التطبيق عنده على النحو الذي نود أن نفهمه به. فإذا ما انتقلنا إلى الجزء الثاني من كتابه «مقالات الإسلاميين» واستعرضنا الموضوعات التي قال إنها كانت مثار اختلافات بين أصحاب النظر، أدركنا كم كانت غزيرة في مشكلاتها ومحاولاتها تلك الفترة التي نتحدث عنها! وأعني القرنين التاسع والعاشر بالتاريخ الميلادي؛ فقد اختلفوا في طبيعة الأجسام ماذا تكون، وفي الطفرة ما أوجه قبولها أو رفضها، وفي الحركة هل تشمل الأجسام جميعا، أو منها ما هو متحرك وما هو ساكن، واختلفوا في حقيقة الإنسان ما هي؟ وفي الروح والنفس، وفي الحواس، وهل يمكن أن تصبح للإنسان حاسة سادسة؟ وكيف يفهم الخلق؟ وماذا نعني بالبقاء والفناء؟ وفي السببية بكل تفريعاتها، وفي معرفة الإنسان للأشياء والحقائق ما سبيلها إلخ إلخ ... خضم زاخر بالمسائل، واهتمام شديد بالتماس الحلول، وحرارة في مناصرة الرأي أو في معارضته، تلك هي حياة الفكر العربي في الفترة المذكورة.

48

نحن الآن في عصر الفلسفة، فكأنما هو عصر أوشك أن يتحول إلى «عقل» خالص، لا يكاد يصادف شيئا إلا حاول أن يعلله تعليلا يقنعه ويرضيه، بادئا من أبسط مظاهر الطبيعة ومنتهيا إلى الله ووجوده، ولما كانت خطتي في هذا الكتاب - كما ذكرت فيما سبق - عدم الغوص في فروع التخصص العلمي؛ كعلوم اللغة والنحو، وكالفقه والفلسفة، والعلوم الطبيعية والرياضية؛ حتى لا نسيء إلى هذه التخصصات بأقوال رحالة عابر، وأن أكتفي بالهوامش الثقافية العامة، التي كثيرا ما تكون هي المشير الواضح الدلالة لما يقلق رجال الفكر من مسائل؛ أقول: إنه لما كانت هذه هي خطة الكتاب، فلن أتناول الفلاسفة: الكندي، والفارابي، وابن سينا (وسأدع ابن رشد إلى أن يحين حينه من مراحل الطريق) لن أتناول هؤلاء إلا بإشارات تحوم حول حماهم ولا تقع فيه، وإلا فهل يجوز أن يكون «العقل» مدار الحديث، وأن يكون القرنان التاسع والعاشر الميلاديان هما الفترة التي يدار حولها السمر، دون أن يرد ذكر لعمالقة «العقل » عندئذ؛ الكندي، والفارابي، وابن سينا؟

وأما الكندي (أبو يوسف يعقوب بن إسحاق) (801-865م) الذي ينسب إلى كندة، والذي يكنى أحيانا بفيلسوف العرب؛ لأنه كان أول من اشتغل بالفلسفة منهم، فقد ولد بالكوفة - وكان أبوه أميرا عليها - ودرس في البصرة وبغداد، فقد بدأ حياته العقلية متكلما، وشارك المعتزلة في بحوثهم عن العدل والتوحيد وغيرهما من مبادئ المعتزلة التي بسطناها في أكثر من مناسبة سابقة، لكنه انصرف فيما بعد عن علم الكلام، إلى التفلسف النظري المجرد، ناهلا في ذلك عن أرسطو وأفلوطين، وكسائر الفلاسفة المسلمين، حاول أن يوفق بين أصول العقيدة الإسلامية ونظريات الفلسفة اليونانية.

وسنختار في موقفنا هذا من الفيلسوف العربي الأول، شذرات قليلة من رسائله، وهي ما كان منها خاصا بمحاولاته في تعليل طائفة من الظواهر الطبيعية، كالمطر والضباب ولون السماء وما إلى ذلك، وهي وإن تكن مسائل عارضة لا تمس شيئا من صميم فلسفته، إلا أنها تقدم لنا لمحة من الإطار العقلي الذي عاش فيه (وما قد اخترناه هنا من رسائله مأخوذ من الجزء الثاني من «رسائل الكندي الفلسفية» نشر الدكتور محمد عبد الهادي أبو ريدة).

فلماذا تمطر بعض الأقطار دون بعض؟ هكذا سئل الكندي فأجاب سائله بما خلاصته: بعد أن ذكر أثر الشمس في تسخين الأرض والهواء، تسخينا تتفاوت درجاته بالنسبة إلى قرب المكان أو بعده من الشمس ، قال: «وكل جسم برد انقبض، واحتاج إلى مكان أصغر من مكانه قبل برده، وكل جسم حمي انبسط، واحتاج إلى مكان أعظم من مكانه قبل حميه، فسال الهواء من جهة الموضع المنبسط الحار إلى جهة الموضع المنقبض البارد، وسيلان الهواء هو المسمى ريحا، فإن عادتنا أن نسمي سيلان الهواء ريحا وسيلان الماء موجا؛ فلذلك ما يكون أكثر رياح الزمان الذي تكون فيه الشمس في الميل الجنوبي حاميا؛ لمسيلها من الجنوب - المتسع بإحماء الشمس للمواضع التي في جهة الجنوب - إلى الشمال المنقبض ببرد هواء الجهة الشمالية التي بعدت عنها الشمس ...» «فإذا كانت الشمس في الميل الشمالي، حميت المواضع التي في الجهة الشمالية ، وبردت التي في الجهة الجنوبية، سال الهواء الشمالي واتسع لحرارته إلى الجهة الجنوبية، لانقباض الهواء الجنوبي ببرده؛ فلذلك تكون أكثر رياح الصيف شمائل، وأكثر رياح الشتاء جنائب ...» (ص71). «فإذا تناهى البخار إلى موضع، بعده من سمت الشمس بعد يبرد جوه بالمقدار الذي يحصر ذلك البخار ويغلظه ويكثفه، استحال ما ماسه من الهواء ماء، فانحلت أمطارا سائلة إلى الأرض ما كان فيه من البخار المائي ...» (ص72). «فأما إذا كانت المواضع التي ينتهي إليها البخار مواضع عادمة لما يحصر بخارها ويبرده، تعداها البخار ...» (ص73).

تلك أسطر من إجابة الكندي في التعليل لسقوط المطر، آثرنا نقلها بنصوصها؛ ليرى القارئ نموذجا من دقة العبارة العلمية كيف أوشكت بصاحبها على أن يضبط اللفظ ضبطا لا يزيد على المطلوب كلمة ولا ينقص كلمة.

كذلك أجاب الكندي سائله في تعليل الضباب، إجابة فيها الدقة نفسها التي لحظناها في تعليله لسقوط المطر، فبدأ جوابه عن ظاهر الضباب هكذا: «إن الأبخرة إذا علت في الجو انعقدت، إذا عرضت لها الأسباب المبردة التي حددنا في رسالتنا (عن المطر) وكان منها الغمام، فإن ثبت في موضعه إلى أن تتم استحالته وفساده، لم يحدث الضباب من ذلك الغمام، وإن عرضت ريح في الجو أعلى من الغمام، فحطته إلى الأرض حتى يماسها، كان ما انحط من الغمام وانتهى إلى الأرض ضبابا؛ فإن الضباب ليس هو شيئا غير غمام منحط إلى وجه الأرض، متحلل بحمي الهواء المماس الأرض؛ ولذلك إذا كان الضباب تاما عظيما كان دليل صحو؛ لأن العلة التي حطته من العلو، تعدمه الموضع الأعلى من الجو الذي يمكن أن ينعقد فيه الغمام ويتحلب منه ماء» (الجزء الثاني من رسائل الكندي الفلسفية، ص76).

وسأله السائل تعليلا لما يرى من اللون اللازوردي في جهة السماء، ويظن أنه لون السماء، فيجيب بدقته العلمية في صياغة العبارة الوصفية، بما ملخصه (والتلخيص لناشر الرسائل) (1) لون السماء - إن كانت ذات لون - لا يمكن إدراكه بالحس، كما لا يمكن معرفته بالاستدلال. (2) كل الأجسام الشفافة، أو المتخلخلة، كالهواء والماء واللهب - وهي الأجسام «السيالة» أو غير المتضامة الأجزاء - أو هي الأجسام «التي ليست منحصرة في ذاتها» بتعبير الكندي، لا لون لها، ولا تستضيء بذاتها. (3) الجسم الذي يتأثر بالضوء هو الجسم «المنحصر» (أي المتكثف الأجزاء) وهو يقبل الحرارة في ذاته ويعكسها، كما أنه يقبل الضوء لا في ذاته، وإن كان يعكسه، وإذن فمصدر الضوء الذي نشاهده هو انعكاس الضوء من جسم عاكس له، وهذا الضوء لا يرى بذاته، بل منعكسا من جسم. (4) تتفاوت الأجسام المستضيئة بحسب قابليتها لأن تعكس الضوء. (5) الضوء الذي نراه في الجو ضوء منعكس من الذرات البخارية والأرضية التي يحملها الهواء، وإذا تجاوزنا طبقة الهواء الحامل لهذه الذرات، انعدم ما يعكس الضوء وكان الظلام، كما أن الحرارة في الجو المرتفع تنعدم لعدم وجود الجسم الذي ينفعل بها؛ ولذلك توجد البرودة في الجو المرتفع. (6) النار لا لون لها، إنما اللون للأجسام التي تستحيل نارا بحسب طبيعتها؛ وذلك لأن اللون لا يكون إلا للجسم المنحصر (أي الكثيف) المتضام الأجزاء الذي يعترض البصر. (7) الكواكب أجسام ذات لون، فهي «منحصرة» بدليل أن بعضها يكسف بعضا. (8) لما كانت طبيعة الجو المرتفع الخالي، هي الظلام؛ لعدم وجود ما يعكس الضوء فيه، وكانت طبيعة الجو القريب من الأرض تسمح باستضاءة ضعيفة بواسطة الذرات الموجودة في هذا الجو، والتي تعكس الضوء، فإن الكندي يخرج من ذلك بأن لون الجو - وهو المسمى السماء - لون مختلط من ضياء وظلام، وهو اللون اللازوردي الذي لا يعدو أن يكون لونا ظاهريا؛ لأنه شيء يعرض للبصر (رسائل الكندي، ج2، ص101-102).

تلك نماذج قليلة من فيض غزير، أردنا بها أن نقدم مثلا للطريقة العلمية في المشاهدة ودقة الوصف عند فيلسوفنا العربي، كفينا أنفسنا مئونة الخوض في نتاجه الفلسفي الخالص؛ جريا على السنة التي رسمناها لأنفسنا في متابعة «العقل» حيثما وجدناه في الوقفات الثقافية العامة، دون الدراسات المتخصصة المتعمقة الفاحصة. •••

وإنه ليطيب لنا في هذا المقام أن نقدم عن الكندي نتفا من الصورة الحية التي رسمها له الجاحظ في «البخلاء»؛ فذلك كفيل بأن يجسد لنا الرجل في صورة إنسانية، لها جوانب قوتها وجوانب ضعفها؛ إذ ما أيسر أن ينزلق الإنسان مع الوهم، فلا يكاد يتصور أمثال هؤلاء العظماء في دنيا الفكر ناسا كسائر الناس في أمور معاشهم! يقول الجاحظ فيما يقول عنه، وقد كان الكندي مالكا لعقار: «كان الكندي لا يزال يقول للساكن، وربما قال للجار: «إن في الدار امرأة بها حمل، والوحمى ربما أسقطت من ريح القدر الطيبة، فإذا طبختم فردوا شهوتها ولو بغرفة أو لعقة؛ فإن النفس يردها اليسير ...» فكان ربما يوافى إلى منزله من قصاع السكان والجيران ما يكفيه الأيام ... وكان الكندي يقول لعياله: «أنتم أحسن حالا من أرباب هذه الضياع؛ إنما لكل بيت منهم لون واحد، وعندكم ألوان ...» [وقال أحد المستأجرين لداره]: قدم ابن عم لي ومعه ابن له، وإذا رقعة من الكندي قد جاءتني: «إن كان مقام هذين القادمين ليلة أو ليلتين، احتملنا ذلك، وإن كان إطماع السكان في الليلة الواحدة يجر علينا الطمع في الليالي الكثيرة.» فكتبت إليه: «ليس مقامهما عندنا إلا شهرا أو نحوه.» فكتب إلي: «إن دارك بثلاثين درهما، وأنتم ستة، لكل رأس خمسة، فإذا قد زدت رجلين، فلا بد من زيادة خمستين، فالدار عليك من يومك هذا بأربعين.» فكتبت إليه: «وما يضرك من مقامهما، وثقل أبدانهما على الأرض التي تحمل الجبال، وثقل مؤنتهما علي دونك، فاكتب إلي بعذرك لأعرفه، ولم أدر أني أهجم على ما هجمت، وأني أقع منه فيما وقعت.» فكتب إلي: «الخصال التي تدعو إلى ذلك كثيرة، وهي قائمة معروفة؛ من ذلك سرعة امتلاء البالوعة، وما في تنقيتها من شدة المؤنة، ومن ذلك أن الأقدم إذا كثرت، كثر المشي على ظهور السطوح المطينة، وعلى أرض البيوت المجصصة، والصعود على الدرج الكثيرة، فينقشر لذلك الطين، وينقلع الجص، وينكسر العتب، مع انثناء الأجذاع لكثرة الوطء، وتكسرها لفرط الثقل. وإذا كثر الدخول والخروج، والفتح والإغلاق، والإقفال وجذب الأقفال، تهشمت الأبواب وتقلعت الرزات، وإذا كثر الصبيان وتضاعف البوش نزعت مسامير الأبواب، وقلعت كل ضبة، ونزعت كل رزة ، وكسرت كل حوزة ... هذا مع تخريب الحيطان بالأوتاد وخشب الرفوف.

وإذا كثر العيال والزوار والضيفان والندماء، احتيج من صب الماء واتخاذ الحببة القاطرة، والجرار الراشحة، إلى أضعاف ما كانوا عليه؛ فكم من حائط قد تأكل أسفله، وتناثر أعلاه، واسترخى أساسه، وتداعى بنيانه، من قطر حب ورشح جرة ومن فضل ماء البئر ومن سوء التدبير، وعلى قدر كثرتهم يحتاجون من الخبيز والطبيخ، ومن الوقود والتسخين، والنار لا تبقي ولا تذر، إنما الدور حطب لها، وكل شيء فيها من متاع فهو أكل لها، فكم من حريق قد أتى على أصل الغلة، فكلفتم أهلها أغلظ النفقة، وربما كان ذلك عند غاية العسرة وشدة الحال؛ بما تعدت تلك الجناية إلى دور الجيران، وإلى مجاورة الأبدان والأموال، فلو ترك الناس حينئذ رب الدار وقدر بليته ومقدار مصيبته، لكان عسى ذلك أن يكون محتملا، ولكنهم يتشاءمون به، ولا يزالون يستثقلون ذكره، ويكثرون من لائمته وتعنيفه» ...» ونكتفي بهذا القدر من تلك الصورة الأدبية الساخرة بالفيلسوف الكندي (راجع «البخلاء» تحقيق طه الحاجري، قصة الكندي، ص81-93).

49

لم يكن قد مضى على موت الكندي إلا خمسة أعوام، حين ولد الفارابي (870-950م)، ونحن إذ نكون في صحبة الفارابي، فإنما نكون مع رجل ذي أصالة أصيلة في الفكر الفلسفي وفي تحليل الفنون من شعر وموسيقى، فلم يقتصر الرجل على أن تمثل فلسفة أرسطاطاليس وأن درس المنطق الأرسطي شارحا إياه، ومن ثم أطلق عليه اسم «المعلم الثاني» - على اعتبار أن أرسطاطاليس هو المعلم الأول بمنطقه - بل زاد الفارابي على ذلك من تفكيره الفلسفي والنقدي ما عظمت به مكانته في عالم «العقل» من تراثنا الفكري، وإذا كان لا مندوحة لنا عن الاكتفاء بلمحة من دنيا الرجل - جريا على منهاجنا في هذا الكتاب - فلتكن تلك اللمحة وقفة عند كتابه «إحصاء العلوم».

فليس عبثا ولا مصادفة أن نجد كثيرين من الفلاسفة الأعلام في العالم كله - قديمه وحديثه - يقفون من علوم عصرهم وقفة متأملة قد تقصر بهم وقد تطول، والأرجح أن يتناولوا تلك العلوم بشيء من التصنيف والترتيب يجيء كاشفا - إلى حد كبير - عن وجهة نظرهم فيما يريدونه لعصرهم من توجيه علمي، فلئن كان الرجل العادي من رجال العالم يكفيه أن يتقن علما واحدا تخصص فيه، فإن «فيلسوف العلم» لا يرضى عن نفسه إلا إذا اتخذ موقفا «أعلى» من العلوم لينظر إليها النظرة المقارنة التي قد تنتهي بتوحيدها جميعا في منظومة واحدة، فيها ما هو أدنى وما هو أعلى، بمعنى ما هو أخص وما هو أعم؛ لأنك إذا عرفت أين يقع علمك الذي تخصصت فيه من سائر العلوم، أدركت الهدف البعيد لطريق سيرك، وإدراك الهدف عامل قوي في تنظيم الخطى وتمييز الأهم من المهم ومما ليس بذي خطر من أجزاء مادتك العلمية نفسها.

يبدأ الفارابي بهذه العبارة التي يوضح فيها خطته في تصنيف العلوم المعروفة في عصره وترتيبها، فيقول: «قصدنا في هذا الكتاب أن نحصي العلوم المشهورة علما علما، ونعرف جمل ما يشتمل عليه كل واحد منها، وأجزاء كل ما له منها أجزاء، وجمل ما في كل واحد من أجزائه، ونجعله في خمسة فصول؛ الأول في علم اللسان وأجزائه، والثاني في علم المنطق وأجزائه، والثالث في علوم التعاليم (= الرياضة) وهي العدد والهندسة وعلم المناظر وعلم النجوم التعليمي وعلم الموسيقى وعلم الأثقال وعلم الحيل (= الميكانيكا)، والرابع في العلم الطبيعي وأجزائه، وفي العلم الإلهي وأجزائه، والخامس في العلم المدني وأجزائه، وفي علم الفقه، وعلم الكلام» (إحصاء العلوم ، تحقيق الدكتور عثمان أمين، ص43).

ونظرة سريعة إلى هذا التقسيم تكشف عن جانب مما أراده الفارابي؛ وذلك أن أربعة أقسام من الخمسة، خاصة بالعلوم النظرية، وأما الخامس فخاص بالتطبيق العملي على الحياة الاجتماعية في المدينة والحياة الفردية في العقيدة والشريعة، كأنما يريد الفارابي أن يقول: إن هدف الفكر النظري لا بد أن يكون هو التطبيق على الحياة العملية، هذه واحدة، والأخرى هي أنه في نطاق العلوم النظرية نفسها، سار من علوم الصورة (اللغة والمنطق والرياضة) إلى علوم المادة (الطبيعة وما وراء الطبيعة)، أي إنه سار هابطا من الأعم إلى الأخص، فالعلم الأخص لا يستغني عن العلم الأعم، ولكن العكس غير صحيح، بمعنى أن العام يستغني عن الخاص؛ فاللغة والمنطق والرياضة لا يعنيها أن تنحصر في مادة علمية بذاتها؛ لأنها «مقولات صورية» قابلة لأن تمتلئ بأية مادة علمية، وأما علم الطبيعة وعلم ما وراء الطبيعة فلهما مادة علمية معينة لا بد من تناولها، على أن يجري هذا التناول في إطارات اللغة والمنطق والرياضة.

وسنكتفي هنا بلقطة واحدة نلقطها من «إحصاء العلوم» لنقف حيالها وقفة تحليلية تكشف عن نفاذ البصيرة عند الفارابي من جهة، وتفيدنا نحن اليوم فيما يمس موضوعها من جهة أخرى، وإنما قصدت إلى ما ارتآه الفارابي في طبيعة «الشعر» ما هي؟ (راجع «إحصاء العلوم»، ص67-68)؛ وذلك لأن فيلسوفنا الفارابي قد وصف طبيعة الشعر ومهمته التي يؤديها، وصفا يضع به الأساس لمذهب في الفن الشعري، قريب الشبه جدا ببعض مذاهب الشعر في النقد الأدبي المعاصر، نذكر منها على سبيل المثال رأي «إ. إ. رتشاردز» الذي بسطه في كتابه «مبادئ النقد الأدبي».

ومؤدى هذا المذهب الفارابي هو أن الغاية التي يحققها الشعر، هي أن يوحي لقارئه بوقفة سلوكية يريدها له الشاعر، لا بالقول المباشر، بل برسم صورة يكون بينها وبين السلوك المرتجى علاقة الإشارة الموحية. ولو صدق هذا المذهب لكانت لنا به ثلاثة معايير يكمل بعضها بعضا، نستطيع بها أن نميز جيد الشعر من رديئه؛ أولها: أن ترسم القصيدة صورة أو صورا تتكامل أجزاؤها بحيث يمكن تصورها، وثانيها: أن يكون للصورة المرسومة من قوة التداعي ما تستجلب به إلى الذهن شبيها لها من الخبرة المكنونة عند قارئها، وثالثها: أن تكون الصورة المستدعاة حافزا لصاحبها على اصطناع وجهة للنظر، ينظر بها إلى العالم، فيصطبغ بها سلوكه على وجه الإجمال.

إذن فهذه ثلاث خطوات تتحقق بها طبيعة الشعر؛ صورة ترسم أولا، فخبرة خاصة تستدعيها هذه الصورة المرسومة من ماضي ذكرياتنا ثانيا، فوقفة سلوكية نقفها إزاء العالم بناء على هذه الخبرة الخاصة ثالثا. وسأعرض عبارة الفارابي بنصها، مجزأة ثلاثة أجزاء، كل جزء منها يصف مرحلة من المراحل الثلاث، معقبا على كل جزء من النص بشيء من الشرح يلقي الضوء على معناه: (1)

يبدأ الفارابي بقوله: «الأقاويل الشعرية هي التي تؤلف منها أشياء، شأنها أن تخيل - في الأمر الذي فيه المخاطبة - خيالا ما، أو شيئا أفضل أو أحسن، وذلك إما جمالا أو قبحا، أو جلالة أو هوانا، أو غير ذلك مما يشاكل هذه.»

إلى هنا ينتهي الفارابي من الخطوة الأولى، وهي أن تخيل القصيدة خيالا ما، في الموضوع الذي يريد أن يخاطب الناس فيه، أي أن ترسم القصيدة صورة ما، لا ينعكس فيها الواقع انعكاسا مباشرا، ومعنى هذا أن الصورة الشعرية لا تجيء محاكاة للحقيقة الواقعة في عالم الأشياء، بل هي صورة يختار لها الشاعر أجزاءها كما يريد له فنه، ولا يشترط أن تكون الصورة المرسومة محببة إلى النفس، بل قد تكون كريهة منفرة تبعا لنوع الفكرة التي يريد الشاعر أن يوحي بها إلى القارئ، والتي ستكون بدورها أساس الوقفة السلوكية التي ينتظر للقارئ أن يقفها إزاء العالم، إذ قد يريد الشاعر لقارئه أن يزور عن فعل معين أحيانا، كما قد يريد أن يقبل على فعل آخر أحيانا أخرى. (2)

ننتقل الآن إلى الجزء الثاني من عبارة الفارابي، وهو الجزء الذي يصف به المرحلة الثانية، عندما يتأمل القارئ الصورة التي قدمها إليه الشاعر، لا ليقف عندها وكفى، بل لتثار في ذهنه خبرات ماضية، بينها وبين الصورة الحاصرة أمام ذهنه شبه؛ ففي هذا الجزء يقول الفارابي: «ويعرض لنا عند استعمال الأقاويل الشعرية - عند التخيل الذي يقع عنها في أنفسنا - شبه بما يعرض لنا عند نظرنا إلى الشيء الذي يشبه ما يعاف، فإنا من ساعتنا يخيل لنا في ذلك الشيء أنه مما يعاف، فتقوم أنفسنا منه، فتتجنبه، وإن تيقنا أنه ليس في الحقيقة كما يخيل لنا.»

وهذه هي الخطوة الثانية، فبعد أن ترسم الصورة التي قدمها الشاعر في ذهن القارئ، يحدث له نفس الشيء الذي يحدث حين ينظر إلى شيء ليس في ذاته كريها، لكنه يشبه شيئا آخر كريها، فيستدعي الشبيه شبيهه إلى الذهن، فمن الحقائق النفسية المعروفة ذلك القانون الذي يسمونه بقانون التداعي، وخلاصته أنه إذا اقترن في خبرتك شيئان لأي سبب من الأسباب، ارتبط هذان الشيئان أحدهما بالآخر، بحيث إذا عرض لك أحدهما، وثب الآخر إلى ذهنك فورا؛ فقد تصف الشيء الواحد بصفتين، كلتاهما - من حيث الواقع - صحيحة، ومع ذلك فإحداهما تكون مدحا، والأخرى تكون قدحا، حسب ما تستدعيه كل منهما إلى الذهن، فالأمر كما يقول الشاعر في عسل النحل:

تقول هذا مجاج النحل تمدحه

وإن ذممت تقل قيء الزنابير

لكن لماذا يعول الشاعر على أن تستثير الصورة الخيالية في أنفسنا شيئا سواها مما يشبهها؟ إنه يفعل ذلك لأن الصورة الخيالية - بحكم كونها خيالية - لا تتصل بالواقع صلة مباشرة، وبالتالي فهي وحدها لا تصلح أداة نمس بها العالم الخارجي مسا مباشرا، وإذن لا بد أن أستعين بها على إخراج شيء آخر من مكنون نفسي، تتوافر فيه هذه الصلة المباشرة بعالم الأشياء الخارجية كما هي واقعة، يصلح أساسا للوقفة السلوكية التي يراد لي أن أقفها:

ولعله من المفيد هنا أن نسوق مثلا نوضح به ما نريد؛ خذ هذه الأبيات الثلاثة:

غير مجد في ملتي واعتقادي

نوح باك ولا ترنم شاد

وشبيه صوت النعي إذا قي

س بصوت البشير في كل ناد

أبكت تلكم الحمامة أم غن

ت على فرع غصنها المياد؟

فها هنا صور يلاحق بعضها بعضا ليقوي بعضها بعضا ، حتى لكأنما هي صورة واحدة؛ باك ينوح وإلى جواره شاد يترنم، نعي ينقل الخبر المشئوم وإلى جواره بشير يهتف بالبشرى، حمامة تغمغم على غصن مياد فلا ندري أهو بكاء منها أم غناء؛ فهل يراد لنا أن نقف إزاء هذه الصور في ذاتها، لا نجاوز حدودها؟ كلا، بل المراد أن نتأمل الصور لتحدث النقلة منها إلى أشباهها مما قد خبرناه في حياتنا الماضية، فقد يعود إلى خاطري - بسبب حضور هذه الصور في ذهني - أمثلة خبرتها بنفسي وعشتها، إذ كنت أذوق من الشيء الواحد حلوه ومره معا، إنه لا جدوى من هذه الصورة التي رسمها الشاعر لحمامة تغمغم فلا ندري أبكاء هو أم غناء، ما لم تكن هذه الصورة مثيرة في نفسي لهذا السؤال الذي ما ينفك يعاودنا إزاء مئات المواقف وألوفها؛ ترى أيكون هذا الأمر خيرا أم يكون شرا؟ ولكن ماذا بعد أن يثير الشاعر من نفسي كوامنها؟ إنه بذلك يهيئ السبيل إلى المرحلة الثالثة والأخيرة، وهي أن تتبلور عندي في النهاية وجهة معينة للنظر؛ ففي حالة هذه الأبيات المذكورة، لا بد أن ينتهي بي الأمر إلى وقفة من يعلو على الحوادث، بحيث ينظر إليها فإذا هي عند العقل سواء، وإنها لنظرة من شأنها أن تشكل سلوكي في مواقف الحياة العملية، وهنا ننتقل إلى الجزء الثالث من عبارة الفارابي. (3)

ففي الجزء الثالث من النص الذي نعرضه، فنعرض به مذهبا متكاملا في طبيعة الشعر؛ يقول الفارابي: «إننا نفعل فيما تخيله لنا الأقاويل الشعرية ... كفعلنا فيها لو أن الأمر كما خيله لنا ذلك القول، وإن علمنا أن الأمر ليس كذلك، فإن الإنسان كثيرا ما تتبع أفعاله تخيلاته أكثر مما تتبع ظنه أو علمه؛ فإنه كثيرا ما يكون ظنه أو علمه مضادا لتخيله، فيكون فعله بحسب تخيله لا بحسب ظنه أو علمه.»

في هذا الجزء من عبارة الفارابي وصف لتأثر الإنسان بما يرتسم له في ذهنه من خيال، حتى وإن علم أن واقع الأمر لا يطابق هذا الخيال المرتسم، وهو جزء مليء باللفتات النفسية النافذة، فعلى الرغم من أن قارئ الشعر حين يجد نفسه إزاء صورة لا يشك في أنها نسج من وهم الشاعر، إلا أنه - من عجب - يصدر في سلوكه عما خيله له الشاعر، لا عن علمه هو بالواقع علما قد يضاد هذا الخيال! ولا يفوت الفارابي أن يلاحظ هذه الملاحظة العامة عن الطبيعة الإنسانية، وهي أنه إذا ما تعارض وهم الإنسان مع علمه بالواقع، فالأغلب جدا أن يميل الإنسان نحو التصرف وفق وهمه، غاضا نظره عن معرفته العقلية، مما حدا بفلاسفة المنهج العلمي جميعا ألا يدخروا من وسعهم وسعا ليلفتوا أنظار العلماء - ودع عنك عامة الناس - إلى هذه الحقيقة العجيبة من طبيعة الإنسان، وهي أنه يتأثر بأوهامه إلى الحد الذي يعميه عن رؤية الواقع كما هو، وحتى إن رأى الواقع رؤية واضحة، ولبثت أوهامه قائمة، كان الأرجح - إذا لم يلجم طبيعته الجامحة بالشكائم - أن يلبي نداء الوهم قبل أن يصغي إلى صوت الحقيقة الواقعة.

وعلى هذا الجانب من الفطرة البشرية يبني الفارابي خطوته الثالثة في مذهبه عن الفن الشعري؛ إذ يركن ركون الواثق أو يكاد، إلى أن الشعر إذا أجيد فيه التصوير كان قمينا أن يفتن القارئ فتنة تلهيه عن ذات نفسه، أي إنها تصرفه عن إدراكه الواعي، بحيث يواجه الصورة الخيالية، وكأنما هو يواجه أمرا واقعا، بل ما هو أقوى أثرا من الأمر الواقع.

والحق أن هذا موضع من مواضع السر في الفنون كلها، فمن ذا ينظر إلى المسرحية الجيدة ولا ينسى أنه إزاء عالم من خلق الفنان، فيكاد يضحك مع من يضحك على خشبة المسرح، ويبكي مع من يبكي، متوهما أنه إزاء عالم الحوادث الجارية؟

ونعود إلى عبارة الفارابي لنتتبع قوله عن أثر الشعر في استثارة قارئه إلى وقفة سلوكية؛ إذ يقول: «وإنما تستعمل الأقاويل الشعرية في مخاطبة إنسان يستنهض لفعل شيء ما، باستقرار إليه واستدراج نحوه:

وذلك إما أن يكون الإنسان المستدرج لا روية له ترشده فينهض نحو الفعل الذي يلتمس منه بالتخييل، فيقوم التخييل مقام الروية، وإما أن يكون إنسانا له روية في الذي يلتمس منه ولا يؤمن إذا روى فيه أن يمتنع، فيعاجل بالأقاويل الكاذبة؛ ليسبق بالتخييل رويته حتى يبادر إلى ذلك الفعل.»

وواضح من هذه الفقرة أن الناس من حيث الروية العقلية صنفان؛ فصنف منهما لا يصدر في أفعاله عن روية وتدبر، وإذن فالشعر أصلح ما يكون لهذه الطائفة من الناس؛ لأن الصور الخيالية التي يقدمها لهم الشاعر لن تجد في أنفسهم علما آخر يناقضها فيعوق فعلها، ولا غرابة إذن أن تزداد أهمية الشعر - من حيث هو حافز إلى السلوك - في أولى مراحل التاريخ، وفي الإنسان الفرد وهو في سورة شبابه، وأما الصنف الثاني من الناس، وهم أولئك الذين أخذ المنطق العقلي بزمامهم، فتراهم يقلبون الأمور على وجوهها قبل أن يأخذوا في العمل، كما راح هاملت يقلب الأمر على وجهيه: أبقاء أم فناء؟ قبل أن يهم بفعل معين في موقفه الذي كان فيه، فمهمة الشاعر إزاء هؤلاء أن يقطع عليهم تفكيرهم المنطقي الهادئ؛ ليدس في أنفسهم حافزا يحفزهم إلى سلوك معين قبل أن يحول تفكيرهم في العواقب دون التصرف على النحو المراد لهم أن يتصرفوا به؛ لهذا كله كان لا بد للأقاويل الشعرية - كما يقول الفارابي في جملته الختامية - «أن تجمل وتزين وتفخم ويجعل لها رونق وبهاء.» •••

تلك هي نظرية الفارابي في المضمون الشعري ماذا عساه أن يكون، وهي نظرية أوجزها وركزها في صفحة واحدة من كتاب، ولكنها جديرة منا بدرس وتحليل وتطبيق، يبرز منها جوانب قوتها ويظهر نواحي ضعفها، ومن النتائج القوية التي تتفرع عنها، حلها لإشكال ما ينفك قائما بين النقاد، وهو: هل يخضع الفن للأخلاق، أو أن القيمة الجمالية في الفنون مستقلة عن معايير الفضيلة؟ أو بعبارة تلوكها ألسنة النقاد اليوم؛ أيكون الفن هادفا أم لا يكون؟

إنني لو كنت لأختار لنفسي جوابا عن هذا السؤال، لما ترددت لحظة في التفرقة الفاصلة الحاسمة بين مجال الفن من ناحية ومجال الأخلاق من ناحية أخرى؛ فلكل من المجالين معياره، فلا فرق عند الفن بين أن يصور الفنان فضيلة أو أن يصور رذيلة، ما دام قد أجاد التصوير في كلتا الحالتين، وهذا هو «ملتن» يصور الله ويصور الشيطان فيجيد في الصورتين معا، بل لعله في تصوير الشيطان أجود وأقوى، وإذن فهو فنان بهذه كما هو فنان بتلك.

لكنني أجد النظرية الفارابية تحل الإشكال حلا وسطا، قد يصادف قبول الطائفتين المتقاتلتين جميعا، فما دام الشعر عنده - وتستطيع أن تقول الفن كله - يستهدف في نهاية الأمر استثارة القارئ ليقف موقفا سلوكيا معينا، إذن فالغاية الخلقية - ونقصد بالأخلاق هنا السلوك بوجه عام - هي مدار البناء الفني، لكن الشعر - من جهة أخرى - لا يكون شعرا إذا هو أدى الوعظ بطريق مباشر؛ إذ لا بد من بناء الصورة الخيالية أولا - التي لا يراعى فيها إلا معايير الفن وحدها - ثم يترك الأمر لما توحيه الصورة المرسومة لمن يطالعها، فإذا ما كانت صورة محببة إلى نفسه بحيث تقمصها وسلك على هداها، كان الشعر بهذا قد حقق الغاية الخلقية دون أن يجعلها هدفا مباشرا، وكذلك قل في صورة منفرة كريهة يرسمها الشاعر، فيطالعها من يطالعها، فيعافها، فيكف عن مزج نفسه بها، فها هنا أيضا يحقق الشعر ما تبتغيه معايير الأخلاق باجتناب الشر، ولكن الشعر لا يحقق ما يحققه في كلتا الحالتين إلا عن طريق خدمته للفن الشعري ذاته. •••

تحدث الفارابي عن مضمون الأقوال الشعرية في الفصل الذي عقده لعلم المنطق من كتابه «إحصاء العلوم» لأنه أراد مقارنة العبارة الشعرية بغيرها من العبارات الدالة، فكأنما هو يرد الأمر لا إلى مجرد اتفاق يجيء عرضا، بل إلى جذور ضاربة في أعماق الطبيعة البشرية فلا ينبغي أن تكون إلا هكذا، شأنها في ذلك شأن قوانين الفكر نفسها، فإذا قلت إن النقيضين لا يجتمعان، فأنت لا تقول بذلك شيئا يمكن أن يقع ويمكن ألا يقع، بل تقول شيئا لا بد من وقوعه ما دامت طبيعة الإنسان العقلية هي ما هي، وكذلك قل في مضمون الشعر عنده، فإذا قلنا إن الشعر يرسم صورة خيالية لتستدعي صورة أخرى من خبرة القارئ (أو السامع)، وهذه بدورها تدفع صاحبها إلى وقفة سلوكية معينة، فقد قلنا شيئا يشبه أن يكون قانونا من قوانين النفس البشرية.

لكنه حين أراد أن يتحدث عن شكل الشعر ومبناه، جعل هذا الحديث في الفصل الخاص بعلم اللسان، ثم جعل الأمر مرهونا بالاتفاق الصرف فكأنما يريد أن يقول إن المنطق العقلي لا يقتضي في الشعر صورة بعينها، بل إن معيار الصحة هنا هو القواعد الموروثة، وبالنظر إلى علم الأشعار من هذه الجهة، يجده الفارابي أقساما ثلاثة:

فأولا: «إحصاء الأوزان المستعملة في أشعارهم» ولنلاحظ هنا استعماله لضمير الغائب في كلمة «أشعارهم»، فهو دليل على أن أمر الأوزان عنده موكول إلى تراث ثقافي معلوم، قد يختلف باختلاف الأمة، ومن زمن إلى زمن.

وثانيا: «النظر في نهايات الأبيات في وزن وزن، أيما منها عندهم على وجه واحد، وأيما منها على وجوه كثيرة، ومن هذه أيما التام وأيما الناقص، وأي النهايات يكون بحرف واحد بعينه محفوظا في الشعر كله، وأيما منها يكون بحروف أكثر من واحد محفوظا في القصيدة.»

وثالثا: «البحث عما يصلح أن يستعمل في الأشعار من الألفاظ عندهم» ولنلاحظ مرة ثانية ومرة ثالثة استعماله لضمير الغائب مما يؤكد أنه إن جعل مضمون الشعر موكولا إلى الفطرة الثابتة، فهو يجعل الشكل مستندا إلى السوابق التاريخية وحدها.

ذلك هو المذهب النقدي عند الفارابي، أقمناه على أسطر قليلة وردت في «إحصاء العلوم»، وهو وإن بلغ من دقة التفكير العقلي غاية قصوى، فذلك لم ينتقص من حاسته الذوقية التي كفلت له أن يكتب في الموسيقى رسالة هي - فيما يقال - أول رسالة علمية شهدها التاريخ كله في هذا الفن، كما كفلت له أن يجيد العزف إجادة هولتها الأساطير، حتى لقد روى الرواة أنه عزف في مجلس سيف الدولة يوما فأضحك الجالسين، ثم أبكاهم ثم أنامهم، وانصرف! ومات الفارابي في دمشق في شهر ديسمبر من عام 950 بعد الميلاد، ويروى أنه كان عندئذ في صحبة أميره سيف الدولة، فارتدى الأمير ثياب المتصوفة وصلى عليه، وكان الفارابي قد قضى من عمره ثمانين عاما. (سبق لنا نشر هذا الحديث عن «نظرية الشعر عند الفارابي» في كتابنا «فلسفة وفن» (1963م)، وكان في أصله محاضرة ألقيت في مهرجان الشعر الذي أقيم في دمشق في شهر مايو من سنة 1959م.)

50

مضت بعد موت الفارابي ثلاثون سنة، وعندئذ ولد شيخ الفلاسفة الشيخ الرئيس ابن سينا (980-1036م)، ولد ومات في بلاد الفرس، وإنا إزاءه لنقف أمام خضم من الفكر العقلي، سبيله لمن أراد الخوض فيه أن يدرس دراسة فلسفية متخصصة، لكننا في كتابنا هذا جريا على السنة التي رسمناها، سنختار من ذلك النتاج العريض الغزير قطرة، نراعي في اختيارها أن تكون - مع دلالتها على الاتجاه العقلاني - داخلة في باب الثقافة العامة، فكان أن اخترنا قصته «حي بن يقظان» (وهنالك بهذا العنوان نفسه قصة لابن طفيل وأخرى للسهروردي) لأنها صاغت فكرة الإعلاء من شأن العقل صياغة أدبية ممتازة، وذلك من حيث «الشكل» الفني الذي اصطنعه الكاتب ليسوق فيه «المضمون» الفكري الذي قصد إليه.

وخلاصة «حي بن يقظان» لابن سينا (وإذا شئت فارجع إلى القصة كما حققها وعلق عليها وقدم لها أحمد أمين في مؤلف مستقل بعنوان «حي بن يقظان») هو أن جماعة خرجوا يتنزهون، فصادفهم في الطريق شيخ وقور مهيب الطلعة، اسمه «حي بن يقظان»، وإنما رمزت القصة بهذا الشيخ إلى «العقل»، وأما الجماعة التي صادفته فهي رمز للشهوات والغرائز والعواطف والانفعالات، وسائر هذه الجوانب اللاعقلية من طبيعة الإنسان، فإذا رأينا الحوار قائما بينها وبين الشيخ، عرفنا أنه الحوار المألوف في حياة الإنسان، حين تتنازعه في باطنه أحكام العقل المنطقي من جهة، ودوافع الوجدان من جهة أخرى.

ولقد أشار الشيخ في حواره مع الغرائز إلى ما أسماه «علم الفراسة قاصدا به «علم المنطق»، وإنما أسماه بالفراسة لأن المنطق من شأنه أن» يتأمل الظاهر ليستخرج منه ما قد بطن واستخفى، بمعنى أنه قد ينظر إلى «المقدمات» ليخلص منها إلى «النتائج» المضمرة فيها، وأما الدوافع اللامنطقية من طبيعة الإنسان، فهي رفقة سوء، ولك أن تضيف إليها قوة التخيل التي يصفها الشيخ بأنها «شاهد الزور» لأن سبيلها هو أن تشبه شيئا بشيء زورا بغية إيقاع الإنسان في السوء، ومثل هذا التشبيه المضلل لا يقره عقل يحتكم إلى مبادئ المنطق في خطاه.

وليس أشيع من وصف الطبيعة البشرية بأن قوامها قوى ثلاث: العقل ثم قوتان أخريان يطمع الإنسان الكامل في إخضاعهما لأحكام العقل، وهما «القوة الغضبية» (أي الدوافع الانفعالية التي من أهمها الغضب وما يتبعه من شجاعة، وعضوها هو القلب) و«القوة الشهوانية» (أي كل ما يتصل بالبطن من رغبات، وعضوها أسفل الجذع من جهاز هضمي وجهاز جنسي)، ولعل هذه القسمة الشائعة للقوى الرئيسية في طبيعة الإنسان راجعة إلى الصورة التي تركها أفلاطون قديما حين صور الموقف بعربة يجرها حصانان؛ فسائق العربة - واللجام في يده - هو العقل، وأحد الحصانين هو القوة الغضبية، والحصان الآخر هو القوة الشهوانية، وحالة الكمال هي أن يسيطر العقل على الحصانين لتتزن حركاتهما فتأمن العربة خطر الجموح هنا أو هناك.

وذلك هو ما قصد إليه الشيخ في قصة ابن سينا حين قال: إن هذا الذي عن يمينك أهوج، والذي عن يسارك قذر شره شبق، لا يملأ بطنه إلا التراب، فالرمز هنا بالذي عن اليمين هو إلى القوة الغضبية، وبالذي عن اليسار إلى القوة الشهوانية، ولما أراد الشيخ أن يقرر بأن هاتين القوتين الجامحتين إنما هما من صميم الفطرة البشرية لا ينفصلان عنها إلا بالموت، عبر عن ذلك بقوله: «إن هذه القوة ملتصقة بالإنسان التصاقا كبيرا، ولا يبرئ الإنسان منها إلا غربة تأخذها إلى بلاد لم يطأها من قبل أمثاله»؛ قاصدا بذلك إلى القول بأنه لا منجاة للإنسان من انفعالاته وشهواته إلا بمفارقة البدن، وذلك لا يكون إلا بالموت. واستطرد الشيخ في حديثه عن وجوب امتلاك «العقل» لزمام هاتين القوتين، فقال محذرا: «وإياك أن تقبضهم زمامك، أو تسهل لهم قيادك، بل استظهر عليهم بحسن الإيالة، وسمهم سوم الاعتدال؛ فإنك إن متنت لهم سخرتهم ولم يسخروك، وركبتهم ولم يركبوك.»

وبعد أن فرغ الشيخ من حديثه عن الشهوات والغرائز والانفعالات ... إلخ، وكيف أنها عثرات على طريق الهدى، وأنها لا تقتلع إلا بالموت، وإذن فأقصى ما يستطيعه الإنسان حيالها هو أن يحكم فيها سلطان العقل ليرغمها على السبيل السوي المستقيم، انتقل الشيخ إلى حديث آخر يرشد به من أراد الجولان بعقله في رحاب الكون الفسيح، فقال ما معناه: إن للطريق ثلاثة حدود؛ «حد منها يحوزه الخافقان» وهو إنما يقصد بذلك الأشياء المدركة بالحواس في جنبات الأرض والسماء، وأما الحدان الآخران فهما «حد المغرب وحد المشرق، ولكل واحد منهما صقع قد ضرب بينهما وبين عالم البشر بسور لن يعدوه إلا الخواص الذين منحوا قوة لم يمنحها البشر بالفطرة»، والرمز «بحد المغرب وحد المشرق» إنما هو إلى «الهيولى» و«الصورة»، فكلنا يعرف كيف أدار أرسطو (ومن بعده أتباعه، وعلى رأس هؤلاء الأتباع من الفلاسفة المسلمين ابن سينا) فلسفته حول تفسير الكون كله، بكل ما فيه ومن فيه، بمبدأ «الهيولى والصورة»، أعني المادة التي صيغت والإطار الذي صيغت فيه، وهما بمثابة الأداة ووظيفتها، وها هو ذا «الشيخ» - أي «العقل» - في قصة ابن سينا يرسم لسامعيه طريق ارتيادهم للعالمين، فيقول إنه في التماس الهيولى والصورة لكل شيء تقع عليه الحواس في أرض أو سماء، على أن هذين المبدأين المغروزين في الكائنات ليسا، كظاهر تلك الكائنات، مما يدرك بالحواس، بل «قد ضرب بينهما وبين عالم البشر بسور، لن يعدوه إلا الخواص الذين منحوا قوة لم يمنحها البشر بالفطرة» ومعنى ذلك أنهما ينالان بالتأمل النظري، فلا بد من بذل الجهد ومن كسب العلم ليتمكن الإنسان من اجتياز السور المحيط بهما، ثم أضاف الشيخ إلى ذلك قوله: «إن تخطي هذا السور لا يتأتى للبشر بالفطرة، وإنما يتأتى بالاغتسال في عين فوارة إذا هدي إليها السائح فتطهر بها، وشرب من فورانها»، وهو يريد بهذه «العين» التي يغتسل بمائها من أراد كسب العلم الصحيح «المنطق» الذي هو طريق السير العقلي المؤدي بالسالك إلى الصواب.

وتمضي القصة موغلة في الرمز، لتحدد العلاقة بين البشر وعالمي النبات والحيوان، ثم بينهم وبين الأفلاك السماوية التي كان قد جرى عرف فلسفي بقسمتها تسعة أفلاك وراءها عاشر هو علة العلل، وهو الله سبحانه، وكثيرا ما يطلق على تلك الأفلاك التسعة ومعها العلة الأولى «بالعقول العشرة»، وهكذا دارت القصة كلها على إعلاء شأن العقل، وعلى قدرته على إدراك الكون وخالق الكون، إذا هو استطاع التحكم في الجوانب اللاعاقلة من الإنسان.

وبعد هذه الخلاصة الموجزة لقصة «حي بن يقظان» لابن سينا، أود أن أطلعك على أسطر منها كما وردت بنصها في مستهل القصة لتذوق الأدب السيني ذوقا مباشرا، فقد بدأت القصة بحديث يلقيه إنسان مزود بكل ما تزود به الطبيعة البشرية من قوى، فيقول: «إنه قد تيسرت لي حين مقامي ببلادي «برزة» برفقائي إلى بعض المتنزهات (لاحظ: الرفقاء: القوى اللاعاقلة؛ والبرزة: يقظة تتنبه إلى أن وراء البدن قوة أخرى؛ متنزهات: حقائق العقل) المكتنفة لتلك البقعة، فبينا نحن نتطاوف إذ عن لنا شيخ بهي قد أوغل في السن، وأخنت عليه السنون وهو في طراءة العز، لم يهن منه عظم ولا تضعضع له ركن، وما عليه من المشيب إلا رواء من يشيب، فنزعت إلى مخاطبته، وانبعثت من ذات نفسي لمداخلته ومجاورته، فملت برفقائي إليه، فلما دنونا منه، بدأنا هو بالتحية والسلام، وافتر عن لهجة مقبولة، وتنازعنا الحديث حتى أفضى بنا إلى مساءلته عن كنه أحواله، واستعلامه سنه وصناعته، بل اسمه ونسبه وبلده، فقال: أما اسمي ونسبي فحي بن يقظان، وأما بلدي فمدينة بيت المقدس، وأما حرفتي فالسياحة في أقطار العوالم حتى أحطت بها خبرا، ووجهي إلى أبي وهو حي، وقد عطوت منه مفاتيح العلوم كلها، فهداني الطريق السالكة إلى نواحي العالم حتى زويت بسياحتي آفاق الأقاليم، فما زلنا نطارحه المسائل في العلوم، ونستفهمه غوامضها حتى تخلصنا إلى علم الفراسة (= المنطق) فرأيت من إصابته فيه ما قضيت له آخر العجب ...» (حي بن يقظان عند ابن سينا،

الفصل السابع

الشجرة المباركة

51

في هذه المرحلة من خطوات الطريق، يصل مسافرنا إلى ذروة صعوده، فلقد اجتاز من تراثنا الفكري درجات تتابعت فيها خصائص الإدراك والوعي؛ فمن درجة كان نور الوعي فيها كالمشكاة، إلى درجة ثانية أصبح فيها كالمصباح، ثم اشتد وهج المصباح في درجة ثالثة، حتى إذا ما كانت الرابعة وجد نفسه أمام الزجاجة التي تحيط بالمصباح، والتي ازدادت سطوعا حتى كانت أمام عينيه كالكوكب الدري، وها هو ذا قد بلغ في رحلته غاية الصعود، إذ بلغ المصدر الذي منه يستمد الكوكب الدري وقوده، ألا وهو الشجرة المباركة، التي هي زيتونة يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، أي إن الإدراك هنا يستمد شعلته من نبع باطني ذاتي، يكفي صاحب الإدراك فيه أن يخلص النظر إلى قلبه فإذا هو مهتد إلى الحق ... وتلك هي نظرة المتصوفة.

وسنجعل وقوفنا في هذه المرحلة مع رجل واحد، هو أبو حامد الغزالي (توفي سنة 1111م) الذي طالت قامته حتى رآه المسافر من بعيد كالنخلة الفارعة، والذي ألقى بظله على العصور التالية له، حتى لنحس وجوده معنا إلى يومنا هذا، نهابه ونخشع لسطوته، وإن الناقد له ليتردد مائة مرة قبل أن يقدم على نقده؛ لأنه يعلم أنه واقف بإزاء طود شامخ راسخ، أخلص النظر والقول، لم يكتب ما كتبه ليملأ الصحف بزخرف اللفظ، ولا ليلهي قارئه بقدرة يتظاهر بها أمامه ليتعالم في كذب، بل كتب ما كتبه مخلصا صادقا، ينظر إلى الفكرة المعروضة بين يديه نظرة تشملها من كافة وجوهها، فإذا انتهى به النظر إلى حكم، آمن به ودافع عنه بكل ما أوتي من قدرة على جمع الشواهد من مأثور القول، وعلى إقامة الحجة العقلية الخالصة يسوقها لتساير تلك الشواهد المأثورة عن السالفين الصالحين.

ولم يشعر كاتب هذه الصفحات بالقلق لشيء ينوي أن يقوله، بمثل ما يشعر الآن وهو بصدد الحديث عن الإمام الغزالي؛ وذلك لأنه بعد أن صاحبه صحبة طويلة - فربما كانت الفترة التي صحبه فيها أطول فترة قضاها مع سواه طوال رحلته الثقافية هذه - أقول: إنه بعد أن صاحب الغزالي صحبة طويلة لم يسعه إلا أن يشعر شعورا مزدوجا غريبا؛ فبينما هو يعجب لهذه القدرة الفائقة على الغوص في أعماق الموضوع الذي يتعرض للحديث فيه، وعلى النظر فيه من أفق فسيح مديد الأطراف، ويعجب كذلك لهذه العملية المنهجية في النظر، والتي تصلح أن تكون نموذجا للمنهج العلمي كيف يكون ... أقول: بينما يجد كاتب هذه الصفحات نفسه ذاهلا حيال تلك القدرة والمنهجية العلمية، فإنه يلحظ أيضا أن الغزالي قد ظهر ليكون قوة رجعية قابضة، تمسك الناس دون الانبثاقة الحرة المغامرة، ومن يدري؟ فلعله من أقوى العوامل التي أثرت في مجرى تاريخنا الفكري فجمدته، وانتهت به إلى الركود الذي ساد حياتنا العقلية قرونا متتالية! وما ظنك برجل كتب مؤلفه الضخم العظيم «إحياء علوم الدين» في أربعة مجلدات مديدة الطول، ليرسم للمسلم حياته بالمسطرة والفرجار، فيحدد له كل لفظة يفوه بها، وكل خطوة يتحركها لكي يضمن سلامة إسلامه، يحدد له كيف يأكل، وكيف ينام، وكيف يسافر، وكيف يعاشر زوجه وأولاده وأصدقاءه ... يحدد له كل صغيرة وكبيرة من حياته؛ كيف ينبغي أن تكون لكي يكون مسلما صحيح العقيدة والسلوك، فماذا يبقى إذن للإنسان ليتصرف فيه بالتلقائية الحرة ليكون مسئولا بما يقرره لنفسه وبما يخرجه في سلوكه؟

ولكن برغم هذا الأثر القيدي الذي فرضه على الناس، فهو «الشجرة المباركة» التي تنمو بقوة فطرتها دون أن تتكئ على المعين الخارجي كما يفعل الصغار، لقد نضح الأفكار من المعين الغزير الدافق في نفسه الخصبة الغنية المثمرة، فلم يعبأ إن جاءت تلك الأفكار متفقة أو مختلفة مع معاصريه، بل لقد وقت في «المنقذ من الضلال» وقفة تحليلية يستعرض فيها هؤلاء المعاصرين، من حيث هم جماعات وتيارات لا من حيث هم أفراد؛ لينتهي إلى أن ثلاثة من الأربع الجماعات التي رآها ممثلة لعصره لا تصادف من نفسه قبولا، فلم يتردد في رفضها، وهؤلاء هم: المتكلمون، والفلاسفة، والقائلون بإمام معصوم يعلم الناس عن إلهام يوحى به إليه، فلم يبق أمامه إلا فئة رابعة، هي فئة المتصوفة، قبلها، لا ليسير في الصف مغمض العينين، بل قبلها من حيث المبدأ والطريقة، وترك لنفسه بعد ذلك حق الوصول إلى النتائج. نعم، كان الغزالي في تراثنا الفكري شجرة مباركة، شمخت بفروعها ورءوسها، وامتدت على العصور بظلالها، لأنها قدمت للناس نموذج الحياة الإسلامية فكفاهم عناء التفكير، ولم يبق لهم إلا اقتفاء الأثر، فله علينا حق التعظيم، وليس عليه منا لوم إذا جاء الناس من بعده صغارا تابعين، لقد كان الغزالي - كما وصفه المستشرق ماكدونالد - بمثابة من أقام بفكره الغني مائدة مليئة بصحافها، على حين اكتفى الآخرون بفتات يجمعونه من مائدته أو من موائد سواه.

52

أما عن نظرته العلمية المنهجية، فحسبنا أن نذكر طائفة من أقواله التي نثرها على صفحات كتبه، كأنما يريد بها أن يوصي الناس بمنهاج النظر السليم، لقد عاش الغزالي في القرن الحادي عشر الميلادي، وجاء بعده بأكثر من خمسة قرون إمامان من أئمة المنهج العلمي في تاريخ الفكر البشري كله؛ هما ديكارت في فرنسا وفرانسس بيكون في إنجلترا، اللذان يعدان فاتحة العصر الحديث في الفكر الأوروبي بسبب المنهاج الجديد، ومع ذلك فيكاد لا يكون في منهجيهما نقطة واحدة لم يوردها الغزالي شرطا من شروط النظرة العلمية التي نثر أصولها على صفحات كتبه نثرا.

اقرأ للغزالي العبارات الآتية، وقارنها بما تعرفه عن أصول المنهج عند ديكارت وبيكون:

فاستحضر في ذهنك القاعدة الديكارتية التي توجب على الباحث ألا يسلم بفكرة إلا إذا كانت مستحيلة على الشك، وذلك لا يتحقق لها إلا إذا كانت مما يدرك إدراكا باطنيا مباشرا، ثم اقرأ للغزالي في كتابه «المنقذ من الضلال» قوله: العلم اليقيني هو الذي تنكشف فيه العلوم انكشافا لا يبقى معه ريب، حتى ولو تحداه متحد بمعجزات، فإني إذا علمت أن العشرة أكثر من الثلاثة، فعندئذ لو قال لي القائل: لا، بل الثلاثة أكثر، بدليل أني أقلب هذه العصا ثعبانا، وقلبها، وشاهدت ذلك منه، لم أشك بسببه في معرفتي، ولم يحصل منه إلا التعجب من كيفية قدرته عليه، فأما الشك فيما علمته، فلا.

واستحضر في ذهنك ما قاله فرانسس بيكون - وهو يعرض لضروب الخطأ التي يزل فيها الإنسان - وهو يعرض ما أسماه «بأوهام المسرح»، قاصدا بذلك أنواع الخطأ التي تحدث بسبب احترامنا لمصدر الخبر، فإذا قيل لنا - مثلا - إن الشيء الفلاني هو كذا وكذا؛ تبعا لما قاله أرسطو أو أفلاطون أو من كان على شاكلتهما، ألقى ذلك في روعنا أن الخبر لا بد أن يكون معصوما من الخطأ، ما دام القائل هو على هذه الدرجة من المنزلة العالية، فإذا شاء الباحث العلمي أن يأمن الزلل من هذه الناحية، لم يكن له بد من وزن الأقوال في ذاتها، بما يؤيدها أو يفندها من شواهد، بغض النظر عن مكانة رواتها ومصادرها - هذا ما قاله بيكون في منهجه، فاقرأ ما قاله الغزالي في ذلك، وقد ورد أيضا في كتابه «المنقذ من الضلال»:

النتائج اليقينية التي نستدلها من مقدمات يقينية، إذا قيل لك خلافها، حكاية من أعظم خلق الله مرتبة وأجلهم في النظر والعقليات درجة، بل لو نقل عن نبي صادق نقيضه، فينبغي أن يقطع بكذب الناقل، أو بتأويل اللفظ المسموع عنه، ولا يخطر ببالك إمكان الصدق، فإن لم يقبل التأويل فشك في نبوة من حكي عنه بخلاف ما عقلته، إن كان ما عقلته يقينا.

لقد بلغت علمية النظر عند هذا الإمام - وهو الذي ينعتونه بحجة الإسلام - أن قرر (في كتابه «تهافت الفلاسفة») أن الدين لا يحتج به على العلم، بمعنى أن ما يقرره العلم لم يعد يجوز لأحد أن يكذبه بما يزعم وروده في الدين، يقول: من ظن أن إبطال شيء مما يقوله العلم هو دفاع عن الدين، فقد جنى على الدين ... «فإن هذه الأمور تقوم عليها براهين هندسية حسابية لا يبقى معها ريبة، فمن يطلع عليها، ويتحقق أدلتها ... إذا قيل له: إن هذا خلاف الشرع، لم يسترب فيه، وإنما يستريب في الشرع»، وأعظم ما يفرح به الملاحدة - هكذا يقول الغزالي - هو أن يصرح ناصر الشرع بأن ما قد أثبتته البراهين العقلية العلمية هو على خلاف الشرع، ما دام شرعا تتنافى أحكامه مع نتائج العلم.

ولنعد إلى المنهج الديكارتي المعروف، ما هيكله وتفصيلاته؟ إنه قائم على أساس أن يبدأ الناظر من مدركات مباشرة، لا يحتاج يقينها إلى أكثر من أن يراها رؤية باطنية بلا وسيط من عمليات الاستدلال، وذلك بعد أن يكون قد أفرغ نفسه من كل ما تحتوي عليه من محصول فكري جاءه من قبل عن طريق حواسه وعن طريق استدلالاته العقلية، فعندئذ ينظر في نفسه النقية هذه، ليرى ماذا يمكن أن يجد هناك من حقائق أولية تستحيل على الشك ثم يأخذ في توليد النتائج من تلك الأوليات اليقينية، فما دام الاستدلال سليما فلا بد أن تجيء النتائج صادقة صدق المقدمات الأولية، بذلك نقيم بناء العلم على يقين من أول خطوة فيه إلى آخر خطوة.

فاقرأ للغزالي عن هذه الخطوات نفسها: الشك في المعلومات التي سبق لنا أن حصلناها عن طريق الحواس أو عن طريق العقل، ثم البدء من أوليات يقينية تستمد يقينها من إدراكنا لها إدراكا مباشرا، ثم الانتهاء من تلك الأوليات اليقينية إلى نتائج تلزم عنها فتكون في مثل يقينها.

يقول الغزالي (في «المنقذ من الضلال» وهو بصدد تحليله لمعلوماته السابقة)، وذلك بعد أن استعرض معلوماته التي جاءته عن طريق الرواية والتقليد: «فقلت في نفسي إنما مطلوبي العلم بحقائق الأمور، فلا بد من طلب حقيقة العلم ما هي، فظهر لي أن العلم اليقيني هو الذي تنكشف فيه العلوم انكشافا لا يبقى معه ريب، ولا يقارنه إمكان الغلط والوهم، ولا يتسع القلب لتقدير ذلك، بل الأمان من الخطأ ينبغي أن يكون مقارنا لليقين مقارنة، لو تحدى بإظهار بطلانه مثلا من يقلب الحجر ذهبا والعصا ثعبانا، لم يورث ذلك شكا وإنكارا، فإني إذا علمت أن العشرة أكثر من الثلاثة، فلو قال لي قائل: لا، بل الثلاثة أكثر، بدليل أني أقلب هذه العصا ثعبانا، وقلبها، وشاهدت ذلك منه، لم أشك بسببه في معرفتي، ولم يحصل منه إلا التعجب من كيفية قدرته عليه، فأما الشك فيما علمته فلا. ثم علمت أن كل ما لا أعلمه على هذا الوجه، ولا أتيقنه هذا النوع من اليقين، فهو علم لا ثقة به، ولا أمان معه، وكل علم لا أمان معه فليس بعلم حقيقي.

ثم فتشت عن علومي، فوجدت نفسي عاطلا من علم موصوف بهذه الصفة، إلا في الحسيات والضروريات، فقلت: الآن بعد حصول اليأس، لا مطمع في اكتساب المشكلات إلا من الجليات، وهي الحسيات والضروريات، فلا بد من إحكامها أولا لأتيقن أن ثقتي بالمحسوسات، وأماني من الغلط في الضروريات؛ أهو من جنس أماني الذي كان من قبل في التقليديات، ومن جنس أمان أكثر الخلق في النظريات، أم هو محقق لا غدر فيه ولا غائلة له؟

فأقبلت بجد بليغ، أتأمل في المحسوسات والضروريات، وأنظر: هل يمكنني أن أشكك نفسي فيها، فانتهى بي طول التشكيك إلى أن لم تسمح نفسي بتسليم الأمان في المحسوسات أيضا [أي بعد أن كانت نفسه رفضت التسليم بمعلوماته الآتية إليه عن طريق النقل والتقليد والرواية] وأخذ يتسع هذا الشك فيها ويقول: من أين الثقة بالمحسوسات، وأقواها حاسة البصر، وهي تنظر إلى الظل فتراه واقفا غير متحرك، وتحكم بنفي الحركة، ثم بالتجربة والمشاهدة بعد ساعة تعرف أنه متحرك، وأنه لم يتحرك دفعة بغتة، بل على التدريج ذرة ذرة، حتى لم تكن له حالة وقوف، وتنظر إلى الكوكب فتراه صغيرا في مقدار دينار، ثم الأدلة الهندسية تدل على أنه أكبر من الأرض في المقدار، هذا وأمثاله من المحسوسات يحكم فيه حاكم الحس بأحكامه، ويكذبه حاكم العقل ويخونه، تكذيبا لا سبيل إلى مدافعته.»

وهنا لا بد لي من وقفة جد قصيرة، قبل أن أمضي مع الغزالي في مراحل تشككه، التي هي المراحل نفسها التي سيرى العالم بعد ذلك بخمسة قرون ديكارت يسير فيها فيرسم لأوروبا الحديثة كلها منهاجا للسير. أقول: إنه لا بد لي هنا من وقفة جد قصيرة، أحذر فيها القارئ من سرعة الظن بأن الغزالي ومن بعده ديكارت، قد أصابا الحق حين تشككا في صدق الحواس على نحو ما فعلا، فأقول في ذلك ما قاله فلاسفة التحليل التجريبيون المعاصرون، في نقدهم لديكارت، إن ما قد ظنه الغزالي خطأ وقعت فيه حاسة البصر ثم صححه العقل، إنما هو خطأ في الاستدلال العقلي لا في الإدراك الحسي؛ وذلك أني إذا رأيت الظل واقفا غير متحرك، فاستدللت من ذلك نفي الحركة عنه، فإنما كان الخطأ هو في هذا الاستدلال؛ لأن الذي نبهني للخطأ بعد ذلك هو لقطة حسية أخرى جاءتني عن طريق المشاهدة - والمشاهدة إدراك بحاسة البصر - بعد ساعة، كما يقول الغزالي، وكذلك حين رأيت الكوكب صغيرا في مقدار دينار، فالخطأ هنا هو أن أستدل مما أراه نتيجة لا تلزم بالضرورة عنه ، والواجب المنهجي هو أن أقول: إن حجم الكوكب في رؤيتي هو كحجم الدينار، أما ماذا يكون حجمه في الحقيقة فطريق العلم به طريق آخر.

ولنعد بعد هذا التحذير الذي أردنا به ألا يتشكك القارئ - كما تشكك الغزالي وديكارت - في أمانة الحواس وما تدركه؛ لأن ما تدركه الحواس عن الأشياء الخارجية محال أن يكون كذبا من حيث هو خبرة معينة وقعت لصاحبها، حتى لو اختلف الناس جميعا بعد ذلك في خبراتهم عن تلك الخبرة المعينة، فما زالت خبرة المشاهد هي خبرته كما وقعت له، فإذا جاءت الحاسة نفسها بعد حين ولقطت من الشيء نفسه خبرة أخرى تصحح الخبرة السابقة، كأن أرى جسما من بعيد فأظنه إنسانا حتى إذا ما اقتربت منه وجدته شجرة، فلا ينبغي أن ننسى أن الذي صحح لنا الخبرة الحسية الأولى خبرة حسية ثانية. ومع ذلك فلا أحسب أن كلمة «صحح» هنا جائزة؛ لأنه لا خطأ في كلتا الحالتين؛ لأنه قد كان لنا في كل حالة منهما لقطة حسية متميزة بخصائصها، فالأصح أن نقول: إنه قد تعاقبت على المشاهد هنا لقطتان حسيتان؛ الأولى وهو بعيد، والثانية وهو قريب، والأرجح أن تكون اللقطة من قريب هي المنبئة عن حقيقة الواقع، لكن ذلك لا ينفي أن اللقطة البصرية الأولى كانت تشبه ما نلقطه إذا وقع البصر على إنسان لا على شجرة ... فلنستأنف بعد ذلك حديث الغزالي: «فقلت قد بطلت الثقة بالمحسوسات أيضا [أي بعد أن بطلت الثقة قبل ذلك في التقليديات التي جاءته عن طريق النقل والرواية] فلعله لا ثقة إلا بالعقليات التي هي من الأوليات، كقولنا: العشرة أكثر من الثلاثة، والنفي والإثبات لا يجتمعان في الشيء الواحد، والشيء الواحد لا يكون حادثا قديما، موجودا معدوما، واجبا محالا.

فقالت المحسوسات: بما تأمن أن تكون ثقتك بالعقليات كثقتك بالمحسوسات، وقد كنت واثقا بي، فجاء حاكم العقل فكذبني، ولولا حاكم العقل لكنت تستمر على تصديقي؟ فلعل وراء إدراك العقل حاكما آخر، إذا تجلى كذب العقل في حكمه، كما تجلى حاكم العقل فكذب الحس في حكمه، وعدم تجلي ذلك الإدراك لا يدل على استحالته.

فتوقفت النفس في جواب ذلك قليلا، وأيدت إشكالها بالمنام، وقالت: أما تراك تعتقد في النوم أمورا وتتخيل أحوالا وتعتقد لها ثباتا واستقرارا، ولا تشك في تلك الحالة فيها، ثم تستيقظ، فتعلم أنه لم يكن لجميع متخيلاتك ومعتقداتك أصل وطائل؟ فبم تأمن أن يكون جميع ما تعتقده في يقظتك بحس أو عقل، هو حق بالإضافة إلى [أي بالنسبة إلى] حالتك التي أنت فيها؟ لكن يمكن أن تطرأ عليك حالة تكون نسبتها إلى يقظتك كنسبة يقظتك إلى منامك، وتكون يقظتك نوما بالإضافة إليها، وإذا وردت تلك الحالة تيقنت أن جميع ما توهمت بعقلك خيالات لا حاصل لها.»

هكذا رسم لنا الغزالي طريقا للشك المنهجي، لا نرى بعده شيئا ننسبه إلى ديكارت ولا ننسبه إليه، ثم ماذا بعد أن أبرأ نفسه من معلومات الحس والعقل؟ إنه لا بد أن يلتمس طريقا إلى «أوليات» - أعني حقائق واضحة بذاتها يستحيل أن تكون موضع شك؛ لأن نفيها إنما يجيء إثباتا لها، وإذن فليس من ثبوتها بد - يقول: «فلما خطرت لي هذه الخواطر وانقدحت في النفس، حاولت لذلك علاجا، فلم يتيسر، إذ لم يكن دفعه إلا بالدليل، ولم يمكن نصب دليل إلا من تركيب العلوم الأولية [أي الحقائق الواضحة بذاتها غير المحتاجة إلى برهان لبيان صدقها] فإذا لم تكن مسلمة لم يمكن ترتيب الدليل» ... ثم يروي لنا الغزالي أن العلة قد أصابته من شدة حيرته سعيا وراء تلك العلوم الأولية التي يطمئن لصوابها، والتي يعود من جديد فيبني عليها بناء المعارف العقلية التي كان قد شك في صحتها، لكنه هذه المرة يقيمها وهو آمن، إلى أن شاء له الله أن ينقذف نور في صدره «وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف» وما هذا النور إلا حقائق يراها صادقة بالفطرة، فيؤسس عليها سائر العلوم.

53

شغل الغزالي بفكرة «اليقين» - على نحو ما رأينا ديكارت بعد ذلك - شأن كثيرين من رجال الفلسفة، قدامى ومحدثين، حين أرادوا أن يقيموا بناء الفكر العلمي على أسس لا يطرأ عليها خلل. وكانت الطريقة السائدة بين الفلاسفة أجمعين، والغزالي بينهم، أن يتخذوا من منهج العلم الرياضي نموذجا. وما دام العلم الرياضي قائما على استخراج النتائج اليقينية من مسلمات مفروض فيها أنها يقينية أيضا، بحكم كونها حقائق تراها البديهة رؤية مباشرة، إذن فقد انجلى الطريق أمامنا، وهو أن نبدأ دائما من حقائق أولية بديهية، ثم نستخرج منها ما يلزم عنها؛ وبذلك نضمن اليقين ابتداء ووسطا وانتهاء، وذلك ما حاوله الغزالي، فها هو ذا في كتابه «معيار العلم» يعقد فصلا في بيان اليقين، فماذا قال؟

قال: «البرهان الحقيقي ما يفيد شيئا لا يتصور تغيره، ويكون ذلك بحسب مقدمات البرهان، فإنها تكون يقينية أبدية لا تستحيل ولا تتغير أبدا، وأعني بذلك أن الشيء لا يتغير وإن غفل إنسان عنه، كقولنا: الكل أعظم من الجزء، والأشياء المساوية لشيء واحد متساوية، وأمثالها؛ فالنتيجة الحاصلة منها أيضا تكون يقينية.»

والذي تجدر ملاحظته لأهميته، هو أن النتيجة العلمية ما دامت قد أقيمت على مثل هذا البرهان اليقيني، فإنها تكون معصومة من الخطأ عصمة كاملة؛ فإذا عرفنا حقيقة ما، بنيت على أسس اليقين العلمي، استحال علينا بعد ذلك أن نصدق أحدا يزعم لنا خلافها مهما كانت منزلته ومهما كان مصدره، «بل لو نقل عن نبي نقيضه، فينبغي أن يقطع بكذب الناقل، أو بتأويل اللفظ المسموع عنه.» وأما أن نحتمل صدق الرواية برغم أنها مناقضة لما أثبتناه بالبرهان اليقيني على النحو الذي بيناه، فأمر لا يجوز وروده. ويكمل الغزالي عبارته السالفة بقوله إن الحكاية المروية والمناقضة للبرهان العلمي، والتي يزعم قائلها أنه يرويها عن نبي، إذا لم يكن تأويلها إلى ما يقبله العقل ممكنا «فشك في نبوة من حكي عنه بخلاف ما عقلت، إن كان ما عقلته يقينا؛ فإن شككت في صدقه لم يكن يقينك تاما.»

فماذا يريد العربي في عصرنا أساسا أقوى من هذا الأساس ليكون به علمي المنهج والنظر؟ إن أكثر الغلط - كما يقول الغزالي - ينشأ من توهمنا بأننا نقيم نتائجنا على مقدمات يقينية، مع أن مقدماتنا قد لا تزيد على كونها أقوالا مشهورة ومحمودة، فنظن بها اليقين وما هي كذلك!

وللغزالي أقوال كثيرة منثورة في كتبه، تدور حول هذه النقطة المنهجية الهامة، التي مؤداها أن نتناول الفكرة المعينة - حين نكون في ميدان البحث العلمي النظري - في وزنها الحقيقي بالنسبة إلى مقدماتها التي أنتجتها، بغض النظر عن موقعها عند الناس وعن مكانة قائليها. ولقد تنبه ديكارت وبيكون معا، بعد الغزالي بخمسة قرون، إلى خطورة هذا الأساس المنهجي في التفكير؛ لأنهما جاءا في أعقاب قرون دينية، هي القرون الوسطى، حيث كانت الحجة التي تقام على فكرة ما هي أنها منسوبة لفلان الفلاني من القدماء، أو مأخوذة من الكتاب الفلاني الذي هو موضع ثقة وتصديق؛ فقال الرجلان - ديكارت في فرنسا، وبيكون في إنجلترا - إن صدق الفكرة لا يقام على قائلها مهما يكن شأنه، وكذلك قال الغزالي قبلهما في أكثر من موضع من كتبه الكثيرة.

يقول الغزالي في «ميزان العمل»: «من الناس من يقولون الرأي عن هوى، ثم يتعللون بأنه مذهب فيلسوف معروف كأرسطو وأفلاطون، والأغلب أن من يسمع لهم لا يطالبهم ببرهان، لموافقة قولهم لطبعه.» ويضيف الغزالي قوله إنه لمن العجب أن السامع للخبر المنقول له على هذا النحو، لا يطالب الناقل ببرهان أكثر من نسبة الخبر إلى صاحبه، مع أنه لو كان يحدث عن أمر يتعلق به خسران درهم لكان لا يصدقه إلا ببرهان.

ولقد ختم الغزالي كتابه «ميزان العمل» بهذه العبارة المنهجية الرائعة، التي يؤكد بها ضرورة أن يعتمد المرء على البرهان العقلي وحده، دون أن يستند في انضمامه إلى أصحاب مذهب معين إلى مجرد التبعية لسواه، يقول الغزالي: «... ولو ذكر ذاكر مذهبه، فما منفعتك فيه ومذهب غيره يخالفه، وليس مع واحد منهم معجزة يترجح بها جانبه؟ فجانب

صورة أعمى، تقلد قائدا يرشدك إلى طريق، وحولك ألف مثل قائدك، ينادون عليك بأنه أهلكك وأضلك عن سواء السبيل، فلا خلاص إلا في الاستقلال.»

وفي نفس المعنى قال الغزالي في «المنقذ من الضلال»: «فمهما نسبت الكلام وأسندته إلى قائل حسن فيه اعتقادهم، قبلوه وإن كان باطلا، وإن أسندته إلى من ساء فيه اعتقادهم، ردوه وإن كان حقا، فأبدا يعرفون الحق بالرجال ولا يعرفون الرجال بالحق، وهو غاية الضلال.»

ولهذا كله حرض الغزالي الإنساني المفكر المستقل على الشك فيما يقوله الناس؛ حتى يتبين له صدقه عن يقين «فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمى والضلال، نعوذ بالله من ذلك» (ورد في نهاية «ميزان العمل»). •••

ونعود إلى ما كنا بصدد الحديث فيه من الطريقة التي يجب أن يقام على منهاجها بناء العلم اليقيني، وذلك أن نبدأ بحقائق «أولية» - أعني حقائق تفرض نفسها على فطرة البديهة فرضا لا قبل لنا برده - ثم نستنتج النتائج من تلك الحقائق الأولية، فإذا نحن أمام سلسلة من الحقائق المتولد بعضها من بعض، وكلها يقين، لكن سؤالا هاما لا بد أن يطرح نفسه، وهو: متى تكون الحقيقة الأولية أولية؟ يقول الغزالي في «معيار العلم» إن الأولي يقال على وجهين: «أحدهما ما هو أولي في العقل؛ أي لا يحتاج في معرفته إلى وسط، كقولنا: الاثنان أكثر من الواحد.

والثاني أن يكون بحيث لا يمكن إيجاب المحمول أو سلبه، على معنى آخر أعم من الموضوع، فإذا قلنا: «الإنسان يمرض ويصح» لم يكن ذلك أوليا له بهذا المعنى ؛ إذ يقال على ما هو أعم منه وهو الحيوان، نعم هو للحيوان أولي؛ لأنه لا يقال على ما هو أعم منه، وهو الجسم.

وكذلك قبول الانتقال للحيوان ليس بأولي؛ إذ يقال على ما هو أعم منه، وهو الجسم، فإنه لو ارتفع الحيوان، بقي قبول الانتقال، ولو ارتفع الجسم لم يبق» (معيار العلم، تحقيق سليمان دنيا، ص250). وبعبارة أخرى نشرح بها ما يريده الغزالي، لمن لم يألف مثل هذه اللغة «المنطقية»، نقول: إن الحقيقة تكون أولية يقينية، يجوز لنا أن نبني عليها ما هو يقيني كذلك ، في إحدى حالتين؛ فإما هي حقيقة بديهية واضحة بذاتها لا تحتاج من العقل إلى برهان، كقولنا إن الكل أكبر من الجزء، وإما هي حكم حكمنا به على نوع ما، ولا يستطاع الحكم به على ما هو أعم من ذلك النوع، كأن نحكم على النوع الإنساني بأنه ذو نظم سياسية، وهو حكم لا يجوز أن نعلو به إلى ما هو أعم من الإنسان؛ أي إلى الحيوان؛ فعندئذ يكون مثل هذا الحكم أوليا. هذا هو ما يحدد به الغزالي شروط الحقيقة الأولية، التي هي أساس البناء العلمي اليقيني كائنا ما كانت مادة العلم الذي نقيم بناءه. ولست أرى المقام هنا يناسب النقد؛ لأن هذه الوجهة من النظر، التي تقيس النظر العلمي السليم بمعيار الفكر الرياضي القائم على الأوليات، قد شاعت خلال العصور الفلسفية كلها، ولكنها بطلت الآن ولم يعد يقول بها أحد من فلاسفة العلوم؛ فأقل ما يعترض به على مثل هذه النظرة، هو أن العلوم الطبيعية قائمة على أسس تختلف عما تقوم عليه العلوم الرياضية، وأن العلوم الطبيعية لا تنشد اليقين الرياضي، وأن الرياضة إنما اكتسبت يقينها من كون قضاياها تحليلية فقط، ولا تقول شيئا عن حقائق العالم، إلخ إلخ؛ أقول إنني لا أرى المقام هنا يناسب النقد المستفيض، ويكفيني أن الغزالي قد دعا بهذه القوة إلى النظر العقلي، فهو إلى هذا الحد يمثل لنا تراثا خالدا.

فلقد وردت فقرة في كتاب الغزالي «محك النظر» يبين فيها كيف يحدث أن يضل الفكر طريق الصواب، وكيف ينبغي للفكر أن يسير إلى النتائج المأمونة، تكفي وحدها ليقال عن الرجل إنه منهجي النظرة من الطراز الأول. ولولا أنه - كسائر الفلاسفة الأقدمين ومن أهل العصور الوسطى - كان يظن أن البداية الأولية الحدسية التي تضمن لنا أن نسير على الطريق السوي هي حقائق، كل حقيقة منها تكون قضية كاملة، قد لا تكون في واقع أمرها بسيطة وواضحة بذاتها، بل قد تكون مستدلة من مقدمات مضمرة، حتى جاء ديكارت بعد ذلك فجعل البداية المضمونة حدوسا مباشرة، كل منها يقتصر على تصور عقلي واحد (لا قضية كاملة التكوين)، أقول إنه لولا هذا الفرق لما وجدنا قط ما يميز المنهج عند الغزالي عنه عند ديكارت، وأما الفقرة التي أشرت إليها، فهي قوله: «إن الأغاليط في النظريات كلها ثارت من إهمال الجليات (أي الحقائق الأولية الواضحة بذاتها) والتسامح فيها، ولو أخذت الجليات وحررت (أي وحققت)، ثم تطرق منها الناظر إلى ما بعدها تدريجا حتى لا يخفى (أي حتى تظهر النتائج التي كانت كامنة في تلك الحقائق الأولية) قليلا قليلا، فيتضح الشيء بما قبله على القرب؛ لطاحت المغالطات، ولكن عادة النظار (أي المفكرين) الهجوم على غمرة الإشكال، وطلب الأمر الخفي البعيد عن الأوائل الجلية، بعد أن تخللت بينه وبين الأوائل درجات كثيرة؛ فلا تمتد شهادة الجلي، ولا يقوى الذهن على الترقي في المراقي الكثيرة دفعة، فتزل الأقدام، وتعتاص المطالب، وتنحط العقول؛ ولذلك ضل أكثر النظار وأضلوا، إلا عصابة الحق الذين هداهم الله تعالى بنوره وأرشدهم إلى طريقه.» وإذا ترجمنا للقارئ هذه الفقرة الفنية، بعبارة مختصرة قريبة إلى اللغة التي يألفها، قلنا: إننا نضمن صدق النتائج لو أننا تحققنا أولا من أن ما قدمناه بادئ ذي بدء هو من الحقائق البديهية التي لا تحتاج إلى برهان، ثم أخذنا بعد ذلك نسير على مهل، خطوة خطوة، لنستخرج من تلك البديهيات ما يلزم عنها، ثم عن هذا بدوره ما يلزم عنه، وهلم جرا، كان واضحا لنا عندئذ كيف تستند كل خطوة إلى ما قبلها مباشرة، حتى ننتهي إلى البديهيات التي لا تحتاج إلى سند؛ وأما الخطأ فينشأ حين نتعجل ونقفز من البديهيات لا إلى نتائجها القريبة، بل إلى نتائجها البعيدة دفعة واحدة، فلا يكون في مستطاعنا رؤية العلاقة بين بداية السير ونهايته؛ ومن ثم لا ندرك مواضع الخطأ عند الوقوع فيه.

54

على أن «العقل» عند هذا العقلاني العظيم، لم يكن له معنى واحد، بل فهم الكلمة على أربعة معان؛ اثنان منها منبثقان من الفطرة، والآخران نتيجة الاكتساب؛ فلقد تناول الغزالي فكرة «العقل» في مؤلفه الضخم «إحياء علوم الدين» (ج1)، وأخذ يبين منزلته في العلم قبل أن يفرعه إلى معان أربعة، فقال عنه إنه «منبع العلم ومطلعه وأساسه»، وإن العلم يجري منه «مجرى الثمرة من الشجرة، والنور من الشمس، والرؤية من العين»؛ ولقد سماه الله تعالى «نورا» في قوله

الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة ... ، كما سمى العلم المستفاد من العقل روحا ووحيا في قوله تعالى:

وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ، وحيثما جاء في القرآن ذكر النور والظلمة، كان المراد هو العلم والجهل، كقوله تعالى:

يخرجهم من الظلمات إلى النور . واستشهد الغزالي بعد ذلك على شرف العقل بقول رسول الله: «أول ما خلق الله العقل.» ثم استشهد بقول عمر بن الخطاب عن رسول الله: «ما اكتسب رجل مثل فضل عقل يهدي صاحبه إلى هدى ويرده عن ردى، وما تم إيمان عبد ولا استقام دينه حتى يكمل عقله.»

وانتقل بعد هذا التمهيد إلى تقسيم العقل إلى مختلف معانيه، فقال: «... اعلم أن الناس اختلفوا في حد العقل وحقيقته، وذهل الأكثرون عن كون هذا الاسم مطلقا على معان مختلفة، فصار ذلك سبب اختلافهم، وحقيقة الأمر هي أن اسم «العقل» يطلق بالاشتراك على أربعة معان، كما يطلق اسم «العين» مثلا على معان عدة؛ فلا ينبغي أن يطلب لجميع أقسامه حد واحد.

أما بالمعنى الأول فالعقل ما يميز الإنسان من سائر البهائم؛ إذ هو بهذا المعنى دال على ما استعد به الإنسان لقبول العلوم النظرية وتدبير الصناعات الدقيقة المستندة إلى فكر.

وأما بالمعنى الثاني فالعقل هو ما يتمثل في تمييز الإنسان منذ طفولته بين ما يجوز وقوعه وما يستحيل وقوعه، ويتمثل في إدراك الإنسان منذ طفولته كذلك للحقائق الأولية البديهية فيقبلها وكأنما هي نابعة من فطرته، كأن يقال له إن الاثنين أكثر من الواحد، وإن الشخص الواحد لا يكون في مكانين في وقت واحد.

ويلاحظ أن العقل بالمعنى الثاني نتيجة مشتقة منه بالمعنى الأول؛ فهنالك فطرة معينة تحدد طبيعة الإنسان وتميزه من سائر الحيوان، ثم تنبثق من هذه الفطرة قدرة معينة على بعض الإدراكات والتمييزات.

وأما بالمعنى الثالث فالعقل معناه مجموعة ما اكتسبناه من تجارب، أنارت أمامنا الطريق في دنيا الأشياء فعرفنا كيف نسلك وكيف نستخدم تلك الأشياء؛ فهو بهذا المعنى يساوي ما نطلق عليه كذلك اسم «الحنكة»، فنقول عن رجل إنه محنك، حين نريد أن يحسن تصريف الأمور مهتديا بخبرته الماضية. ويلاحظ الغزالي أن العقل بهذا المعنى الثالث نتيجة تترتب على المعنيين الأولين؛ فلولا ما هو مغروز في طبائعنا من استعدادات، وما يتمثل به ذلك المغروز الفطري من قدرة على الإدراك والموازنة، لما استطعنا الإفادة بالتجارب الماضية بحيث نستخدمها في مواقفنا الماثلة أمامنا.

وإن العقل بمعانيه الثلاثة السابقة، لينتهي بنا إلى معنى رابع وأخير، وهو قدرة الإنسان على معرفة عواقب الأمور؛ ومن ثم يأتي وجوب قمع الشهوة الداعية إلى لذة عاجلة وضرر آجل. فإذا اكتسب الإنسان هذه القدرة على نفاذ البصر إلى النتائج البعيدة، ثم القدرة على قهر نفسه بحيث لا تقبل إلا على ما هو صالح لها في المدى البعيد، سمي إنسانا عاقلا «من حيث إن إقدامه وإحجامه بحسب ما يقتضيه النظر في العواقب لا بحكم الشهوة العاجلة».»

55

إلى هنا وإمامنا الغزالي عقلاني النظر إلى أقصى الحدود، لا يختلف ولا يتخلف في مضمار العقل عن أئمة المنهج العقلي على طول التاريخ الفكري، من أقدم قديمه إلى أحدث حديثه.

لكن الذي يستوقف نظري - وأقولها على تردد شديد، بل إني لأقولها على ترجيح بأن أكون على خطأ لا أراه - الذي يستوقف نظري بعد ذلك، هو أنني لا أجد المنهج العقلاني الذي أوصى به الغزالي مطبقا عند الغزالي نفسه فيما بحث وكتب وألف، وإلا ففي أي كتاب من كتبه نراه قد حرص على أن يقيم نتائجه على أفكار «أولية» بالمعنى المنطقي لهذه العبارة؛ أي بالمعنى الذي يجعل تلك الأفكار الأولية فطرية في جبلة الإنسان، لا سبيل إلى إنكارها لأن إنكارها تنكر منا لتلك الفطرة؟ ولا شك أن الغزالي حين أوصى بإلحاح شديد أن نضمن يقين النتائج بضماننا ليقين المقدمات ، وأن يقين المقدمات لا يتوافر لنا إلا إذا كانت تلك المقدمات حقائق «أولية» بالمعنى الذي ذكرناه، قد كان يعني ما يريده المنطق بهذه الألفاظ، وأعود فأسأل: في أي كتاب من كتبه نراه قد بدأ بمثل هذه الحقائق الأولية اليقينية؛ ليضمن بها يقين النتائج التي يستدلها منها؟ إنه ليغلب على الغزالي في تأليفه (وانظر في ذلك مثلا طريقته في «إحياء علوم الدين») أن يبدأ بذكر المأثور من أقوال السلف في الموضوع الذي يهم بالكتابة فيه، ثم ينطلق على أساس هذا المأثور فيذكر للقارئ ما أراد أن يذكره؛ فكأنه يبدأ بالرواية عن الماضي ليجعل تلك الرواية سنده فيما ينوي أن يقوله، وذلك بعينه ما حذرنا من فعله إذا أردنا لأنفسنا منهجا عقليا في ميادين الدراسة على اختلافها. إن قولنا: «قال فلان ...» - مهما تكن منزلة فلان هذا - هو أبعد ما يكون عن الاستناد إلى «أفكار أولية» يقينية بحكم منطقها، لا بحكم منزلة قائليها.

لقد كان الغزالي في تاريخ الفكر الإسلامي أعظم رافض للفكر اليوناني متمثلا في فلسفة اليونان، وفي فلسفة أرسطو منها على وجه الخصوص، وفي ظني أن هذا الموقف الرافض من الغزالي تجاه الفكر اليوناني قد كان من أهم العوامل التي أكسبته المنزلة الرفيعة في أعين الأجيال التي تعاقبت بعده، وإلى يومنا هذا؛ فالفكر اليوناني هو فكر «الغرب»، وهو فكر قائم على التجريد العقلي الصرف، وذلك هو أبرز ما يميزه عن فكر «الشرق» في أخلص صوره وأنقاها وأبعدها تأثرا بالعوامل الخارجية، وإذا شئت فقارن بين أي شيء كتبه فيلسوف من الصين أو من الهند، وأي شيء كتبه فيلسوف يوناني؛ فعندئذ سترى في وضوح لا يحتمل الشك بأن الأول يكتب ما هو أقرب إلى أدب حكمي؛ لأنه يكتب عن خبرة استخلصها من وعيه بالحياة وعيا مباشرا، وأما الثاني فيعلو إلى درجات من الفكر المجرد الذي يكاد يصبح معه فكرا رياضيا خالصا، ولسنا نقول بهذا إن «الفلاسفة» العرب كانوا أقرب إلى نموذج الشرق الصيني والهندي منهم إلى نموذج اليونان، بل إنهم - على عكس ذلك - قد أوشكوا أن يكونوا هم الفلاسفة اليونان أنفسهم في ثوب عربي، لكن من أعلام الثقافة العربية الأصيلة من أحس القلق تجاه الفلاسفة اليونان وتجاه أصدائهم على أقلام الفلاسفة العرب، فنهضوا لمقاومة هؤلاء وأولئك، وعلى رأس المقاومين كان الغزالي.

كتب الغزالي كتابه «تهافت الفلاسفة»، وذكر في مقدمته أنه إنما يقتصر على إظهار التناقض في رأي مقدمهم، الذي هو الفيلسوف المطلق والمعلم الأول، وهو «رسطاليس» (هكذا ورد اسمه)، على أنه سيقتصر في مترجمي أرسطو إلى العربية (لاحظ أن الغزالي يعد ما كتبه الفلاسفة العرب «ترجمة» لفلسفة أرسطو إلى العربية) على الفارابي وابن سينا: «فنقتصر على إبطال ما اختاراه ورأياه الصحيح من مذهب رؤسائهما في الضلال.» وبشيء قليل من تجاوز المنطق الصارم، أراني أميل إلى القول بأن الغزالي حين نصب نفسه للهجوم على الفلسفة الأرسطية، كما رآها فيما كتبه الفارابي وابن سينا، كان في حقيقة أمره قد نصب نفسه لمهاجمة «العقل» إذا ما مس هذا العقل قضية إيمانية في مجال الدين. ولم يكن هذا هو منهجه العلمي الذي أوصى باصطناعه عند النظر.

يقول الغزالي في «المقدمة الثانية» لكتابه «تهافت الفلاسفة» إن الخلاف بين الفلاسفة يقع في ثلاثة أقسام، لا يهمه هو منها إلا قسم واحد:

فأولا:

قد يختلف الفلاسفة على لفظ مجرد وطريقة استعماله، كاختلافهم على الاسم «جوهر» حين يشيرون به إلى الله؛ فيقول بعضهم عن «الجوهر» إنه «الموجود لا في موضوع»؛ أي إنه هو القائم بنفسه الذي لا يحتاج إلى مقوم يستند إليه، ويرد عليهم آخرون بقولهم إن الجوهر إنما يتحيز في مكانه. وهنا يعلق الغزالي بقوله: إننا إذا اتفقنا على معنى اللفظ بأنه هو قيام الموجود بنفسه دون حاجة منه إلى سواه، فماذا يهم إذا أطلقنا على مثل هذا الموجود اسم «جوهر» أو لم نطلقه؟ إن هذا إنما يكون من قبيل البحث اللغوي الذي لا ضير علينا منه.

وثانيا:

قد يختلف الفلاسفة على أفكار ليست مما يصدم أصلا من أصول الدين: «ومن طن أن المناظرة في إبطال هذا من الدين، فقد جنى على الدين ... فإن هذه الأمور تقوم عليها براهين هندسية حسابية لا يبقى معها ريبة، فمن يطلع عليها ويتحقق أدلتها ... إذا قيل له: إن هذا خلاف الشرع، لم يسترب فيه، وإنما يستريب في الشرع ...» «وأعظم ما يفرح به الملاحدة أن يصرح ناصر الشرع بأن [ما قد ثبت بالبراهين العقلية] على خلاف الشرع، فيسهل عليهم طريق إبطال الشرع إن كان شرطه أمثال ذلك.»

وثالثا:

قد يجيء الاختلاف بين الفلاسفة حول أمر يتعلق بأصل من أصول الدين، كالقول في حدوث العالم، وصفات الصانع، وبيان حشر الأجساد والأبدان ... إلخ.

هذا القسم الثالث من اختلافات الفلاسفة هو ما يهتم به الغزالي، لماذا؟ لأنه يخشى أن يؤدي النظر العقلي إلى نتيجة تصدم أصلا من أصول الدين، وهو موقف لا يكون إلا من رجل لا يريد لحكم العقل أن يكون مطلقا؛ فيحدد له ما يجوز له أن يتناوله وما لا يجوز، ولو كان الغزالي عقلانيا صرفا، لما وجد فرقا عند العقل بين أن يكون الموضوع المطروح للنظر من القسم الأول أو من الثاني أو من الثالث، وأعني الأقسام التي ذكرناها عنه منذ قليل؛ لأن الأمر عندئذ يصبح مرهونا بمنهاج السير وحده، بغض النظر عن مادة الموضوع.

في هذا الكتاب الهام، الذي يحدد معلما بارزا من معالم الطريق في تراثنا الثقافي كله، يطرح الغزالي عشرين مسألة يراها مواضع مؤاخذة للفلاسفة اليونان وأتباعهم من العرب، من أهمها تفنيده لقول الفلاسفة في أزلية العالم وأبديته، وقولهم بأن الموجود الأول يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات، وقولهم باستحالة خرق العادات، وغير ذلك من مسائل تتصل بالله من حيث هو واحد وخالق ... إلخ، لكننا نود أن نقف وقفة قصيرة عند المسألة السابعة عشرة بصفة خاصة؛ لشيوع ذكرها على أقلام الباحثين، وهي المسألة التي ذكرناها لتونا، والخاصة باستحالة خرق العادات أو عدم استحالة ذلك، أو بتسمية أخرى قد تكون أكثر إلفا للقارئ، هي المسألة الخاصة بفكرة السببية.

إنه ليندر بين الباحثين منا من يتناول فكرة «السببية» عند الفيلسوف الإنجليزي «ديفد هيوم» (1711-1776م) دون أن يعلق عليها بقوله إن الغزالي قد سبقه إلى هذه الفكرة نفسها على ما بين الرجلين من زمن مديد. وأساس الفكرة المشتركة عند الرجلين هو البيان بأن حادثة ما لا يجوز أن تعد سببا في حادثة أخرى، لمجرد أننا نراهما متصاحبين متلازمين دائما، أو متعاقبين بلا تخلف؛ فمهما تعددت الحالات التي رأينا فيها الحادثتين أو الشيئين متلازمين متعاقبين، فذلك لن يزيد على كوننا قد «تعودنا» هذا التلازم أو التعاقب، بحيث إذا وقعت إحداهما توقعنا حدوث الأخرى بحكم الرابطة التي ألفناها بينهما، ولكن هل يعني ذلك استحالة أن يحدث في المستقبل غير ما ألفنا، فتقع إحدى الحادثتين ولا تصحبها الأخرى؟ يقول الغزالي وهيوم معا: كلا، ليس ذلك محالا عند العقل، فما يزال العقل يجيز استقلال إحداهما عن الأخرى، برغم ما قد تعودناه فيهما من تلازم لم ينقطع في الحالات الماضية. وهو قول لا يقرهما عليه فلاسفة آخرون، كما لا يقرهما عليه الإدراك الفطري عند عامة الناس؛ لأن الفلاسفة وعامة الناس جميعا يرون بأن في الحوادث أو الأشياء قوة سببية من شأنها أن تستحدث حوادث أو أشياء تابعة حتما، ولا استثناء لتبعيتها في مستقبل، كما لم يكن لتبعيتها استثناء في حاضر أو ماض. أما الغزالي وهيوم فيذهبان إلى القول بأن لكل حادثة استقلالها الذاتي عن الحادثة الأخرى، وما الرابطة السببية المزعومة بين حادثة سابقة وأخرى لاحقة إلا عادة تعودناها، لا شأن لها بطبيعة الأشياء نفسها؛ ومن ثم جاز عندهما أن يأتي ظرف تحدث فيه أولاهما ولا تعقبها الأخرى. وأود أن ألفت نظر القارئ إلى أن المسألة ليست مجرد لجاجة في الجدل بغير حاصل، بل هي مسألة تمس بناء العلم في صميمه؛ لأنه إذا ما أخذنا بوجهة النظر هذه، كان معناها أن قوانين العلوم قائمة على احتمال الصدق لا على يقينه؛ إذ لو أردنا لتلك القوانين صدقا يقينيا للزم أن نجعل الرابطة السببية بين الظواهر والأشياء والحوادث أمرا محتوما، يقع في المستقبل كما وقع في الماضي بغير أدنى ريب في ذلك.

ولنورد هنا عبارة الغزالي في هذه المسألة لأهميتها، يقول: «الاقتران بين ما يعتقد في العادة سببا وما يعتقد مسببا ليس ضروريا عندنا [أي ليس محتوم الحدوث]، بل كل شيئين ليس هذا ذاك، ولا ذاك هذا [أي إن كلا منهما مستقل بكيانه عن الآخر]، ولا إثبات أحدهما متضمن لإثبات الآخر، ولا نفيه متضمن لنفي الآخر، فليس من ضرورة وجود أحدهما وجود الآخر، ولا من ضرورة عدم أحدهما عدم الآخر.»

ويسوق الغزالي أمثلة لأشياء قد نظن فيها قيام رابطة سببية ضرورية بين السابق واللاحق، ومن أمثلته: الري والشرب، الشبع والأكل، الاحتراق ولقاء النار، النور وطلوع الشمس، الموت وحز الرقبة، الشفاء وشرب الدواء، وهلم جرا إلى سائر ما نشاهده من مقترنات في الطب والفلك والحرف والصناعات.

على أن الغزالي يسارع بعد هذا الكلام مباشرة ليقرر أمرا فيه كل الفرق بينه وبين الفيلسوف الإنجليزي «هيوم»، ولم يحدث لي قط في حياتي العلمية أن وقعت على دارس عربي واحد، ممن يقارنون بين هيوم والغزالي فخورين بأن يكون الفيلسوف العربي قد سبق بالفكرة زميله الإنجليزي بسبعة قرون، أقول إني لم أقع على دارس عربي واحد يذكر لنا هذا الفرق، برغم أن الأمر لم يكن يقتضيه أكثر من أن يتابع القراءة بضعة أسطر في الصفحة نفسها؛ ليجد قول الغزالي بأن اقتران المقترنات، التي قد يؤخذ اقترانها على أنه رابطة سببية يكون فيها السابق سببا واللاحق مسببا، إنما هو في حقيقة أمره اقتران من «تقدير الله سبحانه؛ لخلقها على التساوق، لا لكونه ضروريا في نفسه غير قابل للفوت.»

معنى ذلك أن اقترانا مثل لقاء النار لقطعة من الورق - مثلا - إذا أعقبه احتراق، أو طلوع الشمس إذا تبعه انتشار النور، فليس ذلك لأن في النار ذاتها ما يحتم أن تشعل الورقة، ولا في الشمس ذاتها ما يوجب أن ينتشر النور، إنما الأمر في هذه الحالة هو مجرد تتابع بين الحوادث تعودناه، فحسبنا أنه أكثر من أن يكون عادة ألفناها، وإنما هو رباط سببي ضروري ناتج عن طبائع الأشياء. وإلى هنا والتشابه قائم بين الغزالي وهيوم في تحليلهما لفكرة السببية، لكن بينما يترك هيوم المسألة عند هذا الحد، وبذلك لا ترتد فكرة السببية إلا إلى أسس سيكولوجية في تكوين الإنسان وطرائق إدراكه للأشياء، بحيث إذا شاهد شيئين وقد تلازما في الوقوع، سارع إلى ربطهما معا برابطة سببية، أقول إنه بينما وقف هيوم عند هذا الحد من تحليل الفكرة، جاوز الغزالي هذا الحد وأضاف ما يفيد بأن وراء العادات الإدراكية عند الإنسان تقديرا من الله أن تجيء الأشياء المقترنة على صورة من التساوق بحيث تظل مقترنة دائما، وقد لا يريد الله للأشياء مثل ذلك الاقتران فيبطل ما بينها من ضرورة التلازم؛ وعندئذ قد ترى النار محيطة بقطعة الورق دون أن تحترق بها قطعة الورق، وقد ترى الشمس ساطعة دون أن ينتشر في الأرجاء نور.

بهذه الإضافة التي أضافها الغزالي إلى رد الرابطة السببية إلى عادات سيكولوجية عند الإنسان، يزول من أساسه التشابه الحقيقي بينه وبين هيوم، ويصبح كل من الرجلين طرازا وحده؛ وذلك لأنه بينما يمكن النظر إلى تحليل هيوم للسببية على أنه في الوقت نفسه تحليل لحقيقة القانون العلمي، نرى تحليل الغزالي للسببية مبطلا لفكرة القانون العلمي من جذورها؛ ففي حالة هيوم نستطيع القول - بناء على تحليله للسببية - إن أي قانون علمي ينتظم ظاهرة معينة من ظواهر الطبيعة، ما هو في أساسه إلا أن يكون في تلك الظاهرة جوانب ارتبط بعضها ببعض دائما فيما شاهدناه منها، فبات مرجحا لدينا أن نتوقع استمرار هذا الارتباط نفسه بين تلك الجوانب في المستقبل؛ ففي ظاهرة «المطر» مثلا، شاهدنا في كل حالاته الماضية أن ثمة ارتباطا بين درجة الحرارة ودرجة الرطوبة ودرجة الضغط الجوي واتجاه الريح ... إلخ إلخ، فأصبحنا نرجح كلما توافرت هذه الجوانب نفسها بهذه الدرجات نفسها، أن يسقط المطر؛ لأنه ليس في الأمر - من وجهة نظر هيوم - أكثر من ظواهر ارتبطت في إدراكنا، فتكونت لدينا العادة بأن نتوقع ارتباطها على هذا النحو دائما. وأما عند الغزالي فقد دخل في الموقف عامل آخر هو «تقدير الله»؛ وبذلك لم يعد ارتباط الظواهر في إدراكنا كافيا وحده لنستخرج لأنفسنا منه قانونا من قوانين الطبيعة؛ إذ قد يتم الارتباط كله بين العناصر المكونة للظاهرة المعينة كلها، ومع ذلك يريد لها الله ألا تفعل فلا تفعل؛ قد تتوافر درجة الحرارة ودرجة الرطوبة ودرجة الضغط الجوي واتجاه الريح ... إلخ، مما حدث معه سقوط المطر دائما في جميع الحالات الماضية، ومع ذلك فربما قدر الله سبحانه ألا يكون مطر فلا يكون. وبهذا ينتفي العلم من أساسه؛ لأن العلم ينهار كله ولا يبقى منه في أيدينا شيء، إذا نحن لم نجد الأساس الذي نتوقع به ما يحدث في المستقبل إذا توافر كذا وكذا من العوامل والظروف. أما إذا امتلأنا بفكرة تقول: إنه قد تتوافر العوامل كلها والظروف كلها لظاهرة معينة، ومع ذلك يظل الأمر مرهونا بتقدير الله أن تقع الظاهرة أو لا تقع، كان معنى ذلك أن لا علم؛ لامتناع القدرة على تكوين القوانين التي تمكننا من توقع ما يحدث في الحالات المعلومة العناصر.

لقد ظن الغزالي - كما ظن كثيرون من الأقدمين - أنه لو جعل توافر جانبين كافيا وحده لحدوث ظاهرة معينة بناء على ما خبرناه في الماضي، فإنه يكون بذلك قد جعل للجماد قدرة على الفعل، مع أن الله تعالى هو وحده الفاعل. ولنترك الحديث للغزالي نفسه في هذا: إنه إذا لاقت النار قطعة من القطن احترقت قطعة القطن، فنحن «نجوز وقوع الملاقاة بينهما دون الاحتراق، ونجوز حدوث انقلاب القطن رمادا محترقا دون ملاقاة النار.» وقد يدعي خصومنا من الفلاسفة بأن فاعل الاحتراق هو النار فقط، وهو فاعل بالطبع لا بالاختيار؛ فلا يمكنه الكف عما هو في طبعه بعد ملاقاته لمحل قابل له. وهذا ما ننكره ونقول: «فاعل الاحتراق بخلق السواد في العطن، والتفريق في أجزائه، وجعله حراقا رمادا، هو الله تعالى، فأما النار فهي جماد لا فعل لها، فما الدليل على أنها الفعال؟ ليس لهم دليل إلا مشاهدة حصول الاحتراق عند ملاقاة النار، والمشاهدة تدل على الحصول عنده، ولا تدل على الحصول به. إن الوجود عند الشيء لا يدل على أنه موجود به.»

في هذه العبارة الأخيرة أوضح بيان للفرق البعيد بين الغزالي وهيوم؛ فكلاهما يوافق على أن اقتران شيئين في الحدوث يدل على أن أحدهما قد حدث عند حدوث الآخر، لكنه لا يدل على أنه قد حدث بسبب حدوث الآخر، ولو وقف الغزالي عند هذا الحد كما وقف هيوم، لكان التشابه بينهما كاملا، لكن الغزالي لم يقف عند ذلك، وأضاف أنه إذا كان أحد الشيئين لم يحدث بسبب حدوث الآخر المصاحب له؛ فإن السبب الذي جعلهما يقترنان هكذا، هو أمر من الله، ولما كان مثل هذا الأمر يريده الله وقد لا يريده، جاز للشيئين أن يقترنا في أي لحظة وألا يقترنا في أي لحظة تنفيذا لمشيئة الله. وبهذا القول من الغزالي يكون قد قرر وجود الفاعلية السببية، بينما أنكرها هيوم؛ مما يمحو أي شبه حقيقي بين الرجلين.

الذي يهمنا بيانه في هذا السياق هو أن الغزالي، بعد أن أقام منهجا عقليا يسلكه بين أصحاب النظر العقلي، لم يرد أو لم يستطع أن يطبق هذا المنهج في أي من كتبه، أو أن يلتزمه في أي من الموضوعات التي تعرض لبحثها؛ فوراء «عقله» كان هنالك الإيمان الديني، فإذا جاءه العقل بما لا يصدم هذا الإيمان فبها، وإلا فليتنكر للعقل وما جاء به تنكرا يبديه بالفعل وإن لم يذكره بالقول الصريح. على أننا إنما نعني بهذا مضمارا يكون فيه العقل مدار النظر؛ لأن الغزالي كما نعرف قد اعترف بأن للعقل حدوده التي يعجز بعدها عن النظر، وذلك عندما يكون الهدف هو معرفة الحق الذي هو الله سبحانه، فعندئذ تكون لنا وسيلة إدراكية أخرى، هي الحدس الصوفي، وليس موضع مؤاخذتنا له هو أنه قد جعل للعقل مجالا وللحدس مجالا، بل هو أنه في المجال الواحد الذي يكون المدار فيه للعقل - كتحليل فكرة السببية - نراه لا يلتزم منطق العقل وحده بغض النظر عن نتائجه.

ورد البحث في فكرة السببية - كما أسلفنا - في كتاب «تهافت الفلاسفة» (المسألة السابعة عشرة)، ونود ألا يمضي حديثنا في هذا الموضع دون أن نذكر ما لا بد أن يكون قارئنا على علم به، وهو أن ابن رشد قد تصدى فيما بعد للغزالي بكتاب «تهافت التهافت»؛ فلئن كان الغزالي قد بين ما ظنه تناقضات وقع فيها الفلاسفة، فقد أراد ابن رشد أن يبين بدوره ما ظنه تناقضات وقع فيها الغزالي في نقده للفلاسفة. وفيما يختص بالسببية قال ابن رشد مدافعا عن أن للأشياء قدرات ذاتية بحكم طبائعها على إحداث النتائج؛ أي إن في الأشياء ما يجعلها أسبابا ذاتية لما يلزم عنها، يقول ابن رشد: «... ماذا يقولون في الأسباب الذاتية التي لا يفهم الموجود إلا بفهمها؟ فلو لم يكن لموجود موجود [أي لكل موجود] فعل يخصه، لم يكن له طبيعة تخصه، ولو لم يكن له طبيعة تخصه لما كان له اسم يخصه ولا حد، وكانت الأشياء كلها شيئا واحدا، ولا شيئا واحدا.» ويريد ابن رشد بهذا أن يقول: خذ النار - مثلا - فإما أن تقول عنها إن لها فعلا معينا يخصها ولا يخص سواها، وإما ألا يكون؛ فإن كانت الأولى كان معناها أن للنار طبيعة خاصة كانت بها نارا، وإن كانت الثانية بطل أن تكون النار شيئا واحدا بعينه، وإذا ارتفعت عنها صفة الواحدية في طبيعتها ارتفع بالتالي وجودها من حيث هي شيء متميز عما سواه. وخلاصة القول هنا هي أن النار إذا اعترفنا لها بما يميزها، وأن ما يميزها هو الإحراق لما تلاقيه من الأشياء الأخرى القابلة للاحتراق، وجب أن تلازمها هذه الطبيعة في جميع الحالات؛ فإذا فرضنا أن نشأت بين أيدينا حالة فيها نار تلاقي شيئا قابلا للاحتراق دون أن يحترق، لم نقل إن صفة النار قد زالت عنها، بل قلنا إنه لا بد أن يكون هناك عامل آخر مبطل للاحتراق، مع بقاء صفة الاحتراق مميزة للنار لا نسلبها عنها.

ويقول ابن رشد في هذا: «العقل ليس هو شيئا أكثر من إدراكه الموجودات بأسبابها، وبه يفترق من سائر القوى المدركة؛ فمن رفع الأسباب فقد رفع العقل. وإن سموا مثل هذا [أي الاقتران بلا سببية] عادة، فما أدري ما يريدون باسم العادة؛ هل يريدون أنها عادة الفاعل؟ أو عادة الموجودات؟ أو عادتنا عند الحكم على هذه الموجودات؟» وشرحا لسؤال ابن رشد هذا، نقول: افرض أن الموقف هو نار تحرق ورقا، فما الذي يريده القائلون بأن العلاقة بينهما هو عادة؟ أهي عادة النار أن تحرق؟ أم هي عادة الورق أن يحترق بها؟ أم هي عادتنا نحن في إدراك العلاقة بين النار والورق؟ أم هي عادة الله تعالى في أن جعل النار تحرق الورق؟ «إنه لمحال أن يكون لله تعالى عادة.» هكذا يستدرك ابن رشد ردا على الغزالي؛ ليبين تناقضه في أن يجعل السببية «عادة»، ثم يجعل الله فاعلا لها! «وإن أرادوا أنها عادة للموجودات فالعادة لا تكون إلا لذي النفس، وإن كانت في غير ذي النفس فهي في الحقيقة طبيعة. وأما أن تكون عادة لنا في الحكم على الموجودات، فإن هذه العادة ليست شيئا أكثر من فعل العقل الذي يقتضيه طبعه، وبه صار العقل عقلا.»

ألا إنه لنموذج ممتاز للعقل العربي يحاور بعضه بعضا، فحسبنا مثل كهذا للطريقة التي يتجاوب بها اثنان من رجال الفكر العربي - الغزالي في المشرق وابن رشد في المغرب - لنقول إننا نستطيع أن نرث عن الآباء وقفاتهم العقلانية إزاء المشكلات العارضة؛ لنكون خلفا قد أخذ عن السلف، وسار على نهجه.

56

قل ما شئت عن الإمام الغزالي في قوة حجته، وفي قدرته القادرة على التحليل، وفي سعة أفقه وغزارة علمه وحضور بديهته وفي عقلانية نظرته، فلن تجاوز الحق، لكن ذلك كله لا ينفي عنه أنه استخدم تلك القوة والقدرة والرسوخ في أن رسم صورة تفصيلية للمسلم؛ كيف ينبغي له أن يعيش ليساير ما يقتضيه الشرع، وذلك في مؤلفه الضخم «إحياء علوم الدين»، وفي مواضع كثيرة أخرى من مؤلفات أخرى - ك «منهاج العابدين» مثلا و«ميزان العمل» وغير ذلك - فكان فكأنما وضع لحياة المسلم قالبا من حديد، لم يعد بعدها قادرا على أن يتحرك بتلقائية الإنسان المفكر الحر، ولا أظنني مغاليا إذا قلت إن الغزالي - على قدر عظمته - كان هو الرجل الذي أغلق باب الفكر الفلسفي أمام المسلمين فلم يفتح بعد ذلك إلى أن مرت ثمانية قرون، فتحت للمسلمين بعدها أبواب حضارة جديدة، هي حضارة أوروبا الحديثة؛ وكذلك كان هو الرجل الذي صاغ للمسلمين نموذجا نظريا لطريقة العيش، أصبح لهم كالقيد الذي يغل اليدين والقدمين واللسان في آن معا، ولبث المسلمون بعده - ربما إلى يومنا هذا - في شغل عن الحياة النابضة؛ بانصرافهم إلى تحديد الحلال والحرام في كل لفظة يلفظها لسان، أو حركة تتحركها يد أو قدم.

وما ظنك بإمام يرسم للناس صورا قوية أخاذة للطريقة التي ينبغي أن يأكلوا بها ويكسبوا معاشهم ويصادقوا بها الأصدقاء ويعتزلوا الناس إذا أرادوا العزلة، والتي ينبغي بها أن يتأهبوا للسفر ولسماع الموسيقى والغناء، وغير ذلك مما يجري هذا المجرى؟ إنه لا يجوز لأمثالنا الآن أن يناقشوا الغزالي في مدى توفيقه في تلك الصور التفصيلية كلها؛ لأن له من المكانة في العلم بأمور الشرع ما لا يسهل معه حتى للثقات في هذا الموضوع أن يعارضوه، لكن الذي يجوز لنا، بل الذي يجب علينا الاضطلاع به من الناحية الفكرية، هو أن نتنبه بقوة إلى حقيقة هامة، وهي خطورة الخلط بين النسبي والمطلق في هذه الأحكام؛ فإذا صح أن يكون للأكل أو للسفر - مثلا - آداب بعينها تصدق على ظروف محددة بزمانها ومكانها، فلا يصح أن ننقل الصورة النسبية المحدودة بالزمان والمكان المعينين هذه، لنجعلها صورة مطلقة تصدق على كل زمان ومكان؛ وبالتالي نلتزمها في ظروفنا الراهنة على بعد الخلاف بين الحالتين.

وسأضرب للقارئ مثلا واحدا مما يقوله الغزالي عن «آداب الأكل»؛ ليرى بنفسه كيف أن بعض هذه الآداب قد انقضى زمانها وجاء زمان آخر يقتضي آدابا أخرى، يقول: «إن مقصد ذوي الألباب لقاء الله تعالى في دار الثواب، ولا طريق إلى الوصول للقاء الله إلا بالعلم والعمل، ولا تمكن المواظبة عليهما إلا بسلامة البدن، ولا تصفو سلامة البدن إلا بالأطعمة والأقوات، والتناول منها بقدر الحاجة على تكرر الأوقات، فمن هذا الوجه قال بعض السلف الصالحين إن الأكل من الدين ...» أرجو أن يلحظ القارئ نقطتين في منهج التفكير عند الغزالي: (1) تسلسل القضايا بعضها عن بعض. (2) استناده أول ما يستند إلى أقوال السلف. فإذا كانت الملاحظة الأولى مؤيدة لمنهجه العقلي، كما أوصى به في كتب كثيرة له - على نحو ما بينا - فالملاحظة الثانية بغير شك تنقض ذلك المنهج؛ إذ ليس «أقوال السلف» من الحقائق الأولية البديهية التي طالما ألح علينا أن نجعلها نقطة البدء في كل تفكير علمي سليم؛ مما جعلنا نقرنه من حيث المنهج بالفيلسوف الفرنسي ديكارت. وبعد هذا فلنستأنف ذكر ما كتبه الغزالي في آداب الأكل: «... قال تعالى:

كلوا من الطيبات واعملوا صالحا

فمن يقدم على الأكل ليستعين به على العلم والعمل، ويقوى به على التقوى، فلا ينبغي أن يترك نفسه مهملا سدى، يسترسل في الأكل استرسال البهائم في المرعى؛ فإن ما هو ذريعة إلى الدين ووسيلة إليه، ينبغي أن تظهر أنوار الدين عليه، وإنما أنوار الدين آدابه وسننه التي يزم العبد بزمامها، ويلجم المتقي بلجامها؛ حتى يتزن بميزان الشرع شهوة الطعام في إقدامها وإحجامها. وها نحن نرشد إلى وظائف الدين في الأكل؛ فرائضها وسننها وآدابها ومروءاتها وهيئاتها في أربعة أبواب، وفصل في آخرها. الباب الأول فيما لا بد للآكل مراعاته وإن انفرد بالأكل، الباب الثاني فيما يزيد من الآداب بسبب الاجتماع على الأكل، الباب الثالث فيما يخص تقديم الطعام إلى الإخوان الزائرين، الباب الرابع فيما يخص الدعوة والضيافة وأشباهها.

الباب الأول، وهو ثلاثة أقسام: قسم قبل الأكل، وقسم مع الأكل، وقسم بعد الفراغ منه.

القسم الأول: قبل الأكل

الأول:

أن يكون الطعام حلالا في نفسه، طيبا في جهة كسبه.

الثاني:

غسل اليد؛ لأن اليد لا تخلو عن لوث في تعاطي الأعمال، فغسلها أقرب إلى النظافة والنزاهة، ولأن الأكل لقصد الاستعانة على الدين عبادة، فهو جدير بأن يقدم عليه ما يجري منه مجرى الطهارة من الصلاة.

الثالث :

أن يوضع الطعام على السفرة الموضوعة على الأرض؛ فهو أقرب إلى فعل رسول الله

صلى الله عليه وسلم

من رفعه على المائدة. كان رسول الله إذا أتي بطعام وضعه على الأرض؛ فهذا أقرب إلى التواضع، فإن لم يكن فعلى السفرة؛ فإنها تذكر السفر، ويتذكر من السفر سفر الآخرة وحاجته إلى زاد التقوى. [وها هنا ترى الغزالي يبلغ نهاية المرونة من وجهة نظره، حين يقول في هذا السياق: إنه وإن تكن الموائد مستحدثة بعد رسول الله «فلسنا نقول الأكل على المائدة منهي عنه نهي كراهة أو تحريم»؛ كل ما في الأمر عنده هو أن الأكل على السفرة أصح منه على المائدة، وعلى الأرض أصح منه على السفرة.]

الرابع:

أن يحسن الجلسة على السفرة في أول جلوسه، ويستديمها كذلك؛ كان رسول الله ربما جثا للأكل على ركبتيه، وجلس على ظهر قدميه، وربما نصب رجله اليمنى وجلس على اليسرى.

الخامس:

أن ينوي بأكله أن يتقوى به على طاعة الله تعالى؛ ليكون مطيعا بالأكل، ولا يقصد التلذذ والتنعم بالأكل.

القسم الثاني: في آداب حالة الأكل

يبدأ ب «باسم الله»، وإن قالها مع كل لقمة يكون أحسن؛ حتى لا ينشغل عن ذكر الله بالشره.

ويفضل الغزالي أن يقول الآكل «باسم الله» مع اللقمة الأولى، و«باسم الله الرحمن» مع اللقمة الثانية، و«باسم الله الرحمن الرحيم» مع اللقمة الثالثة، وأن يكون القول في كل هذه الحالات جهرا.

ويأكل الآكل باليمنى، ويبدأ بالملح ويختم به، ويصغر اللقمة ويجود مضغها، وما لم يبتلعها لم يمد اليد إلى الأخرى، وألا يذم مأكولا.

وأن يأكل مما يليه، إلا الفاكهة فله أن يدور عليها، ولا يقطع بالسكين إلا الخبز واللحم.

ولا يمسح يده بالمنديل حتى يلعق أصابعه؛ فإنه لا يدري في أي طعامه البركة.

ولا ينفخ في الطعام الحار ...

القسم الثالث: ما يستحب بعد الطعام

أن يمسك قبل الشبع.

ويلعق أصابعه ثم يمسح بالمنديل ثم يغسلها.

ويلتقط فتات الطعام.

ويتخلل، ويتمضمض بعد الخلال.

ويلعق القصعة.

ويشكر الله بقلبه، ويقول: اللهم لا تجعله قوة لنا على معصيتك. ويقرأ «قل هو الله أحد»، و«لإيلاف قريش».»

وأترك للقارئ الرأي إن كانت هذه الآداب كلها يجوز التأدب بها اليوم، أم يرى أن لأكلنا اليوم آدابا أخرى، ومن غير المعقول أن تكون كل هذه الآداب التي ذكرها الغزالي - دون سواها - هي ما ينبغي للمسلم أن يأخذ به في طعامه.

وما قلناه عن الأكل قل مثله في سائر نواحي العيش.

57

لقد وصل «العقل» إلى قمته في أدب فلسفي، أو قل في فلسفة صبها أصحابها في صورة أدبية، كأبي العلاء في المشرق العربي، وابن باجة وابن طفيل في الأندلس. ولما كانت خطة هذا الكتاب تلتزم الوقفات العقلية شكلا ومضمونا، وتقصر هذه الوقفات على ما هو أدخل في باب الثقافة منه في باب التخصص بكل فروعه، ومنها تخصص العلوم الرياضية والطبيعية وتخصص الفقه وتخصص الفلسفة، فقد اقتضى ذلك الالتزام بالوقفات العقلية أن تترك ميادين الأدب الخالص من نثر فني وشعر، لكننا برغم ذلك نشعر في أنفسنا بضرورة ألا نختتم هذا القسم من الكتاب بغير أسطر نقولها عن أبي العلاء بصفة خاصة. وأما ابن باجة بكتابه «تدبير المتوحد»، وابن طفيل بكتابه «حي بن يقظان»، فنتركهما لاكتفائنا في رحلتنا الثقافية هذه بتراث المشرق العربي وحده دون الأندلس وبلاد المغرب؛ فما قصدنا بهذا الكتاب تقصيا بقدر ما أردنا الوقوف عند «محطات» مختارة تصلح أن تكون لنا نوافذ نطل منها على الرحب الفسيح.

نعم إن ما كتبه أبو العلاء المعري يدخل في باب الأدب الخالص، ولم يكنب كما كتب الجاحظ - مثلا - أو كما كتب أبو حيان التوحيدي؛ فسواء جاء نتاج أبي العلاء شعرا أم جاء نثرا، فقد عني عناية الأديب بالشكل الذي يجري مادته الشعورية أو الفكرية في هيكله، وتلك هي من أبرز علامات الأديب، لكنه نثر في شعره وفي نثره على السواء تمجيدا للعقل كاد أن يبلغ به حد التأليه، كما فعل فلاسفة التنوير في فرنسا إبان القرن الثامن عشر، هذا من جهة مضمونه الفكري؛ وأما من جهة أشكاله الأدبية فهو يعطيك الشعور بأنك أمام «مهندس» يخطط أنماطه الزخرفية تخطيطا هندسيا، وذلك لا يكون إلا إذا كان «ذهنه» حاضرا معه في كل ما خطه القلم لما يمليه.

خذ - مثلا - كتابه «الفصول والغايات» (وقد لبث هذا الكتاب مفقودا مجهولا حتى أخرجه من خزائنه محمود حسن زناتي، ومع ذلك فلم يعثر من الكتاب إلا على جزئه الأول، الذي يبتدئ من أثناء حرف الهمزة وينتهي بحرف الخاء) أقول: خذ كتابه «الفصول والغايات» تجده مؤلفا من فقرات، بادئا بفقرات تنتهي كلها بحرف معين كالباء أو التاء أو غيرهما، كأنما هو ينظم بتلك الفقرات الكثيرة قصيدة أو مجموعة قصائد؛ القصيدة الأولى قافيتها الهمزة، والثانية قافيتها الباء، والثالثة قافيتها التاء ... وهكذا، وكل ما في الأمر أن فقرات نثرية - قد تقصر حينا وتطول حينا - تأخذ مكان الأبيات في قصائد الشعر المألوفة، وهو إذا ما أملى على تلاميذه فقرة من الفقرات (والفقرات هي «الفصول» ينتهي بها إلى قافيتها، وتلك القوافي هي «الغايات») فربما طلب منه تلاميذه أن يشرح لهم غوامضها، فيعقب عليها «بتفسير»، حتى إذا ما فرغ من تفسيرها بما يقنع تلاميذه، استأنف الحديث بفقرة أخرى، ويسمي هذه العودة إلى مجرى الحديث بكلمة «رجع» ... وهكذا دواليك يسير أبو العلاء في كتابه «الفصول والغايات»: «فصل» (أي: فقرة)، تنتهي إلى «غاية»، هي الغاية التي يجعلها مدار التقاء الفقرات في جزء معين من كتابه، ولنقل إنها الهمزة، ثم «تفسير» لذلك الفصل - أي الفقرة التي يفرغ لتوه من إملائها - ثم «رجع»؛ بمعنى العودة إلى إملاء فقرة جديدة.

ومن الخير أن نسوق لك مثلا يوضح طريقة الكتاب، نأخذه من أوله؛ أعني أول النسخة التي اعتمد عليها من أخرج لنا الكتاب، لكنه لم يكن أول الكتاب كما ألفه صاحبه؛ فقد فقدت صفحاته الأولى (ستكون «الغاية» هي الهمزة؛ لأننا ننقل من أول الكتاب). «أحلف بسيف هبار، وفرس ضبار، يدأب في طاعة الجبار، وبركة غيث مدرار، ترك البسيطة حسنة الحبار. لقد خاب مضيع الليل والنهار، في استماع القينة وشرب العقار. أصلح قلبك بالأذكار؛ صلاح النخلة بالإبار . لو كشف ما تحت الأحجار، فنظرت إلى الصديق المختار، أكبرت ما نزل به كل الإكبار. نحن من الزمن خبار، كم في نفسك من اعتبار! ألا تسمع قديمة الأخبار؛ أين ولد يعرب ونزار، ما بقي لهم من إصار، لا وخالق النار، ما يرد الموت بالإباء. غاية.

تفسير: الهبار: القاطع. والفرس الضبار: الذي إذا وثب وقعت يداه مجتمعتين. الحبار: الأثر والهيئة. الخبار: أرض سهلة فيها جحرة فأر ويرابيع، توصف بصعوبة المشي فيها، ومن كلامهم القديم: من سلك الخبار، لم يأمن العثار. والإصار: الطنب، ويقال الوتد.

رجع: ... ويبدأ أبو العلاء في إملاء فقرة أخرى غايتها الهمزة، ثم يفسرها، ثم يرجع إلى الإملاء، وهلم جرا.

والذي يهمنا بصورة خاصة في هذا الموضع من الحديث، هو التخطيط الذهني الذي يهندس به أبو العلاء بناءه. ومن هذا القبيل نفسه في هندسة البناء، ما نراه في «اللزوميات» التي لم يترك حبل الشعر فيها على غاربه، بل وضع أمامه السدود وقيد خطواته بقيود التزم فيها ما لم يلتزمه غيره من الشعراء؛ فبدل أن تتفق أبيات القصيدة بقافية واحدة، ألزم نفسه بأن تتفق الأبيات في نهاياتها بأكثر من حرف واحد، وهكذا.

وكذلك قل في رائعته الكبرى «رسالة الغفران»، التي كتبها ردا على رسالة جاءته من «ابن القارح»؛ فقد جرت الرسالتان، رسالة ابن القارح ورسالة أبي العلاء، على مألوف عصرهما من عرض القدرة اللغوية وسعة الحفظ وبراعة التركيب اللفظي، وذهبتا في هذا الاتجاه إلى حد يجعل قراءتهما من قارئ معاصر لنا أمرا يحتاج إلى دراسة طويلة وإلى شروح وقواميس، وليس الذي يعنينا هنا ما قد احتوت عليه رسالة الغفران من لغة وأخبار وأشعار ونحو وصرف ... إلخ، بل يعنينا منها أن صاحبها حين أقام بنيانها، لم يفعل ذلك بدفعة من وجدانه كما هو مألوف الأدباء والشعراء، بل كان يخطط بالمسطرة والفرجار، وذلك هو «العقل».

وإننا لواجدون، في غضون الكتب الكثيرة التي تركها لنا أبو العلاء، ذكرا صريحا ل «العقل»، وكيف ينبغي أن تكون له المنزلة الأولى بين سائر جوانب الإنسان، «فليس سوى العقل» مشيرا على المرء في صبحه ومسائه، ومن احتكم إلى غير العقل دفعته الضلالات إلى حيرة من أمره ليس له منها خلاص. وإنه ليعترف بأن التزام العقل وقيوده مطلب عسير على سواد الناس، الذين يستسيغون قول المحال، ويكادون ينفرون من قولة الحق؛ ف: «إذا قلت المحال رفعت صوتي، وإن قلت اليقين أطلت همسي» «والحق يهمس بينهم، ويقام للسوءات منبر» ألا إن الناس لكالمطايا، أعوزتها العقول، فكان لا بد لها من عقال يقيدها عن الجموح:

ولو أن المطي لها عقول

وجدك لم نشد بها عقالا

القسم الثاني

شطحات اللاعقل

الفصل الثامن

اللامعقول، ما هو؟

58

تتردد في عصرنا هذا كلمة «اللامعقول» على ألسنة المتحدثين وأقلام الكاتبين - وخصوصا في مجال النقد الأدبي - بحيث كثرت معانيها وتشعبت؛ مما يحتم علينا تحديد ما نريده نحن بهذه الكلمة في سياقنا هذا. فلقد كان يسيرا علينا أن نرتحل - خلال الفصول السابقة من هذا الكتاب - في دنيا «العقل» عند أسلافنا؛ لأن كلمة «العقل» قديمة الاستعمال مألوفة المعنى بدرجة مقبولة، برغم ما يكتنفها من تشعب في معناها عند المذاهب الفلسفية المختلفة.

وأما ونحن نهم الآن برحلة مضادة، نتعقب فيها بعض المعالم الرئيسية في دنيا «اللاعقل» من حياتهم، فينبغي أن نطيل الوقوف عند تحديد اللاعقلي ما هو؟

وأول ما يرد إلى الخاطر، هو أن ننظر في معنى «العقل»، فيكون معنى «اللاعقل» هو نقيضه، لكنك ما تكاد تبدأ في تعريف «العقل» مستعينا في ذلك بما تعلمه من فكر فلسفي، حتى تجد المسالك أمامك قد تفرقت مذاهب، وعليك قبل التعريف أن تحدد لنفسك وقفة فلسفية عامة لتأخذ من معاني «العقل» ما يناسب تلك الوقفة المختارة؛ فلو كنت نصيرا لما يسمونه بالمصطلح الفلسفي «مثاليا» أو «عقلانيا»، كان معنى «العقل» عندك هو أن يولد الإنسان وفي فطرته مبادئ أولية، تقام عليها بعدئذ كل طرائق البرهان، كأن تولد - مثلا - وفي فطرتك علم بأن النقيضين لا يجتمعان معا في شيء واحد ومن جهة واحدة وفي لحظة بعينها، بحيث تحس بالرفض منبثقا من فطرتك نفسها إذا قيل لك - مثلا - إن هذا الشكل الهندسي الذي تراه أمامك الآن مربع وليس مربعا في آن واحد، أو أن يقال لك إن فلانا الآن موجود في منزله وغير موجود فيه. ومن قبيل هذه المبادئ التي يزعم المثاليون والعقلانيون أنها مجبولة في الفطرة، أن يكون الشيء الواحد ذا هوية واحدة مهما تعددت ظواهره، وهكذا. وعلى أساس طائفة من هذه المبادئ الأولية الفطرية يمكن للإنسان «العاقل» أن يقيم بناء «المنطق» بشتى صوره المجردة وسبله في استدلال صورة فكرية من صورة فكرية أخرى. فإذا قيل مثلا إنه إذا كان الأمر المعين إما «س» وإما «ص»، ثم ثبت أنه ليس «س»، تحتم منطقيا أن يكون «ص»، فأمثال هذه الروابط الصورية بين فكرة وفكرة يقال عنها - بمصطلح الفلاسفة - إنها روابط «ضرورية». وهم يعنون بهذه الضرورة أنها ليست من اختيار الإنسان، ولا هي حصيلة التجربة، بحيث يكسبها بتجربته هذا الفرد من الناس، ولا يكسبها ذلك الفرد؛ إذ الأمر مرهون هنا بالفطرة الأولية، والعلاقة هنا بين فكرة وفكرة علاقة «ضرورية» الصدق. انظر إلى نفسك وقد قيل لك: إنه إذا كانت «أ» تساوي «ب». أو قيل لك إنه إذا كان «الحسن» شقيق «الحسين»، كان «الحسين» شقيق «الحسن». فماذا أنت قائل عندئذ إلا أن تقرر في دهشة المتعجب، بأن ذلك أمر ظاهر الصدق بالبديهة. ولو كنت عندئذ من المشتغلين بالفلسفة لقلت: نعم؛ لأن بين المقدمة ونتيجتها في أمثال هذه الحالات علاقة «الضرورة»؛ بمعنى أنه يستحيل «عقلا» أن تصدق المقدمة ولا تصدق النتيجة معها. ومثل هذا هو ما يعنيه فيلسوف أمريكي معاصر، هو براند بلانشارد في كتابه «العقل والتحليل»، حين يحصر معنى «العقل» في أنه هو إدراكنا للروابط الضرورية بين فكرة وفكرة تلزم عنها.

وليس بعسير على القارئ أن يرى كم يضيق هؤلاء الناس حدود العقل، حتى لا يكاد ينصرف إلا إلى التفكير الرياضي وحده؛ لأن الرياضة هي التي تولد الأفكار بعضها من بعض على هذا النحو. أما إذا اهتدى الإنسان في حياته بما يقع له في خبراته، فليس ذلك عندهم «عقلا». افرض - مثلا - أنك أبصرت بآثار أقدام على رمال الطريق، فقلت: لا بد أن يكون إنسان قد مر بقدميه على هذه الأرض، بدليل هذه الآثار على الرمال. اعترضك «العقلانيون» - بالمعنى الضيق الذي أسلفناه - بأن استدلالك لا يرتكز على «عقل» وإن يكن مرتكزا على خبرة لك سابقة، لماذا؟ لأن العلاقة بين الأثر فوق الرمال وقدم الإنسان الذي تزعم أنه قد مر على الطريق، ليست هي بالعلاقة الضرورية ضرورة عقلية؛ إذ ماذا يمنع أن يكون ذلك الأثر أثرا لقالب على هيئة القدم الإنسانية، ضغط به ضاغط على الرمال؟ فالعلاقة - إذن - بين الآثار والأقدام هي مما نرجحه مهتدين بخبراتنا السابقة، لكن تلك الخبرات وإن تكررت لنا ألف ألف مرة في حياتنا، فأمدتنا بما يشبه اليقين في استدلالنا السابق، فما يزال الاحتمال النظري قائما، وهو ألا تكون الرابطة المزعومة قائمة بين الآثار على الرمال والأقدام، في هذه الحالة المعينة.

إن مثل هذا الربط بين الأشياء، يجاوز الإنسان ليشمل معه صنوف الحيوان؛ فقد يرى الكبش صورة الرجل الذي يجيئه كل يوم بالغذاء، فيربط الكبش بين صورة الرجل والغذاء، حتى إذا ما لمح الرجل قادما «أيقن» أن الطعام قريب، دون أن يرى بعينيه طعاما، فهل نقول إن العلاقة بين الرجل وطعام الكبش علاقة «ضرورية» بحيث يكفي ظهور الأول «ليتحتم» ظهور الثاني؟ كلا؛ إذ قد يأتي اليوم الذي يجيء فيه هذا الرجل وفي يده السكين الذي ينوي أن يذبح بها كبشه ذاك. وعلى هذا الأساس نفسه كان تحليل الفيلسوف الإنجليزي «هيوم» - وتحليل الإمام الغزالي من قبل هيوم بنحو سبعة قرون - للعلاقة بين السبب والمسبب؛ فهذان الرجلان متفقان - على بعد ما بينهما من زمن - بأن العلاقة السببية ليست «ضرورية» بالمعنى الذي أسلفناه لهذه الكلمة؛ فقد يتكرر التلازم بين ظاهرتين ألوف المرات، حتى لنظن أن العلاقة السببية قد أحكمت بينهما، بحيث يكفينا قيام إحدى الظاهرتين لنوقن بأن الظاهرة الأخرى لا بد آتية، ومع ذلك فليس مما يتعارض مع منطق «العقل» أن تقع إحدى الظاهرتين دون ملازمتها، برغم تكرار التلازم بينهما تلك المرات التي عددناها بالألوف.

فالعقل عند هؤلاء الناس لا يتمثل إلا في توليدنا للأفكار بعضها من بعض. أما أن تقول لهم إن من أحكام «العقل» كذلك ما نبنيه على مشاهداتنا ومن تجاربنا، فهم لا يترددون عندئذ في أنك قد استخدمت كلمة «العقل» فيما لا يجوز استخدامها فيه. إنه ليس «عقلا» - عندهم - أن يشاهد الفلكي بمنظاره حركات الأجرام ثم يتوقع كسوفا للشمس أو خسوفا للقمر؛ لأن الاستدلال هنا هو توقع ظاهرة بعد أن رأينا ظاهرة، وليس بين «الظواهر» الطبيعية رباط عقلي؛ لأن هذا الرباط - كما قلنا - مقصور على الأفكار وحدها. وليس «عقلا» - عندهم - أن يستمع القاضي إلى شهادات الشهود ثم يقضي بأن القاتل هو زيد؛ إذ العلاقة هنا قائمة على «شهادة»؛ أي إنها قائمة على رؤية البصر أو سمع الأذن، وكل هذه أمور ليست - عندهم - من قبيل «الأفكار» التي تصلح أن تتوالد في الذهن، فيتمثل «العقل» عندئذ بصورته التي يحددونه بها.

لكن كاتب هذه الصفحات لا ينزع بفكره الفلسفي هذا المنزع، وإنما هو ممن يرون في «الحواس» - بصرا وسمعا ولمسا وشما وذوقا - أبواب العلوم والمعارف، كلما كانت تلك العلوم والمعارف منصبة على ظواهر العالم الخارجي وأحداثه. والنازعون هذا المنزع في الدراسة الفلسفية يسمون بالتجريبيين، وعند هؤلاء أن «العقل» كلمة تقال لوصف طريقة السير من نقطة الابتداء إلى نتيجة يوصل إليها. فإذا كنا بصدد علم رياضي، كانت النقطة التي يبدأ منها السير فروضا يفرضها العالم الرياضي، ويجعل صدقها مسلما به؛ ليستطيع السير منها إلى ما يتولد عنها. وأما إذا كنا بصدد علم يختص بإحدى «الظواهر» كائنة ما كانت، فنقطة البدء هنا هي اللقطات الحسية التي تنطبع بها الحواس من تلك الظاهرة، ثم يكون بعد ذلك السير؛ ومن ذلك نرى أن الجانب المشترك بين علوم الرياضة وعلوم الظواهر الطبيعية، هو السير من بدء إلى منتهى، على اختلاف البدء في الحالتين. والذي يهمنا من هذا كله الآن، هو أن «العقل» عندنا هو «النقلة» من مقدمة مطروحة أمامنا إلى نتيجة تلزم منها أو تستدل منها، إما لزوما يقينيا في حالة الرياضة، أو استدلالا ترجيحيا في حالة العلوم الطبيعية.

فالفرق بين المثاليين والعقلانيين من جهة، والتجريبيين على اختلافهم من جهة أخرى، هو أن الأولين يقصرون معنى «العقل» على الحركة الاستدلالية إذا كانت نقطة ابتدائها صورة أولية فطرية، لم تكتسب من دنيا التجربة، على حين أن الآخرين يوسعون معنى «العقل» ليشمل كذلك الحركة الاستدلالية إذا بدأت سيرها من معلومات استمدها الإنسان عن طريق حواسه. والحق أن ما يعنينا نحن هنا ليس هو: في أي شيء يختلف الفريقان، بل هو: في أي شيء يتفقان. وهما متفقان في أن «العقل» حركة استدلالية، مع الضغط على كلمة «حركة» التي تشير إلى النقلة ننتقل بها من حقيقة أمامنا إلى حقيقة تتولد منها أو ترتبط بها ارتباطا مطردا.

وعلى ضوء هذا التحديد ستسهل علينا الرؤية الواضحة لما تعنيه كلمة «اللاعقل» مهما تنوعت معانيها وتعددت؛ فسوف نرى أن ما يبقى لنا بعد حذف «الحركة الاستدلالية» التي ينتقل بها الذهن بفاعليته من مقدمة إلى نتيجة - وذلك هو العقل كما بينا - أقول إن ما يبقى لنا من ضروب النشاط الحيوي عند الإنسان، بعد حذف هذا النوع الواحد من فاعليته الذهنية، «حالات» كثيرة مختلفة. فانظر إلى معنى كلمة «حالات» متأملا، يكن بين يديك التمهيد الذي يؤدي بك إلى معنى «اللاعقل» أو «اللامعقول»، كما سنبين فيما بعد بشيء من التفصيل. انظر متأملا إلى نفسك وقد امتلأت «بحالة» المرح أو الحزن أو الغضب أو الخوف أو الرهبة أو الحب أو الكراهية، إلى آخر أمثال هذه «الحالات» إن كان لها آخر، تجد في ذلك أهم اختلاف يميز «الحالة» من هذه الحالات إذا ما حلت بالإنسان، من «الحركة الانتقالية» التي ينتقل بها الذهن من فكرة إلى فكرة مشتقة منها، ولكن لندع تفصيل ذلك إلى فقرات تالية.

59

وقبل أن ننتقل من الحديث عن «العقل» إلى الحديث عن «اللاعقل»، قد يفيدنا ويزيدنا وضوحا أن نسوق أمثلة من الوقفات التي نسلكها في زمرة «المعقول»، وأولها وأولاها بالذكر هي وقفة العلم ؛ فالعلم بكل ضروبه نشاط عقلي خالص، ولك أن تتقصى خصائص التفكير العلمي فتحصل بذلك على طائفة هامة من خصائص العقل؛ فمن تلك الخصائص مثلا القفزة من المفرد إلى العام، ومن المتعين إلى المجرد. إن دنيانا التي نعيش فيها مليئة بالأفراد الجزئية، وليس فيها كائن «عام»؛ ففيها من الأناسي عمر وعثمان وخالد وزيد. أما «الإنسان» العام الذي لا يقتصر على فرد معين فليس بذي وجود في عالم الأشياء والكائنات، وهكذا قل في كل شيء؛ قله في الشجرة والزهرة والقط والطائر؛ فالموجود من هذه الكائنات في دنيا الواقع هو: هذه الشجرة المعينة، وهذه الزهرة المعينة، وهذا القط المعين أو الطائر المعين، ثم يحدث بيننا وبينها ما يحدث من صلات؛ فنراها ونسمع أصواتها ونمسها ونشمها، ولا نكون عندئذ قد فارقنا الواقع بأفراده المتعينة المتحددة بمكانها وزمانها وعلاقاتها، لكننا لا نقف عند هذا الحد من لمسة الوقائع بالحواس، بل تنشط منا الأذهان فتبعد عن دنيا الأعيان شيئا فشيئا؛ فبعد أن كان من نراهم من الأناسى هم فلان وفلان، ننتقل بالذهن من هؤلاء الأفراد إلى صورة عامة تجمعهم معا؛ وبذلك يتكون لدينا معنى «الإنسان»، وهكذا الأمر في الشجرة والزهرة والقط والطائر، وبقدر ما نبتعد عن دنيا الوقائع صعودا في درجات من التعميم تتوالى لتضم الأشتات في مجموعات أسرية تربطها بما بينها من وشائج القربى، أقول إننا بقدر صعودنا في درجات التعميم، نوغل في التجريد؛ لأننا لكي نضم القط إلى الطائر في أسرة واحدة هي الحيوان، يتحتم أن نجرد القط من صفاته المميزة، وكذلك نجرد الطائرة. وذلك كله نشاط «عقلي» مما ينتهي بنا إلى «العلم» بهذه الظاهرة أو تلك من ظواهر الطبيعة.

وخصيصة أخرى يتميز بها «العقل» في خلقه ل «العلم» بالطبيعة، وهي التحليل الذي نظل نفتت به الظاهرة المعينة، حتى نبلغ بها أقصى ما يمكن بلوغه من بسائط لا تقبل تحليلا بعد ذلك إلى ما هو أبسط منها، كأن تحلل الكائن الحي إلى خلايا، أو تحلل قطعة المادة إلى ذرات، أو المجتمع إلى مجموعة من أسر ومن نظم. ونحن إذا ما استطعنا تحليل الشيء إلى عناصره البسيطة التي يتألف من تفاعلاتها معا، استطعنا بالتالي أن نحدد المقادير الكمية التي دخل بها كل عنصر في ذلك التركيب، وعندئذ يتحول علمنا بالشيء من مجرد الإشارة إليه باسمه واستخدامه وهو في جملته، إلى صياغة رياضية تبين مقوماته بمقاديرها. ذلك هو «العلم» بما يتمثل فيه من «عقل»، وسوف نرى أن أوجه النشاط الأخرى التي هي ما ندرجه تحت «اللاعقل»، ترفض في تشنج وتوتر أن تمتد أيدينا إلى شيء نحلله، لا سيما إذا كان ذلك أمرا خاصا بالوعي الذاتي الذي يتدفق مجراه في بواطنهم.

وقفة العالم من الطبيعة - إذن - هي مما يوضح ما نعنيه ب «العقل»؛ إذ هو ناشط بفاعليته، وقد ذكرنا من خصائص تلك الوقفة العلمية اثنتين نكتفي بهما حتى لا يبعدنا استطراد الحديث عن موضوعنا. ونسوق مثلا آخر من وقفة أخرى يتمثل فيها «العقل» أيضا، مثل «الإنسيين» (أو الإنسانيين) في مذهبهم «الإنسي»، الذي ينظرون خلاله إلى قيم الحياة، وماذا ينبغي لها أن تكون، وإنما عمدت إلى اختيار هذا المثل الثاني لأنه يكشف لنا عن جوانب ليس عنها غنى في كل ثورة ثقافية عميقة الجذور؛ ففي عصر النهضة الأوروبية إبان القرن السادس عشر، تمرد الناس على قيم الحياة خلال القرون الوسطى، وأرادوا لأنفسهم مجموعة أخرى من القيم؛ وذلك لأن ما كان سائدا في العصور الوسطى قد أدى إلى التضحية بالفرد الإنساني في هذه الحياة الدنيا وعلى هذه الأرض، وجاء عصر النهضة يبشر بحياة دنيوية يحياها الناس، تنبض فيها العروق بدمائها، وتمتلئ بالمغامرة والمخاطرة وارتياد اليابس والماء، وإمعان النظر فيما يجري في السماء وما يدور في شعاب النفس.

وأطلقوا على هذا الاتجاه الجديد الذي ينحو بصاحبه نحو أن يجعل حياة الإنسان مدارا ومعيارا لا يعلو عليه مدار ومعيار، أطلقوا عليه اسم المذهب الإنسي

Humanism . ولهذه النظرة الإنسية إلى الإنسان خصائص، فيها ما يصلها بخصائص الوقفة العلمية؛ فمن بين تلك الخصائص أن نكتفي بالطبيعة التي بين أيدينا، لا نجاوزها إلى ما فوقها أو وراءها؛ حتى لا يزيغ البصر من هنا إلى هناك، فتضيع من أيدينا «هنا» دون أن ندري ماذا «هناك»؛ أي تضيع حياة الإنسان من أجل مجهول. فلئن كانت هذه الطبيعة هي عند الإنسيين ملقى السبل وملتقى الأبصار، فالإنسان جزء منها، نشأ نتيجة لتطورها، ماذا تراك صانعا بشجرة تريد العناية بها؟ هل تهمل ساقها وفروعها وأوراقها لتنصرف إلى «نفسها» أو «روحها»، أم إن عنايتك بالشجرة هي نفسها عنايتك بساقها وفروعها وسائر بدنها؟ إذن فهكذا يكون الشأن مع الإنسان إذا أردنا العناية به. لقد كان أهل العصور الوسطى يدعون الناس إلى إنهاك البدن وإرهاقه بالجوع والزهد في متاع العيش؛ لكي تزدهر الروح على حساب بدنها. فقلب الإنسيون وجهة النظر، ووجهوا العناية بالإنسان إلى مقوماته الحيوية، لا إلى أشباح تسكن هيكله. ومن العناية بالإنسان عند الإنسيين، أن يؤمن الناس بقدراتهم على فرض سيطرتهم على الطبيعة بالكشف العلمي عن قوانينها، ولا يشيع في الناس هذا الإيمان بقدراتهم إلا إذا شاع فيهم إيمان بالعلم أولا، وبما يستطيع أن يؤديه. وتفريعا عن هذه النقطة الخاصة بقدرة الإنسان، يذهب الإنسيون إلى القول بحرية الإنسان حرية مطلقة في اختيار ما يفعله وما لا يفعله؛ فهو هو سيد مصيره وخالق كيانه بما يختاره لنفسه على توالي اللحظات والمواقف. وغني عن البيان أن هذه الوقفة الإنسية الخالصة ترفض تبعية الحاضر للماضي، أو التضحية بما يثبته العلم من أجل خرافات وأوهام. وإذن فهذا مثل آخر لما يتجسد به «العقل » إذا أخلي سبيله إلى النشاط بفاعليته وفعله.

على أن ذلك لا يعني أن الإنسان عقل كله - بالمعاني التي حددنا بها «العقل» - إذ هنالك في حياته، إلى جانب تعيينه للأهداف ورسم الخطوات الموصلة إليها، «حالات» يكابدها ويعانيها، منها الانفعالات والعواطف والرغبات وما إليها، تعترضه وتملأ نفسه، فإما كتمها في صدره وإما حاول أن يعبر عنها للآخرين؛ فإذا ضممنا جميع الأقوال التي قالها قائلوها عن «حالات» اعتملت بها أنفسهم، كان لنا من مجموعها مجال «اللامعقول» في الثقافة التي تقصيناها بالنظر والدرس.

فأود منذ الآن أن أؤكد للقارئ تأكيدا لا يترك مجالا لريبة في نفسه، بأن كلمة «اللامعقول» كلما استعملتها في الصفحات التالية، لأصف بها ضروبا من تراثنا الثقافي، لا أحملها مثقال ذرة من معنى الزراية؛ فكل ما في الأمر هو أننا نميز في الحصاد الموروث بين صنفين مختلفين؛ صنف رأيناه موسوما بميسم التفكير العقلي، وصنف آخر سوف نراه يخلو من تلك السمة المميزة لكل ما يندرج عندنا تحت «التفكير العقلي». ونعود فنكرر ما قلناه - ولن نمل من هذا التكرار لأهمية الفكرة عندنا - بأن ثمة ضربا من الوقوف إزاء الأشياء والمواقف، يحللها ويبين الطريقة التي يمكن استخدامها للوصول بنا إلى أهدافنا، كائنة ما كانت تلك الأهداف، وذلك هو التفكير العقلي، لكن ثمة ضربا آخر من الوقوف، هو الذي قلنا عنه إنه «حالة» تسري في كيان صاحبها، فيصبح بها محبا أو كارها، غاضبا أو راضيا، إلى آخر هذه الحالات النفسية، وذلك هو ما يتألف منه مجال «اللامعقول» من حياة الإنسان. ومما يفرق بين الموقفين، أن أولهما يطرح الأمر أمام الجميع؛ ليتحقق من صدقه كل من أراد، وأما الآخر فملك صاحبه، لا سبيل أمام أحد سواه إلى مناقشته وتحقيقه.

إنه لمن الشائع بين من يصفون عصرنا هذا - أعني أواسط القرن العشرين وما بعدها - بأنه عصر اللامعقول في معظم وقفاته الثقافية التي ليست مما يدخل مجال العلوم، وهم إذ يصفونه بهذه الصفة لا يبتغون الحط من شأنه بسبب هذه الصفة فيه؛ فليس عيبا أن يقال عن فرد من الناس أو عن شعب من الشعوب أو عن عصر بأكمله، إنه يجعل الأولوية - فيما عدا العلوم - للوجدان، بل ربما كان العكس أقرب إلى الصواب؛ فكثيرا ما يكون المرء أقرب إلى ثورة الغضب والاحتجاج إذا رميته بتهمة أنه إنسان بلا قلب؛ أعني بلا عواطف دافئة نحو الآخرين، منه إذا اتهمته بضعف الذكاء العقلي، وليست قليلة هي تلك الحالات التي يتهم المرء نفسه بالغباء في الأمور النظرية أو في الأمور العملية أو فيهما معا، لكنها حالة من أندر الحالات أن يقول إنسان عن نفسه إنه بارد العاطفة ناضب الوجدان.

ومع ذلك فإذا أردت استقراء دقيقا لما يعنيه الكاتبون في عصرنا هذا، حين ينعتونه باللاعقل - فيما عدا مجال العلوم - فأرجح ظني هو أنهم لا يقصدون إلى القول بأن عصرنا هذا يوازن بين العقل واللاعقل، فيعلي من شأن هذا على شأن ذاك. إنه لا يزعم - مثلا - أن الانفعال أرفع منزلة من التفكير المنطقي، أو أن القلب أسمى من الرأس، أو أن الغريزة أهدى سبيلا في حياة الإنسان من عقله، كلا؛ إذ كل ما يزعمه عصرنا في هذا الصدد هو أن العقل بمنطقه أداة جيدة صالحة في مجالها - مجال العلوم - لكنه لا يجاوز ذلك المجال، لتظل له تلك الصلاحية نفسها في سائر المجالات الثقافية.

نقول ذلك لعلمنا بأن ثمة موقفا آخر، في عصور أخرى، كانت وجهة النظر السائدة فيه هي أن العاطفة أصدق هداية للإنسان من عقله في إدراك الحق، كائنا ما كان ميدان النظر. وتلك هي النظرة «الرومانسية» حيثما ظهرت، كالتي دعا إليها روسو، أو التي شاعت في أوروبا عقب الثورة الفرنسية؛ فأصحاب الدعوة الرومانسية لا يكفيهم أن يقال عن العقل إنه محدود المجال، وأن البقية متروكة لغير العقل من جوانب الإنسان، بل هم يمقتون العقل مقتا كأنه العدو الذي يتربص بالإنسان ليوقعه في المهالك، لكن مثل هذا الموقف الكاره للعقل ليس هو موقف عصرنا الراهن، حين يقال عنه إنه عصر اللامعقول.

ففي عصرنا هذا تنبت جذور «اللامعقول» من تربة «علم النفس » ونظرياته التي تحلل سلوك الإنسان، فإذا هو - «معقولا» كان في ظاهره أو غير معقول - إنما يرتد إلى أصول عميقة في فطرة الكائن العضوي. وإذا قلنا «فطرة» فقد قلنا - بالتالي - إنها ليست ما يراد ب «العقل» وب «العقلي» أو «العقلاني» أو «المعقول»؛ لأن العقل في صميمه هو عقال يقيد الفطرة، ولا يتركها مرسلة على سجيتها.

وإن بعض الدارسين لعلم النفس الحديث يقسمون لنا نظرياته نوعين مختلفين، لكل نوع منهما فروع. أما أولهما فهو الذي يرد سلوك الإنسان إلى ينابيع جوفية تخفى على أعين المشاهد، ولا تتبدى إلا تحت مشارط التحليل، ومن قبيل ذلك نظرية فرويد وكل ما جاء على غرارها من اتجاهات تعلل السلوك بأصل خبيء، تكون عند الفرد الواحد إبان طفولته، وفعل فعله في تشكيل سلوكه دون أن يكون صاحب هذا السلوك على وعي بحقيقة أمره. وأما النوع الثاني فهو ذلك الذي لا يريد مجاوزة السطح الظاهر من أنماط السلوك، فترى أصحابه يحللون ذلك السلوك إلى وحداته السلوكية البسيطة - ويسمونها أفعالا منعكسة، هي التي منها تتألف فيما بعد الأفعال المنعكسة الشرطية، التي هي كل ضروب الفعل عند الإنسان، بل كل ضروب الحركة عند الحيوان - وعلى رأس هذه الطائفة من العلماء «السلوكيين» بافلوف الروسي وواطسن الأمريكي.

أما فرويد ونظريته في «التحليل النفسي»، فالفرض عنده - كما يعرف عنه عامة المثقفين اليوم، فضلا عن المتخصصين - هو أن موجهات السلوك الإنساني ليست هي منطق العقل إلا بمقدار ما تكون القمة الظاهرة فوق سطح المحيط من جبل الثلج. وأما الشطر الأعظم فمرده إلى موجهات «لا شعورية»، لا يعقلها الإنسان بل ولا يعيها، ومعنى ذلك أن الإنسان، حتى إذا سلمنا له بميدان محدود يهتدي فيه بوسائل العقل في أحكامه واستدلالاته، فهو كائن «لا معقول» في الجانب الأعظم من حياته؛ إذ تمسك بزمامه «غريزة» جبلت له في فطرته، هي غريزة الجنس عند فرويد، وهي غريزة السيطرة عند تلميذه آدلر.

وأما الطريق الثاني بين علماء النفس المحدثين، أعني «السلوكيين»، فهو أيضا طريق مؤداه أن سلوك الإنسان لا يفسره أن الإنسان كائن «عاقل»؛ وذلك لأن سلوكه إنما يتكون بحكم عادات بدنية تتكون بتكرار الربط بين مجموعة من العناصر. والأغلب - بالطبع - أن يكون غيره من الناس هم الذين دبروا له أن تتكون فيه تلك العادات البدنية، والتي ليست هي - في التحليل الأخير - إلا الأفعال المنعكسة الآلية التي ولد بها الإنسان، بعد أن ربطت بمؤثرات مختلفة أرادوها له عن عمد وتدبير؛ فإذا كان الإنسان قد ولد وفيه فعل فطري يستجيب به لضوء الشمس - مثلا - أو لرائحة الطعام، فلماذا لا نبدل له ضوء الشمس أو رائحة الطعام بأشياء أخرى نريد له أن ينقبض عنها أو أن يقبل عليها؟

ربما يكون القارئ قد ألف القول الذي كثيرا ما يرد في الكتب عند الحديث على المؤثرات في الإنسان وتكوينه، ما هي؟ أهي عوامل البيئة الخارجية أم هي طبيعة الإنسان الداخلية؛ وإذن فقد يوضح له ما نبسطه أمامه الآن، إذا أضفنا له بأن فرويد حين رد معظم السلوك إلى «غريزة» فكأنما قال: إن الإنسان هو صنيعة فطرته الداخلية. وأن بافلوف أو واطسن أو غيرهما من السلوكيين، حين ردوا السلوك الإنساني إلى الطريقة التي نكونها له في الرد على المؤثرات الخارجية، فكأنما هم يقولون: إن الإنسان هو نتاج بيئته وما فيها من عوامل ومؤثرات. وفي كلتا الحالتين لا «عقل» إلا بالقدر المحدود عند أصحاب التحليل النفسي. وأما ما دون ذلك، فالذي يسميه الناس «عقلا» إن هو إلا خيوط «لا عقلية» من غرائز أو من أفعال منعكسة، تشابكت معا حتى خيل لنا بأنها ذات كيان مستقل قائم بذاته.

إن القائلين ب «اللاعقل» موجها للإنسان في شعاب الحياة، لا يريدون بذلك أن يقولوا عنه إنه ضال لا يسير على هدي! فالأمر عندهم هو على عكس ذلك تماما؛ إذ هم يرون أن الكائن المسير بغريزته أو المسير بعادات محددة قاطعة، إنما هو كائن أهدى سبيلا ممن يقال عنه إنه مهتد بعقله. وستكون لنا عودة إلى هذه النقطة لأهميتها البالغة، وذلك حين نعرض لبرجسون وموقفه من الغريزة بالقياس إلى العقل . ولو كان العقل مرشدا يركن إليه لما حرصت شعوب الأرض جميعا - قديما وحديثا - على أن ينشأ الناشئ على «عادات» قومه و«تقاليدهم». إن المجتمع يريد لكل فرد من أفراده - ابتغاء الأمان - أن يقلد سابقيه (وتلك هي «التقاليد» وقدسيتها عند معظم الناس)، وأن يسلك وفق ما عوده أبواه ومعلموه. وما الأبالسة والشياطين والشذاذ والمنحرفون وغير الأسوياء من الناس، إلا أفراد ابتدعوا لأنفسهم ضروبا من السلوك خرجوا به على «التقليد»، وانحرفوا عن «العادات» الجارية.

إن عمي الأبصار والبصائر وحدهم هم الذين تخدعهم العبارات المحفوظة ، فلا يقفون لحظة ليروا ماذا تعني تلك العبارات، وهل يصدق معناها على الواقع حولنا؟ فمن العبارات الجارية على الألسنة أن الإنسان متميز «بعقله» دون سائر الحيوان. فكم من الناس من وقف ليسأل: هل هذا صحيح؟ أصحيح أن الإنسان يخطو على طريق الحياة مهتديا باستدلالات العقل كما يعرفها المناطقة والرياضيون وعلوم الفيزياء والكيمياء؟ أم تراه يخطو مكبلا بما رسم له من تقاليد وعادات وغير ذلك مما لا دخل للعقل فيه؟ لقد كتب «وولتر بادجوت

Walter Bagehot » في أواسط القرن الماضي كتابه النافذ «الفيزياء والسياسة»، متتبعا فيه النظرية الداروينية عند النظر في حياة الناس الاجتماعية. ولربما كان الأقرب إلى مادة الكتاب أن يسمى «البيولوجيا والسياسة»؛ ما دام هدفه استخدام النظرية البيولوجية عن التطور، في تفسير سلوك الإنسان في المجتمع، لكن لعل المؤلف قد أراد ب «الفيزياء» كل علوم الطبيعة بما بها البيولوجيا. على أي حال فالذي يلفت نظرنا عنده هو توكيده بأن الإنسان في أولى مراحله من الحضارة، إنما تتحكم فيه شمولية اجتماعية صارمة، لا يستطيع حيالها أن ينفرد لحياته الشخصية بما يمليه عليه منطق عقله، على أن ذلك الطغيان المستبد بالأفراد في تلك المرحلة لم يكن سلطان رجل فرد بعينه، بل هو طغيان «كابوس العادات» (أو «قرص العادات» كما يسميه بادجوت)؛ فالعادات الاجتماعية - أو قل التقاليد - هي التي ترسم الطريق وتحدد الأوضاع، وعلى الأفراد أن ينصاعوا لها - بغير تفكير - وإلا أهلكتهم قبيلة أخرى تلاحم أفرادها برباط تقاليدها، فلم ينفرط عقدهم بانفراد كل منهم ب «فكره» العقلي. على أن «بادجوت» يمضي في تحليله ليبين لقارئه أن مرحلة استبداد «العادات» بالناس، تزول مع الزمن زوالا جزئيا، حين يئول الأمر في بعض المواقف إلى «العقل» وأحكامه، شريطة أن يظل للعادات القديمة سلطانها في بقية الميدان، وإلا تشقق المجتمع وانحلت روابطه. وإلى هذا الحد يمسك «اللاعقل» بزمامنا، ثم نظل نعيد لأنفسنا القول المكرور، بأن الإنسان متميز ب «عقله».

إننا نكتب هذه الصفحات من هذا الكتاب لنبين - فيما هو آت من الفصول - أن في الثقافة العربية القديمة، التي هي «تراثنا» - إلى جانب ما أفضنا فيه القول من مواقف «عقلية» - حالات من اللامعقول لا ينبغي أن نغمض عنها أبصارنا، ولكننا آثرنا أن نقف في هذا الفصل وقفة طويلة عند فكرة «اللامعقول» نفسها لنعلم ماذا يراد بها في عصرنا الحاضر، وفي غيره من العصور؛ إذ هنالك كثرة من أصحاب الرأي في عصرنا تسم هذا العصر باللامعقولية، برغم ما فيه من «علوم»، أو ربما بسبب ما فيه من علوم أنتجت آلات خنقت الإنسان، فأراد أن يتنفس بعض الهواء الطلق في مجال اللاعقل واللاعلم. وحسبنا من لامعقولية

القتال وسفك الدماء. إنما هي ألفاظ تسير الناس، لا بما قد تدل عليه من وقائع الدنيا حولهم، بل بما ربطه لهم أولو الأمر في أنفسهم من معان لها؛ وبهذا يكون اللفظ ومعناه حركتين تتلاحقان في «عادة» بدنية واحدة، ولا شأن للعقل بأي معنى من معانيه في الأمر، كما تقول للطفل الصغير «ثلاثة في أربعة»، فيرد عليك من فوره «اثنا عشر» وهو لا يدري لماذا، ولا من أين جاءت هذه «الاثنا عشر». اعرض على الناس أمرا معينا، أو فكرة معينة، تجئك منهم الإجابات المحفوظة منطلقة من الأفواه كالسهام، كل بحسب ما قد حفظ عن ملقنيه؛ فالأمر الواحد أو الفكرة الواحدة، تستثير في رقعة من الأرض لفظ «التقدمية» وفي رقعة أخرى لفظ «الرجعية»، كأنما الأفكار كالأنهار أو الجبال محدودة بمناطقها الجغرافية ؛ فالهملايا في آسيا، والألب في أوروبا، وكلمنجارو في أفريقيا، بل الأمر في دنيا اللفظ أدهى وأمر؛ لأن أمثال تلك الألفاظ الهامة الملقنة المحفوظة بما تستتبعه من ردود الفعل، هي في الحقيقة شحنات وجدانية يشحن بها صدر الآدمي ودماغه، فتصبح تحت جلود الناس كالقماقم الأسطورية التي حبست فيها المردة والجن؛ فإن وقع عليها عاثر وكشف عنها الغطاء، امتلأت السماء بدخانها ورعودها وبروقها، فماذا تكون اللاعقلية إن لم تكن هذه الحالة واحدا من معالمها؟ خذ كتابا أو مقالا مما يكتب لجمهور الناس في شئون حياتهم السياسية بصفة خاصة، واختر منه أضخم لفظه وأشده وقعا في النفوس، ثم ضع مكانه أي لفظ شئت، واربطه مع نفوسهم بالروابط نفسها، ثم انظر هل تغير في أمور الحياة العملية شيء؟ الأغلب ألا ترى فرقا في رجع الصدى بين هذه وتلك، وكل ما يطلب منك أن تنشئ في الناس «العادة» التي يوقرون بها اللفظ الجديد بمثل ما عودتهم أن يوقروا سواه؛ ففي كلتا الحالتين يجيء السلوك استجابة لألفاظ بغير إعمال للعقول.

60

العقل - نقولها مرة أخرى - هو حركة انتقالية دائما، ينتقل بها الإنسان خطوة بعد خطوة، حتى ينتهي بتلك الخطوات إلى هدف مقصود، كائنا ما كان ذلك الهدف، وكائنة ما كانت تلك الخطوات الموصلة. وإن هذا ليصدق على ميدان العلوم - رياضية كانت تلك العلوم أم طبيعية - كما يصدق على ميادين الحياة العملية الجارية، لكن أمثال هذه المواقف العقلية ليست هي كل ما في حياة الإنسان؛ ففي حياته حالات أخرى كثيرة لا يجيء فيها السير على هذا النحو، وإنما يكون الإدراك فيها بلمحة واحدة شبيهة بلمعة الضوء الخاطفة، فلا انتقال عندئذ من مقدمات إلى نتائج، أو من شواهد وبينات إلى حكم. وأمثلة ذلك كثيرة شديدة التنوع؛ فكل دفعة وجدانية هي من هذا القبيل، وكل فعل غريزي صادر عن مثل هذا الإدراك المباشر للهدف ووسائله معا، وكل تذوق لشيء من نتائج الفن - من موسيقى إلى شعر وتصوير وغير ذلك - هو أيضا من نوع الإدراكات اللحظية المباشرة، ثم كل إدراك حدسي مما يدرك به الفلاسفة أحيانا مبادئهم الأولى، التي يجيئون بعد ذلك ليستخرجوا منها نتائجها، هو كذلك إدراك بغير «العقل» وإن يكن العقل بعد ذلك هو الذي يستخرج النتائج من تلك المبادئ. وفوق هذا وهذا وذاك نذكر حالات المتصوفة التي قد يكتبون لنا عن أوصافها بعد ذلك، فنقرأ لهم لعلنا نتلبس ما يشبه تلك الحالات، أو لعلنا نتصورها من بعيد أو من قريب.

وسنحاول في الفصول الآتية أن نستعرض مشاهد من أمثال هذه المواقف اللامعقولة في تراث أسلافنا؛ لنتبين كيف جاءت حياتهم مزيجا من معقول وغير معقول، ولنعلم أنه من قبيل الإسراف في القول أن نصفهم بهذا وحده أو بذلك وحده، وكل ذلك تهيئة للصورة التي تمكننا من الحكم لأنفسنا بماذا يصلح أن يكون همزة الوصل بين ثقافتنا العصرية وثقافتهم. ولا بأس هنا من تكرار ما قد ذكرته في مناسبات أخرى، وهو أن الجانب العقلي وحده هو الذي يصلح للاستمرار بين ماض وحاضر، وأما حالات الوجدان وما يدور مداره فهي مقصورة دائما على أصحابها، لا يجوز نقلها من فرد إلى فرد، ودع عنك أن ننقلها من جيل إلى جيل، اللهم إلا إذا كان «التعبير» عن تلك الحالات هو مما نفذ به صاحبه من الحالة الفردية الخاصة إلى حقيقة الإنسان أينما كان، كما يحدث كثيرا في الشعر العظيم والفن العظيم. وها هنا يتساوى - أو يكاد يتساوى - في أعين الحاضرين كل تراث إنساني نفذ أصحابه إلى صميم النفس الإنسانية، لا فرق في ذلك بين تراث عربي وغير عربي؛ فالتراث اليوناني - مثلا - يكون لغيرنا ولنا، كما يكون التراث العربي لنا ولغيرنا على حد سواء، وأما ما يميزنا من سوانا - في ماضينا وفي حاضرنا - إذا أردنا أن يكون بين الحاضر والماضي تيار حيوي واحد، فهو - فيما أظن - نوع المشكلات وطرائق حلها، وذلك أدخل في باب العقل كما رأينا.

لقد عقد برتراند رسل فصلا - هو من أجود ما كتب في حياته الفلسفية - أراد أن يميز فيه بين قطبي الرحى في حياة الإنسان الثقافية، اللذين هما - بصورة مجملة - التصوف في ناحية ومنطق العقل في ناحية أخرى؛ ففي الحالة الأولى يكون الإدراك مباشرا وبغير مقدمات، وفي الحالة الثانية يكون الإدراك على مراحل وخطوات. ويتبع ذلك أن تعتمد الحالة الثانية على «التحليل»، بينما يرفض أصحاب الحالة الأولى كل ضروب التحليل؛ لأنه - كما يقولون - يمزق كيان الحقيقة فيفسده، وأطلق برتراند رسل على بحثه ذاك عنوان: «التصوف والمنطق»، ثم جعل هذا العنوان نفسه عنوانا لكتاب يضم ذلك الفصل إلى مجموعة من فصول أخرى.

وإنه لمما ينفعنا في موضوعنا هذا أن نوجز ما قاله رسل في التفرقة بين «المنطق» و«التصوف»؛ لأنها هي نفسها التفرقة بين المعقول واللامعقول في سياق حديثنا.

لقد سار الإنسان في محاولته أن يتصور العالم من حيث هو كل واحد، مدفوعا بدافعين مختلفين كل الاختلاف، وقد يتلاقى هذان الدافعان معا في إنسان واحد، وقد لا يتلاقيان؛ فأولهما هو الذي يحفز الإنسان إلى النظر إلى الوجود نظرة المتصوف، وأما الثاني فيحفزه إلى النظر بوسيلة العقل نظرة العلماء. ولقد استطاع نفر أن يبلغوا قمة العبقرية بالدافع الأول وحده، كما استطاع نفر آخر بلوغ تلك القمة بالدافع الثاني وحده، لكن لعل أعظمهم جميعا هم أولئك الذين اجتمعت لهم عناصر المعرفة العقلية وعناصر الإدراك الصوفي في آن معا، وقد يكون أفلاطون مثلا جيدا لمثل هذا الالتقاء بين الجانبين، وإنما يتحقق هذا الالتقاء حين يريك العقل حقيقة ما عن الوجود، فإذا بوجدانك الحاد المتدفق الغزير يضرب بك، في تلك الحقيقة نفسها التي رأيتها رؤية عقلية، إلى أعمق جذورها؛ فالعلم أو العقل هو الشعلة التي تضيء مراحل الطريق بداية ووسطا ونهاية، أما الوجدان - أو قل التصوف - فهو الذي يغوص بك إلى الأعماق، ولقد اجتمعت عند أفلاطون - وعند غيره - رؤية السطح والأعماق معا، وعندما نكون - مع العقل ومنطقه - على الأسطح الظاهرة، لا يجتمع نقيضان في شيء واحد وفي لحظة واحدة ومن جهة واحدة؛ فإما أن يكون الشيء موجودا أو غير موجود، موصوفا بالصفة الفلانية أو غير موصوف، وأما حين نغوص في الأغوار مع الوجدان، فعندئذ لا يكون على الإنسان من حرج أن يقرر النقيضين معا؛ فالشيء المعين هو كذا وليس بكذا في آن واحد، كالذي يقوله هرقليطس (وهو ممن اجتمعت فيهم نظرة العقل ورؤية الوجدان معا) حين يقول: «إننا نخطو في النهر نفسه ولا نخطو. إننا موجودون (في اللحظة ذاتها) وغير موجودين.» فتلك هي لغة التصوف، وليلحظ معي القارئ أن لهرقليطس هذا عبارة أخرى أكثر شهرة، تدل على نظرة العقل بلغة العلم، وهي التي قال فيها: «إنك لا تستطيع أن تخطو في النهر نفسه مرتين؛ لأن تيار الماء المتجدد لا ينفك دافقا.» ولقد أصاب ابن تيمية حين قال عن المتصوفة القائلين بوحدة الوجود إنسانا وإلها: «... هؤلاء الاتحاديون يجمعون بين النفي والإثبات، كما يقول ابن سبعين: «عين ما ترى ذات لا ترى ...» ونحو ذلك؛ لأن مذهبهم مستلزم الجمع بين النقيضين» (حقيقة مذهب الاتحاديين لابن تيمية).

ليعذرنا القارئ إذا أطلنا الوقوف هنا عند التصوف وخصائصه بالقياس إلى العقل ومنطقه؛ لأن في التفرقة بينهما مفتاحا ينفتح لنا به أفق فسيح لا نخلط فيه بين معقول ولامعقول، حتى إذا ما أمسك القارئ بهذا المفتاح وقرأ فصولنا التالية عن اللامعقول في تراثنا، أدرك الأساس الذي أقمنا عليه وجهة النظر.

فهنالك خصائص أربعة تتميز بها رؤية الصوفي للوجود، وتختلف على أساسها تلك الرؤية عما تقتضيه النظرة العلمية إلى ذلك الوجود:

أما الخاصة الأولى، فقد أشرنا إليها فيما أسلفناه، وهي اعتقاد الصوفي في «الحدس» وسيلة للإدراك، وذلك في مقابل المعرفة الاستدلالية التحليلية، التي هي المعرفة العلمية؛ أعني أن الصوفي يعتمد على رؤية للحق تأتي إليه بغتة، وهي تأتي نافذة إلى أعمق الأعماق الخافية وراء الظواهر البادية للحواس، ثم هي إذ تأتي إنما تفرض نفسها على صاحبها فرضا بحيث لا يكون له قبل بردها أو بالتشكك في صدقها، ولك أن تقيس هذا كله إلى السير المتمهل البطيء الذي يخطو به العقل وهو على حذر، كلما تناول موضوعا بالدراسة، وإنها لدراسة - مع هذا التمهل الحذر - معرضة للخطأ ولا تضمن لصاحبها اليقين، ثم هي فوق هذا دراسة تقف عند الظواهر كما تتبدى للحواس، ولا تنفذ خلال تلك الظواهر إلى المحجوب وراءها لتكشف عنه الحجاب.

إن منا أناسا - وهل أقول إن الناس أجمعين؟ - تصادفهم لحظات يستغرقهم فيها وجدان داخلي عنيف تجاه كائن معين أو تجاه شيء بذاته، فإذا بذلك الوجدان يهزهم هزا حتى ليروا ذلك الكائن أو هذا الشيء على غير ما يراه به سائر الناس بحواسهم المعتادة؛ فقد يغمرهم حب عميق، أو غضب شديد أو نشوة أو زهد أو حزن إلى آخر هذه الحالات التي تنتابنا جميعا ، فإذا الكائنات والأشياء تتلون في أنفسهم بلون جديد. ومعنى ذلك أن العلاقة تنفصم بين ما يرونه في بواطنهم وبين ما هو موجود في الواقع الخارجي كما يراه سائر الناس، وإذا ما طالت هذه الوقفة الانفصامية بصاحبها، أصبحت نفسه الداخلية في عزلة عن دنيا الناس، واستحال التفاهم بينه وبينهم؛ فهو يرى ما لا يرون، وهم يرون ما لا يرى، وها هنا يغلب على تلك النفس المعزولة أن تبتعث من ذاتها أطيافا غريبة، تحسبها هي الدنيا وكائناتها. على أن هذه الحالة الفاصلة بين الإنسان وبين واقع الأشياء، إذا كانت تنتاب كثرتنا عند فيض الوجدان وشدته، فإن قلة قليلة من الناس هم الذين يتخذون من تلك الحالة نفسها بابا يلجونه ليخرجوا منه إلى عالم رحيب الجنبات يرون فيه العجائب، وأولئك هم جماعة المتصوفة.

تبدأ النظرة الصوفية عندما يحس المتصوف بأن أمرا كان ملغزا قد انزاح عنه الحجاب، فانكشفت له فجأة حقيقة كانت خبيئة وراء ذلك الحجاب، فيراها هو رؤية مباشرة لا سبيل فيها إلى شك، حتى وإن خفيت عن سائر العالمين. إنها رؤية «اليقين»، وهي رؤية بالبصيرة لا بالبصر؛ إذ لو كانت رؤية بصرية لشهدها كل ذي عينين. وقد ينعم الصوفي برؤيته تلك ويصمت، قاصرا خبرته الروحية تلك على نفسه، ولكنه أيضا قد يتأمل فيما بعد ما قد تمرس به من تلك الخبرات الروحية، أو الحالات التي انكشف له فيها الحجاب عما وراءه، ثم يحاول أن يجري تلك الحالات في لفظ ينقل إلى الآخرين عن طريق الإيحاء شيئا قريبا مما مر به، وعندئذ نستطيع نحن سائر عباد الله الذين لم تنكشف عنهم الحجب، ولم يروا إلا ما شهدته أعينهم التي في رءوسهم، أقول إننا عندئذ قد نقرأ ما كتبه المتصوف عن حالاته، فتلهمنا بما تستطيع قدراتنا التخيلية أن تستلهم. فواضح من هذا أن كل كتابة جرى بها قلم لصوفي، وكل عبارة نطق بها وسمعت عنه، مما أراد به نقل خبرته الروحية إلى الآخرين، هو من قبيل الشعر الذي يخرج من مجال المعقولات مهما تكن له من قيمة تعبيرية في مجال الفن الأدبي. وإن أعجب العجب في هذا الصدد هو أن الأدوات نفسها التي ندرك بها المدركات العقلية هي الأدوات التي يعدها المتصوفة مؤدية إلى الوهم والضلال؛ فإذا كانت المشاهدات العلمية وسيلتها الحواس، فالحواس عند الصوفي لا ترى إلا الظاهر دون الباطن، والحق إنما يكون - عندهم - فيما هو باطن مستور، ولا يكون أبدا فيما تراه الأبصار مما يظهر لها على أسطح الأشياء. وإن كانت المعرفة العلمية قائمة على تحليل الموضوع المراد معرفته إلى عناصره الأولية التي منها يتألف، فالتحليل عند الصوفي يفسد علينا حقيقة الشيء؛ لأن حقيقته هي في جملته مجتمعة في مركب واحد، لا في أجزائه وهي فرادى. والخلاصة هي أنه بينما «العلم» يقف دائما عند حدود ما يظهر لنا من الكون، يزعم المتصوفة أن العالم الحق هو ما يكمن وراء الظواهر؛ فهم بذلك يعيشون في عالم غير عالمنا الذي نعيش فيه؛ ومن ثم يبطل بيننا تبادل المعرفة على النحو الذي نألفه في العلوم وفي الحياة العملية على حد سواء. وإن هذا العالم المستور عنا والمكشوف للصوفي، يبهره بهرا قد يشيع فيه رجفة الخوف، وكثيرا ما يراه الصوفي وكأنه يرى نورا ساطعا يستعصي على الرؤية الكاملة، ويخيل إليه أن الحقيقة الباهرة تلك تروغ منه وتتخفى كلما ظن أنه قد أوشك على شهود كامل، فتراه عندئذ ينحو باللائمة على ما يزال باقيا عنده من غلالات الأباطيل التي تخلقها في الإنسان حواسه. وإننا إذ نشبه رؤية المتصوف هذه برؤية الشاعر والفنان والعاشق الولهان بموضوع حبه، فإنما نضيف القول بأن هؤلاء الأشباه جميعا لا يتلقون من هذا العالم المحجوب إلا لمعات خافتة يرونها ثم يعودون إلى حياة الحس المألوف، وأما المتصوف فيغمس روحه في ذلك الضوء غمسا؛ فلا عجب أن نجد المتصوفة على عقيدة راسخة بأن ما يعرفونه هم عن «الحق» بمثل تلك الرؤية المباشرة المستغرقة فيما تراه، لا يجوز أن يقاس إليها أي معرفة أخرى؛ فكل معرفة أخرى - ومنها المعرفة العلمية ذاتها - إن هي إلا جهالة عمياء إذا قورنت بالحقيقة التي تشرق على المتصوفة في لحظات وجدهم. •••

تلك الرؤية الكاشفة عما حجبته الأستار عن سائر الناس، هي إذن أولى خصائص التصوف، وهي خصيصة تكفي وحدها لندخل التصوف في عالم اللامعقول؛ ثم تجيء الخاصة الثانية، وهي أن الصوفي يوحد الكون كله في كيان واحد لا يقبل الانقسام ولا التجزئة ولا التحليل؛ فوهم الحواس هو الذي يحملنا على الظن بأننا نعيش في عالم من كثرة؛ فأجناس كثيرة وأنواع متباينة ثم أفراد لا يحصيها العد، فنتوهم أن كل كائن من هذه الكائنات وحدة قائمة بذاتها، ترتبط مع سواها بعلاقات مختلفة، ولكن الصوفي برؤيته النافذة إلى ما تخفيه الظواهر، لا يلبث أن يرى حقيقة واحدة لا تعدد فيها وإن تعددت تجلياتها.

ومن هذه الخاصة تتفرع أخرى، وهي أن الصوفي ينكر انقسام الزمن إلى ماض وحاضر ومستقبل. إن مثل هذه التجزئة لتيار واحد لا تكون إلا عند من ينحصر بصره في اللحظة الراهنة، ثم يضيف إليها شطرا من الزمن سبقها وشطرا آخر سيلحق بها. أما عند من يعلو على هذه النظرات المحدودة، فإنه سوف يرى الكل في لمعة واحدة تضم الحقيقة من أزلها إلى أبدها. وإن نفي التجزئة عن الحقيقة الكونية الواحدة، وبالتالي نفيها عن الزمن، لينقلنا إلى خاصة رابعة من خصائص النظرة الصوفية، ألا وهي إزالة الفوارق الموهومة التي نميز بها ما نسميه الخير عما نسميه بالشر؛ فهذه قسمة لا تمليها علينا إلا مصلحة اللحظة الراهنة، وأما الرؤية الشاملة للحقيقة الكونية الواحدة فلا ترى إلا تلك «الحقيقة» الواحدة الخالصة، والتي لا خير عندها ولا شر، وإنما هنالك «الحق» في ذاته وكفى؛ ومن ثم ترى المتصوفة يتجردون ويتنزهون عن مشاعر البشر المألوفة لنا من غضب ورضا، وحزن ومرح، وغير ذلك. إنهم لا يحسون الألم فيما يؤلم الناس ولا يشعرون باللذة يما يلتذ به الناس. إن أمل المتصوف وجهاده ورياضته لنفسه إنما تهدف كلها إلى بلوغه حالة من السكينة التي لا تهزها أعاصير الرغبات والشهوات.

61

من هذا كله تنشأ لنا أسئلة أربعة، تلقي الإجابة عنها ضوءا قويا على الفواصل التي تفرق بين «المعقول» و«اللامعقول»، فهل حقا تتميز رؤية الحدس عن رؤية العقل بما يجعل الرؤية الأولى كاشفة عن اليقين، على حين أن الرؤية الثانية كثيرا ما تؤدي بنا إلى ضلالات وأوهام؟ وهل هو حق ما يزعمونه من أن كل انقسام للأشياء وكل تجزئة وكل تحليل هو من قبيل الأوهام التي تنحرف بنا عن رؤية الحقيقة؟ وهل الأزلية موصولة بالأبدية في وحدة ليس فيها ما هو ماض ومستقبل، وإنما هي حقيقة واحدة حاضرة دوما وإلى الأبد؟ ثم ما حقيقة الخير والشر من وجهة النظر الصوفية وغير الصوفية؛ أصحيح أن إدراكنا لهذه التفرقة وهم، وأن الحق في ذاته يعلو على مثل هذه التفرقات، فالحق حق ولا شيء أكثر من ذلك ولا أقل؟ •••

وأهم ما يهمنا من هذا - فيما له مس مباشر بموضوعنا، وهو أن نفرق بين المعقول واللامعقول؛ لنكون على بينة بحدود هذا وحدود ذاك - هو ما يفصل نوعي الإدراك اللذين ما ينفك الفلاسفة يتعرضون للتمييز بينهما، وهما: الإدراك بالعقل والإدراك بالحدس. فالأول هو كما ذكرنا طريق العلم وما يدور مداره من معارف، والثاني هو ما يقول المتصوفة ومن لف لفهم إنه طريقهم إلى الحق. الأول يخطو حتما من مقدمة أو مقدمات، من شاهد أو شواهد، إلى نتيجة أو نتائج؛ وأما الثاني فلا يخطو، وإنما هو ينتهي حيث يبدأ؛ لأنه لمعة بارقة تتم فيها رؤية الحقيقة بغير مقدمات ولا شواهد ، وإن تكن صالحة بعد ذلك لتوليد النتائج. وواضح أن النوعين قد يتعاونان في عملية واحدة؛ فبالحدس نلمح الفكرة التي تصلح أن تكون «مبدأ» نبدأ منه السير بخطوات العقل إلى حيث شاء لنا ذلك السير من نتائج.

ولك أن تقرب فكرة الحدس إلى تصورك، فتجعل من هذا الحدس ومما نسميه ب «الغريزة» شيئا واحدا؛ فإذا قلنا إن الإنسان يدرك بعض الحقائق بحدسه، فكأننا قلنا إنه يدرك تلك الحقائق بغريزته، وإن شئت أيضا فاجعل من «الحدس» و«الغريزة» مرادفين في المعنى - فيما يمس سياق حديثنا هذا - ل «الوجدان»؛ فكلها أدوات في الفطرة البشرية لا تحتاج إلى تعلم واكتساب، ومع ذلك فهي - كما يزعمون لها - أدوات إدراكية تبلغ اليقين بلمحة واحدة. وإنه ليجدر بنا هنا أن نذكر أمرا له أهميته لمن يتتبع مراحل التاريخ الفكري، وذلك هو أن العصور الفكرية قد يختلف بعضها عن بعض، في أن عصرا تسوده طريقة العقل في الإدراك، فيجيء عصر آخر في إثره ليعدل الميزان بأن يجعل للغريزة - أو للوجدان - الغلبة والرجحان، وبالطبع قد يصطرع الجانبان في العصر الواحد؛ فانظر إلى القرن الثامن عشر في فرنسا، كم أعلى فيه فولتير وغيره من الموسوعيين من شأن العقل، فلم يكن من روسو إلا الثورة على تلك العقلانية الجامحة، فيدعو للغريزة وللفطرة وللمشاعر، وتبعه في ذلك الرومانسيون لفترة طويلة.

ويرى برتراند رسل في هذا الفصل الذي بحث فيه موضوع «التصوف والمنطق» أن لا تعارض في حقيقة الأمر بين الرؤية بالغريزة - أو بالحدس - وبين مهمة العقل بعد ذلك في التحليل الذي يرتب عليه تأييدا لما رأته الغريزة أو تفنيدا؛ بمعنى أنه من غير الصواب أن نزعم - كما يزعم المتصوفة والرومانسيون وأمثالهم - بأن الغريزة إذا رأت فلا بد أن تجيء رؤيتها يقينا لا يتطرق إليه الشك؛ وذلك أن الغريزة، أو البصيرة، أو الوجدان، أو الحدس، أو ما شئت له من أسماء، قد يرى على لحظات الزمن المختلفة ما ينقض بعضه بعضا؛ أي إنه قد يرى اليوم أمرا ثم يرى نقيضه غدا؛ ومن ثم يجيء دور العقل الذي لا غنى عنه، وهو أن يحلل ويختبر ويحقق؛ ليرفض - من تلك المتناقضات - ما ينبغي رفضه، ويستبقي ما يجدر به أن يبقى. فلئن كانت بصيرة الوجدان قادرة على الكشف، فالعقل من ناحيته يكتفي بدور المراقب والمراجع؛ ليميز في «الكشوف» المزعومة بين القمح والشعير، ثم لينسق العناصر المقبولة في رقعة واحدة متكاملة النسج والبناء.

هذه حقيقة ذات أهمية بالغة في موضوعنا، وأرجو أن ترسخ في ذاكرتنا إلى أن يحين حين الفصول التالية. فلنذكر جيدا منذ الآن أن المتصوف - مثلا - (والكلام ينصب على أنصار «اللامعقول» بمختلف صنوفهم) له كل الحق في أن يقول إنه رأى كذا وكذا مما لا نستطيع نحن رؤيته معه، لكن الذي لا حق له فيه هو أن يدعي لرؤيته يقين الصدق؛ لأنه هو نفسه - في لحظة أخرى - قد يرى النقيض؛ وإذن فلا بد من أداة أخرى، وهي أداة نملكها جميعا، متصوفة وغير متصوفة، وأعني بها أداة العقل ومنطقه؛ لكي ترقب وتراجع وتنسق وتستبقي من الحقائق ما يستحق الدوام. ومعنى ذلك أننا نحن أبناء هذا العصر، إذ نجد بين أيدينا ذخرا من مخلفات الأقدمين في مجال اللامعقول، لا يجوز لنا القبول الأعمى، ولا الرفض الأعمى. فلا يجوز القبول بحجة أنها إدراكات وجدانية أحسها أصحابها بفطرتهم الصافية، فهي بمنجاة من الخطأ، كما لا يجوز لنا الرفض بحجة أنه من اللامعقول الذي يتنافى - من حيث المبدأ نفسه - مع العقل، بل الأدنى إلى الصواب هو أن ننظر نحن الخلف، بالعقل وحده إلى ما قد خلفه لنا السلف من لمحات اللاعقل، لندمج في حياتنا ما يمكن أن يتسق مع ما نراه بدورنا في عصرنا.

ليست الغريزة معصومة من الخطأ، هذا ما نلح في تقريره لنتخذ منه متكأ لنا عند النظر إلى إدراكات المتصوفة. وإنه لمما يلاحظ أن الإنسان كلما تعرض لضعف في قواه العاقلة - في حالات المرض والعجز - ارتد إلى غريزته يستهديها، زاعما أنها أصدق ما يهدي سائرا على طريق. ومع ذلك فمما يلفت النظر أن هؤلاء الذين يشيدون بسداد غرائزهم في أحكامها على الناس والمواقف والأشياء، لا يمتنعون عن اتهام غرائز الآخرين بالضلال إذا ما اختلف هؤلاء الآخرون معهم في إدراك ما يدركون، فكأنما العصمة التي تمتاز بها الرؤية الفطرية الغريزية مقصورة على فريق من الناس دون فريق.

وانظر - على ضوء هذا - إلى الفلاسفة الذين يبدءون بناءاتهم الفكرية بمبدأ يزعمون له الصدق المطلق لكونه رؤية حدسية. ألا يكفي للتردد في قبول دعواهم أن نجد هذه «المبادئ» على غير اتفاق فيما بينهم؟ إنه لو كانت رؤية الحدس لما هو حق أمرا مفروضا ومفروغا من التسليم بصوابه، بحجة أنها رؤية منبثقة عن الفطرة ذاتها، لما جاز أن يرى هذا الفيلسوف نقيض ما يراه ذلك؛ فبأي شيء نراجع أقوال هذا وذلك بغية القبول أو الرفض؟ إن لهذه المراجعة وسيلة واحدة: هي العقل؛ ولهذا كانت وجهة النظر التي أريد اصطناعها إزاء مأثورات الأقدمين، هي أن نحاسبهم بأداة العقل، فما ساير العقل من مأثورهم أخذناه، وما لم يسايره جعلناه موضوعا للتذوق والتسلية، فلا نأخذه مأخذ الجد، مهما قيل في منزلة قائليه من أرباب الوجدان النافذ خلال الحجب الكثيفة التي ابتلانا الله بها - نحن البشر - فحالت بيننا وبين رؤية الحق كما يزعمون.

ولا بأس هنا في أن نسوق فيلسوفا معاصرا لنا؛ لنناقشه في تفرقته بين إدراك «الحدس» وإدراك «العقل المنطقي»؛ لأنه ممن يأخذون بوجهة النظر الصوفية التي تركن إلى الحدس دون العقل في رؤية «الحق». فهو يقول في تمييزه بين الأداتين إن العقل إنما يحوم حول الموضوع الذي يدركه، على أن الحدس يغوص إلى صميمه. العقل تعتمد رؤيته على زاوية النظر إلى الشيء المراد العلم به، وكلما اختلفت تلك الزاوية اختلفت الرؤية، حتى إذا ما أدرك ما استطاع إدراكه، لم تكن له بعد ذلك وسيلة إلا في أن يسوق إدراكه ذاك في رموز - كألفاظ اللغة أو مصطلحات العلوم - وأما الحدس فلا هو في حاجة إلى زاوية خاصة للنظر، ولا هو يستخدم رموز اللغة أو سواها؛ لأنه ملك لصاحبه ولا سبيل إلى نقله إلى الآخرين؛ فلا غرابة أن وجدنا المعارف العقلية كلها «نسبية» تعتمد على ظروف كثيرة، وأما الحقيقة التي يدركها الحدس فمطلقة.

لأن ترى شيئا بحدسك معناه أن تدمج ذاتك في ذاته، وأن تقع منه على ما هو فريد فيه، وإذا قلنا ذلك فكأننا قلنا إنك تقع منه على الجانب الذي يستعصي على أي تعبير؛ إذ بماذا يكون التعبير إلا بالرمز اللغوي الذي لا يكون إلا أداة «تعميم» لا أداة تفريد، وهو بالضرورة أداة تعميم؛ لأنك تستخدمه في جميع الحالات المتشابهة على حد سواء؛ فإذا كان ما قد رأيته بالحدس «فريدا» لا أشباه له، فهو ليس مما يوصف برموز اللغة أو ما يقوم مقامها. ويضرب لنا برجسون مثلا لهذا النوع من المعرفة الحدسية التي تغوص إلى صميم الشيء المدرك لترى فيه ما هو «فريد» بغير أشباه، معرفة الإنسان لذاته، «فهنالك حقيقة واحدة - على الأقل - نمسك بها في داخل نفوسنا بطريق الحدس لا بطريق التحليل البسيط، وتلك هي «ذات» الفرد الذي يستبطن نفسه ليراها، فهو يرى ذاته في حالة فيضها خلال الزمن؛ أعني أنه يرى نفسه في حالة ديمومتها على امتداد الزمن» (مقدمة للميتافيزيقا، ص8 من الترجمة الإنجليزية). لكن برجسون لم يسعه إلا أن يقول لنا هذا القول بوسائل الرموز اللغوية، التي اتهمها بالعجز عن حمل ما قد أدركه في ذاته بطريق الحدس.

يقول برجسون عن العقل المنطقي إنه أداة عملية مهمتها أن تحقق للإنسان القدرة على البقاء، لكن الأمر إذا جاوز حدود منافع العيش، وقف ذلك العقل نفسه موقف الحيرة والعجز تجاه ما تبديه الحياة من خصائص، في الوقت الذي يمكن للحدس - أو الغريزة - أن تدرك ما قد عجز عنه العقل إدراكا مجملا مباشرا. ويعلق برتراند رسل على ذلك بقوله إننا بمنطق العقل وحده استطعنا أن ندرك ما هنالك من صراع بين الأحياء من أجل البقاء، فلو كان العقل على ضلال في إدراكه، لسقطت من أيدينا نظرية التطور البيولوجي كلها؛ إذ هي نظرية استدلها العقل، مع أنها هي النظرية الماثلة في ذهن برجسون حين يتحدث موازنا بين العقل والغريزة، وقائلا إن العقل - لكونه حديث الظهور في سلم التطور - فهو وشيك الزلل، على حين أن غريزة الحيوان - لأنها ضاربة إلى أول نشأة الحياة - فهي مسددة الرؤية نحو الصواب دائما.

إننا على أحسن الفروض التي تؤيد الحدس، نقول إن الحدس وذكاء العقل معا ظاهرتان انبثقتا على طريق التطور البيولوجي، وإن كليهما نافع للبقاء على حد سواء، ولكن لماذا لا نقول كذلك إن العقل قد جاوز حدود المنفعة وأنتج لنا تطورا ثقافيا وحضاريا، على حين بقيت الغريزة عند حدود المنفعة في حفظ البقاء، وإنها إذا لم تكن عامل تعويق للحضارة، فليست على كل حال عاملا مساعدا؛ فالإدراك الفطري المباشر، الذي ننسبه إلى الغريزة، أو إلى الوجدان، أو إلى الحدس، إنما هو على أشده في الأطفال لا الراشدين، وعند السذج لا الذين أرهفتهم الثقافة وتهذيبها، بل هو على أشده عند طائفة من ذوي البلاهة؛ ولذلك كثيرا ما رأينا جمهور الناس «يتبركون» بهم، وينصتون إلى لغوهم وكأنه الحق يجري على ألسنة الملهمين.

وهل صدق برجسون حينما زعم العصمة من الخطأ للإدراك الحدسي المباشر؟ لنأخذ المثل الذي ساقه، وهو معرفة الإنسان لنفسه من باطنه، قائلا إنه عندئذ لا يخطئ حقيقتها! فهل صحيح أن الإنسان يعرف عن نفسه اليقين، أم تراه - في أكثر الحالات - مضللا في ذات نفسه لا يعرف عن حقيقتها إلا أقل القليل، إلى أن يتناوله سواه من أصحاب التحليل النفسي، فيكشفون له عن أغوار لم يكن له قبل بكشفها بكل ما في وسعه من حدس إذ هو يستبطن ذاته؟

إن للإدراك الحدسي (وأرجو ألا يغيب عن ذهن القارئ أن الإدراك الحدسي هو نفسه طريقة المتصوفة في إدراك «الحق») أقول إن لهذا الإدراك الحدسي حسنة هي التي قد تنقلب إلى سيئة، وتلك هي أن ما ندركه بمثل هذه الطريقة المباشرة، تبدو وكأنها تفرض نفسها فرضا علينا ولا تدع أمامنا سبيلا لارتياب، فتأخذنا العقيدة الثابتة بأن ما قد أدركناه هو «الحق» لا شبهة فيه؛ فلو كان الإدراك الحدسي مضمون الصدق كما يزعمون له، لكانت عقيدتنا تلك في يقين صدقه حسنة أي حسنة بالقياس إلى مدركات العقل المعرضة للشك والخطأ، أما وقد رأينا أن ما يدركه الحدس معرض هو الآخر للخطأ، فها هنا تكون السيئة؛ لأن صاحب الحدس سيظل موقنا بصواب معرفته الحدسية، منكرا لكل الشواهد التي تنفي عنها ذلك الصواب المظنون، فماذا ترى عندئذ في إنسان ترك زمامه في حياته لضروب من الاعتقاد ثبت بطلانها؟ ولنعد مرة أخرى إلى معرفة الإنسان لنفسه، فهي - كما قلنا - معرفة حدسية مباشرة، ولننظر كم نعاني إذا أردنا أن نزحزح إنسانا عن عقيدة له في نفسه خاطئة، وقد يشاء الحظ المنكود لجماعة من البشر أن يوضع لهم في مكان الزعامة منهم رجل أخطأ معرفة نفسه، فحسبها - مثلا - محبة للحرية تنشدها لها وللناس أجمعين، وتنظر أنت فلا ترى في تلك النفس إلا طغيانا؛ فهيهات للناس عندئذ أن يبدلوه عن نفسه عقيدة بعقيدة، وإلى الجحيم من يتحكم فيهم من مجموعة البشر، مضللا بفكرته عن نفسه؛ إذ لا أهمية عندئذ لكل ما قد امتلأت به نفسه تلك من أطيب النوايا.

وإن هذا الجمع بين الحسنة والسيئة في الإدراك الحدسي من الإنسان لنفسه؛ الحسنة إذا تصادف أن جاء ذلك الإدراك صادقا، فهنا تكون له قوة الإيمان بما تفعله من معجزات؛ والسيئة إذا جاء الإدراك الحدسي كاذبا، فيؤدي بصاحبه وبالناس إلى التهلكة صدورا عن نية طيبة! أقول إن هذا الجمع بين الحسنة والسيئة في الإدراك الحدسي، نراه كذلك في عقيدة الإنسان فيمن يحب، سواء كان ذلك المحبوب إلها أو إنسانا من البشر، أو حتى نظاما من النظم الاجتماعية أو مذهبا من المذاهب الفكرية، فهنا أيضا نقول إنه لو جاء العلم الحدسي صادقا، كانت النعمة الكبرى لصاحبه؛ لأنه في هذه الحالة سيعلم الحق علما له شدة الإيمان الراسخ، ولكن يا لها من نكبة إذا جاءت المعرفة الحدسية على بطلان، فعندئذ ترى العجب؛ إذ ترى صاحبها يخبط في ضلال وهو على إصرار المؤمنين.

أليس من حقنا - والحالة بالنسبة للرؤية الصوفية هي هذه - أن نكتفي من تراثنا الصوفي كله بنظرة كالتي ننظر بها إلى نتاج شعري صب أصحابه فيه «أحوالهم» النفسية عن صدق بينهم وبين أنفسهم؟ وإذا نحن اكتفينا بهذه النظرة الفنية إلى التراث الصوفي، كانت معاييرنا في الحكم عليه هي المعايير التي نحكم بها على قصائد الشعر، لا المعايير التي نقيس إليها أقوال العلماء عن الوجود الواقع، بل أقوالهم عن النفس الإنسانية ذاتها؛ وبذلك نزيح عن صدورنا عبء التبعة التي نحسها كلما رأينا نتاجا عظيما حقا لمتصوف بارز، فتأخذنا الحيرة: أنلقي جانبا بهذا النتاج وهو درة فنية نفيسة؟ أم نهتدي به في سلوكنا فيضيع منا واقع الحياة؟

62

تنتهي النظرة الصوفية بأصحابها - ولنذكر أنها نظرة لا تبنى على منطق العقل - إلى الكشف عن وحدة كونية شاملة بغض النظر عما قد توهمنا به الحواس من تعدد وتكثر في الكائنات والأشياء، وهم - أعني المتصوفة - إذ ينقلون إلينا ما قد أدركوه بطريق الإشراق من أمر تلك الوحدة الواحدة، قد يجدون منا قلوبا متقبلة متعاطفة؛ لما قد نراه في عقيدتهم من تأييد لعقيدة أخرى عندنا جاءت إلينا عن طريق الدين، فسرعان ما نخلط بين «توحيد» يقول لنا الصوفي إنه مارسه في لحظات استغراقه في محبوبه، و«توحيد» آخر جاءت به الرسالة الدينية وحيا على الرسول فآمنا بها إيمانا - هو ككل إيمان - يعتمد على تصديق ما قد سمع، لا على الدعوى بأننا قد رأينا شيئا أو مارسنا شيئا بأي جانب من حقيقتنا البشرية، لا بل إن المتصوفة أنفسهم، بعد أن يقولوا إنهم إنما رأوا ما رأوه كما يرى الإنسان نورا يضيء، يعودون فيحاولون التماس «منطق» يؤيدون به صدق رؤيتهم، كأنما نسوا أن ما زعموه هو أن إدراكهم لما أدركوه قد جاء إشراقا مباغتا على قلوبهم، على حين أن حجاج المنطق ذو طابع آخر هو أبعد ما يكون عن لمعة من الضوء تنقذف في القلب.

ليس علينا من حرج إذا نحن وقفنا موقف الرفض تجاه ما زعمه المتصوفة في طريقة وصولهم للحق، وفيما زعموه من وحدة الكون واتحادهم الذي حققوه مع الله سبحانه، فها هو ذا ابن تيمية يقول عنهم في «حقيقة مذهب الاتحاديين» ما نصه: «وأما هؤلاء الاتحادية فبنوا على أصلهم الفاسد، وهو أن الله هو الوجود المطلق الثابت لكل موجود، وصار ما يقع في قلوبهم من الخواطر - وإن كانت من وساوس الشيطان - يزعمون أنهم أخذوا ذلك عن الله بلا واسطة، وأنهم يكلمون كما كلم موسى بن عمران، وفيهم من يزعم أن حالهم أفضل من حال موسى بن عمران؛ لأن موسى سمع الخطاب من شجرة، وهم - على زعمهم - يسمعون الخطاب من حي ناطق.»

الفصل التاسع

يقظة الحالمين

63

لست أجادل هنا في أن يكون الحالم أو لا يكون في نعيم من أحلامه، لكن الذي أقرره هو أن المتصوف رجل يحلم في يقظته، وسواء أوجد النشوة في أحلامه تلك أم لم يجدها، فهو على كلتا الحالتين ليس مؤهلا بأحلامه للدخول في دنيا العمل. إنه لا ينجز شيئا لا لنفسه ولا لغيره، إلا أن تزول عنه تلك الحالة التي ملأته بأوهام الحلم حتى لتعجز عيناه أن تبصرا ما تراه العين، وأذناه أن تسمعا ما تسمعه الأذن. نعم إنه يعوض لنفسه ما فقدته حواسه برؤى وأنغام ينفرد بها دون سائر الناس، لكنها لهذا السبب نفسه لا تصلح متكأ يرتكز عليه في أن يسلك طريقا بين كائنات الواقع؛ وبالتالي فهو لا يمدنا بخبرة تفيد، مهما أمدنا بمادة لها عند القراءة سحرها. وسأسوق لك أمثلة من أقوالهم لترى كم هي شديدة الشبه برؤى الحالمين.

يقول الشيخ نجم الدين الكبرى (في منتصف القرن الثالث عشر الميلادي) في كتابه «فوائح الجمال وفواتح الجلال» (تحقيق المستشرق فرتيز ماير أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة بازل بسويسرا): «يا حبيبي! أطبق جفنيك وانظر ماذا ترى؟ فإن قلت لا أرى حينئذ شيئا، فهو خطأ منك؛ بلى، تبصر، ولكن ظلام الوجود - لفرط قربه من بصيرتك - لا تجده؛ فإن أحببت

شيئا، أو أبعد من وجود شيئا. وطريق تنقيصه والإبعاد منه قليلا، المجاهدة! ومعنى المجاهدة بذل الجهد في دفع الأغيار، أو قتل الأغيار، والأغيار: الوجود والنفس والشيطان» (ص2).

هذا رجل ينصحنا - لكي نرى الحق - أن نكف البصر؛ لنعتمد على البصيرة، شريطة أن نقتل ثلاثة أعداء تحول دون أن تدرك بصائرنا ما هو في وسعها أن تدركه إذا رفعت عنها تلك الحجب، وهؤلاء الثلاثة الأعداء هي أجسادنا، ثم أنفسنا، ثم بعدهما الشيطان! وكيف أقتل الجسد ببصره وسمعه وذوقه وشمه ولمسه؟ أقتله بالجوع الذي يذبله ويفنيه، ثم كيف أقتل النفس؟ أقتلها بطمس شهواتها ورغباتها وميولها وغرائزها وعواطفها وانفعالاتها! فافرض أنني قد أفنيت ما أفنيت من جسدي، وقتلت ما قتلت من نوازع نفسي، فكيف أقتل العدو الثالث الذي هو الشيطان؟ وهل يبقى لهذا الشيطان مطمع في جسد ذوى ونفس جفت عصارتها؟ وهل يمكن لصاحب جسد ونفس كهذين ألا تهوم في رأسه أطياف وأشباح هي التي - إذا ما استيقظ وعيه لحظة من غيبوبته - قد يطلق عليها اسم «الحق»؟! إنني لأذكر في هذا الصدد تجربة قام بها العالم النفسي الحديث «وليم جيمس»، وهي أن عرض بعض أشخاص تجاربه لرائحة الغاز إلى الدرجة التي أفقدتهم القدرة على تركيز الحواس فيما حولهم، فطفقوا ينطقون بعبارات، سجلها الباحث، فإذا هي شديدة الشبه بما يزعم لنا كثير من أهل التصوف أنهم رأوه أو سمعوه.

ولنمض مع الشيخ «الكبرى» في حديثه؛ فلقد أراد أن يبصرنا ببعض ملامح الأعداء الثلاثة التي أوصانا بقتلها إذا أردنا للبصيرة منا أن تدرك الحق، وألفت نظر القارئ هنا إلى استخدام المتحدث للألوان في وصفه. فأما الوجود المادي، وهو العدو الأول، فهو في بداية الأمر «ظلمة شريرة»، حتى إذا ما صفا قليلا اتخذ هيئة «الغيم الأسود»، لكنه إذا ما حل به الشيطان كان ذا لون أحمر؛ فلو أصلحت من أمر وجودك هذا - أي جسدك - على النحو الذي أوصانا به الشيخ المتصوف، وهو أن تقتله بالجوع، «صفا وابيض مثل المزن.»

ويجيء دور العدو الثاني - النفس - فلونها أمام الرائي أزرق كزرقة السماء، «ولها نبعان كنبعان الماء من أصل الينبوع»، فإذا ما حل بها الشيطان تحولت وكأنها «عين من ظلمة ونار.» وأما العدو الثالث - الشيطان - «فقد يتشكل قدامك كأنه زنجي طويل ذو هيئة عظيمة، يسعى كأنه يطلب الدخول فيك، وإذا طلبت منه الانفكاك فقل في قلبك: يا غياث المستغيثين أغثني! فإنه يفر عنك، واعلم أنه يبصر بك وتبصر به، وثيابه مخيطة بثيابك، فإذا فصلت ثيابك من ثيابه، عمي بصره وتعرى عن ثيابه» (ص3). صور تصلح أن تساق في قصيدة من الشعر ليعبر بها الشاعر عن نفسه المكروبة كيف تلتمس طريق خلاصها. أما إذا رأيناها بغير منظار الشعر - ومن الشعر ما هو أقرب شيء إلى رؤى الأحلام - فعندئذ يكون ضلالنا الذي لا يسأل عنه صاحب القول المقروء.

ولعل الشيخ بعد أن كتب ما وصف به الشيطان من أنه «نار» أخذه القلق لعلمه بأن «الذكر» (أي «الله») نار كذلك، وإذن فيتحتم أن يفرق لنا بين نارين؛ حتى لا نخلط بين نار هي الجلال نفسه ونار هي الشيطان، فيقول: «الفرق بين نار الذكر ونار الشيطان، أن نيران الذكر صافية سريعة الحركة والصعود إلى الفوق، ونار الشيطان في كدر ودخان وظلمة، وكذلك بطيئة الحركة. وكذلك يفرق بين النارين بطريقة الحالة؛ فإن السيار (= السالك طريق التصوف) إذا كان في ثقل عظيم وضيق صدر، وقد تعذر عليه الذكر، ولا ينطلق له القلب، ولا ينشرح له الصدر، وكأن أعضاءه كادت ترض رضا بالحجارة وهو يشاهد النار المظلمة، فهي نار الشيطان؛ وإن كان السيار في خفة ووقار وشرح صدر وطيبة قلب وطمأنينة، وهو مع ذلك يرى نارا صاعدة صافية، مثل ما يشاهد أحدنا النار في الحطب اليابس، فهي نيران الذكر في فضاء الصدر» (ص4). فليمتعنا هذا التصوير الشعري لما يكون من فرق بين حالة يشيع فيها الضيق وأخرى تنفرج فيها الغمة، لكن هذا كله شيء، والوقفة العقلية من هذه المشكلة نفسها - ضيق النفس أو انفراجها - شيء آخر.

ولا يفوت هذا الشيخ المتصوف الكاتب أن يدرك الفرق بين «ما نعلمه بعقولنا» و«ما نشاهده بالعيان»؛ أي بالبصيرة؛ ففي عبارة جميلة - بمقاييس الشعر - يصور لنا كيف يمكن «أن نشاهد عيانا ما علمناه عقلا»؛ وذلك بأن نقتل من أنفسنا مقوماتها ولو إلى حد محدود، وما تلك المقومات إلا ضروب أربعة من الوجود: ترابي ومائي وناري وهوائي، وهي كلها معوقات لا نتخلص منها خلاصا كاملا «إلا بالموت الكبير الأخير»، لكننا - إلى أن يجيئنا هذا الموت الكبير الأخير - نستطيع أن نفني من هذه المعوقات بعضها؛ فعندئذ تتكشف لك رؤى عجيبة، يقول الشيخ نجم الدين: «إذا شاهدت بحارا تعبرها وأنت فيها مستغرق، فاعلم أنه فناء الحظ المائي، وإذا كانت البحار صافية وفيها شموس غريقة أو أنوار أو نيران، فاعلم أنها بحار المعرفة!» ليلحظ معي القارئ هذه الصور الجميلة يرسمها صاحب رؤية فنية؛ فهي إن لم تكن أحلاما رآها الشيخ بالفعل في نعاسه، فهي كالأحلام يذكرها ويذكر تأويلها معها؛ فإذا أنت أفنيت الجانب المائي من طبيعتك، رأيت نفسك وكأنك تعبر بحارا صافية في أعماقها شموس ساطعة وأنوار ونيران. ومعنى ذلك أنك عندئذ قد انجاب عنك غشاء الجهل وجاءت إليك المعرفة دافقة في صدرك. ثم يمضي الشيخ في تصويره: «وإذا شاهدت مطرا ينزل، فاعلم أنه مطر ينزل من محاضر الرحمة لإحياء أراضي القلوب الميتة.»

ولنقطع حديث الشيخ «الكبرى» لحظة لنعود إليه بعد حين، فنضع بين يدي القارئ قولا آخر لمتصوف آخر عظيم القدر في دنيا التصوف، هو «عبد القادر عبد الله السهروردي»، أورده في كتابه «عوارف المعارف» تأويلا للآية القرآنية:

أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها ؛ لنرى كيف تتشابه الرؤى عند المتصوفة؛ فالمطر عندهم - من التصور الشعري - معرفة تهتدي إليها القلوب برحمة من السماء، يقول السهروردي في تأويل هذه الآية ما معناه إن «الماء» هنا هو «العلم»، و«الأودية» هي «القلوب». ويستشهد ب «ابن عطاء» الصوفي في قوله تعليقا على قول الله تعالى:

أنزل من السماء ماء : «هذا مثل ضربه الله تعالى للعبد، وذلك إذا سال السيل في الأودية، لا يبقى في الأودية نجاسة إلا كنسها وذهب بها، كذلك إذا سال النور الذي قسمه الله تعالى للعبد في نفسه لا تبقى فيه غفلة ولا ظلمة.» وكذلك يستشهد السهروردي في تأويل

أنزل من السماء ماء

بمتصوفة آخرين غير «ابن عطاء»؛ فقد قال بعضهم إن الماء الذي أنزل الله من السماء هو «الكرامات»، يأخذ منها كل قلب بحظه ونصيبه، وأما الأودية التي يسيل فيها ماء «الكرامات» فهي قلوب علماء التفسير والحديث والفقه، وكذلك تسيل بذلك الماء النازل - ماء العلم أو ماء الكرامات، أي تفسير منهما شئت - قلوب الصوفية من العلماء الزاهدين في الدنيا، المتمسكين بحقائق التقوى، وهي تسيل بقدرها؛ فمن كان في باطنه لوث محبة الدنيا من فضول المال والجاه وطلب المناصب والرفعة، سال وادي قلبه بقدره، فأخذ من العلم طرفا صالحا، ولم يحظ بحقائق العلوم؛ ومن زهد في الدنيا اتسع وادي قلبه فسالت فيه مياه العلوم» (عوارف المعارف، ص13-14).

هكذا وجد السهروردي - وغيره ممن استشهد بأقوالهم - المطر النازل من السماء يراه المتصوف في الحلم (أم هل يقصدون أن المتصوف يراه في يقظته الحالمة؟ لا أدري) معرفة بأسرار الحق ينفتح لها قلب الزاهد، كما رأينا الدلالة الرمزية نفسها عند نجم الدين الكبرى. ولنعد إلى الشيخ نجم الدين في تصوراته لمن أهلك من نفسه جوانبه المادية ماذا يرى؟ ولقد أسلفنا القول فيما يراه من أمات جانبه المائي كيف يجد نفسه خائضا في بحر المعرفة خوضا، وشموس المعرفة وأنوارها هناك تسطع في القاع، ومطر المعرفة هاطل عليه من السماء؛ فالماء يحيط به من كل أقطاره، ليعوضه عما قد تخلص منه، وأعني الجانب المائي من طبيعته! ولننظر فيمن تخلص من عنصره الناري ثم من عنصره الهوائي كيف يكون: «إذا شاهدت نيرانا وأنك خائض فيها ثم تخرج عنها، فاعلم أنه فناء الحظوظ النارية؛ وإذا شاهدت بين يديك فضاء واسعا ورحبا شاسعا ومن فوقه هواء صاف، وترى في نهاية النظر ألوانا كالخضرة والحمرة والصفرة والزرقة (ليلحظ القارئ انشغال الشيخ بالألوان في تصويره)، فاعلم أن عبورك على هذا الهواء إلى تيك الألوان، علامة حياة الهمة، والهمة معناها القدرة» (فوائح الجمال وفواتح الجلال للشيخ نجم الدين الكبرى، ص6-7). ويقول المؤلف في ختام عبارته «الملونة » السالفة إن أمثال هذه المعاني التي يراها المتصوف مصورة في تلك الصور، إنما هي معان تنطق بأنفسها، بلساني الذوق والمشاهدة؛ فإنك تذوق بنفسك ما تشاهده ببصيرتك، وتشاهد ببصيرتك ما تذوقه بنفسك، «وهو أنك متى شاهدت الخضرة أحسست من قلبك انطلاقا، ومن صدرك انشراحا، ومن نفسك طيبة، ومن روحك لذاذة، ولبصيرتك قرة، وهذه صفات الحياة.» فالألوان ألسنة تنطق بالحق للمتصوف، إذا وجدها بارقة فهو ميسر له في طريقه، وإذا رآها باهتة صفراء فهو في شدة وكرب مما يعاني من أفاعيل الشيطان. وكأنما يريد الشيخ نجم الدين أن يؤيد هذه الإشارة بما نراه جميعا في طبائع الأشياء والأحياء من حولنا؛ ألا تدل خضرة النبت على قوته وحياته وسرعة نموه، بقدر ما تدل صفرته على ضعفه وذبوله؟ ثم ألا تدلك ألوان الوجوه على عوارض خافية ما لم يفصح عنها لون الوجه؛ فحمرة الوجه تدل على شيء، وصفرته تدل على آخر وهكذا؟ ونحن نعيد ما قلناه مرة ومرة وثالثة: هذا كله تصوير جميل لرؤية المتصوف ورؤاه؛ فهي معرفة لحقائق الأشياء ب «الذوق» وبالعيان المباشر، ولكن هذا كله شيء، والنظر العقلي شيء آخر.

يروي لنا هذا الشيخ المتصوف - نجم الدين الكبرى - عن نفسه؛ كيف صعد إلى السماء، أو نزلت السماء إليه - لا أدري - فيقول: «عرجني ملك فجاء من وراء ظهري، فالتزمني وحملني ودار إلى وجهي، فقبلني، وتشعشع نوره في بصيرتي، ثم قال: بسم الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم. وعرج بي قليلا ثم وضعني. كنت أسمع وقت السحر - وأنا ذاكر في الخلوة - تسبيح الملائكة، وكأن الحق نزل إلى السماء الدنيا، فأسرعت الملائكة في قولهم كأنهم خافوا وطلبوا النجاة، كالصبي يخاف الأب إذا غضب عليه وهم بالضرب، فيقول: تبت! تبت!» (ص10 من المرجع المذكور).

ومثل هذا القول - بمعناه إن لم يكن بلفظه - مما تراه شائعا في كتابات المتصوفة. وأما أنه بعيد عن المعقول بعد المجرة والسديم فذلك واضح، ولكنني أريد أن أضيف إلى ذلك أنه قول لا أراه يندرج حتى فيما يجوز أن يعد وجدانا شعريا؛ لأنه ليس بذي مضمون على الإطلاق، لا من جهة «العقل»، ولا من جهة «الشعور»، وإذن فماذا يكون؟ إنه لا شيء، فلا نفع لنا من ورائه ولا إيحاء بما ينفع، ولا غذاء فيه لقلب ولا إيحاء بما يريح القلب ويرضي.

ومع ذلك ففي وهم هذا الشيخ أنه قال بالعبارة التي أسلفناها كلاما يعد من «خواطر الحق»؛ ذلك أنه يعقب عليها بتعليق أراد به أن يفرق بين ما أسماه «خاطر الحق» وما أسماه «خاطر النفس»، فقال : «خاطر الحق يكون إلهاما، والإلهام صحيح، وإذا خطر لا يعترض عليه عقل ولا نفس ولا شيطان ولا قلب ولا ملك، ثم هذا الإلهام تارة يكون في الغيبة فيكون أشد ظهورا وأقرب إلى الذوق، والسر فيه أن الخواطر الحقانية هي العلم اللدني، وهي ليست في الحقيقة خواطر، بل هو علم أزلي، علمه الله الأرواح حين خاطبهم: ألست بربكم؟ قالوا بلى! وعلم آدم الأسماء كلها، فتعلمت هي كذلك بالعلم اللدني، إلا أن العلم قد يستر بظلام الوجود؛ فإذا صفا السيار (أي المتصوف) وغاب عن الوجود ظهر العلم اللدني، أو حكم من أحكامه، فيرجع السيار إلى الوجود ومعه العلم وهو الإلهام، وصار كالخط المكتوب على اللوح إذا اندرس بغبار وقع عليه ثم أزيل الغبار فيظهر الخط» (ص11).

لو أننا قرأنا لشيخنا هذا كلاما كهذا على سبيل التفكهة التي نخفف بها عبوس الحياة العصرية بكل ثقلها، لقلنا: نعم ونعام عين! أما أن نقرأ في التراث صحائف ملئت بمثل هذا «العلم اللدني» الذي ينبثق في النفس إبان غيبوبتها عن الوجود، ثم نشتم فيه شيئا من رائحة الجد، فتلك هي النكبة! وقد تسألني: وهل منا من يقرأ لأمثال هؤلاء قراءة الجاد؟ فأجيبك: بأنني قد صادفت رجالا، لا من عامة الناس وطغامهم، بل كانوا من أساتذة الجامعات، قد ملئت شعاب رءوسهم بمادة كهذه، يصدقونها ثم يحملون طلابهم على تصديقها وإجلالها احتراما للسلف.

وبعد، فانظر كيف يستطرد الشيخ في حديثه ليصل إلى ما يكون عليه المتصوف من قوة على تحقيق المعجزات الخوارق، وكأنه لم يعد بشرا من البشر، وكأن الطبيعة قد تحولت لعبة يلهو بها طفل كيف شاء، يقول: «الذوق والمشاهدة ثابتان معا، إلا أن المشاهدة (يعني مشاهدة «الحق») سببها فتح البصيرة بكشف الغطاء عنها، والذوق سببه تبديل الوجود والأرواح، والذوق هو الوجدان بما يأتيك، ويدخل في هذا التبديل تبديل الحواس (أرجو من القارئ أن يقرأ هذه الأسطر متمهلا)؛ فإن الحواس الخمس تتبدل بحواس أخر، ومثاله النوم؛ فإنه مهما نام واستخلص قليلا عن أثقال الوجود، انفتحت حواس أخر إلى الغيب، من عين وسمع وشم وفم ويد ورجل ووجود آخر، فيرى ويسمع ويأخذ من لقم الغيب ويأكل - وربما يقوم من نومه بعد الأكل فيجد لذة الطعام في فمه - ويتكلم ويمشي ويبطش ويصل إلى البلاد القاصية، ولا يحجبه البعد، وذلك وجود أكمل من هذا، وربما تجد في ذلك الوجود قوة الطيران والمشي على الماء والدخول في النار ولا يحترق، ولا تحتسب هذا جزافا! بل هو حقيقة! وهو أخ الموت، فما يجده العامي في منامه بحسب قوة وجوده الأدنى، يجده السيار (أي المتصوف) بين اليقظة والمنام، لضعف وجوده الخسيس، وقوة وجوده الشريف النفيس، ثم يقوى هذا الوجود الشريف فيقع الفعل إلى عالم الشهادة، فيطير ويمشي على الماء ويدخل في النار فلا يضره. والحاضر معه (أي من يجالسونه من سائر الناس) محجوب بالوجود الكثيف، لا يجد ذلك» (ص18).

هكذا يقول المتصوف من الأقدمين، وهكذا أيضا يردد قوله ألوف الناس من المعاصرين، منهم العامة ومنهم العلماء! وخلاصة القول مرة أخرى هي هذه: أليس يرى النائم فيما يحلم أنه قد يفعل أي شيء مما يستحيل عليه فعله ساعات الصحو؛ لأن الواقع العنيد يأبى عليه عندئذ أن يتحكم فيه إلا بما تسمح له به قوانينه الطبيعية؟ فإذا جاز هذا في النوم دون الصحو لعامة الناس، فإنه بالنسبة لأصحاب الوجود الشريف النفيس (كالمتصوفة) يجوز في النوم وفي الصحو على حد سواء. إن الرجل من عامة الناس قد يحلم بأنه يطير في الهواء أو يمشي على الماء أو يدخل في النار فلا يصيبه الأذى ، فكذلك الرجل من الطائفة المقربة قد تفعل هذه الأفعال كلها في دنيا الواقع وعلى مرأى من الناس ومسمع! وأترك لكل قارئ أن يستعيد من ذكرياته الخاصة كم مرة سمع ممن تحدثوا إليه عن رجال يفعلون هذه الخوارق نفسها، يفعلونها اليوم الذي هو عهد الصواريخ تشق السماء لتهتك أستارها. والذي أردت أن أقوله هنا هو أن مثل هذا «اللامعقول» لا يصح له بقاء.

64

تفتح الطبيعة كتابها لكل ذي عينين فيقرأ قوانينها في ظواهرها، ثم يتعامل معها على أساس تلك القوانين، وعندئذ يركب هواءها ويغوص في مائها ويستنبت أرضها ويستخرج خبيئها أشكالا وألوانا، على أن يتم له ذلك كله في إطار قوانينها، على غرار ما يتحدث إنسان إلى إنسان بلغته ليتفاهما، وذلك هو سبيل «العقل»، لكن سبيل العقل إنما هو سبيل الأقوياء الصابرين على إمعان النظر في ظواهر الطبيعة لمعرفة طرائقها في السير والفعل والتفاعل. أما إذا أقعد العجز نفرا عن متابعة العقل في سبيله، ثم ظلوا على رغبتهم في استخدام الطبيعة لأغراضهم، فماذا يبقى أمامهم سوى أن يلتمسوا لأنفسهم طريقا مختصرا إلى الغاية المنشودة؟ هل يريدون للمريض أن يشفى من علته؟ إذن فلماذا يبحثون ويفحصون فيصدعون رءوسهم بالبحث والفحص عن أصل العلة من جراثيم وغير جراثيم؟ إن فلانا الفلاني قد كرمه الله بأن جعل فيه السر المكنون، ويستطيع أن يكتب لك أحرفا هو عليم بقدراتها، فإذا هي الوسيلة العاجلة إلى شفاء سريع! أم هل يريدون طعاما من جوع وليس في الدار ما يتبلغ به الجائعون؟ إذن فلا عليهم من ارتياد الأسواق واجتلاب الأرزاق من مصادرها، فها هو ذا فلان الفلاني على صلة بالسماء تمكنه من لمسة بأصابعه أو تمتمة بشفتيه، فإذا قدور الدار ملأى باللحم والمرق والأرز وما شاءوا من ألوان الطعام! وتلك «كرامات» يهبها الله لمن شاء من عباده المقربين، كأنما الله سبحانه يرضيه أن تسري الفوضى في مخلوقاته بدل أن تنتظمها قوانينها!

جاء في «الرسالة القشيرية في علم التصوف» عن الكرامات قوله: «ظهور الكرامات على الأولياء جائز، والدليل على جوازه أنه أمر موهوم حدوثه في العقل، لا يؤدي حصوله إلى رفع أصل من الأصول، فواجب وصفه - سبحانه - بالقدرة على إيجاده، وإذا وجب كونه مقدور الله سبحانه فلا شيء يمنع جواز حصوله.» ونحب أن نسوق على هذا القول العجيب ملاحظتين: الأولى هي أنه إذا كانت الكرامات جائزة الحدوث على مقتضيات «العقل» كما يزعم صاحب «الرسالة»، فما حاجته بعد ذلك إلى التعليل بقدرة الله تعالى على إيجاد الكرامات؟ إن هذا التعليل الأخير إنما يعني أن الله هو القادر على أن يغير من مجرى الطبيعة كما يشاء، ثم له تعالى أن يهب هذه القدرة لمن يشاء، فتكون النتيجة هي «كرامات» هؤلاء القادرين، وأما إذا وسعنا من مجال التطبيق بحيث يشمل كل ظاهرة طبيعية في الأرض أو في السماء، مما يقع تحت حساب العلوم، فأين يكون امتياز أصحاب الكرامات؟ والملاحظة الثانية هي أن صاحب «الرسالة» قد أطلق لنفسه الأعنة كلها، لا العنان الواحد، في استخدامه لكلمة «عقل» حين قال إن ظهور الكرامات جائز لأنه أمر لا يناقض «العقل». إن أبسط معاني «العقل» هو أن نفهم الكلمة بمعناها اللغوي، وهو أنه «عقال» أو «قيد» يحد من حرية الحركة فلا يجعلها سائبة تتجه أينما شاءت الرغبات، فمن بين الطرق الكثيرة التي قد ينتهجها إنسان ما حيال موقف معين، طريق واحد يرضى عنه «العقل»، وأما الأخرى فممكنة الحدوث ولكن على أساس النزوة والهوى. إنه إذا كان طريق العقل في إبلال المريض من مرضه هو أن يحقن بالعقار الفلاني - مثلا - فكيف يكون طريقا للعقل أيضا أن يتمتم له صاحب الكرامة بكلمات فإذا الكلمات لها فعل العقار؟ إن طريق العقل واحد، وأما اللاعقل فله ألف ألف طريق؛ فقد كان من حق صاحب «الرسالة» أن يقول: «إن ظهور الكرامات على الأولياء جائز بغير دليل.» وأما أن يقول إنه جائز ب «دليل» أن «العقل» لا يناقضه فقد وضع فعل الكرامة - في هذه الحالة - على مستوى واحد مع سائر أفعال الظواهر الطبيعية التي ضبطها العلماء ضبطا رياضيا؛ أعني أنه بذلك قد أزال عن الكرامة خصوصيتها التي هي أن تجيء مضادة لما يجري على سنن العقل مما يستطيعه كل رجال العلوم.

وانظر إلى ما يقوله صاحب الرسالة القشيرية بعد أن أورد لنا عبارته السالفة الذكر: «هذه الكرامات قد تكون إجابة دعوة، وقد تكون إظهار طعام في أوان فاقة من غير سبب ظاهر (الحظ أيها القارئ قوله: «من غير سبب ظاهر.» لتزداد عجبا بعد ذلك أن يكون مما يتفق مع العقل أشياء تحدث من غير سبب ظاهر، وسنعود فيما بعد إلى التعليق)، أو حصول ماء في زمان عطش، أو تسهيل قطع مسافة في مدة قريبة، أو تخليص من عدو، أو سماع خطاب من هاتف، أو غير ذلك من فنون الأفعال الناقضة للعادة» (والحظ أيها القارئ مرة أخرى قوله: «الأفعال الناقضة للعادة»).

بناء على هذا القول، يمكن لصاحب الكرامة أن يظهر للجائعين خبزا «من غير سبب ظاهر»؛ أي إنه يستطيع إظهار الخبز دون أن يكون هنالك الدقيق، ولا القمح الذي يسبق الدقيق، ولا شجرة القمح التي تسبق حبات الغلال، ولا التربة التي تنمو عليها شجرة القمح؛ لأنه لو كانت هنالك هذه السوابق التي تسبق الخبز، لكان لظهور الخبز سبب ظاهر، أما وصاحب الكرامة يظهره «من غير سبب ظاهر» فلا بد أن يكون قد أظهره من العدم، من «لا شيء» من عالم غير هذا العالم. وسؤالنا الآن ليس هو: كيف يتم له ذلك، بل نقتصر على السؤال: وهل تكون هذه هي الحالة، ومع ذلك تكون مما لا يتناقض مع «العقل»؟ إن لمن شاء أن «يؤمن» بما شاء، على أن يكون على وعي كامل بأن إيمانه في مثل هذه الحالة هو من «اللاعقل»؛ حتى لا يخلط في حياته بين معقول ولا معقول، وحتى يمكن للحوار بيننا أن يقوم على أساس مقبول إذا ما قلنا: إن جانب اللامعقول من تراث أسلافنا لا يجوز أن نسمح له بالتسرب في حياتنا العقلية الحاضرة.

إن أصحاب اللاعقل في تراثنا، وأتباعهم ثم أتباع أتباعهم الذين ما يزالون يملئون رحاب الأرض، إنما ينظرون إلى الطبيعة وتصاريفها نظرة الساحر لا نظرة العالم، فما السحر؟ هو محاولة استحداث النتائج عن غير أسبابها؛ فإذا كان نزول المطر نتيجة لعوامل مناخية معينة، يحاولون هم أن يستنزلوه بقراءة التعازيم من كلم يظنون به القدرة على فعل ما يريدون، وإذا كانت مقاتلة العدو في ساحة الحرب بحاجة إلى دبابات وطائرات ومعها مهارة وتدريب عند المقاتلين حتى يمكن التغلب على ذلك العدو، فهم يأملون أن ينزلوا بعدوهم الهزيمة بكلمات الدعاء يوجهونها إلى السماء، وهكذا قل في شتى جوانب الحياة.

للكلمات عندهم، بل لأحرف هذه الكلمات، قوى سحرية تفعل الأعاجيب؛ فهذا هو الشيخ المتصوف الذي أتينا بفقرات من كتابه تصور لنا عقيدة الصوفي في قدراته الخوارق؛ أعني الشيخ نجم الدين الكبرى، هذا هو ينظر في أحرف المد الثلاثة: الألف والياء والواو، فلا يجدها مجرد أحرف للفتح والكسر والرفع، بل يجعل من الألف رمزا مشيرا إلى السماء، ومن الياء رمزا مشيرا إلى الأرض؛ وإذن فالألف تستدعي بقوتها قوى «الحق» العلوي، وأما الياء فنصيبها موجه نحو ما هو كائن على الأرض بما في ذلك قلب الإنسان بكل ما يختلج به من مشاعر، وأما الواو فشأنها آخر؛ لأنها وسط بين النصب والكسر؛ ولذلك فهي الحرف الذي يمثل «الروح» إذ الروح هي همزة الوصل بين «الحق» سبحانه، وبين الخلق من كائنات الأرض، فهي تسكن الأبدان الأرضية من جهة، لكنها تصعد إلى السموات العلا من جهة أخرى؛ ولهذا كانت الواو عند هذا الشيخ هي بمثابة الأمر الذي انتقل من قول الله تعالى: «كن» إلى المخلوقات التي تكونت بفعل ذلك الأمر. ويستطرد الشيخ في قوله، فيتناول قول الله عز وجل:

قل الروح من أمر ربي

بالتفسير، وهو يرى في ذلك أن هذه الآية الكريمة هي تفسير لمعنى الروح، وليس هو بالسكوت عن ذلك المعنى كما يشيع بين الناس؛ فالروح - التي يمثلها حرف الواو لوقوعه وسطا بين الألف والياء - هي «الأمر» الإلهي الصادر بقوله «كن» لما يراد خلقه «فيكون». وما دامت هذه الأحرف الثلاثة عنده لها هذه القوة، فلا بد أن يكون لها كذلك سلطان أي سلطان على خلق الأحداث أو تغيير مجراها (انظر «فوائح الجمال وفواتح الجلال» للشيخ نجم الدين الكبرى، ص53).

وهذا صوفي آخر، هو جعفر الخلدي، يتناول كلمة «الصمد» حرفا حرفا ليستشف قواها الكامنة في حروفها، فيقول إنها من حروف خمسة: ا ل ص م د؛ فأما «الألف» فدليل على أحديته، و«اللام» دليل على إلهيته، وهما مدغمان لا يظهران على اللسان ويظهران في الكتابة، فانطق بلسانك عبارة «الله الصمد» تجد أول حرف ورد على لسانك بعد اسم الجلالة هو حرف «الصاد»، وأما الألف واللام فيختفيان في النطق، لماذا؟ لأن أحديته وإلهيته خفية مستورة الحقيقة؛ وذلك لأنه لا يدرك بالحواس ولا يقاس بالناس؛ فخفاؤه في اللفظ دليل على أن العقول لا تدركه ولا تحيط به علما، وأما إظهاره في الكتابة فدليل على أنه يظهر على قلوب العارفين، ويبدو لأعين المحبين في دار السلام. ثم ينتقل المتحدث الصوفي إلى الأحرف الثلاثة الباقية من كلمة «الصمد» - أي بعد تأويله لما يكمن في الألف واللام من رمز له قوته - فيقول إن حرف «الصاد» تشير إلى أنه - سبحانه - صادق، وإن «الميم» تدل على أنه مالك الملك، وأن كل ملك غير ملكه زائل، وأن «الدال» معناها دوامه - تعالى - في أبديته وأزليته (راجع كتاب «علم القلوب» تأليف: أبو طالب المكي، ص121).

ونضرب مثلا ثالثا وأخيرا لوقفات المتصوفة من الحروف، محيي الدين بن عربي في رسالة له عنوانها «كتاب الميم والواو والنون»، فاسمع ما يقوله هذا الشيخ الجليل في رسالته تلك: يبدأ بحمد الله الذي اختص أهل المعروف (ويعني المتصوفة) بخصائص الأسماء وخواص الحروف؛ فقد أراد الله تعالى للحروف أن تكون أمة من الأمم! أرجو القارئ أن يتأمل هذه المعاني العجيبة؛ فللأسماء خواص غير كونها أسماء تسمي أشياء بعينها، وللحروف كذلك خواص تجعل لكل حرف فاعلية في تسيير الأحداث إذا ما عرف المحركون له كيف يستثيرون أسراره الكوامن فيه؛ فليست الأحرف رموزا تشير إلى مجموعة أصوات جاءت اتفاقا بين المتكلمين بلغة واحدة، كلا ، بل هي أقرب شيء إلى مجمع من أحياء كأنها أمة من الأمم.

وينتقل ابن عربي بعد فاتحة الحمد هذه، إلى القول بأن «أسنى الحروف وجودا، وأعظمها شهودا: «الميم» و«الواو» و«النون» المعطوفة أعجازها على صدروها.» يريد أن يقول إن هذه الحروف الثلاثة - دون سواها - هي التي إذا ما نطقت (أو كتبت) جاء كل منها من أحرف ثلاثة؛ أولها مكرر في آخرها، ويتوسط بينهما حرف علة هو الياء في «ميم» والألف في «واو» والواو في «نون»، ثم يزعم لنا ابن عربي أن حروف العلل هذه «مؤيدة بسلطان «كن» ليكون ما لا بد أن يكون.» وما مغزى أن تكون الأوائل والأواخر موحدة في «ميم» و«واو» و«نون»؟ مغزاه أنها إشارات لما ليس له أول ولا آخر! «اعلموا - وفقكم الله - أن الحروف سر من أسرار الله تعالى، والعلم بها من أشرف العلوم.» «ولتعلموا أن العلم بالحروف مقدم على العلم بالأسماء تقدم المفرد على المركب، ولا يعرف ما ينتجه المركب إلا بعد معرفة نتيجة المفردات التي تركبت عنه.» «فأما (الواو) فهو حرف شريف له وجوه كثيرة ومآخذ عزيزة، وهو أول عدد تام، فإن له من العدد ستة؛ فأجزاؤه مثله وهي: النصف وهو ثلاثة، والثلث وهو اثنان، والسدس وهو واحد؛ فإذا جمعت السدس إلى الثلث إلى النصف كان مثل الكل؛ فيعطي «الواو» - عند أصحاب الحروف - ما تعطيه الستة من العدد عند العدديين، كالفيثاغوريين ومن جرى على مذهبهم. فمن وقف على أسرار «الواو» تنزل به الروحانيات العلا تنزلا شريفا» (راجع «رسائل ابن عربي» وفيه ست عشرة رسالة).

ولنقف هنا وقفة قصيرة شارحة. يقول ابن عربي في الفقرة الأخيرة السابقة إن حرف «الواو» هو أول عدد تام لأن له من العدد ستة، وهو بذلك يشير إلى ضرب من الترقيم للحروف كان شائعا لإظهار قوة تلك الحروف؛ فالأبجدية مرتبة هكذا: أ ب ج د ه و ... كانت ترقم الأحرف التسعة الأولى منها بالأرقام من واحد إلى تسعة بالترتيب؛ فالألف يقابلها العدد واحد، والباء يقابلها العدد اثنان ... وهكذا حتى تصل إلى حرف الواو، فتجد أن ما يقابله هو العدد ستة، وما قيمة ذلك؟ قيمته هي أن العدد ستة هو أول عدد «تام»، ومعنى التمام هنا هو أننا لو جزأناه إلى أجزائه: النصف والثلث والسدس، وجدنا أن مجموع هذه الأجزاء تماثله. إن كاتب هذه السطور ما يزال يذكر كيف كان وهو في الريف المصري يقرأ على أغلفة الخطابات دائما كلمة «بدوح» بعد كل عنوان، ويتساءل ما معناها وما سرها ولماذا تضاف في آخر العنوان على الغلاف؟ فكان يقال له إنها كلمة تضاف لتضمن الخير والسعادة لمن أرسل إليه الخطاب؛ فلما اتسعت قراءته فيما بعد، عرف أن هذه الأحرف الأربعة: ب د و ح، لها في حساب «الجمل» - هكذا يسمون المقابلة بين الحروف والأعداد - الأعداد التالية: 2 - 4 - 6 - 8، وهي كلها أعداد زوجية تتوالى في ترتيب الأبجدية، وأن هذا التوالي للأعداد الزوجية يتضمن معاني الخير. وقد كان مألوفا لنا كذلك - أيام الصبا - أن نجد الشعراء المادحين لذوي الجاه يحرصون على أن يجيء البيت الأخير من القصيدة بحيث تدل أرقام حروفه على اسم الممدوح. وإنما ذكرت هذه الذكريات لأدل بها على مدى تغلغل هذا الجانب اللاعقلي الذي تركه لنا بعض السلف إلى أعماق النفوس على امتداد الزمن.

ونعود إلى الفقرة الأخيرة من حديث ابن عربي عن حرف «الواو»، فنراه يقول إن هذا الحرف «يعطي - عند أصحاب الحروف - ما تعطيه الستة من العدد عند العدديين كالفيثاغوريين ومن جرى على مذهبهم.» فلعل القارئ يلم بطرف من الفلسفة الفيثاغورية القديمة - التي كان لها أبعد الأثر فيمن جاء بعد اليونان كالعرب وغيرهم - وهي الفلسفة التي أرادت تفسير الطبيعة بالرياضة، ولولا غلطة أصابتهم في الأساس، لجاءت فلسفتهم تلك أول صيحة نحو الفكر العلمي بمعناه في أيامنا، وهو فكر يرد قوانين الطبيعة إلى صيغ رياضية؛ أي إنه فكر يرد الصفات الكيفية التي تدركها حواسنا من الأشياء إلى مقادير كمية، وأما الغلطة التي أصابتهم في الأساس فضيعت عليهم سداد الفكرة، فهي أنهم وحدوا في تصورهم بين «النقطة» في الهندسة و «الواحد» في الحساب؛ فإذا كانت النقطة يعادلها الواحد، وجدنا أن كل شكل من أشكال الكائنات المكانية يمكن النظر إلى طريقة تركيبه من نقاط المكان؛ لنعلم بعدئذ العدد الذي يقابل ذلك التركيب. وليس المجال هنا مجال تفصيل في هذا الموضوع، وإذا أراد القارئ فليرجع إلى أي كتاب في تاريخ الفلسفة اليونانية، ويهمنا هنا الوقوف عند قول ابن عربي بأن حرف «الواو» عند أصحاب الحروف يعادل العدد ستة عند أصحاب العدد. وكأنما هو يريد بذلك أن يقول إننا نستطيع أن نفسر كائنات الطبيعة بأحد وجهين، فإما فسرناها بما يقابلها من العدد كما فعل الفيثاغوريون قديما، وإما لجأنا في تفسيرها إلى ما يقابلها من الحروف كما يحاول هو وسائر المتصوفة أن يفعلوا، لكن الفرق بعيد بين الحالتين، والمغالطة هنا غليظة؛ فمحاولة الفيثاغوريين محاولة «عقلية»؛ لأنها تلتمس في الأشياء جانبها «الرياضي» الذي عمل على تكوينها كما هي مكونة، وأما محاولته هو وأترابه أن يفسر الطبيعة بالحروف وأسرارها، فهي إنما تقع في صميم الصميم من اللامعقول، الذي يلتمس النتائج في غير أسبابها.

65

لقد انصرف أسلافنا بكثير من جهودهم الفكرية نحو «الأولياء» و«كراماتهم»، حتى لقد أخذوا يفرقون بقدرة تحليلية ميزتهم في إدراك الفوارق الطفيفة التي تختلف بها الطوائف والمذاهب بعضها عن بعض، أقول إنهم أخذوا بهذه القدرة التحليلية يفرقون بين «النبوة» و«الولاية»، ثم بالتالي بين «معجزات» أولئك و«كرامات» هؤلاء، بل ذهبت بهم الموازاة بين الصفتين إلى حد أن جعلوا للأولياء «خاتما» (أو «ختما») كما أن للأنبياء خاتما هو محمد عليه السلام. وواضح لي أن هذا الجهد الفكري كله، من أوله إلى آخره، مهما تكن أهميته وخطورته بالنسبة لأسلافنا، فلم تعد بنا حاجة إليه اليوم إلا في حدود المشوقين إلى دراسة التواريخ للدراسة ذاتها. وسنختار كتابا نقف عنده ليكون سبيلنا إلى توضيح الفكرة؛ لنفهم بعد ذلك وجهة نظر مؤيديها ووجهة نظر معارضيها من بين السلف أنفسهم، ودع عنك المعاصرين.

سنختار «كتاب ختم الأولياء» للحكيم الترمذي (تحقيق عثمان إسماعيل يحيى، عضو المركز القومي للأبحاث في باريس). ولقد سمي الترمذي باسمه هذا نسبة إلى مدينة «ترمذ» مسقط رأسه، وفيها قضى الشطر الأكبر من حياته، ثم على أرضها فاض روحه، وكانت حياته في غضون القرن التاسع الميلادي (الثالث الهجري).

ولقد صوره لنا فريد الدين العطار في كتابه «تذكرة الأولياء» تصويرا حيا، فكان مما قاله عنه: «كان الشيخ الترمذي قد عقد النية في أول أمره على الرحلة لطلب العلم في رفقة اثنين من إخوانه، وفي أثناء ذلك مرضت أمه ، فقالت له: يا بني! إني امرأة ضعيفة، لا عائل لي، ولا معين يعينني، وإنك المتولي لأمري، فإلى من تكلني وتذهب؟ فنالت هذه الكلمات من نفسه، وعدل عن الرحلة، ومضى زميلاه في سبيلهما.

ثم مضى على ذلك بعض الوقت، فبينما كان في إحدى المقابر، يبكي بكاء شديدا ويقول: ها أنا ذا قد بقيت جاهلا مهملا، وسيرجع أصحابي وقد حصلوا على العلم. إذا به يرى أمامه - فجأة - شيخا مشرق الوجه، فسأله الشيخ عن سر بكائه، فأفضى إليه الفتى بحاله، فقال له الشيخ: ألا أعلمك في كل يوم شيئا من العلم؟ فلا يمر عليك كثير وقت حتى تسبق إخوانك؟ فأجابه الفتى إلى ذلك، واستمر الشيخ على تعليمه كل يوم، ومضت على ذلك أعوام، ثم عرف الترمذي بعد ذلك أن الشيخ هو «الخضر» عليه السلام! وأنه إنما حصل على هذا ببركة دعاء أمه» (مأخوذ من مقدمة عثمان إسماعيل يحيى لكتاب «ختم الأولياء»، ص10-11).

وكذلك ترك الترمذي بخط يده صحائف هامة كتبها بنفسه عن تربيته الروحية والعلمية، وإنها لوثيقة هامة من أي زاوية نظرت إليها؛ فهي أوثق ما نقرؤه عن حياته، ثم لعلها أن تكون أقدم نص نعرفه عن حياة رجل من رجال الفكر الإسلامي مكتوب بخط يده. نعم إنها ترجمة ذاتية شديدة الإيجاز؛ إذ هي لا تجاوز بضع صفحات، ولكن الذي استوقفني منها بصفة خاصة هي الأحلام التي أخذ يرويها عن زوجته، والتي كانت تراها في نومها عن حياة زوجها، ففيها لوحات تصويرية بديعة من الناحية الفنية، وأما قدرة الزوجة على كشف حجاب الغيب في رؤاها، فذلك أمر كان مقبولا في عصره، ولكن علم النفس اليوم قد قال في ذلك كلمته.

ولكن فيم كتب الكاتب الصوفي كتابه «ختم الأولياء»؟ لقد كتبه ليوضح به فرقا هاما بين صنفين من «الذوق الصوفي»، ولقد وضع لنا معيارين مختلفين نقيس بكل معيار منهما صنفا من ذينك الصنفين دون الآخر؛ أحدهما هو معيار «الصدق»، والآخر هو معيار «المنة». أما أولهما فيستخدم حين يكون النشاط الروحي قائما على أساس من عمل الإنسان ومكابدته وجهاده، وأما الآخر فيكون حين تجيء الفاعلية الروحية التي من شأنها أن يكون للمتصوف ما له من كرامات، «منة» أو جودا من الله تعالى، بغض النظر عما قد يبدو لنا من عمله الظاهر وسلوكه الملحوظ؛ ففي هذه الحالة الثانية تأتي الهداية الربانية إلى من خص بالمنة الإلهية، عن طريق الصلة المباشرة التي لا تحتاج إلى مراحل وسطى على الولي أن يجتازها.

عن المعيار الأول - الذي هو معيار «الصدق» - يقول الترمذي إن طريق السير أمام السالك ذات شعبتين؛ شعبة منهما ظاهرة والأخرى باطنة. وهو يريد بذلك أن يقول إن هنالك قيدين، أو التزامين، لا بد أن يراعيهما من أراد بلوغ منزلة الولاية عن طريق عمله؛ فمن حيث الظاهر ينبغي له أن يقيد جوارحه وكيانه البشري كله حتى ينحصر داخل الحدود التي رسمتها الشريعة، فلا تند من نشاطه البدني حركة ولا كلمة تنحرف به عن الجادة المرسومة؛ وبهذا تنسجم الإرادة مع الفعل في اتساق يسلكهما معا في إطار ما قد أحله الشرع، لكن ذلك القيد المفروض على السلوك الظاهر لا يكفي وحده، بل لا بد أن يضاف إليه رقابة باطنية شديدة تراقب النفس من داخل، وتراجع نزواتها لتصحح ما انحرف منها، بعبارة أخرى واضحة نقول إن الترمذي بهذين القيدين معا، لا يكفيه أن يسلك الإنسان السلوك الصحيح الذي لا تشوبه شائبة من خطأ، على حين تتعلق شهواته من الداخل بما لا يرضي الله، لا يكفيه - مثلا - ألا يقترف الإنسان إثما من سرقة أو اعتداء على الحرمات أو غير ذلك ، ثم يرسل الحبل على غاربه لخياله من الداخل يشبع له في أحلام يقظته ما قد حرمه على نفسه في يقظته الواعية المتجلية في سلوكه الفعلي، لا، لا يكفيه ذلك، بل يشترط لمن أراد بلوغ منزلة الولاية التزام الجادة المشروعة ظاهرا وباطنا، سلوكا وأحلاما؛ وبهذا يروض أعضاءه على أحكام «العبادة» كما يروض نفسه على شئون «العبودية».

ولعمري إنه لمثل أعلى من الأعلى، ولا عجب أن رأينا الترمذي نفسه يرتاب أشد الريبة في قدرة الإنسان على تحقيق هذا الذي يطلب منه، بل إنها لريبة تساور المتصوفة جميعا في معظم الأحيان؛ إذ يكادون يوقنون - كما أيقن الترمذي - بأن الإنسان الطامح في سلوك هذا الطريق لا بد مغلوب على أمره بضغط طبيعته البشرية، فيسلك من مراحل الطريق ما يسلك، ويعلو في مدارجه ما يعلو، لكنه قمين في اللحظة بعد اللحظة أن تستبد به رغبات جسده فيوصد أمامه السبيل؛ وإذن فأين يكون تحقيق الأمل؟ وكيف؟ الجواب: إنه يتحقق برحمة من الله ومنة.

فبينما تصطرع في أنفس «الصادقين» نزعات ونزوات ورغبات وشهوات، يغالبها فيغلبها وتغلبه، حتى ليندر جدا أن يخرج «الصادق» من معركة النقائض تلك بنصر حاسم لغاياته العليا على مطالبه الدنيا، ترى صاحب «النعمة الإلهية» - بفضل عون الله وجوده ورعايته وهدايته - محفوظا من الزلل دائما وبغير جهد مبذول؛ فإذا كان «الصادق» مثقلا بقيود الضرورات المادية، فإن «صاحب المنة» متحرر من تلك القيود. إن «الصادق» فرد تحيط به لوازم الوجود المادي المحدودة بحدود المكان الذي هو فيه والزمان الذي ينخرط في مجرى حوادثه، وأما «صاحب المنة» فهو ذات لا تتقيد بحيز مكانها ولا بحوادث زمانها؛ ومن ثم ففي مقدورها الفكاك من قوانين الطبيعة المادية كلها والسبح في سماء المطلق بلا حدود. إن الرجل من الصنف الأول «صادق»، وأما الرجل من الصنف الثاني فهو «صديق».

ترى هل هناك فارق بين الأولين والآخرين في أسلوب الحياة؟ أم إن أولئك يشبهون هؤلاء فيما ينظر الناظرون؟ نعم هنالك فارق فيما يرى حكيم ترمذ؛ فالأولون - في الحياة الروحية - شأنهم شأن العاملين الأجراء في الحياة المادية، ألست ترى بين الناس في حياتنا هذه الدنيا من يعملون ونصب أعينهم الجزاء المباشر يتقاضونه على عملهم؟ هكذا أيضا «أهل الصدق» من الصوفية، فهم يجاهدون أنفسهم ابتغاء منفعة، إن لم تكن عاجلة فهي آجلة؛ أي إنهم لم يخلصوا العمل لله وحده، أو لوجه الله الكريم، ولا عجب أن تراهم منكبين على الفعل ينشطون به، فيصوب أبصارهم نحو الأرض، لا يشخصون بها إلى سماء التأمل المحض أو المشاهدة الخالصة لوجه الحق، ولا كذلك «الصديقون» المنعم عليهم بالمنة الإلهية، فهم - كما يصفهم الترمذي - الأحرار الأوفياء النبلاء، لا بغية لهم إلا أن يتحرروا تحررا تاما من ربقة الفردية المحدودة الضيقة؛ ليوجهوا أرواحهم نحو الحق وحده، ثم لا يريدون عن ذلك جزاء؛ لأنه هو في ذاته الجزاء الأوفى.

ومؤدى هذا كله - عند الحكيم الترمذي - أن «الولاية» إلهية لا إنسانية، يوهبها صاحبها من لدن عزيز حكيم، ولا يكسبها بفعل يؤديه؛ فالخطأ أفحش الخطأ أن تقيس ولاية الأولياء بمقاييس المنطق البشري؛ فهذا المنطق خاص بحياة الإنسان هنا على هذه الأرض، لكنه لا يجدي فتيلا في مجال هو من نعمة الله ورحمته على من شاء أن يقربه من عباده.

ولا يفوت الترمذي أن يقارن بين «النبوة» و«الولاية»، فيقول ما معناه إن رسالة النبوة إلهية لغرض يتصل بحياة الناس؛ ولذلك كان النبي أو الرسول إنما يتلقى الرسالة من السماء ليبلغها إلى البشر، ومن هنا لازمتها المعجزة لتكون برهانا أمام الناس على صدقها. أما الولاية فهي أيضا إلهية، لكنها خاصة بصاحبها، وتحمل صدقها في ذاتها. فإذا جاءت النبوة «مع» البرهان، فالولاية «هي» البرهان.

على أن الترمذي قد يعد «الصادقين» و«الصديقين» معا أولياء، لكنه يظل يفرق بين المجموعتين؛ إذ يفرق بين من يسميهم أولياء حق الله (أي شرعه ووصاياه وأوامره) وأولياء الله. وسنضع بين يدي القارئ النص الآتي من كلام الترمذي؛ ليسمعه وهو يرسم تلك الحدود الفارقة بين الصنفين: «أما ولي حق الله فرجل أفاق من سكرته فتاب إلى الله تعالى، وعزم على الوفاء لله تعالى بتلك التوبة، فنظر إلى ما يراد له في القيام بهذا الوفاء، فإذا هي حراسة هذه الجوارح السبع: لسانه، وسمعه، وبصره، ويده، ورجله، وبطنه، وفرجه؛ فصرفها من باله، فهو رجل يؤدي الفرائض حافظ للحدود، لا يشتغل بشيء غير ذلك، يحرس هذه الجوارح حتى لا ينقطع الوفاء لله تعالى بما عزم عليه، فسكنت نفسه وهدأت جوارحه، فنظر إلى حاله فإذا هو على خطر عظيم؛ لأنه وجد نفسه بمنزلة شجرة قطعت أغصانها والشجرة باقية بحالها، فما يؤمنه أن يغفل عنها قليلا فإذا الشجرة قد بدت لها أغصان كما كان بديا، فكلما قطعها خرج مكانها مثلها؟ فقصد الشجرة ليقطعها من أصلها ليأمن من خروج أغصانها، فقطعها، فظن أنه قد كفي مؤنتها، فإذا أصلها قد بدت منه أغصان! فعرف أنه لا يخلص من شرها دون أن يقلعها من أصلها، فإذا قلعها من أصلها استراح.

فلما نظر هذا العبد إلى جوارحه قد هدأت التفت إلى باطنه، فإذا نفسه محشوة بشهوات هذه الجوارح، فقال: إنما هي شهوة واحدة، أبيح لي منها بعضها وحظر علي بعضها، فأنا على خطر عظيم! أحتاج أن أحرس بصري حتى لا ينظر إلا المباح، فإذا بلغ المحظور عليه أغمض وأعرض، وكذلك اللسان وجميع الجوارح، فإذا غفلت ساعة عن الحراسة رمتني في أودية المهالك. فلما وقع في هذا الخوف، ضيقت عليه المخافة جميع الأمور، وحجزته عن الخلق، وأعجزته عن القيام بكثير من أمور الله عز وجل، وصار ممن يهرب من كل أمر، عجزا منه، وخوفا على جوارحه من نفسه الشهوانية.

فقال في نفسه: قد اشتغل قلبي بحراسة نفسي في جميع عمري، فمتى أقدر أن أفكر في منن الله وصنائعه؟ ومتى يطهر قلبي من هذه الأدناس؟ فإن أهل اليقين يصفون من قلوبهم أمورا أنا خلو منها. فقصد ليطهر الباطن بعدما استقام له تطهير الظاهر، فعزم على رفض كل شهوة في نفسه لهذه الجوارح السبع، مما أطلق أو حظر عليه، وقال: إنما هي شهوة واحدة، تطلق لي في مكان وتحظر علي في مكان، فلا خلاص منها حتى أميتها من نفسي.

فافترقت الإرادة هنا؛ فمنهم من صدق الله في رفضه؛ لينال ما وعد الصادقين من ثواب جهدهم، ومنهم من صدق الله في رفضه ليلقاه بخالص العبودية غدا، فتقر عينه بلقائه، ففتح لهذا الطريق إليه، وترك الآخر على جهده واقتضائه ثواب الصدق يوم لقائه؛ فأما الذي فتح له الطريق إليه، فهذا الذي ذكره في تنزيله:

والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا » (كتاب ختم الأولياء، ص117-120).

66

إن كاتب هذه الصفحات ليجد محالا عليه أن يقاوم شعور الرفض الذي يقابل به مثل هذا الموقف من الولاية والأولياء، لكنه في الوقت نفسه يحس بضرورة أن تكون بعض الصفات التي ميزوا بها الأولياء - بقسميهم عند حكيم ترمذ - نماذج مثلى لمن أراد أن يعلو بنفسه عن مستوى النزوة والهوى حيثما يتطلب الأمر تجردا وتنزها وموضوعية نظر، فلكم يود هذا الكاتب أن ننقل تلك الصفات العليا من «أولياء»، بالمعنى الذي يجعلهم فئة تعطل قوانين الطبيعية بقوة «الكرامات»، إلى «أولياء» بمعنى «العلماء» كما نفهم هذه الكلمة اليوم. فهؤلاء، على خلاف أولئك، يكشفون الحجاب عن تلك القوانين، لا ليعطلوها بقوتهم، بل ليستخدموها في منفعة الإنسان ورفعة شأنه؛ فمن ذا لا يتمنى لجماعة «العلماء» - ولنجعلهم هم «الأولياء» - أن يقيدوا سلوكهم إذ هم في ميادين البحث العلمي تقييدا لا يحيد بهم عن جادة الصواب، فيتعقبون أمور الواقع كما تقع لا كما يشتهون لها أن تقع، أن يراقبوا ضمائرهم العلمية من الباطن مراقبة تضمن لها اليقظة الدائمة في حراسة أصحابها حتى يأمنوا الضلال؟ من ذا لا يتمنى لهم مثل هذه الحياة المتحررة من الضرورات المذلة للأعناق، دون أن يكون بهم حاجة - من أجل تحقيق هذه الغاية الشريفة - إلى اقتلاع الفطرة البشرية من جذورها، كما يريد الحكيم الترمذي وغيره من رجال التصوف؟

وفيما يلي وقفات قصار نقفها مع بعض هؤلاء الرجال، محاولين أن نبدل في أذهاننا معنى «الولاية» كما أرادوه لها، وهو أن يفك الولي عن نفسه قيود الطبيعة وقوانينها ليحركها كيف شاء ويجمدها كما رغب؛ ليصبح المعنى الجديد ل «الولاية» خلافة لله تعالى في الأرض، تتمثل في جماعة الباحثين الدارسين العلماء وهم يكشفون الستر عن حقيقة نواميسها ليملكوا في أيديهم زمامها شيئا فشيئا، فإذا رأينا أحد المتصوفة الأقدمين - كالهجويري كما سوف نرى - يقول عن «الأولياء» إنهم «ببركة حلولهم تمطر السماء، وبنقاء حياتهم ينبت الزرع من الأرض، وبدعائهم ينتصر المسلمون على الكفار.» تبدل المعنى في أذهاننا ليصبح: «إنه بعلم العلماء تمطر السماء حتى لو لم تكن الظروف الطبيعية مهيأة لنزول المطر؛ وذلك بكونهم يركبون تلك الظروف المواتية تركيبا وينشئونها إنشاء، وبعلم العلماء ينبت الزرع من الأرض حتى ولو لم تكن لتنبت شيئا إذا هي تركت لطبيعتها، وذلك بتسميدها وباستخدام الوسائل التي باتت في مقدور العلماء في عصرنا، والتي مكنتهم لا من إنبات الزرع في الأرض الجرداء وحدها، بل مكنتهم من إنبات الزرع في الهواء وعلى سطح الماء.» مثل هذا التبديل لمعنى «الولاية» يتيح لنا أن نحافظ على المثل الخلقية العليا التي قيلت في «أولياء» المعنى القديم لتقال في «أولياء» المعنى الجديد.

والآن فلننظر في بعض ما قاله المتصوفة في الولاية والأولياء. قال أبو عثمان الهجويري (في كتاب «كشف المحجوب» ترجمة نكلسون، ص210-241): «اعلم أن أساس التصوف والمعرفة قائم على الولاية، وقد أكد هذه الحقيقة كل الشيوخ وإن اختلفت عباراتهم في ذلك.» وواضح أن الهجويري يشير ب «المعرفة» التي أساسها «الولاية» بمعناه، لا معرفة الوسائل التي ننزل بها المطر وننبت الزرع ونقاتل الأعداء، بل معرفة الله عز وجل بالصورة التي تصورها المتصوفة. وليس يعنيني هنا في كثير أو في قليل أن أجادل المتصوفة فيما يزعمونه لأنفسهم من «معرفة» هذا هو نوعها، وإنما الذي يعنيني هو أنه - على فرض أنهم صادقون فيما يزعمون لنا - فلا فائدة لنا نحن بني الإنسان من «معرفتهم» تلك. إنها معرفة مفيدة - ربما - لصاحبها المتصوف؛ لأنها تضعه في حالة يرضى بها عن نفسه حينئذ، وأما سائر الناس في كل جوانب حياتهم فلا يتغيرون قيد شعرة بمعرفته تلك.

ونمضي مع الهجويري في حديثه: «فاعلم أن الولي هو لفظ جار على ألسنة الناس، وجاء في القرآن وحديث الرسول؛ فمن هذا نرى أن الله تعالى اختار له أولياء اختصهم بصحبته، واختارهم حكاما لملكه، ومنحهم أنواع الكرامات، وطهرهم من فساد الطمع ومن وساوس النفس والهوى، وجمع أفكارهم فيه ومعرفتهم به، كانوا فيما مضى - وهم الآن كذلك، وإلى ما شاء الله إلى يوم القيامة - لأن الله فضلهم على غيرهم.» وإني لأرجو القارئ أن يقرأ العبارة السابقة وفي ذهنه أن الحديث إنما ينصب اليوم على علماء الرياضة والطبيعة بكل ما قد تفجر في حياتنا من أسباب العيش على أيديهم، فسوف يرى عندئذ أن الذي تغير بيننا وبين من يصفهم الهجويري إنما هو أفراد الفئة التي نخصها بالحديث، وأما إطار القيم التي نضعهم فيه فباق اليوم كما كان في الأمس، وبمثل هذا نتصور ارتباط الجديد بالقديم. إننا إذا قرأنا العبارة السابقة على ضوء المعنى الجديد، قلنا إن الله تعالى اختار له علماء ألهمهم سداد البحث والنظر، حتى ليجوز القول بأنهم - بحكم ما قد اخترعوا وكشفوا - هم الحكام الحقيقيون وإن لم يجلسوا على عروش الحاكمين؛ فقد منحهم الله القدرات التي مكنتهم مما بلغوه، وطهرهم من فساد الطمع ومن وساوس النفس والهوى، وجمع أفكارهم فيما تتجلى فيه قدرة الخالق عز وجل من نواميس الطبيعة بما فيها من مختلف الكائنات.

ونستأنف النظر في كلام الهجويري؛ فهو بعد أن طرح وجهة نظره التي يقول إن المعتزلة والحشوية فريقان يخالفانه فيها. فأما المعتزلة فلكونهم يقصرون المفاضلة بين مسلم وغير مسلم، أما ضمن جماعة المسلمين فلا مفاضلة، ومعنى هذا أن الأولياء لا يفضلون سواهم من المسلمين؛ وأما «الحشوية العوام» فيقرون بأفضلية الأولياء على سواهم من المسلمين، لكنهم يدعون أن ذلك كان فيما مضى حين كان أولياء؛ إذ لم يعد لهم وجود. أقول إن الهجويري بعد أن طرح وجهة نظره إزاء وجهات نظر المعارضين، طفق يؤكد امتياز الأولياء؛ فلقد جعلهم الله تعالى «حكام هذا العالم، وجعلهم لا يتبعون حواسهم، فببركة حلولهم تمطر السماء، وبنقاء حياتهم ينبت الزرع من الأرض، وبدعائهم ينتصر المسلمون على الكفار، وهم ليسوا معصومين من الذنب - لأن ذلك للأنبياء خاصة - ولكنهم محفوظون من الفتنة بالولاية.» وقد سبق لنا التعليق على مضمون هذه العبارة.

ولما كانت الموازنة بين «الأنبياء» و«الأولياء» موضوعا يشغل اهتمامهم كان لا بد للهجويري أن يثبت رأيه فيها، فقال: «اعلم أن شيوخ الصوفية بوجه عام يقولون: إن الأولياء في كل وقت وحال أقل رتبة من الأنبياء، وإن الأنبياء أفضل من الأولياء؛ لأن نهاية الولاية بداية النبوة، وكل نبي ولي، وبعض الأولياء ليسوا بأنبياء، والأنبياء خالون دائما من الصفات الإنسانية، والأولياء كذلك في بعض الأوقات.» •••

وهاك صوفيا آخر من الأعلام، هو شهاب الدين يحيى سهروردي، نقدم لك من كلامه قبسا، حين يبين لنا كيف يتلقى الأولياء الكاملون الغيب، وسوف ترى فيه حديثا هو أقرب - من حيث المضمون - إلى أحاديث الشعراء حين يغرقون في بحور الوجد، فإذا استطعنا أن نفهمه على نفس الأسس التي نفهم بها الشعر، وأعني أن نتابع الخط الوجداني التصويري ثم نبحث له في عالم الواقع عن خط يوازيه، فربما أعطيناه عندئذ قيمته الحقيقية لنا، وأما إذا خلب ألبابنا بحيث نأخذه مأخذ الجد عندما يحدثنا عن تلقي الغيب كيف يكون عند من كتب الله لهم أن يتلقوه من أوليائه، فلن يكون ذلك منا إلا مشاركة له في دنيا «اللامعقول» التي اختارها لحياته، يقول: «وما يتلقى الأنبياء والأولياء وغيرهم من أمور الغيب، فإنها قد ترد عليهم في أسطر مكتوبة، وقد ترد بسماع صوت، وقد يشاهدون صور الكاين، وقد يرون صورا حسنة إنسانية تخاطبهم - في غاية الحسن - فتناجيهم بالغيب، وقد يرى الصور التي تخاطب، كالتماثيل الصناعية، في غاية اللطف.

وجميع ما يرى في المنام من الجبال والبحور والأرضين والأصوات العظيمة والأشخاص، كلها مثل قايمة، وكذا الروايح وغيرها؛ وما يرى من الجبل والبحر صريحا في المنام - الصادق أو الكاذب - كيف يسعهما الدماغ أو بعض تجاويفه؟ وكما أن النايم ونحوه إذا انتبه فارق العالم المثالي دون حركة ولم يجده على جهة منه، فكذا من مات عن هذا العالم يشاهد عالم النور دون حركة وهو هناك» (من كتاب «حكمة الإشراق» للسهروردي، ص240-241).

هكذا يريدنا السهروردي أن نميت أنفسنا عن هذا العالم، فالعين لا ترى والأذن لا تسمع؛ ليتاح لنا عندئذ أن نشهد عالم النور! وها هنا يسرح في ضروب النور وضروب الصوت الذي نشاهدها هناك أو نسمعها، فاسمع: «اعلم أن النفوس إذا دامت عليها الإشراقات العلوية، يطيعها مادة العالم (!) ويسمع دعاؤها في العالم الأعلى.

وإخوان التجريد يشرف عليهم أنوار ، ولها أصناف:

نور بارق يرد على أهل البدايات، يلمع وينطوي كلمعة بارق لذيذ، ويرد على غيرهم أيضا نور بارق أعظم منه، وأشبه منه بالبرق، وربما يسمع صوت كصوت رعد أو دوي في الدماغ.

ونور وارد لذيذ، يشبه وروده ورود ماء حار على الرأس.

ونور ثابت زمانا طويلا، شديد القهر، يصحبه خدر في الدماغ.

ونور لذيذ جدا، لا يشبه البرق، بل يصحبه بهجة لطيفة حلوة يتحرك بقوة المحبة.

ونور محرق يتحرك من تحرك القوة، وقد يحصل من سماع طبول وأبواق أمور هايلة للمبتدئ.

ونور لامع في خطفة عظيمة يظهر مشاهدة وإبصارا، أظهر من الشمس في لذة مغرقة.

ونور براق لذيذ جدا، يتخيل كأنه متعلق بشعر الرأس زمانا طويلا.

ونور سانح مع قبضة مثالية تتراءى كأنها قبضت شعر رأسه، وتجره شديدا وتؤلمه ألما شديدا.

ونور مع قبضة تتراءى كأنها متمكنة من الدماغ.

ونور يشرق من النفس على جميع الروح النفساني، فيظهر كأنه تدرع بالبدن شيء، ويكاد يقبل روح جميع البدن صورة نورية، وهو لذيذ جدا.

ونور مبدؤه في صولة، وعند مبدئه يتخيل الإنسان كأن شيئا ينهدم.

ونور سانح يسلب النفس.

ونور يتخيل معه ثقل لا يكاد يطاق.

ونور معه قوة تحرك البدن حتى يكاد يقطع مفاصله.

وهذه كلها إشراقات على النور المدبر، فتنعكس إلى الهيكل وإلى الروح النفساني، وهذه غايات المتوسطين، وقد تحملهم هذه الأنوار فيمشون على الماء والهواء» («حكمة الإشراق» للسهروردي، ص252 وما بعدها).

فماذا تسمي كلاما كهذا إلا أنه أجراس لفظ قد توحي بحالات كتهاويم النائمين الحالمين؟ •••

ولننظر في لمحة مما يقوله ابن عربي في «خاتم الأولياء»، ذاكرين كيف نشأت عند بعضهم الفكرة بأن ثمة تسلسلا من أولياء، ينتهي بولي يكون خاتما لهم، ولا يكون بعده ولي، على غرار ما يقال عن «خاتم الأنبياء» إنه لا نبي بعده، يقول ابن عربي: «فهو (أي «الحق» سبحانه) مرآتك في رؤيتك نفسك، وأنت مرآته في رؤيته أسماءه وظهور أحكامها، وليست سوى عينه.» أي إن الصوفي الذي يرقى بجهاده إلى أن يتحد بالله، إنما يرى نفسه إذ يراه، كما أن الله تعالى - سبحانه - يرى أسماءه التي هي حقيقته، متمثلة في ذلك الصوفي، فكل من الذاتين ترى صورتها في الذات الأخرى. ويمضي ابن عربي في الحديث فيقول: «... منا من جهل في علمه فقال: والعجز عن درك الإدراك إدراك، ومنا من علم فلم يقل مثل هذا - وهذا أعلى القول - بل أعطاه العلم السكوت، ما أعطاه العجز، وهذا هو أعلى عالم بالله، وليس هذا العلم إلا لخاتم الرسل وخاتم الأولياء، وما يراه أحد من الأنبياء والرسل إلا من مشكاة الرسول الخاتم، ولا يراه أحد من الأولياء إلا من مشكاة الولي الخاتم، حتى إن الرسل لا يرونه - متى رأوه - إلا من مشكاة خاتم الأولياء، فإن الرسالة والنبوة - أعني نبوة التشريع ورسالته - تتقطعان والولاية لا تنقطع أبدا.» ويستوقفنا في هذه الأسطر بعض المعالم التي نحتاج منها إلى تعليق، ففيها موازنة لطبقة لطيفة بين رجلين؛ أحدهما قد جهل ما أراد العلم به والآخر قد علم، ولكن أولهما على جهله قد يرى في موقفه شيئا من إدراك؛ لأن علمه بأنه قد عجز عن درك ما أراد إدراكه هو في حد ذاته ضرب من الإدراك، وأما ثانيهما فهو وإن يكن قد بلغ مرتبة العلم بما أراد العلم به، فهو يسكت عن كل قول، لكن سكوت الذي علم لا سكوت الذي عجز، وهنا نلاحظ أن مثل هذا العالم الصامت هو - عند ابن عربي - «أعلى عالم بالله». وإن رأيا كهذا ليدل وحده على أن المتصوف فرد قد ينفع نفسه بما يكون قد ارتقى إليه، لكنه لا ينفع الناس ، هو فرد وليس هو بعضو في جماعة. إن مثل هذا العالم الصامت لا يضع حجرا واحدا في بناء الحضارة أو في بناء العلم، حتى إذا أخذنا بتعريف العلم الذي ورد عرضا في الأسطر السابقة، وهو أن العلم علم بالله؛ لأنه سيظل علما منحصرا في شخص من علمه، لا سبيل إلى انتقاله منه إلى سواه. ولئن كان «المعقول» هو دائما وفي كل الحالات «قولا» ينضبط ببعض الضوابط التي تجعله معقولا، فلا بد أن يكون الصمت في حالة العلم - مهما يكن نوع العلم - هو قمة «اللامعقول». إننا نكتب هذه الصفحات بهدف رئيسي، هو أن نرى ماذا يمكن أخذه من تراثنا، وبديهي أننا لا نأخذ شيئا عن رجل «صامت» لم ينطق بكلمة حتى وإن علم. وتجيء بعد ذلك ملاحظة ثالثة على الفقرة التي أوردناها، وهي أن العلم بالله الذي هو موجب للصمت عن الإفصاح به، «ليس إلا لخاتم الرسل وخاتم الأولياء.» وإنه ليتعذر علينا تصور «الرسول» صامتا عن علم؛ إذ فيم تكون «الرسالة» إذن؟ وكذلك الأمر بالنسبة «للولي». ومع ذلك فابن عربي يقول - ما يقوله كثيرون جدا من المتصوفة - بأن سائر الأنبياء والرسل إنما علموا ما علموه عن طريق خاتم الأنبياء، وكذلك الأمر بالنسبة لجميع الأولياء فهم إنما استمدوا مواهبهم عن طريق خاتم الأولياء! أما كيف أخذ السابق في الظهور عن اللاحق، فتفسيره مستند إلى حديث ينسب إلى النبي عليه السلام، وهو: «كنت نبيا وآدم بين الماء والطين.» أي إنه خلق نبيا قبل ظهوره في لحظة معينة من التاريخ، على حين أن غيره من الأنبياء ما كان نبيا إلا حين بعث، وكذلك الأمر بالنسبة للأولياء وخاتمهم؛ فخاتم الأولياء - هكذا يقول ابن عربي في النص الذي ننقل عنه - كان وليا وآدم بين الماء والطين، وغيره من الأولياء ما كان وليا إلا بعد تحصيله شرائط الولاية (راجع «الفص الشيثي» من كتاب «فصوص الحكم» لابن عربي). •••

لكم أشعر في ضميري بأنس المطمئن حين أجد واحدا من أعلام القدماء يتصدى لمثل الحديث الذي أوردناه عن ابن عربي ، أو عن الحكيم الترمذي أو غيرهما بالتفنيد، ولو من وجه واحد دون سائر الوجوه؛ فإن ذلك وحده لكفيل لنا بجواز التفنيد على إطلاقه، في هذا الوجه الواجد أو في غيره من الوجوه؛ فلست أكذب مخادعا للقارئ إذا قلت في صراحة تامة بأن حدود إدراكي لم تتسع قط - ولا أريد لها أن تتسع - لترى في أقوال الصوفية هؤلاء نفعا أقل نفع لنا، اللهم إلا إذا أخذناها مأخذ التعبير الشعري الذي ينفض فيه صاحبه ما تعتمل به نفسه بطريقة الشعراء، وعندئذ لا يدل القول إلا على صاحبه، وأما سائر الناس فلا تقع عليهم تبعة القبول.

لقد أسلفت رأيا عرضته بين يدي القارئ، وهو أن نحاول قراءة ما كتب عن «الأولياء» قراءة عصرية، فنفهم كلمة «الأولياء» على أنها تعني اليوم علماء الرياضة والطبيعة والدراسات الإنسانية كما نفهمها الآن، ومبرر ذلك عندي هو أنه إذا كان أولياء الماضي وسيلة معرفة بالله حتى عرفناه جهد طاقتهم وطاقتنا، فوسائل معرفتنا اليوم هم العلماء، لكنني إذ أقترح هذه المحاولة في الفهم لينساب قديم في جديد، فإني لا أجد في اقتراحي هذا مكانا لما أسموه ب «خاتم الأولياء»؛ لأن العلماء لن يكون لهم خاتم يسد الطريق على سواه.

وسأثبت فيما يلي أسطرا من «ابن تيمية» يتصدى فيها بالتفنيد لفكرة «خاتم الأولياء»؛ مما لا يجعل في موقفنا بدعا منكورا، يقول: «... إن دعوى المدعي وجود خاتم الأولياء باطل لا أصل له، ولم يذكر هذا أحد من المعروفين قبل هؤلاء إلا أبو عبد الله محمد بن علي الترمذي الحكيم في كتاب «ختم الولاية»، وقد ذكر في هذا الكتاب ما هو خطأ وغلط مخالف للكتاب والسنة والإجماع، وهو - رحمه الله تعالى - وإن كان فيه فضل ومعرفة ... ففي كلامه من الخطأ ما يجب رده؛ ومن أشنعها ما ذكره في ختم الولاية: مثل دعواه فيه أن يكون في المتأخرين من درجته عند الله أعظم من درجة أبي بكر وعمر وغيرهما، ثم إنه تناقض في موضع آخر، لما حكى عن بعض الناس أن «الولي» يكون منفردا عن الناس، فأبطل ذلك واحتج بأبي بكر وعمر، وقال: «يلزم هذا أن يكون (أي الولي المعتزل) أفضل من أبي بكر وعمر.» وأبطل ذلك ... ومنها (أي من أخطاء الحكيم الترمذي) ما ادعاه من خاتم الأولياء، الذي يكون في آخر الزمان، وتفضيله وتقديمه على من تقدم من الأولياء، وأنه يكون معهم كخاتم الأنبياء مع الأنبياء، وهذا ضلال واضح؛ فإن أفضل أولياء الله من هذه الأمة أبو بكر وعمر وعثمان وعلى وأمثالهم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ... ولفظ «خاتم الأولياء» لا يوجد في كلام أحد من سلف الأمة ولا أئمتها، ولا له ذكر في كتاب الله ولا سنة رسوله؛ وموجب هذا اللفظ أنه آخر مؤمن تقي ... مع أن كل من كان مؤمنا تقيا كان لله وليا ... وإذا كان خاتم الأولياء آخر مؤمن تقي في الدنيا، فليس ذلك الرجل أفضل الأولياء ولا أكملهم، بل أفضلهم وأكملهم سابقوهم الذين هم أخص بأفضل الرسل من غيرهم ... والأولياء - وإن كان فيهم محدث (أي ملهم) - كما ثبت في الصحيحين عن النبي

صلى الله عليه وسلم

أنه قال: «إنه كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي، فعمر.» فهذا الحديث يدل على أن أول المحدثين من هذه الأمة عمر، وأبو بكر أفضل منه إذ هو الصديق، والمحدث، وإن كان يلهم ويحدث من جهة الله تعالى، فعليه أن يعرض ذلك على الكتاب والسنة؛ فإنه ليس بمعصوم.

ثم إن خاتم الأولياء هذا (ما زلت أنقل كلام ابن تيمية) صار مرتبة موهومة لا حقيقة له، وصار يدعيها لنفسه أو لشيخه طوائفه، وقد ادعاها غير واحد، ولم يدعها إلا من في كلامه من الباطل ما لم تقله اليهود ولا النصارى، كما ادعاها صاحب الفصوص (يقصد ابن عربي صاحب «فصوص الحكم»)، وتابعه صاحب الكلام في الحروف (ربما كانت الإشارة إلى الفارابي في «كتاب الحروف»)، وآخر كان يزعم أنه المهدي الذي يزوج بنته بعيسى بن مريم وأنه خاتم الأولياء.

ثم إن صاحب الفصوص وأمثاله بنوا الأمر على أن الولي يأخذ عن الله بلا واسطة، والنبي يأخذ بواسطة الملك؛ ولهذا صار خاتم الأولياء أفضل عندهم من هذه الجهة، وهذا باطل وكذب! فإن الولي لا يأخذ عن الله إلا بواسطة الرسول إليه، وإذا كان محدثا (أي ملهما) فقد ألقي إليه شيء وجب عليه أن يزنه بما جاء به الرسول من الكتاب والسنة.

وتكليم الله لعباده على ثلاثة أوجه: من وراء حجاب كما كلم موسى، وبإرسال رسول كما أرسل الملائكة إلى الأنبياء، وبالإيحاء. وهذا (الأخير) فيه للولي نصيب، وأما المرتبتان الأوليان فإنهما للأنبياء خاصة، والأولياء الذين قامت عليهم الحجة بالرسل لا يأخذون علم الدين إلا بتوسط رسل الله إليهم، فكيف يكونون آخذين عن الله بلا واسطة، ويكون هذا الأخذ أعلى، وهم لا يصلون إلى مقام تكليم موسى، ولا إلى مقام نزول الملائكة عليهم كما نزلت على الأنبياء؟ وهذا دين المسلمين واليهود والنصارى.

وأما هؤلاء الجهمية الاتحادية (الكلام ما يزال لابن تيمية) فبنوا على أصلهم الفاسد أن الله هو الوجود المطلق الثابت لكل موجود، وصار ما يقع في قلوبهم من الخواطر، وإن كانت من وساوس الشيطان، يزعمون أنهم أخذوا ذلك عن الله بلا واسطة، وأنهم يكلمون كما كلم موسى بن عمران، وفيهم من يزعم أن حالهم أفضل من حال موسى بن عمران؛ لأن موسى سمع الخطاب من شجرة، وهم - على زعمهم - يسمعون الخطاب من حي ناطق ... وفي دعواهم أن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء من بعض الوجوه ... وأعظم من ذلك، زعم «ابن عربي» أن الأولياء والرسل - من حيث ولايتهم - تابعون لخاتم الأولياء، وأخذوا من مشكلاته، فهذا باطل بالعقل والدين؛ فإن المتقدم لا يأخذ من المتأخر، والرسل لا يأخذون من غيرهم ...» (من «حقيقة مذهب الاتحاديين» لابن تيمية، ص115-123).

لست أعتذر للقارئ عن طول العبارة التي أقتبسها من ابن تيمية في تكذيبه لما زعمه الزاعمون - ومنهم الحكيم الترمذي وابن عربي والسهروردي - عن الأولياء وعن خاتم الأولياء؛ فقد أردت أن أبين للقارئ موقف إمام فقيه في بعض ما يقال عن هؤلاء؛ كي ينفتح لنا طريق العقل فنضيف ما نراه بدورنا متعذر القبول، لا سيما إذا انتقلنا من المحيط الثقافي الذي أحاط بتلك المشكلة حين تحدث عنها من تحدث من الأقدمين، إلى محيطنا الثقافي في عصرنا هذا الذي نعيش فيه؛ فربما تعاطف قارئ هذا الكتاب مع كاتبه في إحالة المشكلة برمتها على دنيا اللامعقول في تراثنا؛ ومن ثم يصبح تناولها مشروطا بطبيعتها هذه.

ولقد تناول ابن تيمية كذلك (في المصدر السابق، ص126-127) ما بناه ابن عربي على الحديث القائل: «كنت نبيا وآدم بين الماء والطين.» وهو - أي النتيجة التي استدلها ابن عربي من هذا الحديث - أن النبي محمدا عليه السلام كان موجودا من الأزل، بخلاف غيره من الأنبياء، وكذلك خاتم الأنبياء - في رأي ابن عربي - كان وليا وآدم بين الماء والطين. فيعلق ابن تيمية على هذا بقوله: «هذا كذب واضح، مخالف لإجماع أئمة الدين، وإن كان هذا يقوله طائفة من أهل الضلال والإلحاد، فإن الله علم الأشياء وقدرها قبل أن يكونها، ولا تكون موجودة بحقائقها إلا حين توجد، ولا فرق في ذلك بين الأنبياء وغيرهم، ولم تكن حقيقته (أي حقيقة محمد عليه السلام) موجودة قبل أن يخلق إلا كما كانت حقيقة غيره؛ بمعنى أن الله علمها وقدرها، لكن كان ظهور خبره واسمه مشهورا أعظم من غيره.»

بل ماذا تقول في اتهام ابن تيمية للمتصوفة الذين قالوا ما قالوه مما أسلفنا نموذجا منه، بالإلحاد، لا بمجرد الخطأ في الرأي! فمن قوله في ذلك عنهم: «كان الملاحدة من المتصوفة، كابن عربي وابن سبعين وغيرهما، قد سلكوا مسلك ملاحدة الشيعة كأصحاب رسائل إخوان الصفا» (من «الرد على المنطقيين» لابن تيمية، ص486).

أفيكون بدعا منا بعد ذلك أن نكتفي بالقول عن مثل هذه المشكلات وما يقال فيها بأنه يندرج تحت «اللاعقل»، فهو كله من البداية وجدانات كالتي تجيش بها صدور الشعراء، قد تلذ قراءتها، أما أن نطرحها أمام العقل ومنطقه فلا؛ وإذا كان أمرها كذلك فلا يجوز أن تكون هي وأمثالها جسر العبور بيننا وبين أسلافنا.

67

إنني إذ أقول ما أقوله، فإنما أحتكم إلى العقل، وللعقل في أحكامه حدود معلومة، ولعل أوضح هذه الحدود أن يكون المحكوم بعقله في حالة من «الوعي» الكامل بما يؤديه، فأما أن يقال عن رجل إنه عن طريق «اللاوعي» يستطيع أن يكشف عن الحق فيعلمه، فذلك قول ينقض بعضه بعضا، نعم إن من حقك أن تقول: «ولماذا أشقى بالوعي إذا كانت حالات اللاوعي تسعدني بوجدانها؟» من حقك أن تقول هذا، ولا حرج عليك أن تنعم بما تراه مصدرا لنعيمك، لكن الذي ليس من حقك أن تدعي بلوغ «العلم» عن غير طريقه، اللهم إلا أن تعطي كلمة «العلم» معنى ليس هو ما نفهمه منها اليوم، وذلك بالفعل هو موقف المتصوفة حين يقولون إنهم كشفوا عن «الحق» بحالات هي أقرب إلى حالات الغيبوبة منها إلى حالات الصحو الواعية، وسأنقل لك أسطرا من الغزالي يصف لنا فيها ما يظنه طريقا لبلوغ «الحق»: «... فالأنبياء والأولياء انكشف لهم الأمر، وفاض على صدورهم النور، لا بالتعليم والدراسة والكتابة للكتب، بل بالزهد في الدنيا، والتبري من علائقها، وتفريغ القلب من شواغلها، والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى؛ فمن كان لله كان الله له، وزعموا أن الطريق في ذلك أولا بانقطاع علائق الدنيا بالكلية، وتفريغ القلب منها، وبقطع الهمة عن الأهل والمال والولد والطن وعن العالم والولاية والجاه، بل يصير قلبه إلى حالة يستوي فيها وجود الشيء وعدمه، ثم يخلو بنفسه في زاوية مع الاقتصار على الفرائض والرواتب، ويجلس فارغ القلب مجموع الهم، ولا يفرق فكره بقراءة قرآن، ولا بالتأمل في تفسير ولا بكتب حديث ولا غيره، بل يجتهد ألا يخطر بباله شيء سوى الله تعالى؛ فلا يزال - بعد جلوسه في الخلوة - قائلا بلسانه: الله! الله! على الدوام، مع حضور القلب، حتى ينتهي إلى حالة يترك تحريك اللسان ويرى كأن الكلمة جارية على لسانه، ثم يصبر عليه إلى أن يمحى أثره عن اللسان، ويصادف قلبا مواظبا على الذكر، ثم يواظب عليه إلى أن يمحي عن القلب صورة اللفظ وحروفه وهيئة الكلمة، ويبقى معنى الكلمة مجردا في قلبه، حاضرا فيه كأنه لازم له لا يفارقه، وله اختيار إلى أن ينتهي إلى هذا الحد، واختيار في استدامة هذه الحالة بدفع الوسواس، وليس له اختيار في استجلاب رحمة الله تعالى، بل هو بما فعله صار متعرضا لنفحات رحمة الله، فلا يبقى إلا الانتظار لما يفتح الله من الرحمة، كما فتحها على الأنبياء والأولياء بهذه الطرق.

وعند ذلك - إذا صدقت إرادته، وصفت همته، وحسنت مواظبته، فلم تجاذبه شهواته، ولم يشغله حديث النفس بعلائق الدنيا - تلمع لوامع الحق في قلبه، ويكون في ابتدائه كالبرق الخاطف لا يلبث، ثم يعود وقد يتأخر، وإن عاد فقد يثبت وقد يكون مختطفا، وإن ثبت قد يطول ثباته وقد لا يطول، وقد يتظاهر أمثاله على التلاحق، وقد يقتصر على فن واحد، ومنازل أولياء الله تعالى فيه لا تحصر، كما لا يحصى تفاوت خلقهم، وأخلاقهم، وقد رجع هذا الطريق إلى تطهير محض من جانبك وتصفية وجلاء، ثم استعداد وانتظار فقط» (راجع كتاب إحياء علوم الدين للغزالي، ج3، ص19-20).

الحق أني لأسائل نفسي دائما كلما قرأت أقوالا كهذه لكبار المتصوفة: في أية حالة يا ترى كتبوا هذا الذي كتبوه، ثم لماذا كتبوه؟ فهذا هو الغزالي - على عظيم قدره مفكرا وفقيها ومتصوفا - يعلنها صريحة بأن الأمر ينكشف لمن ينكشف له «لا بالتعليم والدراسة والكتابة للكتب، بل بالزهد في الدنيا»، ويوصي من أراد بلوغ الحق أن يقطع همته عن «العالم»، وأن يضع نفسه في حالة «يستوي فيها وجود الشيء وعدمه»، وعليه أن يجاهد نفسه حتى «لا يخطر بباله شيء سوى الله تعالى»؛ وعندئذ فقط يكون قد هيأ الظروف من جانبه، ولا يبقى عليه إلا الانتظار لرحمة الله ... إلخ، أقول: ترى هل تمرس الغزالي نفسه بمثل هذه الحالة التي يصفها؟ فإن كان قد فعل، فلا بد أن يكون - كما وصف - قد بتر علائقه بالعالم، واستوى عنده وجود الأشياء وعدمها، ولم يعد يخطر بباله شيء سوى الله ... فمتى - إذن - ولماذا، وكيف كتب هذا الذي كتب؟ أليست الكتابة فيها ورق ومداد وقلم وألفاظ وانشغال بالناس الذين يأمل أن يقرءوا كتابته؟ أيكون قد كتب هذا بعد أن أفاق من غيبوبة استغراقه؟ لكنه إذا أفاق ولم تعد له إلا ذكرى ما حدث له في لحظة ماضية، أفلا يكون عندئذ في حالة جديدة مما يحسن الخروج منها بأسرع ما يستطيع ليعود إلى لحظة استغراقه؟ ثم لماذا لا يذكر لنا المتصوفة في حالات صحوهم ووعيهم تفصيلات ما قد رأوه وعلموه ساعات وجدهم، أم إنه شيء يحس ولا يوصف، فما فائدة هذا الذي يكتبونه لمن يوجهون إليهم القول؟ ... مرة أخرى أقول: إن من حق من شاء أن يستمتع بقراءة هذا الصنف من الكلام - وهو في تراثنا كثير - لكن ليعلم أن الدنيا لن تتقدم به قيد إصبع واحدة. •••

وإن المتصوفة أنفسهم ليعلمون أن حالاتهم الوجدانية هذه أمور خاصة بأشخاصهم (وإن كنت لا أدري: لماذا - إذن - يؤلفون الكتب للناس؟) وهم يعلمون أن دنيا الناس لن تتقدم قيد إصبع واحدة بكل ما كتبوه، والأرجح أنها ستتأخر بمقدار ما فيها من أفراد لا يعنون بشئونها، ويستوي في أعينهم وجود الأشياء وعدمها؛ ولذلك تراهم يجعلون «الزهد» في الدنيا شرطا من شروطهم، والزاهدون - بحكم تعريف الكلمة نفسها - قد ينفعون أنفسهم، لكنهم لا ينفعون حضارة الناس في شيء.

يقول الحارث المكي في كتابه «قوت القلوب في معاملة المحبوب»: «الزهد يكون بمعنيين: إن كان الشيء موجودا فالزهد فيه إخراجه وخروج القلب منه، ولا يصح الزهد فيه مع تبقيته للنفس؛ لأن ذلك دليل الرغبة فيه، وهذا زهد الأغنياء، وإن لم يكن موجودا؛ فالزهد هو الرضا بالفقر، وهذا هو زهد الفقراء» (ص503). «حقيقة الفقير أن يكون مغتبطا بفقره، خائفا أن يسلب الفقر، كما يكون الغني مغتبطا بغناه يخاف الفقر» (ص506). «قوت الزهد الذي لا بد منه، وبه تظهر صفة الزاهد وينفصل به عن الراغب هو ألا يفرح بعاجل موجود من حظ النفس، ولا يحزن على مفقود من ذلك، وأن يأخذ الحاجة من كل شيء عند الحاجة إلى الشيء، ولا يتناول عند الحاجة إلا سد الفاقة، ولا يطلب الشيء قبل الحاجة» (ص507). «خالص الزهد إخراج الموجود من القلب، ثم إخراج ما خرج من القلب عن اليد» (ص507). «القناعة من باب الزهد، والرضا باليسير من الأشياء حال من الزهد، والتقلل في الأشياء مفتاح الزهد» (ص508).

ويروي صاحب «قوت القلوب» عن إبراهيم بن أدهم قوله: «قد حجبت قلوبنا بثلاثة أغطية، فلن يكشف للعبد اليقين حتى ترفع هذه الحجب: الفرح بالموجود، والحزن على المفقود، والسرور بالمدح. فإذا فرحت بالموجود فأنت حريص، والحريص محروم، وإذا حزنت على المفقود فأنت ساخط، والساخط معذب، وإذا سررت بالمدح فأنت معجب والعجب يحبط العمل» (ص508).

وكذلك روى صاحب «قوت القلوب» عن بشر بن الحارث قوله: «لا تحسن التقوى إلا بزهد؛ العبادة لا تليق بالأغنياء. مثل العبادة على الغني، مثل روضة على المزبلة، ومثل العبادة على الفقير مثل عقد الجوهر في جيد النساء.»

سئل الجنيد عن الزهد فقال: معنيان، ظاهر وباطن؛ فالظاهر بغض ما في الأيدي من الأملاك، وترك طلب المفقود؛ والباطن زوال الرغبة عن القلب، ووجود العزوف والانصراف عن ذكر ذلك. الزاهد يجد في العمل بتقصير الأمل وتقريب الأجل. يكون في الزهد استواء الأشياء فيكون عدمها كوجودها.

وهكذا وهكذا تستطيع أن تجد في تراثنا عن الصوفية ألوف الصفحات من هذا القبيل. ولقد يكون في هذه الأقوال وأمثالها جاذبية لقلوبنا، لكني أسأل: إذا فرضنا أن أمة في عصرنا قد تشبع أفرادها بهذه المثل، ثم جاءهم «مصلح» يمنيهم برفع مستويات معاشهم ووفرة محصولهم، وبإقامة مشروعات اقتصادية وصناعية تعطيهم القوة والغنى، بل وإذا وعدهم بنشر التعليم، فماذا هم قائلون له؟ ألا تراهم يصمون آذانهم عن دعوته؛ لأن «إصلاحه» هذا إنما هو تخريب للنفوس، ولأن زيادة الثراء اهتمام بالدنيا وذلك مذموم، ولأن نشر التعليم انصراف إلى كتب وكتابة، وهو ما لا يريدونه حتى ينسدل حجاب بين المرء ونفسه؟ أم إنهم يريدون للنموذج الصوفي أن يقتصر على صفوة قليلة، وألا يشيع في الناس؟

إن في تراثنا ميلا شديدا نحو تحقير الحياة الدنيا والتقليل من شأنها وضرورة أن يصرف الناس أنظارهم عنها حتى لا تفتنهم الفانية عن الباقية، وهو ميل قد تخفق له قلوبنا وتهتز مشاعرنا لكثرة ما أوصينا به، لكنه يتناقض تناقضا صريحا مع أسباب النجاح والقوة في عصرنا، وعلينا أن نختار؛ فإذا قال قائل: «ليس من الناس أحد إلا وهو ضيف على الدنيا، وماله عارية، فالضيف مرتحل والعارية مردودة.» ثم أعجبتنا الصياغة الأدبية الجميلة، فلا يجوز أن يفتننا جمال اللفظ عن فساد المعنى؛ لأنه إذا كان الإنسان ضيفا على الدنيا وشيك الارتحال، وذلك من حيث هو إنسان فرد، فليس هو كذلك من حيث هو نوع تتعاقب أجياله أبد الدهر؛ وإذن فالعمل المنتج الثابت واجب مفروض، وليس صحيحا أيضا أن «المال عارية والعارية مردودة»؛ لأن معنى المال قد يتسع ليشمل المنشآت الصناعية الكبرى والمشروعات الحضارية العظيمة، فهذه رواسخ ثابتة على فترات طويلة من الزمن وليس «عارية مردودة»؛ وهكذا نجد في تراثنا الأدبي ما يبث قيما تصرف الناس عن الحياة الدنيا بكل أوجه نشاطها؛ فإذا أردنا معايشة عصرنا في حيويته وعقلانيته، وجب أن نسقط من حسابنا كل ما من شانه أن يجمد في عروقنا دماء الحياة أو يتجه بنا وجهة اللاعقل هذه، سئل علي بن أبي طالب أن يصف الدنيا، فقال: «ما أصف من دار أولها عناء وآخرها فناء ...» وهذا صحيح، لكن لا ينبغي أن يفوتنا بأن المعول هو الطريق الممتد بين عناء الولادة وفناء الموت. إن محفوظاتنا التي نحفظها من مأثورات التراث، ونحن بعد في المدارس الابتدائية أطفال، ثم تظل تتدرج معنا في الخط نفسه كلما ارتقينا سلم التعليم، تكاد تلتقي كلها - في هذا الموضوع الذي نتحدث الآن عنه - عند نقطة واحدة هي التحريض على الفرار من الفاعلية الحيوية التي يقتضيها الإقبال على الدنيا، بحجة أنها «فانية» و«باطل يصرف النظر عن سبيل الحق» وما شابه ذلك، فنخرج من المدارس آخر الشوط وهذه هي النماذج المثلى أمام أبصارنا، ولولا أن فطرة الحياة نفسها تدفع الأحياء في الطريق السليم، لتأثرنا بهذه النماذج، كما يفعل المتصوفة الزاهدون، فنترك الدنيا لا أدري لمن؟ كل هذا نشأ من عوامل ثقافية في كياننا الفكري، من بينها انحصار النظر في حياة «الفرد» الواحد، ولا عجب بعد ذلك أن تسرع مؤسساتنا الاجتماعية إلى الانهيار؛ لأن شرط بقائها هو أن يعمل الأفراد ونصب أعينهم امتداد البقاء ل «الأمة» في مجموعها الذي يتخطى في وجوده حواجز الزمن. من منا لا يحفظ منذ طفولته عبارات حكمية وأبياتا من الشعر تحاول بجمال صياغتها اللفظية أن تنفره من الدنيا بكل من فيها وما فيها؟ وإنه ليقفز إلى ذاكرتي الآن بيت أبي نواس:

إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت

له عن عدو في ثياب صديق

ولم ألحظ إلا الآن حقيقة محتواه، فما هي الدنيا إلا أن تكون ناسا وطبيعة؟ فكيف لا تكون الطبيعة ولا يكون الناس - بعد امتحان تلك وهؤلاء - إلا أعداء اتشحوا بثياب الأصدقاء ليخدعونا؟ أليس الناس هم الذين أتعاون معهم ويتعاونون معي على إعداد الطعام وإقامة البيوت، وعلى التعليم من جهل والتطبيب من مرض؟ ثم أليست الطبيعة هي ما فيها من ضوء وكهرباء وهواء وماء وحديد ونحاس، فلو كانت هذه كلها أعدائي وأردت اجتناب عداوتها، فماذا يقترح علي أبو نواس بديلا لها ليكون هو الصديق؟ أحسب أن لا بديل إلا الموت، وهذه هي خلاصة ما يحملنا الجانب الصوفي من تراثنا على فعله. إنه لمما يميز العقل البدائي أن يرى صاحبه في كل شيء إما عدوا أو صديقا، مع أن الصداقة والعداوة - عند النظرة الأعلى - لا يجديان نفعا لمن شاء أن «يفهم» العالم من حوله على أسس موضوعية علمية.

أود هنا أن أؤكد للقارئ بأنني - كسواي من حملة التراث العربي - أحس خفقة القلب كلما قرأت للمتصوفة أو لغيرهم ممن يبشرون بالقيم نفسها، وكأنما هي الخفقة التي تحفزني أن ألبي الدعوة إلى زهد في الدنيا وانصراف عنها، وإلى وأد الرغبات في أكمامها؛ وبالتالي وأد النفس في منبتها، لكنني بكل هذا الذي أعرضه على القارئ من وجوب الإعراض عن الجانب اللامعقول من تراثنا، ونشر المعقول وحده من ذلك التراث. إنما أغالب في جوفي نزعة بثها القوامون على تربيتي وتعليمي بما وضعوه أمام عيني من نماذج حملوني على احتذائها ولو من الناحية النظرية التي تجعلها أملا إن لم تكن عملا.

مؤدى النظرة الصوفية الزاهدة التي يحملنا عليها التراث في جوانبه اللاعقلية هو أن الدنيا بأسرها «وهم»، لا فرق فيها بين ما يعده الناس خيرا وما يعده الناس شرا. نقول «ما يعده الناس»؛ لأن المتصوف حينما يعلو عن تفصيلات الحياة الدنيا بخيرها وشرها، يرى أن «الحق» الأعلى هو خير صرف، فلئن كانت ظواهر الحياة الدنيا تتفاضل خيرا وشرا في أعين الناس، فالكون في إجماله خير ويستهدف الخير وليس ثمة شر يعارضه، ولو اصطنعنا هذه الوجهة من النظر لما عرفنا بأي مقياس نميز بين المحمود والمرذول من جوانب حياتنا العملية، عندما نسعى فيها إلى علم وصناعة وزراعة وغير ذلك، إذا كانت هذه كلها أوهاما يجب الارتفاع عنها إلى حيث «الحق» الذي تنمحي فيه الفواصل والتجزئة. ولطالما تردد في النفس سؤال كلما طالعت كتابا أو قولا لمتصوف، يحاول به أن يردنا عن أوهام الحياة الدنيا وخداعها إلى عالم أعلى هو عالم «الحق»، الذي يتنزه عن تحولات الزمن وتغيراته: ترى ماذا عسى هذا الوجدان الصوفي أن يكشف لنا من حقائق الدنيا؟ إنه لا يكشف لنا البتة عن شيء، اللهم إلا عن طبيعة نفسه هو، أو قل إنه قد يكشف لنا عن طبيعة النفس البشرية عامة، وذلك على أحسن الفروض. أما ما ليس نفسا بشرية فهو فيه أشد منا جهلا؛ فلا طبيعة الكون بصفة عامة عرفناها منه، ولا طبائع الكائنات بصفة خاصة كشفت لنا، فسواء وجد هذا الجانب اللامعقول من تراثنا أو لم يوجد، فلم يكن ليتأثر بوجوده أو بعدمه إنسان واحد من البشر في طريقة معايشته لظروف هذا العصر العلمي العملي الصخاب بضروب الحركة والنشاط.

الفصل العاشر

سحر وتنجيم

68

لعل قمة اللامعقول في حياة الإنسان العملية - والعلمية الزائفة كذلك - هي أن يدخل السحر عاملا من عوامل المسير والمصير؛ إذ ما السحر إن لم يكن هو تعليل الأحداث بغير أسبابها الطبيعية؟ فإذا كانت علة المطر الطبيعية - مثلا - هي مقدار ما يتكثف في الهواء من بخار الماء، جعلها الساحر ورقة يكتب عليها أحرفا يختارها أو عبارات، يزعم لها القدرة على إنزال المطر؛ وإذا كانت علة الشفاء من مرض معين هو أن تزال الجراثيم التي تحدثه، كانت هذه العلة عند الساحر عفريتا سكن الجسد العليل، والشفاء من المرض إنما يكون بطرد هذا العفريت بأقوال تقال وبخور يعطر جو المكان ويطهره من الكائنات الشيطانية العابثة بأجساد الناس، وهكذا.

ولئن كانت هذه الصور الصارخة من أشكال السحر أمرا يألفه الناس في حياتهم العملية على أنه سحر علني مكشوف، فهنالك ضروب أخرى منه خافية إلا عن أعين الخبراء، كأن يحاول شعب أن يتغلب على عدوه في ساحة القتال بدعوات يوجهها إلى السماء، في حين لا تكون الغلبة إلا بطائرات ودبابات يحسن إدارتها وتوجيهها، أو أن يرقب شعب ازدهار معيشته ببركات الأولياء، سواء أحكمت خطط الإنتاج الاقتصادي أو تركت سبهللا في أيدي السفهاء. هذه وأمثالها تندرج تحت مقولة «السحر» لأنها جميعا ربط غير علمي بين المعلول وعلته.

ولقد تجد في تراثنا القديم أحاديث عن السحر والتنجيم والتعزيم والرقى والتمائم وسائر أعضاء هذه الأسرة غير الكريمة من أدوات الجهل، ألوف الصفحات مبعثرة هنا وهناك في أنفس ما خلفه الآباء من ميراث ثقافي، ولم تكن أمثال هذه الأحاديث لتشغلنا بخطرها وخطورتها، لو لم تجدها واردة في أماكنها من الكتب مسوقة على نحو يشعر القارئ بأنها أمور لا تحتمل الجدل؛ فترى الكاتب - وقد يكون من جهابذة الأعلام المفكرين - تراه يحدثك عن التأثيرات السحرية بكل أنواعها وكأنه يحدثك عن طلوع الشمس وجريان النهر واخضرار الزرع، فهي عنده أمور تجري مجرى الطبيعة المألوفة في اطرادها، وربما كان لهؤلاء الآباء أعذارهم في ذلك إذا نسبنا الأمر إلى مرحلتهم التاريخية والحضارية، ولكن كارثة الكوارث التي تكرثنا اليوم - نحن «المعاصرين» - أننا ما زلنا نقرأ هذه الأشياء، بل وندخل بعضها في شئون حياتنا العملية والعلمية، بروح من لا يجد فيها غضاضة ولا داعيا للشك والتردد، ثم تعظم المصيبة حين ندرجها تحت مقولة «الإيمان» ونصب الويل على من تحدثه نفسه بمجرد المراجعة الفاحصة.

وليس بذي نفع كثير أن نتقصى الأمثلة من تراثنا على نحو يشبه الحصر والشمول، بل ليس ذلك في مقدورنا حتى لو أردناه؛ لأنك إنما تسلح نفسك بالشواهد الكثيرة لو كنت تعلم أنك ستواجه من يعارضك في زعمك، بيد أن الأمر هنا معكوس؛ فالأرجح جدا ألا يطالع هذه الأسطر قارئ إلا وهو ذو عقيدة سابقة بحقيقة السحر وبقية أفراد أسرته من تنجيم وتعزيم إلخ، وإنما الغضبة منصبة على كاتب هذه الأسطر لاجترائه على التشكك في مسلمات كهذه، والدعوة إلى تنحيتها فيما ينبغي أن ننحيه من تراثنا، وإذن ففيم كثرة الشواهد على موقف مسلم به ولا يطلب له شهادة إثبات؟

ومع ذلك فيكفينا في هذا السياق مثل واحد أو مثلان، نأخذ أولهما من رسائل إخوان الصفا، وما أدارك ما إخوان الصفا؟ هم ذروة المثقفين في القرن العاشر الميلادي (الرابع الهجري) الذي هو بدوره ذروة ما صعد إليه الفكر العربي القديم؛ فإذا وجدنا صفوة الصفوة هؤلاء، برغم نزوعهم القوي نحو التفكير العلمي ما وسعهم ذلك، يختمون رسائلهم برسالة يخصصونها ل «ماهية السحر والعزائم والعين»، لا ليحيطوا الموضوع بما يثير الريبة، بل ليحيطوه بما يؤيد كل ما يقال عنه من قوة وتأثير، أقول إذا وجدنا تلك الصفوة الممتازة من المثقفين تقف هذه الوقفة من موضوع السحر وفروعه، علمنا أن المسألة لم تكن عند القوم موضعا لسؤال، وهذا هو مصدر خوفنا من هذا الجانب من التراث الفكري المأثور عن أسلافنا.

يبدأ إخوان الصفا هذه الرسالة الثانية والخمسين من رسائلهم، وهي الأخيرة، بقولهم إنهم رتبوا «فنون العلم وغرائب الحكمة» في الرسائل السابقة (ويلفت نظرنا أنهم يجعلون هذه الرسائل السابقة خمسين، مع أننا أمام الرسالة «الثانية والخمسين») بحسب ما تقتضيه درجات المتعلمين ومراتب الطالبين المستفيدين. وهم يتوقعون من أنصارهم أن يعرضوا على الناس موضوعات تلك الرسائل بحسب ترتيبها الذي وردت فيه؛ لأن كل خطوة تالية على الطريق تتطلب عقلا أكثر نضجا من الخطوة التي سبقتها. ولما كانت رسالة «السحر والعزائم والعين» هي آخر الطريق ، وجب ألا تعرض إلا على من ارتقوا بعقولهم ونفوسهم درجات الصعود إلى الكمال درجة درجة ومرتبة مرتبة! «وهذه الرسالة هي آخر الرسائل - هكذا يقولون - نريد أن نذكر فيها ماهية السحر وكيفية عمل الطلسمات، وأنها كأحد العلوم والمعارف المتعارفة، وكبعض الحكم المستعملة، ونستشهد عليها بما سمعناه من العلماء وعرفناه من كتب القدماء الذين كانوا فيما مضى قبلنا.» وليلحظ القارئ هنا أنهم يشيرون إلى السحر وتفريعاته على أنها «علوم» من جهة، و«حكم مستعملة» من جهة أخرى؛ أي إنها أمور تدخل في الحياة العلمية وفي الحياة العملية على حد سواء، ثم ليلحظ مرة أخرى أن الشاهد على صدقها - في رأيهم - أنهم «سمعوها من العلماء»، و«عرفوها من كتب القدماء»؛ أي إن أحدا منهم لم «يجربها» تجربة مباشرة! وما زلنا إلى يوم الناس هذا، وهو اليوم الذي أكتب فيه هذا السطر من هذا الكتاب، يوم السبت السابع عشر من شهر مارس سنة 1973م، أقول إننا ما زلنا إلى يوم الناس هذا نسمع من كل من يحيط بنا توكيدات مرتعشة لحقيقة السحر وأفراد أسرته، حتى إذا ما سألت أيا منهم، هل رأيت؟ أجابك بل سمعت!

هذه هي حالنا نحن اليوم، العلماء منا وغير العلماء، أفليس من حقنا - إذن - أن نعجب لقول إخوان الصفا: «... رأينا اليوم أكثر الناس المتغافلين إذا سمعوا بذكر السحر، يستحيل [على] واحد منهم أن يصدق به، ويتكافرون بمن يجعله من جملة العلوم التي يجب أن ينظر فيها أو يتأدب بمعرفتها، وهؤلاء هم المتعالمون والأحداث من حكماء دهرنا، المتخلفين والمدعين بأنهم من خواص الناس المتميزين.» إننا إذا اعتمدنا على هذا القول من إخوان الصفا، وجعلناه تصويرا للحياة العلمية في عصرهم، أخذنا العجب حقا؛ فمؤداه - كما ترى - أن هؤلاء الإخوان (والحظ جيدا أنهم من خاصة المثقفين في أزهى عصور الفكر العربي) يميزون بين «العلماء» و«المتعالمين»، والآخرون وحدهم - أي المتعالمون دون العلماء - هم الذين يتنكرون للسحر وينكرونه، وأما «العلماء» - من أمثالهم هم - فيقبلونه حقيقة علمية! ولماذا يتنكر «المتعالمون» للسحر والتنجيم، على حين يقبلهما العلماء ؟ يجيب إخوان الصفا عن ذلك بقولهم: «وذلك لأنهم لما رأوا بعض المتعاملين بهذا العلم، والخائضين في طلبه من غير معرفة له، إما أبله قليل العقل، أو امرأة رعناء، أو عجوزا خرفة بلهاء، فرفعوا أنفسهم عن مشاركة من هذه حاله - إذا سمعوا بذكر السحر والطلسمات - أنفة منهم؛ لئلا ينسبوا إلى الجهل وإلى التصديق بالكذب والخرافات .» فإذا نهض بخواطرنا سؤال: كيف - إذن - يؤمن علماؤهم الأصحاء بما يؤمن به أولئك البلهاء المخرفون، مع أن «المتعالمين» قد أنفوا من ذلك؟ أجابنا إخوان الصفا بأن البلهاء والمخرفين إنما يطلبون هذا العلم (المقصود هو «علم» السحر والتنجيم) «لأغراض لهم سخيفة دنيئة من غير معرفة ...» وما علموا أنه آخر ما يرقى إليه طالب الحكمة؛ لأنه يتضمن معرفة علمية سابقة بثلاثة أشياء، هي: الكواكب، والأفلاك، والبروج.

والذي نريد إثباته هنا هو أن اليوم شبيه بالبارحة؛ مما قد يدل على أن تراثنا قد سرى في عروقنا أكثر مما كان ينبغي له أن يفعل لو وجد الموانع والضوابط؛ فما زلنا إلى اليوم نستنكر من ينكر أن يكون السحر وأتباعه من «العلوم» كما كان أسلافنا يستنكرون، ثم ما زلنا اليوم كما كانوا بالأمس لا نجد غضاضة في أن ندرج أفعال السحر فيما يجوز للعقل أن يقبله. ولو شربنا من ثقافة عصرنا العلمية، بمنهجها التجريبي الصارم، لوجب أن نعكس الوضع؛ فمن عدهم إخوان الصفا «متعالمين» لإنكارهم أن يكون هذا التخريف جزءا من العلم، عددناهم نحن «العلماء» بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة، ومن عدوهم «علماء» لقولهم ما «سمعوه» عن الأقدمين وما «قرءوه» في الكتب الغابرة، أخرجناهم نحن من عداد العلماء والمتعالمين معا؛ لأنهم عندئذ إنما يسلكون في زمرة البلهاء الخرفين الذين أشار إليهم «الإخوان» منذ حين.

وبعدئذ يأخذ إخوان الصفا في حديث طويل يزيد على ثمانين صفحة عن الموضوع بما يظنونه «علما»، وليس في وسعنا هنا أكثر من أن نسوق قبسات من أقوالهم «العلمية» هذه؛ ليرى القارئ معي كيف أننا بإزاء كتلة ضخمة من «اللامعقول» الذي ينبغي ألا ندخر جهدا في تنقية عصرنا من آثاره وشوائبه. بعد أن يذكروا لنا كم هنالك من الكواكب وكم من الأفلاك والبروج، يقولون إن ثمة سواها أشياء، «منها العقدتان اللتان تسمى إحداهما الرأس والآخر الذنب؛ فالرأس يدل على السعود، والذنب يدل على النحوس، وليسا هما كوكبين ولا جسمين ظاهرين، ولكنهما أمران خفيان، فخفاء ذاتيهما وظهور أفعالهما يدل على أن في العالم نفوسا خفية عن الحس، أفعالها ظاهرة وذاتها خفية، يسمون الروحانيين، وهم أجناس الملائكة وقبائل الجن وأحزاب الشياطين، ويعرف ذلك أصحاب العلوم والسحر والطلسمات» (الرسائل، ج4، ص285). «واعلم يا أخي أن الكواكب ملائكة الله وملوك سمواته، خلقهم لعمارة عالمه، وتدبير خلائقه، وسياسة بريته، وهم خلفاء الله في أرضه، يسوسون عباده، ويحفظون شرائع أنبيائه، بإنفاذ أحكامه على عباده؛ لصلاحهم وحفظ نظامهم على أحسن الحالات.

واعلم يا أخي - أيدك الله - أنه لا يكاد يعرف كيفيات تأثيرات هذه الكواكب وأفعالها في جميع ما في هذا العالم من الأجسام والأرواح والنفوس إلا الراسخون في العلم، البالغون في المعارف، والناظرون في العلوم الإلهية، المؤيدون بتأييد الله وإلهامه لهم» (ص285).

تلك هي النغمة التي كتب بها «الإخوان» عن السحر وما هو إلى السحر بسبيل، وهم يستنكرون كل من ينكر حقيقته عن نية صادقة أو عن كذب وادعاء، استنادا إلى أنه كان موضع القبول من فلاسفة أقدمين من أصحاب المكانات العالية كأفلاطون، يقولون: «... فلا بد مما يورد على هؤلاء المنكرين لهذا العلم، والمكذبين لمن يدعي صحته، من الشهادات: بعض ما ذكر المتقدمون في كتبهم وسطروه من أخبارهم، ويحكى من ذلك ما كان واضح الشهرة لا يخفى موضعه على طالبيه، ولا يكذب قائله؛ حتى لا يجد السفهاء إلى تكذيبنا سبيلا، فنقول: إن أفلاطون الفيلسوف قد ذكر في المقالة الثانية من كتاب السياسة ... إلخ.» ثم يروي لنا المؤلفون قصة خاتم ذي قوة سحرية، أوردها أفلاطون في تلك المقالة المذكورة (ص287-288)، وبعد أن يفرغ الرواة من الحكاية عن أفلاطون، يتساءلون في استنكار: هل يمكن لرجل له ما لأفلاطون من منزلة رفيعة أن يقول عن السحر ما قاله كذبا وزورا؟! «وإنما السبب الذي يدعو هؤلاء الأحداث إلى التكذيب والإنكار لمثل هذا، هو ما فيهم من الكسل وقلة الرغبة في التعلم والأنفة وقلة الحياء!» (ص288).

وبالطبع لم يفت «الإخوان» أن يستشهدوا على حقيقة السحر وقوة فعله بما قد أوردوه من آيات قرآنية كثيرة، لو قرئت من السطح ظن قارئها أنها حجة لهم، وربما كان لها من التأويل ما يخرج منها المعنى الصحيح الذي يتفق مع نظرة العقل في فهم الأحداث وتعليلها، ثم عقبوا على شواهد القرآن بأخرى من التوراة «مما يعتبره ويقر بصحته أمتان من الأمم، وهما اليهود والنصارى جميعا، والتوراة موجودة بأيدي اليهود والنصارى باللغة العبرانية وباللغة السريانية، وباللغة العربية، لا خلاف بينهم فيها» (ص291). وكذلك وردت الشواهد على صدق السحرة في دعواهم «في كتب أخبار ملوك بني إسرائيل التي تجري عند اليهود مجرى التوراة ...» (ص293). وهكذا تعددت المصادر التي تؤيد فعل السحر والسحرة، «فمنها ما هو من جهة الفلاسفة، ومنها ما هو من جهة الأنبياء وكتب الشرائع، ومنها ما هو مذكور في القرآن» (ص294). «أفترى هذا كله كذبا لا أصل له، وسخفا وحماقة ممن يذكره عند هؤلاء المتعجبين المنكرين بأنفسهم، المكذبين بما يسمونه بجهلهم، تكبرا منهم وتيها وصلفا، لقلة عقولهم وقصر علومهم وقصورهم عن نيل العلوم الحقيقية، فيجدون الإنكار والتكذيب أخف عليهم» (ص294-295).

إن همنا في هذه الصفحات هو أن نبين للقارئ كيف غلب «اللاعقل» على أسلافنا في بعض المواقف؛ مما يستوجب انصرافنا عن تراثهم في هذا الجانب اللاعقلي، ومهما يكن من أمر السحر على حقيقته، فها أنت ذا ترى إخوان الصفا يركنون - في تأييدهم لصدق تأثيره - أول ما يركنون وآخر ما يركنون على ما «سمعوه» من أخبار الأولين، وما «نقلوه» عن أسفار الأقدمين، والعجب بعد ذلك أن تراهم ينعتون المنكرين ب «قلة العقل»، في الوقت الذي نرى هؤلاء المنكرين لا يعتمدون إلا على منطق العقل وحده، وأما «الإخوان» فيأخذون ما يأخذونه في هذا الباب سمعا ونقلا، ولا «عقل» هناك.

ولعل المؤلفين لتلك الرسائل قد أحسوا بضرورة التحديد للمعنى المقصود بكلمة «سحر» بعد أن أفاضوا القول فيه ، وقبل أن يمضوا في حديث مطول عن طرائق فعله وتأثيره، فقالوا: «إن السحر ينصرف في اللغة العربية على معان كثيرة، قد ذكرها أصحاب اللغة العارفون بها وأصحاب التفسير لها، ونريد أن نذكر منها ما يليق بكتابنا هذا ليكون دليلا على ما نورده من القول في هذا الفن، فمن ذلك أن السحر في اللغة العربية هو البيان والكشف عن حقيقة الشيء، ومنه الإخبار بما يكون قبل كونه، والاستدلال بعلم النجوم وموجبات أحكام الفلك، وكذلك الكهانة والزجر والفأل، فإن كل ذلك إنما يوصل إليه ويقدر عليه بعلم النجوم وموجبات الأحكام الفلكية والقضايا السماوية ... وهو ينقسم أقساما كثيرة ويتنوع أنواعا شتى ... منه سحر عملي ومنه سحر علمي، ومنه حق ومنه باطل، ومنه ما رميت به الأنبياء ووسمت به الحكماء، ومنه ما يختص بعلمه النساء ...» (ص312-313) - وإنه ليكفينا أن تكون لكلمة «سحر» كل هذه المعاني، لنقول إنه لا يجوز لكاتب أن يحتج له بآيات قرآنية أو بمأثورات من أقوال الأقدمين، قبل أن نعرف أولا لأي معنى من هذه المعاني تكون الحجة.

69

في أحاديث إخوان الصفا مزيج عجيب بين حقائق «العلم» وأخبار «السحر»، كأنهما طرفان متعادلان يتقسمان الميدان بشرعية واحدة! فمثلا قد تراهم يقولون: إن للعقاقير والأدوية خواص معينة، هي التي تجعلها تصلح لما تصلح له، وتؤذي بما تؤذي، ثم يلحقون بهذا القول كلاما شبيها به عن «الرقى والعوذ والنشر» (النشر: جمع النشرة، وهي رقية يعالج بها المجنون والمريض)، وهم في ذلك يقولون: «إن السحر يؤثر في أنفس الآدميين وأجسادهم ... وأما هذه الرقى والنشر والعزائم وما يشاكلها إنما هي آثار لطيفة روحانية من النفس الناطقة تؤثر في النفس البهيمية وفي الحيوان» (ص309). ويستطردون في القول ليوضحوا كيف تفعل نفس الساحر في نفس المسحور، مثل ما تفعله النار فيما يجاورها، فإذا كان ما ينبعث من النار شرورا، فما ينبعث من النفس المؤثرة شيء روحاني لطيف، وقد يبلغ التأثير حد أن يصرع المنظور إليه أو أن يشج رأسه، وقد ترى «الراقي يستعين على الرقية بالنفث والنفخ وغير ذلك؛ لأن النفث والنفخ هما من جوهر هذه البهيمة» (ص311).

وينتقلون من الحديث العام إلى التطبيقات الخاصة، فيأخذون في ذكر المواقف الكثيرة التي يستعان فيها بالسحر والتنجيم وما إليهما على كشف الغيب المجهول، لا فرق في ذلك بين جليل الأمور وضئيلها، وسنذكر لك أمثلة متناثرة مما يقولونه في هذا الصدد، لتدرك كيف شغلت جماعة رفيعة الثقافة في عصرها باللاعلم على أنه من العلم واللاعقل بحسبانه عقلا (والجماعة هي إخوان الصفا، وعصرها هو القرن العاشر الميلادي):

فإذا سألك سائل عن خبر أو ضمير أو خبيء يريد منك الإخبار به، فاحكم على ذلك مستعينا بالساعة التي يكون فيها نجم معين، فإذا كان سؤال السائل أن تعين له ما قد أخفاه في يده، ووجدت أن الساعة هي أول ساعة الزهرة، فاعلم أن ما قد أخفاه في يده شيء أبيض حسن اللون طيب الرائحة مما يدخل النار ويخرج كالفضة؛ وإن جاءك في آخر ساعة الزهرة، فاعلم أنه شيء ضعيف لين مما ينسب إلى الماء؛ وإن جاءك في أول ساعة الشمس فهو صغير من نبات الأرض؛ وإن جاءك في وسط الساعة فهو ذهب أو حلي من ذهب مدور أو دينار؛ وإن جاءك في آخر الساعة فهو شيء رقيق ناري شبه القوارير. وعلى هذا المنوال يفصلون القول عن الطريقة التي تكشف بها حقيقة الشيء المخبوء ناظرا إلى الساعة التي يكون فيها القمر، والمريخ، وعطارد، والمشتري، وزحل! وما يتبع في معرفة الشيء الخبيء في يد السائل يتبع في معرفة ما يضمره إنسان في نفسه ولو لم يفصح عنه.

إذا سألك سائل عن نفسه وحاله وما يصيبه ... وإن سألك عن دوام ما هو فيه ... هكذا يفصلون لك مواقف الحيرة والسؤال وطرائق النظر إلى النجوم لإيجاد الحلول: «إذا سئلت عن عمر إنسان فانظر إلى رب الطالع والقمر، فإن كان بيت الحياة قد انصرف عنه كوكب، فإن الكوكب الذي يتصل به القمر يدل على ما بقي من عمره ... وإذا سألك سائل هل يصيب مالا؟ وكم مقدار ما يصيب؟ ومئات الأسئلة التي من هذا القبيل، يجاب عنها بالنظر إلى أجرام السماء! لماذا؟ وكيف؟ إن أساس الفكرة عندهم هي أن الإنسان عالم صغير يتأثر بالكون الذي هو العالم الكبير، ولكنه لا يؤثر فيه، «وعلم النجوم علم واسع، وهو علم العالم الأعلى السماوي الحاكم للعالم الأرضي، فذلك عالم علوي كبير وهذا عالم صغير سفلي ... وأفعال العالم الكبير تظهر في العالم الصغير، والعالم الصغير ليس له فعل يظهر في العالم الكبير»» (ص367). «واعلم يا أخي - أيدك الله وإيانا بروح منه - أن من أحسن ما وصل الناس إليه من هذه الصناعة وأجل معارفها، أن يعلموا كيفية أحوال الملوك والسلاطين وولاة الأمور والعهود والأمراء والقواد وولاة الحروب والوزراء والكتاب والعمال والقهارمة، وابتداءات الدول وعواقبها ومدة أعمار المواليد ومواليدها، وما يظهر منهم في الأزمنة ويعلمونه في الأمكنة، فإن ذلك من العلوم المخزونة والأسرار المكنونة والأخبار المدفونة، مما استخرجتها الحكماء وعلمتها العلماء، بما قد وقفوا عليه ووصلوا إليه من أخبار السماء بالوحي والإلهام وصدق الرؤيا» (ص369). بعبارة أخرى، فكأنهم يريدون القول بأن علم النجوم والرؤيا وما إليهما تكفينا عن كل علم وكل بحث عن حقائق العالمين! أفتريد مثلا دالا على اللامعقول خيرا من هذا المثل؟

ونعيد هنا إلى ذاكرة القارئ ما قد أسلفناه منذ حين، وهو أنه واجد عند إخوان الصفا - ونحن نتخذهم نموذجا للنظر في تراث الأسلاف - مزيجا عجيبا من المعقول واللامعقول، وكأن الضربين عندهم على درجة سواء، فانظر إليهم كيف يقولون - بعد أن أفاضوا في الحديث عما يستطيعه العارف بعلم النجوم من الكشف عن الغيب المخبوء - انظر إليهم كيف يقولون في فقرة واحدة - سننقل الآن بعضها إليك - إن قدرة الإنسان على معرفة الأحداث، ماضيها وحاضرها ومستقبلها جميعا، إنما تستند إلى معرفة الإنسان لمجموعة العلوم مضافا إليها صفات خلقية ومهارات عملية، وليس علم النجوم وحده، وخصوصا إذا فهم على نحو ما يفهمه العامة، بكاف لأحد، يقولون في الفقرة التي أشرت إليها (ص386-387) ما يأتي: «... إن جميع ما يحدث في العالم البشري، والخلق الأرضي، بتدبير فلكي وأمر سماوي؛ إذ كان العالم السلفي مربوطا بالعالم العلوي في جميع أموره وأحواله (إلى هنا والنظرة أساسها اللاعقل واللاعلم لكنهم يستطردون فيقولون): إن فضيلة العلم هي الموجبة للإنسان اسم الإنسانية التي يتهيأ له بها الوصول إلى الصورة الملكية والرتبة السماوية والعلم بالأمور الغائبة عن العيان، والمتقدمة بالزمان ، والمستقبلة الكيان، هي من أشرف العلوم وأجلها، ومعرفة ذلك تكون بعد الحذق بالصنائع كلها والتمهر فيها، وطيبة النفوس وسلامة القلب، والتسليم لما يكون، وقلة الجزع والخوف بما لا بد منه ...» فبماذا نوجه أنفسنا في عصرنا العلمي هذا الذي نعيشه، أو الذي - على الأصح - نود أن نعيشه مع سائر أهله، إذا لم نؤسس توجيهنا على هذا المبدأ الذي تلخصه العبارة الأخيرة من أقوال إخوان الصفا؟ فالإنسان - كما يقولون - إنسان بمقدار ما يحصله من علم ومن مهارة عملية، ثم من خلق يشمل الإخلاص في العمل والشجاعة في مواجهة الحياة ومشكلاتها، وبعدئذ يمضي الكاتبون الإخوان في حديثهم فيقولون - تأييدا لنظرتهم العلمية الصحيحة التي نريد تخليصها من خرافة السحر - يقولون: «لعل كثيرا ممن يقف على رسائلنا هذه، يظن أن مرادنا في وضعها هو تعليم علم النجوم، ولعمري إن ذلك من أحد أغراضنا فيها (لاحظ أن علم النجوم عندهم في هذا السياق هو جزء من غرض واحد بين أغراض أخرى كثيرة، يقصدون إليها عندما يوجهون دعوتهم إلى تحصيل العلم)؛ لأننا نحب لإخواننا - أيدهم الله - أن يقفوا على جميع العلوم ويتعلموها ولا يجهلوها، إذا كان مذهبهم (لعلهم يريدون: إذ كان مذهبنا) هو النظر في جميع العلوم واستقراؤها كلها والإحاطة بمعرفة ظواهرها وبواطنها.»

غير أنهم ما كادوا يفرغون من كتابة الأسطر القليلة الماضية، حتى انتكسوا من جديد إلى الموقف اللاعقلي يساندونه؛ إذ ينتقلون إلى فصل جديد يبدءونه: «إذا أردت أن تعرف هل الحمل واحد أو اثنان، فانظر إلى الطالع ... إلخ، وإذا أردت أن تعرف متى تلد الحامل؛ ليلا أم نهارا؟ فانظر إلى الطالع ... إلخ، وإذا مات الجنين في بطن أمه، وخشي عليها في إخراجه الموت، وأرادوا إخراجه، فليخرجوه والقمر ناقص في الضوء هابط في الجنوب ... وإذا وقعت النطفة في الرحم، دبرها زحل في الشهر الأول، ودبرها المشتري في الشهر الثاني، ودبرها المريخ في الشهر الثالث فصيرها دما، وفي الشهر الرابع تنفخ الشمس فيها الحياة بإذن الله، وفي الشهر الخامس تركب فيه الزهرة التذكير والتأنيث، وفي الشهر السادس عطارد يصير فيها اللسان والأسنان، وفي الشهر السابع القمر يتم فيها الصورة، وإن ولد في تدبير القمر عاش، وإن تأخر رجع في الشهر الثامن إلى تدبير زحل، فإن ولد في الشهر الثامن - وهو لزحل - مات، وإن ولد في التاسع حين يعود التدبير إلى المشتري نجا بإذن الله، وكان منه ما قدر له أن يكون في حياته ... والوقوف على أسرار ذلك يكون بالزجر والكهانة» (ص390). فها هي ذي صورة كاملة يرسمونها للجنين منذ تقع نطفته في الرحم، إلى أن يولد ثم يحيا حياته التي قدرت له، والأمر فيها جميعا للنجوم، والطريق إلى معرفتها إنما هو علم النجوم!

ويأخذ «الإخوان» بلا ملل في ذكر عدد كبير من مواقف الحياة المغلقة على البشر إلا أن يستعينوا عليها بالسحر، وقد لا تكون تلك المواقف المستعان عليها بذات خطر يستوجب تمزيق النظام الكوني من أجله، كأن يشرحوا لك كيف تعلم ما في الكتاب قبل أن تفض ختامه، أو كيف تعلم إن كان من جاءك بخير قد صدقك القول أم كذب، ثم يقفون وقفة أطول عند الطريقة التي يستعان بالنجوم فيها على معرفة السارق في حالات السرقة، ويبدءون هذا الجزء من حديثهم بهذه القصة: «كان لنا صديق من فضلاء الناس وخيارهم من إخواننا، وكان يستعين في معيشته بصناعة النجوم، فحضرته يوما وقد جاءه رجل فجلس عنده وقال له: قد جئتك لتخبرني عما في نفسي. فأخذ الطالع وقومه وجود الحساب وأحسن العمل وصدق العلم وأصاب الحكم، فقال له: تسأل عن شيء سرق؟ قال: نعم، ما هو؟ فأخبره عن جنسه. فقال: كم هو؟ فأخبره عن كميته. فقال: فمن أخذه؟ وهل الآخذ ذكر أم أنثى، حر أم عبد؟ فذكره. فقال: كم سنه؟ فذكره. فقال: أين ذهب؟ فأخبره. فقال: كيف هو؟ فأعلمه . فمضى في طلبه ثم عاد وقد أصاب ...» (ص397).

ويطول بنا الحديث لو طفقنا ننقل عن «الإخوان» ما ذكروه وفصلوه من أمور السحر والتنجيم والتعزيم، فلنختم كلامنا عنهم في هذا الصدد بقصة رووها في آخر رسالتهم عن هذا الموضوع ، راجين أن يكون ما ذكرناه كافيا لرسم صورة عن وقفتهم اللاعقلية إزاء هذا الجانب من جوانب النظر:

في غضون حوار أجراه «الإخوان» المؤلفون بين حكيم وتلميذه، قال التلميذ للحكيم، بعد أن سمع كل ما سمعه عن أعاجيب السحر والتنجيم: «هل بقي في هذا الباب ما لم يأت عليه الشرح في هذا المعنى؟ فقال الحكيم: ليس قدر ما ذكرنا إلا كقدر قطرة من بحر، وإن في علم روحانيات الكواكب ومعانيها عجبا عجيبا، ومما شاهدت من عجب هذا العالم أني كنت بجزيرة «أوال» (وهي جزيرة بناحية البحرين)، وكان بها رجل من المتصلين بحبل الله، عالما بهذا العلم، فقصدته زائرا، فرأيت قوما من أهل البلد قد دخلوا عليه وشكوا إليه غمهم بمحبوس لهم قد حبسه أمير البلد في جناية جناها، قالوا: قد طرحنا أنفسنا على الوزير والحاجب وخواص الأمير، فلم ينفعنا ذلك، وقد بذلنا له من الرشوة بحسب طاقتنا فلم يقبل، وقد ذكر لنا عنه أنه قال: لا بد لي من قتله. فأطرق ذلك الفاضل إطراقة، ثم رفع رأسه وقال: الليلة في آخرها صاحبكم عندكم فامضوا ولا تشعروا أحدا بما ألقيته إليكم. فخرج القوم من عنده فقلت له - على طريق الملاعبة: قد أوحي إليك أن الأمير الليلة يطلق هذا المحبوس؟ قال لي: سوف ترى! فقلت: ولا يجوز أن يطلقه غدا؟! فقال: إن تأخر إطلاقه الليلة لم يصح إطلاقه إلى ستة أشهر وكسر، وإنما قد اتفق سعادة لهذا المحبوس أن جاءني هؤلاء القوم في هذا اليوم.

واشتغل بحديث آخر، وخرجت من عنده، فلما كان من الغد أتيته مسلما، فوجدت القوم الذين جاءوه بالأمس قد سبقوني إلى عنده وهم شاكرون له بما بشرهم به من تخلية المحبوس، ويسألونه عن عمله بذلك، فقال لهم: الطالع الذي دخلتم به شهد أن محبوسكم في هذه الليلة يطلق، ولم يكشف لهم عن حقيقة الأمر.

ورأيت غلاما شابا مصفر اللون قد نهكه الحبس والقيد، فأقبل الشيخ على الشاب فقال له: حدث هذا الرجل كيف خلاك الأمير البارحة، فالتفت إلي الشاب الذي كان محبوسا، فقال: إني كنت محبوسا في المطمورة مطروحا، وأنا مكبل بالحديد، وقد هددني السجان في آخر يوم أمس، وقال: إن الأمير قد أنفذ بأن يحمل إليه قوم قطعوا الطريق، وإنه ينتظر أولئك، وإنه يصلبك في جملتهم. ذكر لي هذا عند اصفرار الشمس، فبكيت طول ليلي، ولم يحملني النوم أصلا، فبينا أنا كذلك - وقد عبر من الليل النصف الأول - إذ سمعت حركة شديدة، وباب المطمورة يفتح، ففزعت وشلت رأسي إلى السماء مستعينا بالله تعالى، وإذا الجماعة من الخدم قد نزلوا، وحملني أحدهم بحديدي، فأدخلت على الأمير، فإذا به قائم، فلما رآني قال: حطوه برفق. واستدعى من فك الحديد عني، وسألني أن أجعله في حل مما فعل بي، وأمر بأن أجعل في جملة خدمه، وأثبت لي رزقا جاريا مع خاصته، وأفرج عني، وهذه حالي.

وقاموا فخرجوا من عنده، فجددت السؤال للشيخ، ورغبت إليه أن يعلمني السبب في تخليته؛ إذ لم يقل لهم إنه سيخلي الليلة عن غير فائدة، فقال: لا يمكنني أن أخبرك في هذا اليوم، فإن صبرت ثمانية وعشرين يوما أعلمتك. فقلت له: إني من الصابرين. فلما انقضت الأيام جددت السؤال، فقال: هؤلاء القوم الذين جاءوا حدثوني بحديث المحبوس، قوم أخيار يلتزمني أمرهم، ورأيتهم مغمومين بهذا المحبوس، فقلت لهم ما قلت، ولما كان في تلك الليلة على ساعتين من الليل، تجردت وعملت نيرنج المريخ، وقصدت بالنيرنج الأمير والمحبوس، فأطلقه كما رأيت.

فقلت للشيخ: أحب أن تعلمني سبب إطلاقه له. فقال: سبب ذلك أن الأمير رأى فيما يرى النائم كأن قد دخل عليه رجل أشقر أزرق، على رأسه شعر، وهو مكشوف الرأس، وبيده سيف مجرد، يقول: إن لم تخل في هذه الساعة فلانا ابن فلان المحبوس عندك، وجاءت الليلة، قطعت رأسك بهذا السيف ! فكان هذا سبب التخلية له، فاستطرفت ذلك واستعظمته.»

ليعذرني قارئ هذا الكتاب إذا رآني قد وقفت فأطلت الوقوف عند هذه القصة، رويتها له بلغة كاتبها كما جاءت في آخر رسالة من رسائل إخوان الصفا؛ وذلك لأنني رأيتها - فوق طرافتها من الناحية الأدبية - نموذجا لكثير جدا مما جرت به الألسنة والأقلام في تراثنا، ثم رأيتها - وهو الجانب الأخطر - نموذجا لما نحن اليوم على استعداد تام لقبوله في غير ريبة ولا تردد؛ فلقد هيئت عقولنا على صورة تجعل أمثال هذه القدرات عند «المقربين» من السماء أمرا يكاد يكون مفروغا من صدقه وصوابه، تقوله لعامة الناس، أو تقوله لخاصتهم، فلا تجد إلا نفوسا مؤمنة به وعقولا مصدقة له، كأنك تقول لهم إن الشمس تشرق في الصباح وتغيب آخر النهار! وليكن قارئي على يقين أو ما يشبه اليقين أن صفة الشذوذ الفكري إنما يوصف بها من يعرض الروايات التي تروى عن هذه القوى السحرية عرض المتشكك المرتاب، ولا أقول عرض المكذب لها تكذيبا قاطعا، لا من يسرع إلى تقبلها كما يتقبل عمليات الجمع والطرح في علم الحساب. مصيبة فادحة هي تلك التي تصيبنا اليوم في تفكيرنا فتميل بعقولنا إلى الشلل، لتمرح القوى اللاعقلية كما يشاء لها أصحابها، ثم نزعم لأنفسنا وللناس أن مثل هذا الخبل هو من علامات «الروحانية» التي تميزنا من سوانا، لا تمييز الأضعف الأجهل الأضل، بل هو - كما نتوهم - تمييز الأقوى والأعلم والأهدى سبيلا!

إنني ما كتبت هذه الصفحات إلا توضيحا لوجهة نظري التي حاولت بسطها في هذا الكتاب، وهي أن تراثنا الفكري قد اختلطت فيه العناصر المتباينة، التي ربما كانت كلها منبثقة من طبيعة حياة الأسلاف وما اعترضهم من مواقف ومشكلات، والتي إذا ما ألقينا عليها النظر الآن بكل ما يحيط بنا نحن اليوم من مناخ ثقافي، ألفينا بعضها ما زال صالحا لنا وبعضها الآخر لم يعد صالحا، وتقدمت بفكرتي الرئيسية التي عرضتها في كتابي السابق «تجديد الفكر العربي»، وهو أن وسيلة ربط حاضرنا بماضينا هي في أن أواصل النظر إلى الأمور بنفس المنظار الذي نظر به الأقدمون، شريطة أن أقصر هذا المنظار على ميدان النظر «العقلي» وحده، وأما ميدان المشاعر الوجدانية أو الرؤى التي هي أقرب إلى أحلام اليقظة أو أحلام النوم، فهو - بحكم طبيعته - يقتصر على أصحابه ولا يمكن نقله كما هو من عصر إلى عصر، وها نحن أولاء قد بسطنا في القسم الأول من كتابنا هذا - وهو أكبر القسمين - نماذج من المواقف العقلية عند أسلافنا لنزداد نحن وضوحا في الرؤية إذا أردنا أن نواصل مثل هذه الوقفات العقلية من حياتنا الراهنة، ثم عرضنا في القسم الثاني من الكتاب، لمحات من الجانب الآخر؛ أعني الجانب اللاعقلي الذي عاشه الأسلاف؛ لنرى ماذا نطرح من تراثنا الفكري، نعم قد يكون من الحق أن الإنسان يعيش بوجداناته كما يعيش بعقله، وإن اختلفت مجالات هذا عن مجالات تلك، ولكننا نريد لجانبنا الوجداني اللاعقلي أن ينبت من عناصر حياتنا؛ فلقد شاءت مرحلة التطور الحضاري لآبائنا أن تتخذ أوهامهم صورة التنجيم والسحر وما إليهما، وقد يتحتم للطبيعة البشرية دائما أن تكون لها أوهامها اللاعاقلة، غير أن النتيجة التي تلزم عن هاتين المقدمتين ليست هي أن نستعير أوهام الأولين كما عاشوها، بل أن تكون لنا أوهامنا المناسبة لعصرنا وظروفه.

لقد حكيت لك حكاية الشيخ الذي خلص المسجون من قتل كان محكوما به عليه، وذلك بفعل النجوم كما استطاع أن يستخدمه ذلك الشيخ، وعلقت على الحكاية بقولي إن معظم القراء يرجح لهم أن يميلوا إلى تصديقها؛ لأنهم أشربوا منذ طفولتهم بما يميل بهم نحو تصديق هذه الدعاوى وأمثالها، كما رجحت أن يكون المستنكر عندهم ليس هو أن تصدق ما يقال عن السحر والتنجيم، بل هو أن ترتاب في ذلك. وأود الآن أن أعود إلى القصة كما حكاها إخوان الصفا في ختام الرسالة الأخيرة من رسائلهم؛ لأن التكملة ربما أحدثت نفورا عند القارئ يدفعه إلى التنكر للقصة كلها.

فلقد سأل التلميذ شيخه، بعد أن ألم بما زعم له المتحدث من استخدامه لكوكب المريخ في تخليص المسجون، سأله : هل للمريخ نيرنج يعمل؟ فقال له الشيخ شارحا: «لزحل لباس سواد، وللمشتري بياض، وللمريخ حمرة، وللشمس أصفر، وللزهرة أخضر، ولعطارد ملون، للقمر سمكون (السمكون لون السماء)، ولهم مع ذلك (أي إلى جانب ما يلبس لكل منها من لون يناسبه) دخن وبخورات وأشياء أخر يعرفها العلماء (!) الواقفون على أسرار الخليقة، مثل أكاليل ... يضعها العامل على رأسه، ومخانق ... يتقلد بها، فإن كان العمل لزحل احتاج أن يكون الإكليل من شوك والمخانق من عظام.» «فقلت له (أي إن التلميذ سأل شيخه بعد أن شرح له الشيخ ماذا يلبس وماذا يقول لكل كوكب أراد استخدامه): قد عارضني في هذا الموضع سؤال، ولست سائلا عنه لشك عرض بل لاستفهام حسب (ليلحظ القارئ هنا ما عند التلميذ من قبول لا عقلي لما يسمعه، فهو يسأل لا لشك ... ولماذا لم يشك؟ ألأن مجرد الشك لم يكن مقبولا، كما هو لا يزال بيننا إلى اليوم غير مقبول في هذه الأمور؟!)» «فقال لي ذلك العالم الفاضل: هلم سؤالك!» «فقلت له: الأنبياء - عليهم السلام - ما وقفوا على هذا العلم؟ ما سمعنا أنهم ... هربوا من أيدي أعدائهم سرا، ومنهم من تأدى أمره مع أعدائه إلى أن قتل، فيا ليت شعري! مع قدرتهم على هذا العلم الشريف، لم لا يعملون لأعدائهم من هذه النيرنجات ما كان يضطرونهم معها إلى إجابتهم؟»

سؤال جيد ونافذ من التلميذ، أفتدري بماذا أجاب الشيخ؟ قال: «ما أحسن ما سألت ... لم يستعمل الأنبياء - عليهم السلام - هذا العلم لأحوال: أحدها أنه ضرب من الحيلة والمكر، وهم لم يبعثوا بذلك! وثانيها أنهم لو فعلوا ذلك لكان إجابة الناس إلى الخديعة لا إلى العلم الذي به نجاة أنفسهم، وكان يفوتهم الغرض الذي جاءوا فيه، الذي هو نجاة الأنفس، ولأن هذا العلم فوائده مختصة بالعلم الأرضي، والأنبياء - عليهم السلام - دعاة إلى العالم العلوي الذي هو أعلى من عالم الأفلاك، وأيضا لم يجز لهم أن يضيفوا إلى تأييد الله ووحيه بوساطة الملائكة المقربين، حيلة بشرية ولا نيرنجية فلكية.»

لست أدري ماذا يكون موقف القارئ بعد استماعه لحوار كهذا بين التلميذ وشيخه في موضوع التنجيم، لكنني لا أخفي على القارئ شيئا من نفسي إذا قلت إن موقفي من هذا كله هو موقف الرفض الصريح، فهو كله سخف في سخف وضلال في ضلال، وينبغي لأبناء هذا العصر أن يتخلصوا من كل حرف فيه، فيطرحونه وراء ظهورهم نصا وروحا.

70

أولئك هم إخوان الصفا، المثقفون العلماء! فماذا نتوقع من طراز المثقفين الذين يبدءون برفض العلم أساسا وبالتنكر للعقل معيارا؟ ولنأخذ الغزالي نموذجا لهذا الطراز؛ فهو يناصر اللاعقل مناصرة حارة، ويعجب ممن يركنون إلى «العقل» برغم ما يتعرض له هذا العقل من زلل، والأعجب هو أن الغزالي إذ يؤيد اللاعقل ويناصره، فإنما يفعل ذلك بما يشبه مناهج العقل المنطقي الذي يتنكر له ويهاجمه!

جاء قبيل خاتمة كتابه «المنقذ من الضلال» ما يلي: «الإيمان بالنبوة أن يقر بإثبات طور وراء العقل، تتفتح فيه عين يدرك بها مدركات خاصة، والعقل معزول عنها، كعزل السمع عن إدراك الألوان، والبصر عن إدراك الأصوات، وجميع الحواس عن إدراك المعقولات.»

ويعلق الغزالي بعد ذلك بقوله إن القارئ أمام هذا الذي نقرره من عجز العقل عن رؤية هذه المدركات، إما أن يكون رافضا وإما أن يكون متفقا معنا، فإذا كان من الرافضين «فقد أقمنا البرهان على إمكانه بل على وجوده»! ويريد الغزالي بذلك أنه قد أقام «البرهان» في صفحات كتابه السابقة على ورود هذه العبارة، أفلا يكفي أن يكون قد لجأ إلى «برهان» - والبرهان لا يكون إلا عملية عقلية - ليتبدى ما في كلامه من تناقض؟! أيمكن ل «العقل» أن يثبت عجزه في ميادين هي بحكم الفرض لا ينفذ إليها عقل؟ أيمكن للأنف أن يحكم على روائح تستعصي على شمه وللبصر أن يصف ألوانا تستحيل على رؤيته؟ إن «البرهان» إنما يكون على نتيجة نزعم لها أنها جاءت عن عملية «عقلية»، وأما ما سوى ذلك فلا «برهان» عليه، وقصارى ما نستطيعه إزاءه هو أن «نؤمن» به أو لا نؤمن، نميل إليه أو لا نميل، نحبه أو لا نحبه.

وأما القارئ المصدق لما زعمه الغزالي في عبارته السالفة، «فقد أثبت أن ها هنا أمورا تسمى خواصا (هل يجوز التنوين في كلمة «خواص»؟ لكن هكذا وردت) لا يدور تصرف العقل حواليها أصلا، بل يكاد العقل يكذبها ويقضي باستحالتها.»

ولينظر القارئ معي في كيفية إثبات الغزالي لوجود بعض الخواص التي يقضي العقل باستحالة أن تفعل فعلها الذي عرفناه لها، يقول: «فإن وزن دانق من الأفيون سم قاتل؛ لأنه يجمد الدم في العروق لفرط برودته، والذي يدعي علم الطبيعة يزعم أن ما يبرد من المركبات إنما يبرد بعنصري الماء والتراب، فهما العنصران الباردان، ومعلوم أن أرطالا من الماء والتراب لا يبلغ تبريدهم (هل نشير إلى أرطال الماء والتراب بالضمير «هم»؟ لكن هكذا وردت) في الباطن إلى هذا الحد، فلو أخبر طبيعي بهذا (أي بأن وزن دانق من الأفيون يجمد العروق لفرط برودته) ولم يجربه، لقال: «هذا محال، والدليل على استحالته أن فيه نارية وهوائية، والهوائية والنارية لا تزيد بها برودة» ...»

يزعم الغزالي بهذا ما يدعيه بعد ذلك مباشرة من أن «أكثر براهين الفلاسفة في الطبيعيات والإلهيات مبني على هذا الجنس؛ فإنهم تصوروا الأمور على قدر ما وجدوه وعقلوه، وما لم يألفوه قدروا استحالته.»

أود هنا أن أعيد القضية التي يعرضها الغزالي في الأسطر السابقة، على مسمع القارئ بعبارتي؛ ليعجب عجبي من موقفه؛ فهو يقول إن العقل لا يستطيع إدراك كل شيء، وإن ما لا يدركه يظن أنه محال الحدوث، وبرهان ذلك أنك لو قلت له إن وزن دانق من الأفيون يجمد الدم في العروق لفرط برودته لما صدق؛ لأن الأفيون مركب من نار وهواء، وهذان حاران لا تنتج عنهما برودة! ونحن نسأل الغزالي: من ذا الذي قال إذن إن الأفيون يجمد الدم لبرودته؟ أليست هي تجربة الناس بما شاهدوه؟ وهل تقع هذه التجربة في قائمة الإلهامات الروحانية التي تستعصي على العقل، أو هي من صميم عمل العقل عندما يستخرج قوانين الأشياء؟ إننا بالطبع لا ننقد الغزالي من حيث هو يقيم الحجة على خصائص الماء والهواء والتراب والنار، فتلك كانت ثقافة عصره ولا يلام عليها، ولكننا ننكر على أي قارئ معاصر لنا يساير الغزالي في حديث كهذا يسقط كله - بخطئه وصوابه - بسقوط الأساس الذي ينبني عليه في تحليل الطبيعة إلى عناصر أربعة، كما كان الأمر عند القدماء.

وهل صحيح أن «أكثر براهين الفلاسفة في الطبيعيات والإلهيات مبني على هذا الجنس؟» أعني أن أكثر براهينهم كان قائما على أساس أن ما لم يألفوه في تجاربهم عدوه مستحيلا؟ لست أظن أن ذلك حكم ينصف تلك الطائفة من قادة الفكر.

على أي حال، لماذا يقول الغزالي هذا؟ إلى أي شيء يمهد بهذه المقدمة؟ إن مرماه هو أن ينتهي إلى نتيجة يريدها، وهي أن من ينكر قدرة الإنسان على الخوارق بقواه الروحانية، فإنما يبني إنكاره على عدم إلفه لها في خبرته، يقول: «ولو لم تكن الرؤيا الصادقة مألوفة، وادعى مدع أنه عند ركود الحواس يعلم الغيب، لأنكره المتصفون بمثل هذه العقول.»

ويعود الغزالي مرة أخرى فيسوق مثلا محسوسا، مما يقول عنه الذين لم يروه إنه مستحيل، مع أنه يحدث فعلا، والمثل هنا هذه المرة أعجب من مثل دانق الأفيون في المثل السابق، وهذه هي عبارته: «ولو قيل لواحد: هل يجوز أن يكون في الدنيا شيء هو بمقدار حبة يوضع في بلدة ليأكل تلك البلدة بجملتها ثم يأكل نفسه، فلا يبقي شيئا من البلدة وما فيها، ولا يبقى هو في نفسه؟ لقال: هذا محال وهو من جملة الخرافات، وهذه حالة النار، ينكرها من لم ير النار، إذا سمعها.» فأولا: إن ما يأكل البلدة ليست هي شرارة النار التي هي «بمقدار حبة» على حد تعبير الغزالي، وإنما الذي يأكل البلدة هو أن كل ما فيها يشتعل ويتحول من صورة مادية إلى صورة أخرى، فحجم النار التي تأكل البلدة هو مساو لحجم البلدة نفسها؛ وثانيا: لماذا نقول: «شيء هو بمقدار حبة» لتضفي على الكلام صورة الأحاجي والألغاز؟ لماذا لا تقول: «شرارة نار» ثم تلحق ذلك بوصف علمي موضوعي تحليلي لطبيعة النار؟ فعندئذ لو كان السامع ممن يدركون اللغة العلمية التحليلية لطبائع الأشياء، لما أنكر ذلك حتى ولو لم ير النار من قبل؛ وثالثا: أئذا أنكرت إمكان شيء لكونه لم يقع لي في خبرتي السابقة، كان ذلك دليلا على صدق الزعم بأن فعل الخوارق ممكن للإنسان إذا استعان بوسيلة غير وسيلة العقل؟ أم الأقرب إلى الصواب أن يكون دليلا على أن المنكر لم يستخدم عقله على نحو ما يريده العلم أن يستخدمه؟

ولقد أذهلني أن أجد الغزالي يعقب على مثل النار التي تأكل البلدة وتأكل نفسها، بقوله: «وأكثر إنكار عجائب الآخرة هو من هذا القبيل.» سألت نفسي دهشا: أي قبيل؟! كم صادف الغزالي في حياته من الناس الذين إذا قيل لهم إن جذوة النار تلقى على الشيء القابل للاحتراق فيحترق، تعجبوا وأحسوا في بواطنهم برفض عقلي لما يسمعون، أيكون هذا - في رأي الغزالي - على نفس المستوى مع قول ينبئنا بأن صورا ينفخ فيه يوم القيامة، فتعاد إلى الحياة ملايين الملايين من بشر ماتوا بكل صور الموت وفي كل أصقاع الأرض وأرجاء السماء؟ هل يرى الغزالي أن القلق العقلي في قبول الخبر هنا كالقلق العقلي في قبول خبر الجذوة المشتعلة التي تحرق قطعة الخشب أو الورق؟ أليس يرى بين الحالتين بعدا شاسعا، هو نفسه البعد بين ما يقبله العقل مستندا إلى شواهد الحواس، وبين ما يستحيل على «العقل» أن يقبله فيحيله إلى الإيمان؟

يستأنف الغزالي حديثه فيقول: «نقول للطبيعي: قد اضطررت إلى أن تقول في الأفيون خاصية في التبريد ليس على قياس المعقول في الطبيعة، فلم لا يجوز أن يكون في الأوضاع الشرعية من الخواص في مداواة القلوب وتصفيتها ما لا يدرك بالحكمة العقلية، بل لا يبصر ذلك إلا بعين النبوة؟»

اللهم اهدني إلى رؤية الحق إذا كنت قد ضللت إلى هذا المدى! ذلك أن العجب يشتد بي كلما أمعنت في قراءة النص الغزالي الذي أنقله هنا إلى القارئ جزءا جزءا؛ فالغزالي بلا شك ثاقب النظرة قادر على التحليل قدرة ندر أن رأيت مثلها في مفكر آخر، وهو فوق هذا مؤلف في المنطق حتى كاد المنطق أن يستوعب كل ما كتب إذا استثنيا ما كتبه في الفقه والتصوف، ولكني مع علمي بهذا كله أقرأ هذا الذي يقوله ليثبت به عجز العقل عن رؤية الحقائق، مما يحتاج بالضرورة إلى قوة يستمدها الإنسان من عالم ما فوق العقول، أقول إني أقرأ له هذا الذي يقوله فيشتد عجبي لما ينطوي عليه من تهافت منطقي عجيب! انظر إلى الأسطر القليلة السالف ذكرها، تجده يعقد الموازنة بين خاصة الأفيون في تبريد الجسم وبين خواص الأوضاع الشرعية في مداواة القلوب وتصفيتها! يعقد هذه الموازنة بين الجانبين ليراهما متشابهين في كونهما معا مما تعجز العقول عن إدراكه؛ بالتالي لا يكون ثمة من مناص للإنسان إلا أن ينتظر ما يشبه الوحي النبوي لإدراكه! الأفيون مادة كسائر المواد في الطبيعة، فكيف يحيط الإنسان علما بالطبيعة إلا أن يشاهد كائناتها كيف تتأثر وكيف تؤثر، ثم يسجل عنده ما قد شاهد فإذا هو علمه بالطبيعة، وإذا وسيلته في ذلك هو العقل الاستقرائي الذي يستند في صياغة أحكامه العامة على ما تخبره الحواس؛ فإذا كان الطبيعي الذي يشير إليه الغزالي، لم يكن قد علم من قبل أن للأفيون خاصية التبريد، ثم شهد تلك الخاصية، فالضرورة «العقلية» العلمية تقضي عليه حينئذ أن يضيف هذه المشاهدة الجديدة إلى ما يعلمه عن الطبيعة، فإذا وجد هذه الحقيقة الجديدة تتنافى مع بعض المبادئ العلمية التي كان قد كونها لنفسه عن ظواهر الطبيعة وكائناتها، فلا حيلة له إلا أن يعدل من تلك المبادئ حتى تتسق مع ما يشاهده في دنيا الوقائع، وهو يفعل ذلك بإملاء «العقل» لا برغم العقل؛ فكيف إذن يقيس الغزالي حالة عقلية صرفة بحالة أخرى لا تدخل في مجال العقل من قريب أو بعيد، وأعني الحالة التي تعمل فيها بعض «الأوضاع الشرعية» على مداواة القلوب؟! إن هذه الحالة الثانية إذا كان لا بد فيها من قوة نسلم بها تسليما إيمانيا، فليست الحالة الأولى من هذا القبيل نفسه.

ولك أن تزداد معي عجبا على عجب، إذا مضيت مع الغزالي في هذا النص الذي ننقله عنه، حين يستطرد في القول عن علماء الطبيعة الذين يسرفون في الاعتداد بعقولهم: «بل قد اعترفوا بخواص هي أعجب من هذا فيما أوردوه في كتبهم، وهي من الخواص العجيبة المجربة في معالجة الحامل التي عسر عليها الطلق، بهذا الشكل:

ب

ط

د

2

9

4

ز

ه

ج

7

5

3

و

أ

ح

6

1

8

يكتب على خرقتين لم يصبهما ماء، وتنظر إليهما الحامل بعينها، وتضعهما تحت قدميها، فيسرع الولد في الحال إلى الخروج، وقد أقروا بإمكان ذلك وأوردوه في كتاب «عجائب الخواص»، وهو شكل فيه تسعة بيوت، يرقم فيها رقوم مخصوصة، يكون مجموع ما في جدول واحد خمسة عشر، قرأته في طول الشكل أو في عرضه أو على التأريب.» (أود للقارئ أن يلاحظ أن الأرقام في المربع الثاني هي الأعداد التي تقابل الحروف في المربع الأول، فيما يسمونه بحساب الجمل، وجاءت هذه المقابلة من أنك لو كتبت الحروف بترتيب أبجد هوز حطي ... فإنها في التسعة الأحرف الأولى تقابل التسعة الأعداد الأولى، هكذا:

أ

ب

ج

د

ه

و

ز

ح

ط

1

2

3

4

5

6

7

8

9

فقابل بين الحروف في المربع الأول وبين الأعداد في المربع الثاني تجد أن لكل حرف ما يقابله من عدد على الوجه الذي أسلفناه.)

ولنستأنف عبارة الغزالي السابقة، يقول: «فيا ليت شعري! من يصدق بذلك، ثم لا يتسع عقله للتصديق بأن تقدير صلاة الصبح بركعتين، والظهر بأربع، والمغرب بثلاث، هي لخواص غير معلومة بنظر الحكمة؟! وسببها اختلاف هذه الأوقات، وإنما تدرك هذه الخواص بنور النبوة.»

نقطتان نريد هنا أن نعلق عليهما؛ الأولى: إذا كنت قد رأيت بعض من كتبوا في علم الطبيعة - كجابر بن حيان مثلا - قد «اعترف بخواص» هي أعجب مما ذكرته سابقا (ليلحظ القارئ أن الغزالي لم يكن قد أسلف إلا أمثلة لا تثير أي تعجب؛ إذ أسلف مثلين: مثل الأفيون وخاصته في التبريد، ومثل النار تحرق بلدة بأكملها)، أقول: إنك إذا كنت قد رأيت من علماء الطبيعة من ذكر في كتبه خواص المربعين اللذين بينت لنا شكليهما، على أنهما ذوا تأثير في معالجة الحامل التي عسر عليها الوضع، فقد كان الأولى - بدل أن تستشهد بذلك على عجز العقل عن إدراك هذه الأمور وإحالتها إلى نور النبوة - كان الأولى أن تقف أحد موقفين، فإما أن تخرج صاحب هذا الزعم من زمرة علماء الطبيعة، وإما أن تخرج هذه الخرافة من علم الطبيعة، أما أن تسلم بصدق ما هو مرجح الكذب، ثم تجعله هو نفسه حجة على ما تريد إثباته، فذلك ما لا نوافق عليه. وأما النقطة الثانية التي نريد التعليق عليها، هي هذه الموازنة القريبة بين خواص المربعين المذكورين في تسهيل عملية الوضع، وبين خواص ركعات الصلاة من حيث عددها، فقد يحق لنا، بل يجب علينا أن «نؤمن» بأن وراء عدد الركعات المفروضة حكمة، ربما ظهرت لنا وربما خفيت، ولكن من ذا الذي يوجب علينا الاعتقاد بصحة ما يزعمونه عن خواص المربعين السابقين في تيسير الولادة العسرة؟ لو قلنا إن هذه الخواص «مجربة»، كما ورد في النص الغزالي المذكور، فلماذا تكون «عجيبة»، كما ورد عنها أيضا في النص نفسه؟ إن العلم الطبيعي كله مؤلف من «مجربات»، ولا مبرر «للعجب» من أي ظاهرة أثبتتها التجربة.

ويختم الغزالي كلامه في سياق الحديث الذي ننقله للقارئ، بموازنة أخرى أشد عجبا، خلاصة ما ورد فيها هي أنه يخاطب قوما لو قيل لهم على لسان نبي صادق مؤيد بالمعجزات لم يعرف قط بالكذب إن هنالك حكمة إلهية في أعداد الركعات وفي رمي الجمار، وعدد أركان الحج، وسائر تعبدات الشرع، لأنكروا لك من جانب العقل، على حين أنهم إذا قال لهم منجم إن قراءة الطالع تدل على أن أحدا منهم لو لبس ثوبا جديدا في وقت معين، قتل في ذلك الثوب، لرأيتهم مصدقين لما قاله المنجم، مع أنه قد كذب في أحكامه قبل ذلك مائة مرة. يريد الغزالي بهذه الموازنة أن يقول لمن يوجه إليهم الخطاب: إنه إذا كان قول المنجم مقبولا عندكم برغم تعرضه للكذب، وبرغم كونه مجاوزا لحدود «العقل»، أفليس الأولى بالقبول قول النبي في حكمة أشياء قد تجاوز هذه الأخرى حدود المعقول؟

كتب الغزالي ما كتبه دفاعا عن «اللامعقول»، وهو حر في اختيار موقفه، وأحسبنا بدورنا أحرارا إذا اخترنا ألا نقبل من تراثهم إلا المعقول وحده؛ لأنه - دون اللامعقول - هو الذي يجاوز حدود مكانه وزمانه، فما قد قبله العقل يوما، فإنه يقبله كل يوم، وأما ما أرضى اللاعقل فينا يوما، فقد لا يرضيه حين تتغير الظروف.

فهرس تحليلي

القسم الأول: طريق العقل

الفصل الأول: خطة السير (1)

لا بد من إطار يجمع الأشتات. (2)

العقل طريق من عدة طرق. طريق العقل يتميز بتسلسل خطواته المؤدية إلى الهدف المقصود. ما كل سلوك إنساني على هذا النمط الهادف. تتميز الوقفة العقلية بأنها مقيدة بالروابط السببية، أما الوقفة العاطفية فتختار ما هو محبب إلى النفس. ليس الإنسان مسيرا بالعقل وحده، اللهم إلا في استثناء مثل سقراط. حدوث الصراع بين العقل والهوى. الناس صنفان: من يغلب عليه العقل ومن تغلب عليه العاطفة. (3)

طريقنا في هذا الكتاب هو اختيار الجانب العقلي وحده من تراثنا الفكري. وصل الحاضر بالماضي لا يتحقق إلا عن طريق الجانب العاقل. العاطفة قد تتعلق في عصر بما لا تتعلق به في عصر آخر. طريق العقل الذي اخترناه ليس هو الأشكال المنطقية المجردة، بل هو المواقف الفعلية في حالات نبضها، والتي عالجها السلف بمنطق العقل لا باندفاع العاطفة. الإدراك السليم في حل المشكلات ليس كله أقيسة أرسطية، الإدراك السليم قد يأتي عفوا، وقد يكون إدراكا بالبصيرة اللامحة. فرق بعيد بين رجلين: أحدهما يطمئن نفسه بالخرافة، وثانيهما يلتمس سند العقل؛ في التراث العربي هذا الصنفان من الرجال، وسنعنى بالصنف الثاني منهما دون الأول. (4)

آية النور وتأويل الإمام الغزالي لها تصلح لهدايتنا في خطوات السير. في هذه الآية وصف لدرجات الإدراك السليم، وقد تكون هي الدرجات التي يتم بها النمو العقلي في الفرد وفي الجماعة. متابعة تراثنا الفكري على هدى هذه الدرجات، فلكل درجة منها عصر تمثلت فيه. «النور» هو قوة الإدراك، وأول درجات الإدراك حس بالحواس، وتلك هي المرموز لها في الآية بالمشكاة، داخل المشكاة مصباح يرمز إلى العقل الذي يدرك المعاني من وراء المحسوسات، يساعد العقل في إدراكه قوة الخيال، وهي التي ترمز إليها الآية بالزجاجة المحيطة بالمصباح. المصدر الذي يستمد منه الخيال قوته «شجرة مباركة» ترمز إلى الروح الفكري الذي يؤلف بين العلوم العقلية، وإلا بقيت المعلومات أشتاتا لا تنفع. الشجرة المباركة هي بمثابة «المبدأ» الذي يهتدي به السالك، ليست الشجرة المباركة بحاجة إلى مصدر سواها تستمد منه القوة؛ فهي مضيئة بزيتها، كأنما قصد بها الإدراك بالبصيرة النافذة، فهو وحي من الله.

ترى هل تكون هذه الدرجات هي نفسها مراحل التطور الفكري في ثقافة بأسرها؟ فعصور ثقافتها أسطورية، تبعتها عصور ثقافتها عقلية، ثم جاءت عصور ثقافتها وحي من الله؟ ثم أتكون هذه نفسها مراحل النضج في الثقافة العربية؟ إذا صح ذلك التمسنا طريق العقل في خواطر البداهة أولا، وفي محاجات المنطق ثانيا، وفي حدس الصوفية ثالثا؛ الأولى وفرة في الحصاد، والثانية تنظيم لذلك الحصاد، والثالثة تأمل فيما يجاوزه ويعلوه. (5)

مراحل النمو العقلي كما يراها «وايتهد» - الفيلسوف البريطاني المعاصر - في كتابه «أهداف التربية»، المراحل عنده ثلاثة؛ ففي الأولى يتميز الطفل بعفويته، وفي الثانية يضع القواعد التي تنظم له حصاد المرحلة الأولى، وفي الثالثة يجمع أشتات القواعد تحت مبادئ أكثر تجريدا وتعميما.

الشبه واضح بين تقسيم الغزالي (في تأويله لآية النور) وتقسيم وايتهد؛ في الحالتين يبدأ الإدراك عفو البديهة، ثم ينتقل إلى التنظيم بالقواعد، ثم إلى إدراك المبادئ الأعم؛ ويضيف الغزالي بعد ذلك مرحلة موجهة بقوة الإلهام. سأجعل هذه المراحل نفسها خطوات سيري في هذا الكتاب: في المرحلة الأولى (القرن السابع الميلادي - الأول الهجري) ومضات عفوية خلاقة، وفي المرحلة الثانية (القرنان الثامن والتاسع في التاريخ الميلادي) تنظيم وتقسيم وتأصيل للقواعد، وجاء القرن العاشر ليعلو من القواعد إلى المبادئ، ثم جاء القرن الحادي عشر ليلتمس الحق في حدس المتصوفة.

الفصل الثاني: مشكاة البديهة

أدب، وفلسفة، وفروسية ، وسياسة (6)

ليست وقفتي وقفة العالم الذي يحلل، بل هي وقفة الأديب الذي ينطبع بما يحس، هي وقفة أقرب إلى طريقة هوسرل منها إلى طريقة ديكارت أو هيوم. للكتابة عن الماضي طريقتان: إحداهما أن ينظر المؤرخ للعصر الذي يؤرخ له بأعين أبنائه ومن خلال ظروفه، والأخرى أن ينظر إليه بعين عصره هو ليرى ماذا يصلح للبقاء وماذا فقد صلاحيته؛ ولقد اخترنا الطريقة الثانية في النظر إلى تراث الأقدمين. (7)

وقفة عند المعركة التي نشبت بين علي ومعاوية. هنا مثال للإدراك الفطري المباشر، وهو إدراك المرحلة الأولى من مراحل التطور، هو موقف امتزج فيه أدب وفلسفة وفروسية وسياسة؛ فالسياسي هنا أديب والأديب فيلسوف والفيلسوف ينتزع حكمته بالبصيرة الصافية والسيف في يده وعنان جواده في قبضته. الإمام علي شاهد على اجتماع هذه الجوانب كلها في رجل واحد. مختارات من أقواله في «نهج البلاغة». موضوعات فلسفية تصاغ في عبارة أدبية. التمييز بين الفلسفة والحكمة. الفن الأدبي في نهج البلاغة أشبه بفن النحت الذي يشكل الجلمود ليبقى على الدهر. هل جاء البناء اللفظي أقوى من المعنى الذي يحمله؟ مثل من خطبته يوم بويع في المدينة. هذا مثل يبين الفرق بين ثقافة عصرهم وثقافة عصرنا؛ فموضع فخرهم عبارة قوية البنيان، وموضع فخرنا صيغة رياضية ندير عليها الآلة. (8)

الصراع حول الخلافة بين علي ومعاوية: مشهد يتجسد فيه تراثنا، اجتماع الفصاحة والشجاعة ودهاء السياسة، ظهور المذاهب السياسية لأول مرة، شعورنا نحن إزاء هذا المشهد المتشابك الخيوط بميل إلى هذا ونفور من ذاك معناه قبول لبعض التراث دون بعض، وجوب إحياء الجانب الصالح لنا وترك الجانب الآخر لدارسي التاريخ.

أتباع عثمان يرفضون مبايعة علي. أهل الشام يأبون أن يبايع للمؤمنين أمير بعد عثمان إلا بعد أخذ القصاص من قاتليه. علي يرى أن لا مفر من القتال مع معاوية، ومعاوية يلزم عليا دم عثمان بدعوى أن عليا قد آوى القاتلين. عمرو بن العاص هو مستشار معاوية. معاوية يسعى لدنياه دون آخرته باعترافه. وقعة صفين من حيث هي تجسيد لنواح كثيرة من تراثنا الفكري. معاوية يتحكم في ماء الفرات ويشير عليه مشيروه أن يحبس الماء عن جنود علي ليموتوا عطشا. تبادل الرسل بين علي ومعاوية ونماذج من حوارهم الذي امتزج فيه أدب بسياسة. وصية أمير المؤمنين لجنوده مثل أعلى في أخلاقية الحرب. معاوية وعمرو يعدلان عن القراع إلى الخداع. كيف وصف علي عمرو بن العاص في نهج البلاغة. رسول من معاوية يعرض على علي أن يقتسما بينهما العراق والشام؛ فيكون العراق لعلي والشام لمعاوية. رفض الاقتراح. عمرو يشير على معاوية بأن يطلب الاحتكام إلى القرآن، «وهو أمر إن قبلوه اختلفوا وإن ردوه اختلفوا.» أنصار معاوية يرفعون المصاحف على أطراف رماحهم مطالبين بالاحتكام إلى الكتاب. وقوع الخلاف في صفوف علي. (9)

الناس يطلبون الموادعة وعلي يخطب فيهم ليردهم إلى صواب. زهاء عشرين ألفا من أصحابه يطالبونه بالاحتكام إلى كتاب الله، كان هؤلاء أول «الخوارج». تحكيم القرآن يأخذ مجراه. أهل الشام يختارون عنهم ابن العاص، وأهل العراق يختارون عنهم أبا موسى الأشعري. لما قرئت وثيقة الموادعة في صفوف علي، جاءت صيحات من جميع الأرجاء تقول: «لا حكم إلا لله.» الصائحون يعترفون بخطئهم حينما رضوا بالتحكيم، ويطلبون من علي أن يعترف بخطئه كذلك. هؤلاء هم الذين أصبحوا فيما بعد جماعة «الخوارج». لم يلبث الخوارج أن باتوا مذهبا سياسيا له فروع. كيف خدع عمرو بن العاص زميله في التحكيم أبا موسى الأشعري، حتى أعلن هذا في الناس خلع علي عن إمرة المؤمنين، فقام ابن العاص وأثبت صاحبه معاوية في الخلافة؟ (10)

من خدعة التحكيم انبثقت دولة وتفجرت فلسفة سياسية. السؤال القائل: لمن يكون الحكم؟ يطرحه الخوارج لأول مرة. الخوارج يضعون أصلح المبادئ في سياسة الحكم، لكن دعوتهم تذهب أدراج الرياح؛ من مبادئهم أن يكون الحكم للقادرين عليه لا للوارثين له عن آبائهم ولا للأقوياء ولا للأغنياء، ومن مبادئهم أيضا ألا تكون فجوة بين العقيدة والعمل بناء على تلك العقيدة، لكن موقف الخوارج مليء بالمتناقضات؛ قبلوا التحكيم ثم صاحوا: «لا حكم إلا لله.» علي نفسه في عجب من تناقضهم هذا. فظائع الخوارج مع من خالفهم في الرأي من المسلمين. قصتهم مع عبد الله بن خباب؛ يقتلون المسلم المختلف معهم في الرأي، ويتركون النصراني المختلف معهم في الرأي. قصة واصل بن عطاء إذ ادعى

قصة علي مع أحد المنجمين ودلالتها على احتكام القول إلى عقولهم،

(11)

موقفنا من المشهد الذي صورناه. تشابه الناس في كل العصور من حيث الدهاء والمكر والحيلة، لا فرق بين أقدمين ومحدثين، لكن الطابع البارز هو اجتماع العناصر الكثيرة في رجل واحد، فيكون هو السياسي والفارس والأديب وصاحب الحكمة الخالدة. لقد احتوى مشهد صفين على أقطاب كثيرين، لكننا نختار من بينهم عليا ليكون مرآة عصره، ويكفي أنه أورثنا كتابا - هو نهج البلاغة - نرى عقله على صفحاته، ومن هذا الكتاب نجد البرهان على أن الإدراك عندئذ كان موكولا إلى الفطرة السليمة لا إلى التحليل والتعليل. لم تكن «الفكرة» عندئذ نظرية مجردة بقدر ما كانت أداة من أدوات العمل؛ ولذلك تشابكت الأفكار مع السيوف والجياد في نسيج واحد. نماذج من نهج البلاغة.

الفصل الثالث: مصباح العقل في مشكاة التجربة (12)

رأينا في الصورة التي رسمناها لواقعة صفين؛ كيف كان أسلافنا يفكرون ويسلكون في المرحلة الأولى من مدارج طريقهم العقلي. أحكامهم عندئذ هي أحكام البديهة الفطرية حيث لا تكون الفكرة وليدة قراءة ودرس، ولا وليدة تأمل طويل في صورة مجردة نظرية، بل كانت الفكرة تأتي فور لحظتها لترد على موقف طارئ. في المرحلة التالية أصبح الفكر تقعيدا للقواعد وردا للتجارب الجزئية والخبرات المفردة إلى أحكام عامة، وذلك هو صميم المنهج العلمي، فالعلم بمنهجه لا بموضوعه؛ فالانتقال مع أسلافنا من القرن السابع الميلادي إلى القرن الثامن، هو انتقال من مرحلة التمرس الفعلي والمعاناة إلى مرحلة الإدراك العلمي في أولى درجاته. كان العرب يتكلمون لغتهم قبل ذلك بقرون، لكن قواعد اللغة لم تضبط إلا في القرن الثامن؛ وكان للعرب شعر ينظمونه، لكن تفاعيله وبحوره وأوزانه لم تتم صياغتها إلا في القرن الثامن. كانت المرحلة الأولى بمثابة المشكاة من مصادر النور، ومع القرن الثامن بدءوا مرحلة أخرى تقابل المصباح في المشكاة. (13)

المشكلات الفكرية تجيء نابضة بالحياة حين تنبت في تربة الحياة العملية نفسها. مشكلاتنا الفكرية اليوم مصطنعة؛ لأنها منقولة عن مفكرين في غير أرضنا. جمهور الناس اليوم لا يجد في مفكرينا من يحل لهم مشكلاتهم فيلجئون إلى الخرافات ومروجيها. مشكلات الفكر عند أسلافنا نبتت لهم من واقع حياتهم؛ من واقعتي الجمل وصفين نشأت لهم مشكلة نظرية هي مشكلة الذنوب الكبيرة؛ ماذا يكون بالنسبة لمقترفيها؟ ففي كلتا الواقعتين سفكت دماء للمسلمين، ولا بد أن يكون أحد الفريقين المتحاربين - على الأقل - على خطأ؛ وإذن فالجانب المخطئ منها مسئول عن تلك الدماء المسفوكة، فماذا يكون الحكم فيه: أيظن معدودا من المؤمنين أم يسلك في زمرة الكافرين؟ وسرعان ما انتقل البحث النظري إلى مشكلة أخرى تتفرع عن السابقة: من ذا يكون أحق بالخلافة؟ أي إن الفكر الفلسفي والفكر السياسي قد استثارهما ما حدث للناس في حياتهم العملية. رأينا في الفصل السابق كيف نبت «الخوارج» من أرض صفين، ومن واقعة الجمل نشأت مشكلة الخلافة؛ علي مع طلحة والزبير؛ فهذان تنكرا لبيعة علي بعد أن أقراها، ذهبا معا في صحبتهما عائشة نحو البصرة، وهنالك وقعت بينهم وبين علي موقعة «الجمل»؛ سميت كذلك لأن أم المؤمنين عائشة كانت في هودجها على ظهر جملها تشارك في مقاتلة علي وصحبه. انتصار علي وصحبه. الفريقان يتبادلان السباب، مع أن أم المؤمنين في الفريق الأول، وعلي بكل مكانته من رسول الله في الفريق الثاني، وكلا الفريقين في أعيننا اليوم تراث مقدس! ويهمنا الآن ما نشأ عن الموقف من أسئلة عقلية: أي الجانبين على حق؟ ما حكمنا فيمن يكون على باطل؟ (14)

الوقفة الثانية من رحلتنا الثقافية هي مدينة البصرة في أوائل القرن الثامن الميلادي (الثاني الهجري). توتر عقلي يسود الناس: تحت أية راية ينضوون؛ تحت راية فريق فيهم عائشة، أم تحت راية فريق آخر فيهم علي؟ أم يحايدون حفاظا على وحدة المسلمين؟ هل يعلون من شأن الإسلام باعتباره دينا للناس أجمعين، أو يعلون من شأن الانتماء القبلي أولا، وبعد ذلك يأتي الولاء للدين؟ في مدينة البصرة ظهرت الأحزاب ؛ من أنصار عائشة نشأ حزب «العثمانية»؛ أي أتباع عثمان، ومن أنصار علي نشأت «الشيعة»، ومن المحايدين نشأ الزاهدون المتطرفون الذين هم «الخوارج»، ومن هؤلاء ولدت حركة «المعتزلة». معركة الجمل هي نقطة البدء لكل تطور سياسي وديني ظهر بعد ذلك. من واقعة الجمل - كما أسلفنا - نشأ السؤال العقلي الأول: ماذا يكون الحكم بالنسبة للفريق المخطئ من المتحاربين؟ ظهرت ثلاثة حلول، كل حل منها أصبح يمثل مذهبا فكريا على طول التاريخ العقلي في تراثنا: (1) فهنالك اليساريون المتطرفون (بتعبيرنا الحديث) وهم الخوارج. (2) وهنالك اليمينيون المتطرفون وهم أهل السنة. (3) وهنالك المعتدلون وهم المعتزلة. أما اليساريون فقد رأوا تكفير المخطئ مهما يكن، وأما اليمينيون فقد رأوا صحة إسلام الفريقين معا، وأما المعتدلون فقد رأوا أن المخطئ منهما - دون التحديد من هو - مؤمن عاص.

البصرة والكوفة يمثلان اتجاهين في طريق الفكر؛ فالبصرة تعتمد على حجة العقل والكوفة تعتمد على الرواية المنقولة عن السلف، في البصرة نشأ الاعتزال، ونشأت الدراسات الأولى للنحو واللغة. (15)

الخوارج. دعوتهم إلى الخروج على الحاكم إذا أخطأ. مقارنة بما حدث في إنجلترا في القرن السابع عشر، وما نشب من اختلاف في النظرية السياسية بين فيلسوفين، هما: «هوبز» و«لوك»؛ فموقف الخوارج هو نفسه موقف «لوك». تفرق الخوارج في أحزاب فرعية بالغت العشرين يدل على دقة التحليل العقلي؛ إذ من المبدأ الواحد المتفق عليه انبثقت ظلال كثيرة متباينة. من أهم فرق الخوارج جماعة «الأزارقة». قسوة الأزارقة في قتل كل من خالفهم. ومن فرق الخوارج أيضا «النجدات»، وقد برئت النجدات من شناعات الأزارقة. ومن الخوارج كذلك فرقة «الصفرية»، وفيها شيء من الاعتدال بالنسبة للأزارقة. ومنهم فرقة «الإباضية». الخوارج يزدادون تسامحا كلما تقدم معهم الزمن؛ فأشدهم تزمتا هم الأزارقة، ثم اعتدلت الصفرية بعض الشيء، ثم ازدادت النجدات اعتدالا، ثم أمعن الإباضية في الاعتدال.

فريق «المرجئة» يمثل التسامح المقبول، وهم يرون إرجاء الحكم على المذنب إلى يوم القيامة، فيكون لله حسابه.

إذا كان الخوارج قد خرجوا على علي، فقد شايعه فريق «الشيعة». حق الخلافة له ولأولاده من بعده. (16)

وما زلنا في البصرة في أوائل القرن الثامن الميلادي (الثاني الهجري). ظهور التضاد الفكري بين المعتزلة والخوارج في مسألة الذنوب الكبيرة، وبين المعتزلة وأهل السنة في مسألة صفات الله، ثم ظهور تضاد فكري آخر بين القدرية (وهم من المعتزلة) الذين يجعلون للإنسان إرادة حرة مسئولة، والجبرية الذين جعلوا كل فعل بمشيئة الله وحده. ملخص لأمهات المسائل التي عرضت لعقول أسلافنا عندئذ، وكيف كانت مسائل انبثقت من حياتهم، ولم تعد بالمسائل التي تؤرقنا اليوم؛ لأنها بعيدة عن حياتنا، باستثناء مسألة واحدة قد تكون باقية ما تزال، هي الخاصة بحرية إرادة الإنسان أو جبرها.

مسألة حرية الإرادة ومسئولية الإنسان عن فعله؛ كيف نشأت؟ واصل بن عطاء في حلقة شيخه الحسن البصري عندما ألقى السؤال لأول مرة عن مرتكب الذنب الكبير. واصل يطرح إجابته بالقول ب «المنزلة بين المنزلتين». رأيه لم يعجب شيخه الحسن البصري، فاعتزل عنه واصل؛ ومن ثم جاء اسم «المعتزلة». رأي «واصل» متفرع عن قوله ب «القدر» (أي بحرية إرادة الإنسان في فعله، بغير حرية الإنسان في اختياره لا يكون «العدل» مفهوما في ثوابه وعقابه). جهم بن صفوان يعارض واصلا، ويجعل كل شيء بإرادة الله وحده. المسألة الخاصة بصفات الله؛ أهي الذات الإلهية نفسها كما قال المعتزلة، أم هي قائمة وحدها كما ذهب الصفاتية؛ أي أهل السنة؟ (17)

ما زلنا في البصرة في أوائل القرن الثامن الميلادي (الثاني الهجري). رجال اللغة والنحو يمثلون الحركة العقلية خير تمثيل. لم يكن هؤلاء مبتوري العلاقة بحياة الناس الفعلية كما هم اليوم. مراجعة المفكرين للقرآن ابتغاء الهداية فيما عرض لهم من مشكلات، اقتضى الوقوف عند نصه اللغوي. الخليل بن أحمد؛ لو وضعت عبقرية الخليل في اليونان لكانت أرسطو، أو في أوروبا النهضة لكانت نيوتن. يضع الخليل أول معجم للغة، ولأول مرة يضع للشعر العربي بحوره. ترتيبه الحروف في المعجم بحسب مخارجها عند النطق؛ فأقصاها مخرجا يرد أولا في الترتيب، وأدناها إلى الشفتين يرد آخرا؛ ومن ثم بدأ بحرف «العين»، ومن ثم كذلك سمى معجمه ب «العين»؛ لأن «العين» أول حرف عولج لكونه أقصى الحروف مخرجا من الحلق. تقسيم منطقي رياضي لما «يمكن» أن تجيء عليه الألفاظ من حيث طريقة بنائها، سواء وقع في تاريخ اللغة بالفعل أن وردت تلك الألفاظ، فتدلنا «الخانات» الفارغة في ذلك التقسيم على ما يجوز للعرب استحداثه من ألفاظ اللغة استجابة لما يطرأ لهم من ظروف جديدة. الخليل يجمع «الشواهد» التي تبين معاني الألفاظ بطرائق استخدامها. مقارنة ذلك بتيار فلسفي معاصر لنا يجعل معنى اللفظة مرهونا بوقوعها في جملة تحتويها، وإلا ظلت بغير معنى. لما كان معظم «الشواهد» أبياتا من الشعر القديم، التفت الخليل باهتمامه إلى الشعر وطريقة نظمه. (18)

البصرة تلتزم ضرورات المنطق في دراسة علمائها للغة. ما ورد على ألسنة القدماء مما لا ينساق مع تقسيماتهم المنطقية عدوه شاذا، مثلهم مثل بروقرسطس الأسطوري. إمام البصرة في هذا الاتجاه هو سيبويه تلميذ الخليل بن أحمد، يدعى كتابه المشهور في النحو ب «الكتاب»، بلغ علم النحو العربي أعلى ذراه في الكتاب بغير سوابق تدريجيه تمهد لبلوغه هذا المرتقى. الأمثلة كثيرة في ميادين الفكر والثقافة لظهور النتاج الضخم دفعة واحدة. في كتاب سيبويه إحالات إلى أسلاف له في مواضع كثيرة، لكن ذلك لا ينفي الكمال المفاجئ في تنسيق البناء. عقلانية البصرة وصرامة منطقها في دراسة اللغة والنحو اقتضى أن تنشأ في الكوفة مدرسة معارضة تجعل الرواية عن السلف - لا ضرورات المنطق - مدارها في القول والرفض. الكسائي في الكوفة يناظر سيبويه في البصرة. اختلاف البصرة والكوفة على هذا النحو ربما جاء صدى لاختلافهما السياسي؛ فأهل البصرة لم يكونوا من أهل الجزيرة العربية، فكان همهم ألا يجعلوا الأسلاف العرب مقياسا، بل منطق العقل الإنساني هو عندهم المقياس، وأهل الكوفة من أصول عربية؛ ولذلك اتجهوا إلى الإعلاء من شأن السلف في اللغة والنحو.

الفصل الرابع: مصباح العقل يشتد توهجه (19)

هذه هي الوقفة الثالثة على الطريق، وقد اخترنا لها مدينة بغداد في القرن التاسع الميلادي (الثالث الهجري). بث الدعوة سرا لانتقال الخلافة من بني أمية إلى بني العباس. تركيز الدعوة في الكوفة - لولائها لآل البيت - وفي خراسان لنقمة الموالي (وهم الفرس المسلمون) على الأمويين. الأمويون عرب خلص أرادوا السيادة للعرب على غيرهم حتى لو كان غيرهم من المسلمين؛ هنا تحالفت السياسة مع الثقافة في الهدف، فإذا كان الخلاف السياسي بين من أراد الخلافة للعرب من غير بني أمية ومن أرادها مقصورة على بيت الرسول، فكذلك كان الخلاف الثقافي قائما بين من أراد التعصب للثقافة العربية وحدها، ومن اعتز بالثقافات الأخرى العريقة كالثقافة الفارسية؛ الأولون هم حزب بني أمية، والآخرون هم الموالي المؤيدون لأن تكون الخلافة في آل البيت؛ من هنا التقت شيعة علي مع الساخطين من الموالي.

نجحت الدعاية السياسية لبني العباس، وبويع أبو العباس بالخلافة سنة 750م. اتهام بني أمية بالجور وابتزاز أموال الناس والظلم وإيثار الدنيا على الآخرة؛ وإذن فأسلافنا كان فيهم ما في البشر من طباع حسنة وسيئة. بعد أن استنفد بنو العباس حلفاءهم في الوصول إلى الخلافة، انقلب خليفتهم الثاني (أبو جعفر المنصور) على أبي مسلم الخراساني. (20)

تلك المقدمات السياسية في سطوة بني العباس وقتلهم لأبي مسلم الخراساني، أنتجت نتائج ثقافية، منها اللامعقول ومنها ما يدور في دنيا العقل؛ فمن اللامعقول الذي نتج ارتداد الفرس إلى عالم الوهم والخرافة في ردتهم إلى ثقافاتهم القديمة ليقاوموا بها ثقافة العرب، تأليه الفرس الساخطين لأبي مسلم الخراساني، تيارات من زندقة: من ذلك حركة «سنباد» وحركة «الراوندية»، وكما ارتد المجوس إلى مجوسيتهم (تعاليم زرادشت) ارتد أتباع «ماني» و«مزدك» إلى عقائدهم المانوية والمزدكية.

من هذه الحركات اللاعقلية نشأت ردود عقلية، فنشأت جماعات المعتزلة تناصر الإسلام بقوة العقل. (21)

كانت الكوفة مقر الخليفة المنصور حين ثارت عليه الراوندية، فكره المكان، وخرج بنفسه يرتاد له موضعا يسكنه هو وجنده، فكان أن اختار مكانا أقيمت عليه ما سمي بعدئذ باسم بغداد سنة 765م. الموكب العقلي العظيم في بغداد. «بيت الحكمة» (832م) في عهد المأمون. المأمون يستجلب مجموعة مختارة من كتب الأقدمين المخزونة في بلاد الروم. نقل هذه الكتب إلى العربية . أساطير تشيع في الناس وتدل على اهتمامهم بالكتب العلمية. وقفة داخل بيت الحكمة لنرى ماذا يحدث فيها؛ ثلاثة رجال من أسرة مسيحية واحدة: حنين بن إسحاق، وابنه إسحاق بن حنين، وابن أخيه حبيش بن الحسن؛ يقومون بترجمة الكتب العلمية من اليونانية إلى العربية. الشبه من حيث الموقع الثقافي بين حنين بن إسحاق قديما ورفاعة الطهطاوي حديثا. هل تسربت اليونانية المنقولة إلى شرايين الثقافة العربية أو اقتصرت على صفوة المثقفين؟ ترى ما الدافع الحقيقي للمأمون أن ينهض بحركة الترجمة عن ثقافة اليونان؟ عن السؤال الأول نقول إن الظاهر هو أن الثقافة الغربية المنقولة لم تمس جماهير الناس، كان المفكر الذي يتنصل علنا من العلم اليوناني يظفر بطيب السمعة عند جمهور الناس، وأما عن السؤال الثاني فيحتمل أن يكون الدافع الحقيقي لنقل الثقافة اليونانية بهذا الحماس الذي شهدناه هو إما محاربة الثقافة الفارسية القديمة، وإما محاربة الثقافة العربية الصميمة؛ فالأولى كان يرتكز عليها متعصبو الفرس، والثانية كان يرتكز عليها المتعصبون للدولة الأموية، وكلا الفريقين ذميم في عين الخلافة العباسية. (22)

لا يكفي أن نسأل: أي الجوانب الثقافية نقل العرب عن اليونان، بل لا بد أن نسأل كذلك: ماذا صنع العرب بما نقلوه؛ فقد نقلت الثقافة اليونانية القديمة إلى العرب وإلى أوروبا، فأنتجت نتيجتين مختلفتين فيما يقول المستشرق الألماني «كارل هينرش بكر»، فقد صادفت عند نقلها إلى العرب أفكارا من جنس غير جنسها، وأما عند نقلها إلى أوروبا فقد أضافت عددا آخر من أسرة حضارية واحدة تتفق في جنس التفكير حديثها مع قديمها. نحن الآن نترجم عن أوروبا، وننقل عنها بالمشاهدة والتدريب مما تغيرت له وجوه حياتنا العملية، لكن الأقدمين - في رأينا - عندما ترجموا عن اليونان لم يتغير من حياتهم العملية إلا القليل. فوارق عميقة في وجهة النظر نشأت بالتربية بين ما يسمى بالشرق وما يسمى بالغرب. (23)

وقفتنا بعد خروجنا من بيت الحكمة كانت مع جماعة المعتزلة؛ لنرى فيم يفكرون وكيف يفكرون، وهم أقرب الناس تأثرا بالثقافة اليونانية المنقولة، كبار المعتزلة عندئذ (القرن التاسع الميلادي) كانوا في البصرة، فلنعد إلى البصرة حينا لننصت إليهم، مع «العلاف» شيخ المعتزلة، صاحب «الملل والنحل» يروي عنه عشر مسائل: المسألة الأولى عن ذات الله وصفاته، والثانية عن الإرادة الإلهية، والثالثة عن أمر «التكوين» في قوله تعالى: «كن» لما يريد له أن يكون، والرابعة عن حرية الاختيار عند الإنسان، والخامسة عن امتناع الحركة في الآخرة، والسادسة عن الرابطة بين القلب والجوارح عندما يهم الفاعل بفعل، والسابعة عن وجوب أن يعرف الإنسان ربه معرفة قائمة على العقل وأدلته، والثامنة عن تحديد الآجال، والتاسعة فيها عودة إلى الإرادة الإلهية، والعاشرة مسألة منهجية يشترك بها العلاف ألا تقبل حجة إلا إذا استندت آخر الأمر إلى وحي من الله ينزل على ولي معصوم، وهذه النقطة الأخيرة كفيلة بهدم موقف العلاف العقلي. المشكلات التي تعرض لها العلاف خاصة بعصره، لا يكاد يمتد إلينا منها إلا ما يمس حرية الإرادة. (24)

وقفة مع النظام في البصرة، وهو تلميذ العلاف. التلميذ يتفوق على أستاذه. يذكر صاحب «الملل والنحل» ثلاث عشرة مسألة تميز بها «النظام»؛ الأولى عن حرية الإرادة الإنسانية، رأيه بأن الله لا يجوز وصفه بالقدرة على فعل الشر؛ يكاد «النظام» يعاصرنا في الفكر حين يرد على معارضيه، فيقول إنه لا فرق بين أن نقول إن الله غير قادر على فعل الشر، وأن أقوله إنه قادر على فعله لكن لا يفعله؛ إذ هو في كلتا الحالتين لا يفعله، ولا يكون للعبارة معنى إلا بما تتضمنه من فعل؛ والمسألة الثانية خاصة بالإرادة الإلهية، يقول فيها إن هذه الإرادة لا تكون مطلقة منفصلة عن الشيء المراد، فلا إرادة إلا وهي موصولة بفعل؛ والمسألة الثالثة هي مما تجعله معاصرا لنا في الفكر، إذ يجعل بها الحركة أساسا لكل ما في الوجود، جسما كان أو عقلا أو إرادة؛ والمسألة الرابعة خاصة بتعريف الإنسان، وهو أنه إنسان بنفسه وروحه لا ببدنه، على أن تفهم النفس أو الروح على أنها مجموعة استعدادات لوظائف معينة يمكن أداؤها؛ وهذه فكرة أخرى تجعله قريبا من فكر عصرنا؛ والمسألة الخامسة يبين فيها الحدود الفاصلة بين قدرة الله وقدرة الإنسان، مناقشة هذه الفكرة؛ وفي المسألتين السادسة والسابعة يقرب «النظام» من إحدى مدارسنا الفلسفية المعاصرة، وهي التي تجعل حقيقة الشيء مجموعة ظواهره؛ تعليق على فكرته؛ لكنه يعود في المسألة الثامنة فيناقض نفسه إذ يجعل الكائنات منبثقا بعضها من بعض؛ لشرح ذلك قدمنا شروحا للمصطلحات الفلسفية الآتية: الجوهر، العرض، العلاقات الداخلية، العلاقات الخارجية؛ «النظام» في المسألتين السادسة والسابعة كان من طراز «هيوم»، لكنه في المسألة الثامنة من طراز «ليبنتز»؛ المثل الذي ساقه «النظام» لشرح فكرته هو نفسه الذي ساقه ليبنتز لشرح الفكرة عينها، وأعني مثل آدم وبنيه؛ فلو حللنا آدم لوجدنا أفراد الإنسانية جميعا؛ وتأتي المسألة التاسعة وهي خاصة بإعجاز القرآن؛ تناقض نلاحظه في تعليله للإعجاز؛ وأما المسألة العاشرة ففيها في بيان بأنه لا بد من إمام معصوم لشرح غوامض القرآن؛

تركنا «العلاف» و«النظام» وعلى الشفاه سؤالان: هل يقدمان لعصرنا شيئا؟ وهل كانا متأثرين بما نقل عن اليونان؟ الجواب عندي بالنفي في كلتا الحالتين، وليس يعيبهم أن تختلف مشكلاتهم عن مشكلاتنا، وألا يكونوا تزودوا بزاد كثير من علوم اليونان؛ على أننا نستطيع محاكاتهم في الوقفة العقلانية من المسائل المعروضة. (25)

عودة إلى بغداد. الجاحظ - كسائر عمالقة الفكر - يمتص في نفسه ثقافة عصره ليتناولها بالنقد ابتغاء تحويلها. الجاحظ مثل فولتير في سخريته وفي عقلانيته، هو نقطة التحول في الثقافة العربية؛ من ثقافة محورها الشعر إلى ثقافة محورها النثر ، إلى التحول من الوجدان إلى العقل، من البداوة إلى الحضارة المدنية. الجاحظ غني الفكر فلم تكن به حاجة إلى بريق اللفظ في خواء، وليس في كتابته ما يثقل على السمع أو على النفس أو ما يخفي شخصيته وراء كثرة الشواهد كما كانت الحال عند غيره، الجاحظ يعرض الفكرة ونقيضها ليخلص من المقارنة إلى رأي واضح، ينشد اليقين عن طريق الشك. رسالة «المعاش والمعاد» فيها توجيه في الأخلاق المحمودة. المنفعة عنده أساس الفضيلة. هذا المبدأ وحده من تراثنا يبيح لنا أن نرفض من التراث ذاته ما ليس ينفع عصرنا. تفرقة الجاحظ بين «التواني» و«التوكل»؛ فالأول لا يجوز لعاقل، وأما الثاني فلا يجوز إلا بعد أن نستنفد جهدنا ف «نتوكل» بعد ذلك. الجاحظ يرسم طريق السير العاقل؛ تحديد للهدف أولا، فتنظيم الخطوات الموصلة إليه ثانيا. لا بد أن يجيء «تخطيط» السير بحيث نكون على ثقة بما ينتج لنا آخر الأمر. التخطيط المرسوم بدقة لا يحتاج إلى «شجاعة» في تنفيذه، وإنما تطلب الشجاعة حيث تكون المغامرة، وهذه لا تكون إلا حين نصدر في سلوكنا عن «ترجيح» للنتائج المنشودة، لا عن «يقين». رسالة «كتمان السر وحفظ اللسان» تكاد تصور عصرنا كما صورت عصر الجاحظ. كلام جيد في كتمان السر. رسالة «في الجد والهزل» يتحدث فيها عن حالة الغضب ماذا تفعل بصاحبها، ثم يتحدث عن وجوب أن يكون للفظ ما يشير إليه. (26)

كتاب «الحيوان» للجاحظ، مقارنة بين «الشعر» الذي هو خاصة العرب و«الكتاب» الذي هو خاصة اليونان؛ الشعر لا يترجم فينحصر في أصحابه، وأما الكتاب فيترجم وتتسع دائرته. وجهة نظر الجاحظ في الترجمة وشروطها. إذا كان الجاحظ وهو يعيش في عصر الترجمة على غير ثقة بجدواها، فنحن نتساءل عن الدافع الحقيقي إليها؛ أهو دافع سياسي لإحداث البلبلة في قيمة الثقافة العربية الأصيلة حين يوضع إلى جوارها فكر يوناني غزير المادة؟ ينتقل الجاحظ من الحديث عن الترجمة إلى الحديث عن الكتاب أيا كان. شروط الأسلوب الجيد. وقفات نافذة من الطبيعة البشرية. الحرية وقيمتها الكبرى لكرامة الإنسان. نماذج من كتابته عن الحيوان في كتاب «الحيوان». مناظرة الكلب والديك وما وراءها من هدف خبيء. (27)

خصائص التأليف عند الجاحظ. سيطرته على الثقافتين العربية الأصيلة والأجنبية المنقولة بالترجمة. تفضيله للأولى عند المفاضلة .

الفصل الخامس: زجاجة المصباح (28)

الرمز هنا للقرن العاشر الميلادي (الرابع الهجري)، حيث يعلو التفكير العقلي من المقدمات المباشرة إلى مقدمات أعم؛ أي إنه يعلو من مستوى العلوم إلى مستوى الفلسفة. ليس المقصود هنا الفلسفة بمعناها الضيق، بل المقصود هو نوع التفكير الذي يتقصى المبادئ الشاملة وإن لم تكن موضوعات البحث هي ما يتناوله الفلاسفة المتخصصون. سنكتب هنا عن: إخوان الصفا، والتوحيدي، والجرجاني، وابن جني. (29)

رسائل إخوان الصفا تلخيص لفكر عصرهم. توسلوا في عرضهم بأسلوب الأدب التصويري، فاستخدموا القصص وأجروا الأحاديث على ألسنة الحيوان في مواضع كثيرة، عددها إحدى وخمسون رسالة تضاف إليها رسالة جامعة، وقد يكون العدد اثنتين وخمسين غير الرسالة الجامعة؛ أربع عشرة للعلوم الرياضية، وسبع عشرة للعلوم الطبيعية، وعشر للعلوم العقلية والنفسية، وإحدى عشرة للعلوم الشرعية، ثم الرسالة الجامعة وهي قائمة وحدها. (30)

الهدف الرئيسي هو بيان الاتفاق بين الشريعة الإسلامية والفلسفة اليونانية، لكنهم وضعوا الفلسفة في منزلة أعلى من منزلة الشريعة؛ فالشريعة تطب للمرضى والفلسفة تطب للأصحاء. التسامح الديني عند إخوان الصفا بحيث لم يفرقوا بين دين ودين. تعرضهم لسخط الناقدين. أخذهم بالبرهان العقلي المبني على التجربة الحسية. الشبه شديد بينهم وبين بعض المدارس التجريبية في الفلسفة الحديثة. (31)

أخذ إخوان الصفا فكرتهم عن الرياضة من الفيثاغوريين. تطبيقات منوعة للأساس الفيثاغوري القائل بأن حقائق الأشياء أعداد. (32)

مراتب الموجودات في رأي إخوان الصفا. الإنسان صورة مصغرة للكون، وفيه المراحل نفسها. الإنسان - كالكون بصفة عامة - وحدة عضوية. تشبيهات كثيرة للوحدة العضوية. العدد يفسر ترتيب الموجودات. الترتيب تطوري من المعادن في أسفل السلم إلى الإنسان وما فوق الإنسان في أعلى السلم. (33)

مقتطف طويل من الرسائل موضوعة محاكمة بين بني الإنسان في جهة وأنواع الحيوان في جهة أخرى؛ إذ ترفع هذه الأنواع شكاتها إلى ولي الأمر من الإنسان وفظائعه ، رافضة أن يكون للإنسان عليها فضل.

تشبيه عمل إخوان الصفا في هذا الفصل بما عمله جورج أورويل في كتابه «مزرعة الحيوان» في الأدب الإنجليزي الحديث. ترى هو رمز إخوان الصفا بتصويرهم ذاك إلى ظلم الحاكمين في الدولة القائمة عندئذ؟ الإخوان يمثلون النزعة التقدمية في وجه من أرادوا الرجوع بالحياة إلى الوراء. برغم عقلانية الإخوان فلهم لحظات لا عقلية، كموقفهم من السحر والطلسمات. (34)

وقفتنا الآن مع أبي حيان التوحيدي في كتابه «الإمتاع والمؤانسة»، وكان هو الذي كشف للناس عن إخوان الصفا. الكتاب صورة حية للثقافة العربية في القرن العاشر الميلادي (الرابع الهجري). بؤس أبي حيان في حياته. يسمر في دار الوزير أبي عبد الله العارض تسعا وثلاثين ليلة، كان كتاب «الإمتاع والمؤانسة» بعدئذ تسجيلا لما دار فيها من أحاديث، كان لكل ليلة موضوع رئيسي يحدده الوزير بسؤال يلقيه. من أمثلة الموضوعات التي أثيرت: متعة الحديث وخصائص الحديث الجيد، تعليق على أبرز أعلام الثقافة المعاصرين لأبي حيان، حقيقة «النفس»؛ ما هي؟ ضرورة التثقيف لمن يتصدى للكتابة الأدبية. خصائص الأمم: الفرس والروم والصين والترك والهند ثم العرب، مقارنة بين العلوم الرياضية وعلوم البلاغة؛ أيهما أنفع؟ موازنة بين المنطق اليوناني والنحو العربي. وصف لطائفة من صنوف الحيوان. «أنفس» الإنسان الثلاثة: الناطقة، والغضبية، والشهوانية؛ السكينة وأنواعها، حديث فلسفي عن الممكن والواجب والممتنع، وحديث فلسفي آخر عن «العقل» و«الحس»، ثم حديث فلسقفي كذلك عن الجبر والقدر. الحديث عن إخوان الصفا، حديث فلسفي عن الكلي والجزئي وكيفية إدراكهما والعلاقة بينهما، وعن مشكلة «الواحد والكثير» المعروفة في الفلسفة، وموازنة عن النظم والنثر. (35)

ننتقل إلى شخصية أخرى هي «عثمان بن جني» فيلسوف اللغة، كتابه «الخصائص» أي خصائص اللغة العربية. حدة ذهنه وشمول نظره. تفرقته بين «الكلام» و«القول». أتكون اللغة إلهاما أم اصطلاحا؟ أهي كلامية أم فقهية؟ أعني هل تخضع قواعد النحو فيها للتعليل العقلي أو هي مسموع لا يعلل؟ ابن جني يجيب عن السؤال الأول بأنها اصطلاحية، وعن السؤال الثاني بأن للقواعد النحوية عللها العقلية. ابن جني يقيم الاشتقاق على المنطق الصرف؛ بمعنى أن يحدد بالفكر المنطقي المجرد كل فروع المشتقات «الممكنة»، سواء ما استعمله العرب منها وما لم يستعملوه. لماذا يكثر الأصل الثلاثي في اللغة العربية؟ (36)

أيهما أقرب إلى الطبع العربي: الإيجاز أم الإطناب؟ إذا كان العرب قد عرفوا بميلهم إلى الإيجاز المكثف، فما دلالة ذلك في الكشف عن «خصائص العقل العربي»؟ ميل العربي إلى «التجريد» وإطلاق القول دون الوقوف عند الأفراد والمفردات، وفي هذا فارق يصعب عبوره بين زمانهم وزماننا. (37)

متى يكون الإجماع حجة؟ يقول ابن جني ما معناه إن إجماع العالم بأسره على أمر لا يجعله حجة عليك إذا أردت مخالفته، اللهم إلا إذا اتفق الخصمان أولا على التسليم معا بحقيقة معينة، وعندئذ ينصرف الجهد إلى إخراج النتائج من تحليل النص الذي اتفق عليه الجميع. يضع ابن جني مبدأ عظيما، هو أن كل مفكر إمام نفسه إذا هو أحسن النظر والاستدلال، في هذا المبدأ ما يرد على معاصرينا الذين يأتمون بالأقدمين. (38)

أيهما أولى بالعناية: الشكل أم المضمون؟ ابن جني ينفي عن اللغة العربية اهتمامها باللفظ دون المعنى؛ فاهتمامهم بالألفاظ هو نفسه اهتمامهم بمعانيها. الفرق بيننا حين نطرق مشكلة اللفظ والمعنى، وبين ابن جني حين يطرق المشكلة نفسها؛ فهو مشغول بمعنى اللفظة الواحدة ونحن مشغولون بمعنى الثمرة الأدبية المعينة في مجموعها. (39)

وقفة مع ابن جني في نظرته إلى أنواع الكلمة: الأسماء والأفعال والحروف، وأي هذه الأنواع كان أسبق من أيها؟ الرأي عنده هو أن اللغة نشأت بهيكلها كاملا دفعة واحدة، ثم أخذ الهيكل يزداد مع الزمن امتلاء. مناقشتنا لابن جني في وجهة نظره. (40)

ملاحظات عن عبقرية اللغة العربية في الأداء. (41)

رحلة فرعية نترك بها بغداد قاصدين إلى «جرجان»، حيث عبد القادر الجرجاني. برتراند رسل ومباحثه في نوع الترتيب اللفظي الذي يعطي للجملة معناها. عبد القاهر الجرجاني في كتابيه «أسرار البلاغة» و«إعجاز القرآن» صنع ما صنع برتراند رسل، كلاهما يرى أن المعنى كائن في طريقة ترتيب المفردات لا في المفردات من حيث هي كذلك. الفرق بين الرجلين أن رسل ينظر من زاوية المنطق والجرجاني ينظر من زاوية اللغة والنحو. قول الجرجاني في «أسرار البلاغة» إن ترتيب اللفظ يؤدي ما يؤديه لالتزامه ترتيب المعاني في ذهن المتكلم، والمعاني ترتب بحسب ما يقتضيه العقل؛ أي المنطق. تعليق لنا على قول الجرجاني في ذلك. الجرجاني يسأل سؤالا آخر هو: ما الذي يخلع على الجملة الأدبية جمالها؟ الجواب هو نفسه الجواب بالنسبة للمعنى، وهو: ترتيب المفردات. المفردات نفسها عنصر محايد. هل يريد الجرجاني أن ما يوفر للجملة معناها هو نفسه الذي يوفر لها جمالها؟ عندئذ يكون من فلاسفة الجمال القائلين بأن جمال الشيء هو في أدائه لوظيفته خير أداء. (42)

إذا كانت الجملة العلمية تصف الوقائع وصفا مباشرا، فالجملة الأدبية تصفها بطريق غير مباشر، وذلك بأن تجسدها في صورة ذهنية توازيها. الجرجاني يحاول التعليل، والتعليل عملية عقلية. عقلانية الجرجاني في وجهة نظره. التفرقة بين المحسوس والمعقول. أسس المفاضلة بين صورة فنية وصورة فنية أخرى. (43)

كتاب «دلائل الإعجاز» يبدأ بدفاع عن الشعر. وجوب أن يكون النقد الأدبي موضوعيا خالصا. موقف من مواقف حياتنا الأدبية المعاصرة ذو علاقة بقواعد النقد عند الجرجاني. المعول في الحكم عند الجرجاني هو المعنى وحده. الترتيب الذي يقتضيه النحو هو نفسه الترتيب الذي يقتضيه العقل، ويقتضيه المعنى، ويقتضيه الجمال الأدبي. لم يذكر لنا الجرجاني أساس المفاضلة بين عبارتين لمعنى واحد التزمت كلتاهما ترتيب النحو، كما ننثر بيتا من الشعر، من ذلك كله يستنتج الجرجاني بأن إعجاز القرآن هو في معانيه لا في صياغته اللفظية. عدة براهين يقيمها للتدليل على صواب هذه النتيجة.

الفصل السادس: الكوكب الدري (44)

عرضنا في الفصل السابق مشاهد من الفكر العربي إبان القرنين التاسع والعاشر (الرابع والخامس بالتاريخ الهجري)، ولكننا الآن نعرض ما فيهما من حوار. الفاعلية الفكرية لعصر معين يدل عليها ما بين رجاله من تفاعل. كان المعتزلة هم الذين تصدوا للمشكلات الناشئة بتحليلاتهم العقلية. بلغ المعتزلة أوجهم في أوائل الخلافة العباسية ثم أخذ نجمهم يخبو. ظهور الفئات المكبوتة كأهل السنة والروافض. اختلف المعتزلة مع أهل السنة في مسألة صفات الله، واختلفوا مع الروافض في قبول «التجسيم» لله تعالى، فهم يرفضونه والروافض يقبلونه. الأصول الخمسة عند مذهب الاعتزال. وكيف نتبين من كل منها مواضع الاختلاف بين المعتزلة وأعدائهم. الجاحظ يخرج كتابه «فضيلة المعتزلة»، فيرد عليه ابن الراوندي بكتابه «فضيحة المعتزلة». ابن الراوندي محور لحركة فكرية. اتهامه بالإلحاد ثم تعليل إلحاده. استعان أهل السنة بما قاله في نقد المعتزلة برغم عداء أهل السنة له ولإلحاده. هل كان ابن الراوندي كاتبا مأجورا يكتب لمن يجزل له العطاء؟ رأي الطبري في ابن الراوندي. كتاب ابن الراوندي «التاج» ومداره أن الله لم يخلق العالم من عدم. وفي كتابه «الزمردة» يبرهن على إبطال رسالات الرسل. وفي كتابه «الفرند» يطعن نبي الإسلام عليه السلام. وكذلك له «اللؤلؤة» و«الدامغ» و«القضيب» وكلها كتب كفرية. أبو العلاء المعري يسخر من ابن الراوندي في رسالة الغفران. (45)

نختار من كتبه كتاب «الزمردة» لنقف عنده، يقول ابن الراوندي في دحض الرسالة: إنها إذا جاءت مؤيدة للعقل وأحكامه فيكفينا العقل دونها، وإذا جاءت مناقضة للعقل وأحكامه فهي مرفوضة لذلك. قالوا في الرد عليه بأن العقل ظل كامنا في الإنسان حتى أيقظته الرسالات، يقول ابن الراوندي عن شعائر الدين، كالصلاة وغسل الجنابة ورمي الحجارة والطواف حول البيت، كلها مما لا يتفق مع أحكام العقل. قالوا في الرد عليه بل هي كلها وسائل لإخراج الناس من عاداتهم الطبيعية إلى عادات أفضل. يقول عن المعجزات إنها روايات يجوز على رواتها الكذب. ويقول عن القرآن إنه لم يكن مستحيلا على واحد من العرب الذين عرفوا بالفصاحة أن يبلغ هذا المدى في فصاحته. قالوا في الرد عليه إن الإعجاز إنما هو في المعاني إلخ. الذي يهمنا من ذلك كله حدة الحوار في ذلك العصر، في ذلك العصر أخذت العقيدة الإسلامية صورتها الكاملة من الناحية العقلية الجدلية. أبو القاسم الصقلي يرى الطريق مع الإسلام هابطا من كمال الصورة إلى نقصها، لا صاعدا من نقص إلى كمال. (46)

أبو الحسن الأشعري يقف موقفا وسطا بين نوعين من التطرف، ليس العقل وحده هو المقياس. الغيب يستعصي على البراهين العقلية. أعلام كثيرون بعد ذلك اختاروا الموقف الأشعري الذي يجمع بين العقل والإيمان. الأشاعرة يرفضون أن يكون خلق الله العالم عن طريق الفيض، وكذلك يرفضون مبدأ السببية في تفسير الخلق. (47)

أبو العلاء المعري يهاجم الأشعري في رسالة الغفران. أيكون موضع الهجوم هو منهج الأشعري في أن يجعل جانبا للعقل وجانبا آخر للإيمان المطلق بغير عقل؟ أم يكون هو موضوعا من موضوعات اعتقاده؟ تلخيص لهذه الموضوعات. (48)

القرن التاسع والقرن العاشر هما عصر الفلاسفة. هذا الكتاب لا يغوص في موضوعات التخصص برغم كونها مستندة كلها إلى عقل. يكتفي بالهوامش الثقافية العامة التي تدل على روح العصر. شذرات من رسائل الكندي. الصورة التي رسمها الجاحظ للكندي في كتاب «البخلاء». (49)

مع الفارابي في تصنيف العلوم. طبيعة «الشعر» عند الفارابي. (50)

مع ابن سينا في «حي بن يقظان».

الفصل السابع: الشجرة المباركة (51)

الإدراك هنا مصدره نبع باطني ذاتي، وهو إدراك المتصوفة. سنكتفي في هذه المرحلة بالوقوف مع رجل واحد، هو الإمام الغزالي. إخلاصه لنفسه في القول والعمل. صاحب هذا الكتاب يشعر بالقلق إذا ما اعتزم توجيه النقد إلى الغزالي؛ لشعوره بعظمة الغزالي وعمق نظرته وعلمية منهجه، لكنه في الوقت نفسه يراه في عصره قوة رجعية أثرت على العصور من بعده. ربما كان الغزالي من أقوى العوامل التي جمدت مجرى تاريخنا الفكري. كتابه الضخم «إحياء علوم الدين» يرسم للمسلم حياته بالمسطرة والفرجار، فيوصد أمامه أبواب التلقائية الحرة، لكن الغزالي هو «الشجرة المباركة» التي تنمو بمدد من فطرتها دون سند خارجي. في «المنقذ من الضلال» تحليل لتيارات الفكر في عصره، يرفض منها ثلاثة ويقبل الرابع وهو طريق الصوفية. (52)

هو صاحب منهج علمي يكاد يجمع كل أطراف المنهج الرياضي عند ديكارت والمنهج التجريبي عند بيكون. نصوص مختارة تدل على رأيه في منهج البحث. جاء في «المنقذ من الضلال» أن العلم اليقيني لا تنقضه المعجزات. النتائج المستدلة من مقدمات يقينية لا ينفيها خبر ينقل عن نبي. جاء في «تهافت الفلاسفة» أن الدين لا يجوز أن نحتج به على العلم. يضع الغزالي هيكلا عاما للمنهج الاستنباطي هو نفسه الهيكل الذي أقامه ديكارت من بعده؛ مبدأ الشك عند الغزالي. (53)

فكرة اليقين تشغل الغزالي كما شغلت ديكارت من بعده، جاء في «ميزان العمل» قوله بوجوب ألا ينصاع المرء لمذهب بعينه. في «المنقذ من الضلال» تحذير للناس بألا يعرفوا الحق بالرجال، بل الأجدر بهم هو أن يعرفوا الرجال بالحق. في «معيار العلم» رسم لطريقة الوصول إلى النتائج اليقينية من مقدمات يقينية. وفي «محك النظر» يبين لنا كيف يحدث الخطأ لنتجنب الطريق المؤدي إلى ضلال. (54)

معان مختلفة ل «العقل» عند الغزالي. (55)

من رأي مؤلف هذا الكتاب أن الغزالي خطط منهجا عقليا للبحث، لكنه لم يلتزم هذا المنهج في أي من كتبه. الغزالي يقف من الفكر اليوناني موقف الرفض كما يظهر ذلك في كتاب «تهافت الفلاسفة». اتهامه للفلسفة الأرسطية بالتهافت. في هذا الكتاب - «تهافت الفلاسفة» - يطرح الغزالي عشرين مسألة يراها موضعا لمؤاخذة الفلاسفة، كان من بينها مسألة السببية. موضع الشبه وموضع الاختلاف بينه وبين الفيلسوف الإنجليزي هيوم في مسألة السببية. ابن رشد يتصدى للغزالي بكتابه «تهافت التهافت». «العقل العربي يحاور بعضه بعضا». (56)

برغم عقلانية الغزالي وانطلاق فكره فقد رسم للمسلمين طريقة للحياة وكأنما صبهم في قوالب من جديد. أغلق الغزالي باب الفلسفة أمام العقل العربي فلم يفتح ثانية إلا بعد ثمانية قرون. نموذج من التحديد الذي قيد به الغزالي سلوك المسلم: «آداب الأكل»، كما ورد ذلك في «إحياء علوم الدين». (57)

لمحطة خاطفة في دنيا أبي العلاء المعري.

القسم الثاني: شطحات اللاعقل

الفصل الثامن: اللامعقول، ما هو؟ (58)

نستطيع تحديد «اللاعقل» عن طريق تحديدنا ل «العقل». معنى «العقل» في الفلسفة المثالية. العقل عند المثاليين هو العلاقات الضرورية بين فكرة وفكرة أخرى تلزم عنها كما نجد في الرياضة. الروابط المكتسبة عن طريق الخبرة التجريدية ليست عندهم دالة على «عقل». هيوم في القرن الثامن عشر والغزالي في القرن الحادي عشر، أنكرا وجود علاقة ضرورية بين السبب والمسبب؛ وبهذا لا يكون إدراك السببية عملية «عقلية». الروابط الضرورية «العقلية» مقصورة على «الأفكار» دون «الأشياء» أو «الأحداث»، أما عند الفلاسفة التجريبيين ف «العقل» هو الانتقال من مقدمة (فكرة كانت أو شيئا أو حدثا) إلى نتيجة، سواء كان هذا السير في دنيا الأفكار أو في دنيا الظواهر الطبيعية. يتفق المثاليون والتجريبيون معا على أن «العقل» حركة استدلالية يحدث بها انتقال من بدء إلى نهاية، ويختلفان في أن هذه الحركة الاستدلالية التي هي «عقل» مقصورة عند المثاليين على توليد الأفكار بعضها من بعض، ولكنها تتسع عند التجريبيين لتشمل استدلال «الوقائع» أيضا بعضها من بعض.

من هذا التحديد لمعنى «العقل» يتبين أن «اللاعقل» هو «حالات» تسكن الإنسان، وليست ب «انتقالات» من مقدمة إلى نتيجة. (59)

بيان «العقل» و«اللاعقل» في أمثلة توضحهما. من أمثلة العقل وقفة العلم. خصائص التفكير العلمي هي نفسها خصائص العقل: الانتقال من الجزئي إلى الكلي، ومن المتعين إلى المجرد، التحليل، تحويل الخصائص الكيفية إلى صيغ كمية. ومن أمثلة العقل كذلك الموقف الإنسي (أو الإنساني)، ومن أمثلة اللاعقل الانفعالات والعواطف والرغبات، كل هذه «الحالات» تتميز بأنها «خاصة» بأصحابها، قد يشاركهم أو لا يشاركهم فيها الآخرون. ليس المقصود عند التمييز بين العقل واللاعقل أن نفاضل بينهما. عندما يوصف عصرنا بأنه يتسم باللامعقول في غير مجال العلوم، يكون المقصود هو أن العقل وحده مطلوب في ميدانه، ولكنه لا يكفي لوجود ميادين أخرى. كانت الرومانسية هي التي تفاضل بين الاثنين فتعلي من شأن العاطفة على العقل. مدارس علم النفس المعاصر من فرويدية وسلوكية يردان العقل إلى اللاعقل. عندما يعتمد الناس على «التقاليد» و«العادات» و«العرف» فهم إنما يعتمدون على اللاعقل ويتنكرون للعقل. كتاب دولتر بادجوت «الفيزياء والسياسة» وتحليله لسلطان العادات على الشعوب؛ أي سلطان «اللاعقل» عليها. ربط الأنماط السلوكية عند الناس في عصرنا بألفاظ معينة يرددها لهم أولو الأمر، هو من ظواهر اللاعقل في عصرنا. (60)

الإدراكات اللحظية المباشرة كلها من قبيل اللاعقل. تراثنا الفكري مزيج من معقول ولا معقول. الجانب العقلي وحده - في رأينا - هو ما يصلح لربط الحاضر بالماضي. برتراند رسل في تفرقته بين حالة التصوف والمنطق العقلي. قد تلتقي نظرة المتصوف في رجل واحد كما حدث لأفلاطون. للنظرة الصوفية إلى الوجود خصائص أربع : الأولى أن يكون الحدس دون العقل المنطقي وسيلة إدراك، والثانية أن يرى الكون وحدة واحدة لا تقبل التحليل، والثالثة هي أن الصوفي ينكر انقسام الزمن إلى لحظات، والرابعة هي عدم التفرقة بين ما يسميه الناس خيرا وشرا. (61)

مناقشة التفرقة بين إدراك الحدس وإدراك العقل. الحدس هو الغريزة وهو الوجدان، فكلها أدوات للإدراك لا تحتاج إلى تعلم واكتساب. مزعوم لهذه الأدوات أنها تدرك اليقين. رؤية الحدس قد تتناقض في حالتين؛ ومن ثم يجيء العقل ليراجعها فيختار من نقائضها ما يتسق مع سائر جوانب الخبرة. للمتصوف الحق في أن يقول إنه رأى كذا وكذا، ولكن ليس من حقه أن يدعي بأنه قد رأى اليقين؛ ومن ثم فواجبنا نحو اللامعقول في تراثنا أن نقبل منه ما يستطيع العقل قبوله. الغريزة ليست معصومة من الخطأ. الفلاسفة يختلفون في مبادئهم التي يقولون إنهم يدركونها بالحدس. مناقشة برجسون لأنه من أصحاب الركون إلى الحدس في مقابل العقل. للإدراك الحدسي حسنة إذا تصادف أنه صادق، وله سيئة إذا تصادف أن يكون باطلا؛ فعندئذ يصعب تغيير صاحبه إلى الصواب. (62)

نظرة التصوف إلى وحدة الوجود. رفض الغزالي لما يزعمه «الاتحاديون» من المتصوفة.

الفصل التاسع: يقظة الحالمين (63)

رؤى المتصوفة شبيهة برؤى الحالمين. نماذج مأخوذة من نجم الدين الكبرى في كتابه «فوائح الجمال وفواتح الجلال». تجربة قام بها وليم جيمس. تأويل السهروردي للآية الكريمة:

أنزل من السماء ماء ...

عودة إلى نجم الدين الكبرى. المتصوف عنده يشهد الغيب ويفعل المعجزات. (64)

القول في الكرامات وأصحابها. مناقشة ما ورد في الرسالة القشيرية من أن الكرامات لا تناقض العقل. أصحاب اللامعقول ينظرون إلى ظواهر الطبيعة نظرة الساحر لا نظرة العالم. السحر هو استحداث النتائج من غير أسبابها. لأحرف الهجاء عندهم قدرات معينة. مثل من الشيخ نجم الدين الكبرى. مثل آخر من جعفر الخالدي. مثل ثالث من محيي الدين بن عدلي. المقارنة بين «أصحاب الحروف» و«العدديين»؛ فالأولون يستخدمون الحروف لفهم الظواهر وتسييرها، والآخرون - كالفيثاغوريين - يستخدمون الأعداد لذلك. (65)

كرامات الأولياء. التفرقة بين النبوة والولاية. وقفة عند كتاب «ختم الأولياء» للحكيم الترمذي. معياران لقياس صنفين من الذوق الصوفي: معيار «الصدق» ومعيار «المنة»؛ في الحالة الأولى تجيء قوة الصوفي نتيجة مجاهدة، وأما في الحالة الثانية فهي تجيء نتيجة منة من الله بغض النظر عما عمل. في حالة «الصدق» يتقيد السالك بفروض الشرع، ثم عليه أن يضبط خواطره الداخلية بحيث لا يتخيل بها ما قد حرمه الله عليه في الظاهر. القيد الظاهر «عبادة» والقيد الباطن «عبودية». في حالات قصور المتصوف عن بلوغ هذه الغاية فقد تجيئه الرعاية من الله «منة» وجودا. «الصادق» فرد يخضع لظروف المكان والزمان، وأما «صاحب المنة» فذات لا تتقيد بمكانها وزمانها. يكون المتصوف في الحالة الأولى «صادقا» وفي الحالة الثانية «صديقا». ينتج عن ذلك أن «الولاية» إلهية لا إنسانية، فلا يجوز قياسها بمقاييس المنطق البشري. النبوة والولاية إلهيان، لكن الأولى للناس والثانية لصاحبها؛ الأولى بحاجة إلى برهان والثانية هي برهان نفسها. (66)

صفات الأولياء مثل أخلاقية عليا، فلو احتفظنا بها ليتحلى بها العلماء بمعنى هذه الكلمة اليوم أفادنا التراث في حياتنا اليوم. الأولياء يعطلون قوانين الطبيعة والعلماء يقرونها ليستخدموها. محاولة قراءة بعض نصوص المتصوفة مع إحلال كلمة «علماء» محل كلمة «أولياء» فيستقيم المعنى مع عصرنا. ما قاله الهجويري في الولاية والأولياء، وما قاله في ذلك شهاب الدين سهروردي، وما قاله ابن عربي. ابن تيمية يفند فكرة «خاتم الأولياء». (67)

العلم لا يكون إلا عن طريق الوعي، والمتصوفة يريدونه عن طريق صنوف من اللاوعي. ما قاله الغزالي في ذلك والتعليق على قوله. قول الحارث المكي في الزهد. في مدارسنا تشرب قيم التحقير من الحياة الدنيا تأثرا بالتراث. وجوب الأخذ بحذر من مصادر اللامعقول الكثيرة في تراثنا.

الفصل العاشر: سحر وتنجيم (68)

السحر هو تعليل الأحداث بغير أسبابها الطبيعية. في تراثنا القديم شطر كبير يختص بالسحر والتنجيم وما إليهما. الاكتفاء بأمثلة قليلة؛ لأن حقيقة السحر ليست موضع ريبة من أغلب الناس. المثل الأول نأخذه من أقوال إخوان الصفا، وهو من صفوة المثقفين في أزهر عصور الفكر العربي القديم. رسالتهم الأخيرة كانت عن «السحر والعزائم والعين». (69)

مزج «العلم» بأخبار «السحر» مزجا يضعهما في مستوى واحد. أمثلة تطبيقية أوردها إخوان الصفا لما يفعله السحر والتنجيم وغيرهما من أجزاء هذا الباب. القدرة على كشف الخبيء من الأشياء وأسرار الضمائر. الإنسان عالم صغير يتأثر بالعالم الكبير لكنه لا يؤثر فيه. علم النجوم هو علم العالم السماوي الذي يتحكم في العالم الأرضي. في غمار موجة اللامعقول هذه يورد إخوان الصفا دعوة إلى أنصارهم تحفزهم إلى الأخذ بالمنهج العلمي الذي يضعون له بعض أسسه على أكمل وجه، ثم عودة إلى اللامعقول من جديد. أمثلة مما يعرفه المنجمون عن الأشياء المستورة المجهولة. قصة عن شيخ استطاع بمطالعة النجوم أن ينقذ محبوسا من الحبس ومن القتل. حوار بين الشيخ وتلميذه عن التنجيم؛ لماذا لم يستخدمه الأنبياء إذا كان محقق التأثير؟ (70)

مثل آخر لمناصرة اللامعقول نأخذه من الغزالي.

Page inconnue