عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبى صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد أخبرنى عن الإسلام؟ قال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتى الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا، قال صدقت. قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه. قال: فأخبرنى عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: صدقت. قال: فأخبرنى عن الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ...". الإسلام، الإيمان، الإحسان، كلمات ثلاث وردت فى الحديث معرفة بما يشرح دلالتها، وهى فى نظرنا لتعد عناوين شتى لحقيقة واحدة. والحقيقة الواحدة قد تنظر إليها من عدة جهات فيعنيك من كل جهة وصف خاص بارز، مع أن هذه الأوصاف كلها متضافرة فى تحديد الحقيقة وتوضيح معالمها. ولذلك ختم الحديث بتلك العبارة: " هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم ". والدين الذى نزل أمين الوحى لتوضيحه هو الإسلام إن نظرنا إلى السلوك الظاهر، والعمل البين. وهو الإيمان إن نظرنا إلى اليقين الباعث والعقيدة الدافعة. وهو الإحسان إن نظرنا إلى كمال الأداء والوفاء على الغاية عند اقتران الإيمان الواضح بالعمل الصالح... بل هو جملة هذه المعانى، لا ينفصل أحدها عن الآخر عند التصور الكامل، 022 كالشجرة الحية. قد تنظر إلى جذعها الذى يحمل الغذاء للغصون الدانية والذوائب العالية. وقد تنظر إلى الأثمار المطعومة والأوراق المظللة. وقد تنظر إلى ينع الشجرة وحفولها وازدهارها. بيد أن هذه الأنظار المختلفة لا تغير من وحدة الشجرة، واكتمال صورتها فى الذهن وفى الخارج. من الجذع القائم، والأغصان الممتدة، والرواء الشائع فى الأزهار والجنى... وربما انكمشت العناصر التى تتكون منها حقيقة الدين، ووهت الروابط التى تشد بعضها إلى البعض الآخر، فيكون الإسلام عملا خافتا لا تلمح وراءه قوة الإيمان، أو يكون الإيمان باعثا مريضا لا يدفع الأهواء ولا يوقظ الضمائر، أو يكون الإحسان زعما لا يبصر الحق ولا يحس هيمنته. نعم، قد يقع هذا فى حياة الناس كما ترى أحيانا شجرة معطوبة الثمر، ذابلة الورق، لا جذعها يحمل الخصب والثمار، ولا أفنانها تحمل القطوف والخير ولا منظرها يوحى بالبهجة والرضا. ولكن هذه الأحوال المعتلة ليست الفطرة العامة والطبيعة السائدة. والحديث الذى بين أيدينا يشرح الحقيقة الصحيحة للدين. والإيمان إذا صح لابد أن ينتج العمل. والعمل إذا صح لابد أن يرتكز على الإيمان. والإحسان إذا صح لا ينشأ إلا من إيمان راسخ وعمل كامل. ويمكنك أن تقول: إن الدين الذى جاء جبريل يعلمه هو الإسلام. والإسلام لا يصح إلا بالروح الكامنة فيه، والوقود المحرك له أى الإيمان الحق. فإذا استبطن هذا اليقين الدافع فأمامه مثله الأعلى فى إحكام الصلة بالله، والشعور برقابته الدائمة وشهوده الجليل، وهو مقام الإحسان. وقد شرحنا الحديث بهذا الأسلوب لأن بعض الناس وهم أن كلمات الإسلام والإيمان والإحسان مراتب يسلم بعضها إلى البعض الآخر، وأن بينها فواصل وفجوات، أى أن الإسلام قد ينفك عن الإيمان، وأن الإيمان قد ينفك عن الإسلام 023 ثم جاء فى هذا العصر الهازل من ظن الإحسان منزلة يتوصل إليها بغير الفروض المشروعة والعقائد المقررة. وبذلك أصبحت الكلمات الثلاث ترمز إلى حقائق شتى لا إلى دين الله الواحد، وهذا شرود بعيد. والقرآن الكريم يهدى إلى تلازم هذه المعانى وتساوقها فى بيان حقيقة الدين من ألفه إلى يائه، وإلى أن تلون العبارات إنما يشير إلى الوجوه الوضاءة لهذه الحقيقة الواحدة. وإنك لترى هذا فى عشرات الآيات التى تصف هذا الدين، وتشرح تعاليمه، ذاكرة فى تضاعيف هذا الوصف كلمات الإسلام والإيمان والإحسان، لتكون هذه الكلمات منارا يضىء الطريق، وحاديا يسوق إلى الغاية. قال عز وجل يصف المؤمنين فى صدر سورة النمل: (هدى وبشرى للمؤمنين * الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون) . وقال يصف المحسنين صدر سورة لقمان: (تلك آيات الكتاب الحكيم* هدى ورحمة للمحسنين) فاتحدت الصفات للنوعين معا. وأنت خبير بأن إقام الصلاة وإيتاء الزكاة أهم عناصر الإسلام التى ذكرت فى الحديث. وقال تعالى: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين). (قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين * وأمرت لأن أكون أول المسلمين) (... وأمرت أن أكون من المؤمنين * وأن أقم وجهك للدين حنيفا). (ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن) . (ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى) . (بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) 024 والآيات السابقة كلها ترادفت فيها عبارات الإسلام والإحسان على أساس أن الإيمان المستكن فى الأفئدة شىء مقطوع بوجوده ووفرته، وإلا فلا يتصور هنالك إسلام ولا إحسان. واذا كانت هذه الآيات قد تناولت الجانب الظاهر من جوهر الدين فإن الآيات الأخرى تناولت الحقيقة تناولا يصف جذرها الأصيل: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا) (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله) (والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا) (يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا) . (إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا * أولئك هم الكافرون حقا) . والمتأمل فى هذه الآيات يرى أن متعلقات الإيمان كثيرة لا يجوز بتة أن ينفك أحدها عن الآخر، كما يرى أن آثار الإيمان العملية- وهى لباب الإسلام لا يمكن أن تنفصل هى الأخرى عن طبيعة اليقين الموحى بها. بل يرى أن الإيمان بالبعض والكفر بالبعض كفر كامل: وأن الإيمان المقرون بنية التمرد، ورفض الخضوع لله كفر كامل: (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون) . 025 ومن ثم يتضح أن حقيقة الدين واحدة، وأن أوصاف الإسلام والإيمان والإحسان التى تعرض له هى شروح لوجوه شتى منه، وليست مراحل مغايرة له أو بعيدة عنه، وإن كان العنوان الذى شاع علما على هذا الدين، بل صفة للأديان كلها، وسمة للفطرة الإنسانية السليمة، هو الإسلام...
ما هو الإيمان؟:
Page 16