Le raisonnable et l'irraisonnable dans notre héritage intellectuel

Zaki Najib Mahmud d. 1414 AH
128

Le raisonnable et l'irraisonnable dans notre héritage intellectuel

المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري

Genres

ولكن فيم كتب الكاتب الصوفي كتابه «ختم الأولياء»؟ لقد كتبه ليوضح به فرقا هاما بين صنفين من «الذوق الصوفي»، ولقد وضع لنا معيارين مختلفين نقيس بكل معيار منهما صنفا من ذينك الصنفين دون الآخر؛ أحدهما هو معيار «الصدق»، والآخر هو معيار «المنة». أما أولهما فيستخدم حين يكون النشاط الروحي قائما على أساس من عمل الإنسان ومكابدته وجهاده، وأما الآخر فيكون حين تجيء الفاعلية الروحية التي من شأنها أن يكون للمتصوف ما له من كرامات، «منة» أو جودا من الله تعالى، بغض النظر عما قد يبدو لنا من عمله الظاهر وسلوكه الملحوظ؛ ففي هذه الحالة الثانية تأتي الهداية الربانية إلى من خص بالمنة الإلهية، عن طريق الصلة المباشرة التي لا تحتاج إلى مراحل وسطى على الولي أن يجتازها.

عن المعيار الأول - الذي هو معيار «الصدق» - يقول الترمذي إن طريق السير أمام السالك ذات شعبتين؛ شعبة منهما ظاهرة والأخرى باطنة. وهو يريد بذلك أن يقول إن هنالك قيدين، أو التزامين، لا بد أن يراعيهما من أراد بلوغ منزلة الولاية عن طريق عمله؛ فمن حيث الظاهر ينبغي له أن يقيد جوارحه وكيانه البشري كله حتى ينحصر داخل الحدود التي رسمتها الشريعة، فلا تند من نشاطه البدني حركة ولا كلمة تنحرف به عن الجادة المرسومة؛ وبهذا تنسجم الإرادة مع الفعل في اتساق يسلكهما معا في إطار ما قد أحله الشرع، لكن ذلك القيد المفروض على السلوك الظاهر لا يكفي وحده، بل لا بد أن يضاف إليه رقابة باطنية شديدة تراقب النفس من داخل، وتراجع نزواتها لتصحح ما انحرف منها، بعبارة أخرى واضحة نقول إن الترمذي بهذين القيدين معا، لا يكفيه أن يسلك الإنسان السلوك الصحيح الذي لا تشوبه شائبة من خطأ، على حين تتعلق شهواته من الداخل بما لا يرضي الله، لا يكفيه - مثلا - ألا يقترف الإنسان إثما من سرقة أو اعتداء على الحرمات أو غير ذلك ، ثم يرسل الحبل على غاربه لخياله من الداخل يشبع له في أحلام يقظته ما قد حرمه على نفسه في يقظته الواعية المتجلية في سلوكه الفعلي، لا، لا يكفيه ذلك، بل يشترط لمن أراد بلوغ منزلة الولاية التزام الجادة المشروعة ظاهرا وباطنا، سلوكا وأحلاما؛ وبهذا يروض أعضاءه على أحكام «العبادة» كما يروض نفسه على شئون «العبودية».

ولعمري إنه لمثل أعلى من الأعلى، ولا عجب أن رأينا الترمذي نفسه يرتاب أشد الريبة في قدرة الإنسان على تحقيق هذا الذي يطلب منه، بل إنها لريبة تساور المتصوفة جميعا في معظم الأحيان؛ إذ يكادون يوقنون - كما أيقن الترمذي - بأن الإنسان الطامح في سلوك هذا الطريق لا بد مغلوب على أمره بضغط طبيعته البشرية، فيسلك من مراحل الطريق ما يسلك، ويعلو في مدارجه ما يعلو، لكنه قمين في اللحظة بعد اللحظة أن تستبد به رغبات جسده فيوصد أمامه السبيل؛ وإذن فأين يكون تحقيق الأمل؟ وكيف؟ الجواب: إنه يتحقق برحمة من الله ومنة.

فبينما تصطرع في أنفس «الصادقين» نزعات ونزوات ورغبات وشهوات، يغالبها فيغلبها وتغلبه، حتى ليندر جدا أن يخرج «الصادق» من معركة النقائض تلك بنصر حاسم لغاياته العليا على مطالبه الدنيا، ترى صاحب «النعمة الإلهية» - بفضل عون الله وجوده ورعايته وهدايته - محفوظا من الزلل دائما وبغير جهد مبذول؛ فإذا كان «الصادق» مثقلا بقيود الضرورات المادية، فإن «صاحب المنة» متحرر من تلك القيود. إن «الصادق» فرد تحيط به لوازم الوجود المادي المحدودة بحدود المكان الذي هو فيه والزمان الذي ينخرط في مجرى حوادثه، وأما «صاحب المنة» فهو ذات لا تتقيد بحيز مكانها ولا بحوادث زمانها؛ ومن ثم ففي مقدورها الفكاك من قوانين الطبيعة المادية كلها والسبح في سماء المطلق بلا حدود. إن الرجل من الصنف الأول «صادق»، وأما الرجل من الصنف الثاني فهو «صديق».

ترى هل هناك فارق بين الأولين والآخرين في أسلوب الحياة؟ أم إن أولئك يشبهون هؤلاء فيما ينظر الناظرون؟ نعم هنالك فارق فيما يرى حكيم ترمذ؛ فالأولون - في الحياة الروحية - شأنهم شأن العاملين الأجراء في الحياة المادية، ألست ترى بين الناس في حياتنا هذه الدنيا من يعملون ونصب أعينهم الجزاء المباشر يتقاضونه على عملهم؟ هكذا أيضا «أهل الصدق» من الصوفية، فهم يجاهدون أنفسهم ابتغاء منفعة، إن لم تكن عاجلة فهي آجلة؛ أي إنهم لم يخلصوا العمل لله وحده، أو لوجه الله الكريم، ولا عجب أن تراهم منكبين على الفعل ينشطون به، فيصوب أبصارهم نحو الأرض، لا يشخصون بها إلى سماء التأمل المحض أو المشاهدة الخالصة لوجه الحق، ولا كذلك «الصديقون» المنعم عليهم بالمنة الإلهية، فهم - كما يصفهم الترمذي - الأحرار الأوفياء النبلاء، لا بغية لهم إلا أن يتحرروا تحررا تاما من ربقة الفردية المحدودة الضيقة؛ ليوجهوا أرواحهم نحو الحق وحده، ثم لا يريدون عن ذلك جزاء؛ لأنه هو في ذاته الجزاء الأوفى.

ومؤدى هذا كله - عند الحكيم الترمذي - أن «الولاية» إلهية لا إنسانية، يوهبها صاحبها من لدن عزيز حكيم، ولا يكسبها بفعل يؤديه؛ فالخطأ أفحش الخطأ أن تقيس ولاية الأولياء بمقاييس المنطق البشري؛ فهذا المنطق خاص بحياة الإنسان هنا على هذه الأرض، لكنه لا يجدي فتيلا في مجال هو من نعمة الله ورحمته على من شاء أن يقربه من عباده.

ولا يفوت الترمذي أن يقارن بين «النبوة» و«الولاية»، فيقول ما معناه إن رسالة النبوة إلهية لغرض يتصل بحياة الناس؛ ولذلك كان النبي أو الرسول إنما يتلقى الرسالة من السماء ليبلغها إلى البشر، ومن هنا لازمتها المعجزة لتكون برهانا أمام الناس على صدقها. أما الولاية فهي أيضا إلهية، لكنها خاصة بصاحبها، وتحمل صدقها في ذاتها. فإذا جاءت النبوة «مع» البرهان، فالولاية «هي» البرهان.

على أن الترمذي قد يعد «الصادقين» و«الصديقين» معا أولياء، لكنه يظل يفرق بين المجموعتين؛ إذ يفرق بين من يسميهم أولياء حق الله (أي شرعه ووصاياه وأوامره) وأولياء الله. وسنضع بين يدي القارئ النص الآتي من كلام الترمذي؛ ليسمعه وهو يرسم تلك الحدود الفارقة بين الصنفين: «أما ولي حق الله فرجل أفاق من سكرته فتاب إلى الله تعالى، وعزم على الوفاء لله تعالى بتلك التوبة، فنظر إلى ما يراد له في القيام بهذا الوفاء، فإذا هي حراسة هذه الجوارح السبع: لسانه، وسمعه، وبصره، ويده، ورجله، وبطنه، وفرجه؛ فصرفها من باله، فهو رجل يؤدي الفرائض حافظ للحدود، لا يشتغل بشيء غير ذلك، يحرس هذه الجوارح حتى لا ينقطع الوفاء لله تعالى بما عزم عليه، فسكنت نفسه وهدأت جوارحه، فنظر إلى حاله فإذا هو على خطر عظيم؛ لأنه وجد نفسه بمنزلة شجرة قطعت أغصانها والشجرة باقية بحالها، فما يؤمنه أن يغفل عنها قليلا فإذا الشجرة قد بدت لها أغصان كما كان بديا، فكلما قطعها خرج مكانها مثلها؟ فقصد الشجرة ليقطعها من أصلها ليأمن من خروج أغصانها، فقطعها، فظن أنه قد كفي مؤنتها، فإذا أصلها قد بدت منه أغصان! فعرف أنه لا يخلص من شرها دون أن يقلعها من أصلها، فإذا قلعها من أصلها استراح.

فلما نظر هذا العبد إلى جوارحه قد هدأت التفت إلى باطنه، فإذا نفسه محشوة بشهوات هذه الجوارح، فقال: إنما هي شهوة واحدة، أبيح لي منها بعضها وحظر علي بعضها، فأنا على خطر عظيم! أحتاج أن أحرس بصري حتى لا ينظر إلا المباح، فإذا بلغ المحظور عليه أغمض وأعرض، وكذلك اللسان وجميع الجوارح، فإذا غفلت ساعة عن الحراسة رمتني في أودية المهالك. فلما وقع في هذا الخوف، ضيقت عليه المخافة جميع الأمور، وحجزته عن الخلق، وأعجزته عن القيام بكثير من أمور الله عز وجل، وصار ممن يهرب من كل أمر، عجزا منه، وخوفا على جوارحه من نفسه الشهوانية.

فقال في نفسه: قد اشتغل قلبي بحراسة نفسي في جميع عمري، فمتى أقدر أن أفكر في منن الله وصنائعه؟ ومتى يطهر قلبي من هذه الأدناس؟ فإن أهل اليقين يصفون من قلوبهم أمورا أنا خلو منها. فقصد ليطهر الباطن بعدما استقام له تطهير الظاهر، فعزم على رفض كل شهوة في نفسه لهذه الجوارح السبع، مما أطلق أو حظر عليه، وقال: إنما هي شهوة واحدة، تطلق لي في مكان وتحظر علي في مكان، فلا خلاص منها حتى أميتها من نفسي.

Page inconnue