شأني مع الدكتور يوسف إدريس عجيب؛ فما جلسنا معا وقال آراء إلا اتفقت معه فيها، وما قرأت له شيئا يعرض فيه آراءه إلا اختلفت معه.
أقرب مثل على ذلك ما كتبه في مفكرته يوم الجمعة الماضي، لقد تناولت المفكرة جميعها فيلم الكرنك وقصته، وقد شاء الدكتور أن يرفض رواية نجيب محفوظ الكرنك ويحتفي غاية الاحتفاء بفيلم الكرنك الذي ما زال وسيظل قصة نجيب محفوظ أيضا، وقد عانيت من هذا بصورة أبشع، ومن كتاب بعينهم عندما ظهر فيلم شيء من الخوف عن روايتي شيء من الخوف أيضا، ولكن ذلك تاريخ ماض، وإن كان أخونا الدكتور يوسف يجدده مع أستاذنا نجيب محفوظ، فهو يقول كقاعدة عامة: «لعل من أحسن من يتعرض لنقد القصص هو من يكتبها»، والقاعدة مقبولة بشرط واحد، هو ألا يفرض القصاص نفسه على القصاص الآخر، فكل قصاص له طابعه، فإذا كتب عن قصاص آخر فحتم عليه أن ينظر إلى طابع القصاص الذي يكتب عنه، ولونه واتجاهه الفني، غير فارض نفسه عليه.
ويعود الدكتور يوسف ليقول: «حين صدرت - رواية الكرنك - وقرأتها في حينها، وجدته شبه ريبورتاج صحفي أكثر منها حياة داخلية روائية عميقة عودنا إياها نجيب محفوظ في معظم أعماله».
ولما كنت أكتب الرواية، وهي عملي الأساسي، فقد أصبحت لا أهتز في كثير أو قليل من كلمات الحياة الداخلية والعمق والمستوى والأبعاد والشكل، وغير ذلك من الألقاب التي ألغيت من الناس وألصقت بالأعمال الفنية.
إنما الذي أعرفه، والذي لا شك أن الدكتور يوسف إدريس يعرفه كل المعرفة، أن الكاتب إذا اختار الشخص الأول في سرد قصته أصبح حرا أن يضع على لسان هذا الشخص كل ما يريد أن يقول في صراحة تامة لا رمز فيها ولا مواراة، وبغير خفوت أو مداورة فنية.
وقد كنا جميعا نلجأ إلى الشخص الثالث حين كانت الحياة السياسية تفرض علينا الرمز، حتى جاءت الحرية، وأصبح الرمز سذاجة فنية تدعو إلى الضحك والسخرية.
فيم الرمز وقد أتاحت لك الحرية أن تقول ما تشاء؟
لقد كنا نرمز لأننا نخاف على أنفسنا، فلو كنا كذلك ما كتبنا، وإنما كنا نرمز لأننا نريد لكلامنا أن يرى النور ويقرأه الناس .
وهذا الكلام الذي يقال لنجيب محفوظ عجيب، وهو الذي كتب ثرثرة فوق النيل وميرامار واللص والكلاب، ومجموعة القصص غير المعقولة، وغيرها كثير، وهو أستاذ الرواية المصرية.
أما النقاد الذين يشير إليهم الدكتور يوسف إدريس، فهو يعرف اتجاههم تماما وما تحولوا إليه من رفض لكل عمل يشير إلى هذه الفترة بالطريقة التي تناولتها الكرنك بها، وبعد، فالذي لا شك فيه أنه لولا رواية نجيب الخالدة الكرنك، ولولا نجيب الشامخ، لما وجد هذا المخرج البرعم الذي ما زال يفض غلاف الجدة عن نفسه.
Page inconnue