فلما كان الليل دخلت البصرة ومعها أخوها، ونزلت في دار عبد الله بن خُليد، وهي أعظم دار بالبصرة، على صفية بنت الحارث بن أبي طلحة العبدري؛ وهي أم طلحة الطلحات، وأقام علي ﵁ بظاهر البصرة ثلاثًا، ثم دخلها فبايعه أهلها أجمعون حتى الجرحى، وعَرض على أبي بكرة إمارة البصرة، فامتنع، وأشار عليه بابن عباس ﵄، فولى عليها ابن عباس، ثم جاء إلى أم المؤمنين ﵂ فاستأذن عليها، ودخل وَسلّمَ عليها، فردت السلام، ورحبت به، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين؛ إنَّ بالباب رجلين ينالان من عائشة. فأمر القعقاع بن عمرو أن يجلد كل واحدٍ منهما مئة جلدة، وأن يُجردهما من ثيابهما.
فلما رأت الخروج من البصرة بعث إليها علي ﵁ بكل ما ينبغي من مركب، وزاد، ومتاع، وغير ذلك، وأذن لمن نجا من الجيش الذي معها أن يرجع إلَّا أن يُحب المُقَام، وأرسل معها أربعين امرأة من نساء أهل البصرة المعروفات، وسيَّر معها أخاها محمدًا.
فلما كان اليوم الذي ارتحلت فيه جاء علي ﵁ فوقف على الباب، وحضر الناس، وخرجت من الدار في الهودج، فودعت الناس، ودعت لهم، وقالت: يا بَنِيَّ؛ لا يَعْتِب بعضنا على بعض، إنه والله ما كان بيني وبين علي في القديم إلَّا ما يكون بين المرأة وأحمائها، وإنه لمن الأخيار. فقال علي ﵁: صدقت، والله ما كان بيني وبينها إلَّا ذلك، وإنها لزوجة نبيكم ﷺ في الدنيا والآخرة. وسار معها عليٌّ ﵁ مشيًا أميالًا، وسَرَّح بنيه معها بقية ذلك اليوم.
ذكر هذا الفصل الحافظ عماد الدين بن كثير في "تاريخه"، وهذا ملخصه.
وفعل ذلك معها؛ إكرامًا لرسول الله ﷺ، وامتثالًا لقوله المار: "إذا كان ذلك فارددها إلى مأمنها"، وأداءً لحق الأمومة، فإنها أُمُّ المؤمنين بنص الكتاب العزيز، فتلطف بها غاية التلطف، ولم يُعنفها، ولم يُوبخها، بل أكرمها، وردها، وقصدت في مسيرها ذلك إلى مكة، فأقامت بها إلى أن حجت عامها ذاك، ثم رجعت إلى المدينة.
1 / 50