الإيمان معرفة بلغت حد اليقين، أو هو علم يصحبه الجزم والقطع. فإذا قلت: أنا أؤمن بوجود القاهرة فمعنى ذلك أمران: أحدهما عقلى، هو أنك تعرف وجود هذا البلد، والآخر قلبى، وهو أن علمك لا ريبة فيه ولا تردد، بل مقرون بالتصديق التام. والإيمان بالله جل شأنه ينطوى على الأمرين جميعا، النظرى والنفسى. فإذا قلت: أنا أؤمن بالله فمعنى ذلك أنك تعرفه، وأن معرفتك له لا تلتبس بشك أو تردد. بل. إن فؤادك ملئ بالتصديق لقضية هذا الوجود الأعلى. وبديهى أن تتفاوت حقائق الإيمان فى النفوس بتفاوت المعرفة ضيقا وسعة، وتفاوت التصديق عمقا وقربا. فهناك عارفون بالله معرفة صافية الرونق، مجلوة الأفق، شديدة التألق كأنها معرفة دراسة وخبرة. (الرحمن فاسأل به خبيرا) . وهناك معرفة دون ذلك. وهناك أصحاب قلوب مفعمة باليقين، راسخة الثقة، تمر بها العواصف كما تمر الرياح بشماريخ الذرى لا تزحزها عن الحق قيد أنملة. وهناك يقين دون ذلك. على أن الإيمان إذا كان معرفة وتصديقا. فإن هذه المعرفة يجب أولا أن تتسم بالصحة، وإلا فلا قيمة لتصديق لبابه الخطأ. إن من البشر أجيالا لا تعرف الله، ومنهم من يعرفه على وجه حافل بالأغلاط 026 والترهات. والفريق الأول: ينكر أصل الألوهية كالشيوعيين والوجوديين وأضرابهم من الملحدين. والفريق الثانى: يعترف بالألوهية ولكنه يتصورها تصورا مخالفا للواقع، وينسب إليها ما لا يليق بها، كجماهير المشركين على اختلاف مللهم، سواء فيهم عبدة الأصنام؟ أو الزائغون عن الحق من أهل الكتب الأولى. والإيمان عندنا يجعل العلم الصحيح بالله روح التصديق المقبول. وقد امتلأ القرآن الكريم بالآيات التى تعرف الله لعباده تعريفا ينفى عن أذهانهم صور الضلال والانحراف، ويقر الحق فى نصابه. خذ هذه الآية: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم) . هذه الآية تعرف بين المسلمين بآية الكرسى، وقد نوهت السنة النبوية بفضلها ومكانتها، وتتكون من عشر جمل متصلة المعنى فى الحديث عن ذات الله وصفاته: (الله لا إله إلا هو... ) ليس فى الوجود أحد يتجاوز مرتبة العبودية، فكل ما عدا الله عبد له، وهو وحده المتفرد بالألوهية فى السموات والأرض... من قال عن نفسه إنه إله فهو كاذب، ومن قال عنه الناس ذلك فهم عليه كذبة، وقد تمر بالناس أعصار يتخذون فيها بعض الجمادات والدواب آلهة، وهذه أعصار الانحطاط الذهنى والنفسى التى نرجو أن يتم خلاص البشر جميعا منها. ولكن الضلال الشائع إلى اليوم اتخاذ بعض البشر الطيبين آلهة مع الله بحجة أنهم انبثقوا منه أو أنه حال فيهم. وقد حارب الإسلام هذه الضلة حربا شديدة، وأكد أن البشر مستحيل أن يرتفعوا إلى مصاف الآلهة، وأن الله العلى الكبير لا يمكن أن يهبط إلى منازل البشر. إنه الإله الذى خلق غيره، ومنحه الحياة، وقام على أمره من المهد إلى اللحد 02 ص (واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا). ورسول الإسلام وهو قمة البشرية عندما يدعو الله يؤكد هذه الحقيقة " اللهم أنا عبدك وابن عبدك وابن أمتك وفى قبضتك. ناصيتى بيدك ماض فى حكمك، عدل فى قضاؤك... ". 2- (الحى القيوم . . .) والأحياء من الخلق ليس لهم من أنفسهم ما يوجب الحياة ، إن الحياة عرض مفاض عليهم من خارج أنفسهم. وهو عرض يفارقهم يوما ولا يعود إليهم إلا وفق مشيئة مفيضه جل شأنه، الحى الذى لا بداية لحياته ولا نهاية، فحياته وصف ملازم له أزلا وأبدا، وذلكم الفارق بين حياة الخالق والمخلوق. ومن ثم يقول الله لنبيه: (إنك ميت وإنهم ميتون) أما المتفرد بالحياة العظمى فهو الله. ولما كانت هذه الحياة وضاحة نفاحة ناسب أن يجىء عقبها وصف القيوم أى الذى يمد الأكوان والخلائق كافة بحركاتها وسكناتها، ويشرف إشراف إحاطة وهيمنة على شئونها وأحوالها فهى أحوج ما تكون إليه وهو أغنى ما يكون عنها. وقد ورد فى الآيات والآثار أن الله قائم على كل نفس بما كسبت، وأنه القيم على السموات والأرض ومن فيهن. والقائم على الشىء، والقيم عليه أو القوام عليه، ألفاظ تتفاوت فى الكشف عن هذه الإحاطة الشاملة لفنون التصريف وألوان السيطرة على العالم. ولكن لفظ القيوم جاء على هذه الصيغة فى المبالغة، إشارة إلى أنه من المستحيل أن يفلت زمام الأمور من الخالق، أو أن تسير فى وجهة غير ما قضى، إذ كل شىء يستند فى وجوده وبقائه وتقلبه إلى هذا الوجود الأعلى (إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا) . وهذه الجملة الحى القيوم أولى الجمل التسع التى ترادفت أشبه بالاستدلال 028 على الوحدانية المتقررة فى الجملة الأولى من آية الكرسى. إذ هذه الأوصاف تنفى الشركة نفيا حاسما، وتشهد للبارئ الفرد أنه لا إله غيره. 3- ( لا تأخذه سنة ولا نوم ) السنة ما يخالط الأجفان من أوائل النعاس، والنوم هو الاستغراق التام. والمراد أننا نحن البشر تدركنا ساعات غفلة نفقد فيها الشعور بأنفسنا وما حولنا. بل نحن فى إبان اليقظة يختلف انتباهنا ونشاطنا الذهنى نحو ما نفكر فيه وما يحيط بنا. وعند الكلال يضعف هذا الانتباه، وتهن العزيمة، وتكثر الأخطاء. لكن رب العالمين لا يشغله شأن عن شأن ولا يغفل عن أمر فى السماء لاهتمامه بأمر فى الأرض، ولا تلحقه عوارض الوهن والإعياء، ولا تنفك قبضته الواعية عن ذرة فى العرش أو الفرش لسهو أو إغفاء. 4- (له ما في السماوات وما في الأرض) الله واسع الملك. وما تقول فى غنى يشمل آفاق السموات وفجاج الأرض؟ إن العالم كله، علوه وسفله، ملك لله وحده. والذين يظنهم الجاهلون شركاء لله، ليس لهم فى هذا العالم ذرة، إن كانوا أصناما فما هى الأصنام؟ تماثيل نحتها المصورون فهم فى الحقيقة يملكونها ولا تملكهم. وإن كانوا بشرا، فهؤلاء البشر ملك لمن صورهم فى الأرحام، وجعل صدورهم تهبط وتعلو بالشهيق والزفير، ولو شاء أن يقف دقات قلوبهم فى أية لحظة من ليل أو نهار ما رده راد.. إن هناك ملاكا على المجاز يضعون أيديهم على بعض التراب ليرتفقوه حينا، وربما طغوا بما يملكون ظاهرا، ثم يجيئهم الموت فيدعون الحياة صفر الأيدى، يدعونها لمالكها الحق الذى له ميراث السموات والأرض. (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم). 5- (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) القاعدة العامة فى الإسلام أنه لا شفاعة لمشرك، أو ملحد. وأنه لا حق لأحد من الملائكة أو المرسلين يذهب به إلى الله ليقول له أعف عن فلان، أو اترك فلانا. 029 وأن الأساس الأول للنجاة هو الإيمان والعمل الصالح، ولذلك قال! الله تعالى قبل هذه الآية مباشرة : (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون) . ويقول مخبرا عن مصاير المشركين والمجرمين (إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار) . ويقول أيضا: (وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى) وقد يقع لمن ينجون بأعمالهم شىء من الفضل ترتفع به درجاتهم فوق ما يستحقون. أو يقع لمن قاربوا ولم يصلوا شىء من العفو ينجحون به ولا يرسبون ويجعل الله السبب الظاهر فى ذلك شفاعة المرسلين أو الصالحين. وهى شفاعة لا ترجع إلى أن هؤلاء المرسلين أو الصالحين يجيرون على الله، أو ينقذون منه من يريد عقوبته، كلا، فما يجرؤ ملك ولا نبى على أن يقف من الله هذا الموقف. إنهم لا يشفعون إلا بإذنه، ولا يشفعون إلا لمن ارتضى. قال تعالى: (لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون * يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون) . (يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا). وربما قال قائل: ولم هذه الشفاعة وما قيمتها؟ والجواب أنها لا تعدو لونا من إكرام الله فى الدار الآخرة لمن أهينوا بسببه فى الدنيا، فيريد الله أن يصلح بالهم وأن يعلى قدرهم، وأن يشعر عباده بما لهم عنده من مثوبة ومنزلة، وأن يطوى قلوب المقصرين والمتأخرين على محبتهم وإعزازهم لما سيق إليهم من فضل على أيديهم. بيد أن الشفاعة المذكورة لا تهدم قواعد العدل، ولا تعطل موازين الحساب ولا يحتاج إليها سابق بالخير، ولا ينتفع بها مارق من الحق. 6- (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم) ليس يخفى على الله شىء فى الأرض ولا 030 فى السماء، وعلم الأمس واليوم والغد عنده سواء. كأن العالم منذ خلق، وإلى أن تبدل معالمه، صفحة واحدة يستوى فيها القريب والبعيد والأول والآخر. وذلك بداهة لأن الخالق يعلم ما خلق، ولا يتصور أن أحدا صنع من ورائه شيئا فيكون هو سبحانه جاهلا به. إن الإبداع وهو إبراز شىء من العدم لا يقدر عليه إلا الله. والتغييرات التى تحدث فى المادة وهى محور الأعمال البشرية لا تتم إلا بأقدار الله، ومن هنا كانت إحاطة العلم. ومن هنا كان معنى قولنا: إن الله لا يعلم هذا الشىء، أن هذا الشىء لا وجود له، إذ لو كان موجودا لعلمه حتما، وهذا معنى الآيات الكريمة. (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون). ولقد تجول الفكرة فى خاطرى وكم يحمل تيار الشعور السارى فى كيان المرء من خطرات، وسوانح فأقول: إن الله يعلم هذه الخطرة المارة، كما تمر السحب بالآفاق . ثم أقول : وعلمه بها منذ أجيال: وأستتلى القول: وهو يعلم من غيرى مثل ما يعلم منى! ومن غيرى؟ ألوف مؤلفة تزحم أرجاء العالم. وعلمه يسع هؤلاء فى عصرنا. وما قبل عصرنا وما بعد عصرنا!! وما يملك المرء وهو يتابع هذا التصور إلا أن يهتف بالآية: (ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم) . ص - (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء) ينابيع المعرفة تنبجس ابتداء من مشيئة الخالق، حتى العلم بما يقع فى مجال السمع والبصر، إنه لولا ما ركب فى الإنسان من عقل مدر، لماح، ما استطاع أن يفقه مما حوله شيئا. والاطلاع على ما هو أعمق من ذلك موكول إلى مراتب الذكاء الإنسانى، 031
وأنصبتنا من هذا الذكاء مقسومة علينا ونحن أجنة فى بطون الأمهات.
Page 21