في حجرتها الصغيرة فوق سريرها أصبح جسدها ممدودا، وعيناها السوداوان تلمعان في الظلام كفصين من الماس، يمتصان السواد ثم يفرزانه شعاعا أبيض كشعاع الضوء، وملايين الذرات الدقيقة تسبح في الشعاع وتدور في حركة دائرية منتظمة كحركة الكون الأبدية، كالدق المنتظم في أذنيها يهبط إلى عنقها وصدرها ويسرى في ساقيها تنميلا خفيفا كسريان الدم، ويصب في كفيها وقدميها ويتجمع في أطراف أصابعها العشرين كرءوس الدبابيس، كأرجل النمل الدقيقة تمشي تحت جلدها وفوق عظامها، وتكاد تسمع دبيبها كالأزيز الخافت المتصل، كملايين الأصوات الخافتة المتصلة التي تصنع صمت الليل.
رفعت جسدها من فوق السرير، ولامست قدماها العاريتان الأرض الباردة فترنحت وكادت تسقط لولا قدرة ساقيها الطويلتين المستقيمتين وعضلاتهما القوية المشدودة، ترفعان جسدها منتصبا إلى فوق، بتلك السيطرة العجيبة على التوازن، والسير فوق الأرض بتلك الخطوة القوية الثابتة تشق الكون كربان ماهر يمسك بدفة سفينة متينة.
شدت اللوحة من وراء السرير، وسلطت ضوء اللمبة فوق الصفحة البيضاء وجلست على الشاشة الصغيرة فوق الأرض تحملق في ذرات العقيق السابحة في الشعاع، وحينما ضغطت بأصابعها على الفرشاة أحست برءوس الدبابيس تحت جلدها، وفي كل ضغطة تستشعر الألم كوخز الإبر، لكن يدها لا تكف عن الحركة، تروح وتجيء فوق اللوحة بتلك الحركة الإرادية، بتلك الرغبة الجارفة الملحة في استشعار الألم حتى نهايته، في الضغط على أصابعها حتى تنزف دمها وتنسحق ويكف الألم.
رغبة غامضة جارفة، تهز جسدها، وتهز الأرض من تحتها، وتسري من أصابعها إلى ذراعيها إلى عنقها إلى رأسها كأنما خلال سلك كهربي مشدود، وأصابعها تصبح مشدودة، وعنقها مشدودا، ورأسها ثابتا لا يتحرك.
من يراها في تلك اللحظة يظن أنها مصلوبة، لولا حركة يدها يظن أنها ميتة، أو نائمة وهي جالسة. لكنها يقظة شديدة اليقظة. عيناها المفتوحتان تريان أدق خط، تلتقطان النقطة وأصابعها بطرف الفرشاة تستطيع أن تشق الكون الأسود بخط رفيع أبيض كالشعرة، كخط الأفق يفصل الأرض عن السماء، والنهار عن الليل، خط أبيض تشوبه حمرة، حمرة داكنة قانية بلون الدم.
عيناها حين تريان اللون الأحمر القاني تتسعان، كذعر العينين أمام الدم الحقيقي. ما الذي يخيفها في لون الدم؟ تحملق في عروقها الزرقاء تحت جلدها، وتحس ذبذبة النبض المنتظمة المتصلة فوق معصمها، دقة بعد دقة بعد دقة، وبإحساس غامض خفي يخيل إليها أن الدقة القادمة هي آخر دقة، وأن الصوت سينقطع، وتكتم أنفاسها، وترهف سمعها وتكاد تقبل اللحظة بغير دقة، لكن أذنيها سرعان ما تلتقطانها خافتة ومقبلة بنفس الحركة، كالدقة السابقة، وكالدقة اللاحقة، كالأزيز أو الطنين المستمر في أذنها، ترغب بعنف في أن ينقطع ويتوقف، وبعنف أشد ترهف السمع في انتظار الدقة المقبلة، تخاف ألا تقبل.
تفتح عينيها في الصباح على صوت المنبه، وعينا أبيها الكبيرتان من فوق السرير، تشدانها خارج السرير، وخارج حجرتها، وخارج البيت وتتعقبانها في الترام، وفي الكلية، وكفه الكبيرة تدفعها في ظهرها داخل المشرحة.
تقف بجوار المنضدة الرخامية، على قدم واحدة، والقدم الثانية ترفعها في الهواء كأنما ترفس أحدا، ثم تضعها بكل قوتها وكل ثقلها على حافة المنضدة، وقفة لا تستطيع أن تقفها أية فتاة في ذلك الوقت، ولا أي فتى. الوحيد الذي يستطيع هو الدكتور علوي، يمر بين المناضد بنظارته البيضاء ومعطفه القصير الأبيض، وعند منضدتها يقف، قدم على الأرض وقدم على حافة المنضدة بجوار قدمها، وعيناه الزرقاوان تصبحان في عينيها. لكنها لا تطرق. عيناها السوداوان مرفوعتان إلى أعلى شاخصتان إلى الأمام، تحملقان في الفضاء كأنما تبحثان. تفرزان ملايين الذرات السابحة في الجو، وتفحصان الكائنات الدقيقة العائمة في الكون، وتبحثان بين آلاف الكتل المتشابهة عن الوجه غير العادي، عن العينين اللتين تنظران إليها فتصبح بهما مرئية. العينان السوداوان اللتان تلتقطان وجهها من بين الوجوه، وتنتشلان جسدها من بين ملايين الأجساد الضائعة في الكون.
لكن الوجوه كلها متشابهة في المشرحة، وفي الشارع وفي الترام، وفي فناء الكلية الواسع المزدحم تحس أنها تغرق في بحر وحدها، دون أن يراها أحد، ودون أن يميزها أحد، وأن وجهها أصبح كوجه زميلاتها، لا فرق بين بهية أو علية أو سعاد أو إيفون. وتجري بغير وعي هاربة من الزحام إلى ذلك الركن الصغير المنعزل بحذاء سور الكلية، وراء المبنى الضخم. تجلس على المقعد الخشبي بغير ظهر، تجلس محنية إلى الأمام، تحملق في قطعة صغيرة من الأرض بحجم كف اليد، لم ينبت عليها العشب الأخضر، ودون بقية الأرض من حولها ظلت طينية اللون، مشققة، ومن بين الشقوق الرفيعة تدخل وتخرج ملايين الكائنات الدقيقة بحجم النمل.
بهية! رن الاسم في أذنها غريبا كاسم واحدة أخرى، وانتفضت من فوق المقعد. رأت أمامها العينين السوداوين تخترقان عينيها، تنزعان عنها القناع وتشقان الغطاء، وتنفذان بغير رفق ولا تردد إلى السرداب الطويل الضيق في أعماقها، إن لحظة واحدة كافية لأن يصل إلى النهاية.
Page inconnue