جاءها صوته من الخلف: بهية.
لم تتوقف ولم ترد. صاح بصوت أعلى تردد صداه في جنبات الجبل: بهية.
بدأت تجري مبتعدة عن الصوت، لكنه أحاطها من كل جانب، فسدت أذنيها بيديها، لكنه نزع يديها عن أذنيها وصاح بصوت غاضب: لماذا تذهبين؟
حاولت أن تتحرك، لكنه سد الطريق بذراعه، دفعته بكل قوتها فشدها إليه بكل قوته، رفع وجهها بيده، وأصبحت عيناه في عينيها، عينان غاضبتان، سوادهما تشويه زرقة داكنة مخيفة كزرقة بحر بغير قاع، وحاولت أن تحرك رأسها إلى الناحية الأخرى، لكنه ثبت رأسها بيده وقال بصوت غاضب: بهية شاهين ستجعلك دائما عاجزة عن بلوغ أية قمة، وتعيشين دائما في منتصف الطريق وتسقطين في قبر الأيام العادية ككل الملايين.
صوته كان يرتعد، وتركت يده رأسها فسقط فوق صدرها يهتز، وعيناها تهتزان، وكل شيء في حياتها أصبح مهزوزا. هذا الصوت المرتعد سمعته من قبل مرة، بل مرتين، بل مرات كثيرة، بل كل يوم حين كانت تجلس في الترام وترى قطع البشر المصكوكة، وحين ترى الطلبة بنظاراتهم السميكة ورءوسهم المنكفئة فوق الكشاكيل، وحين ترى الطالبات بعيونهن المنكسرة وسيقانهن الملتصقة، وحين تسمع المحاضرات وهي تتلى بذلك الصوت المتكرر المتشابه، وحين يرن جرس المنبه في أذنها كل صباح الرنين نفسه، وصوت أبيها يناديها النداء نفسه، ولا شيء لا شيء يقطع هذه الرتابة المستمرة إلى الأبد.
رغبة جارفة طاغية كانت تتملكها لقطع هذه الرتابة، رغبة في الصراخ بلا سبب لتقطع الصرخة الرتابة، في القفز من النافذة وانكسار ذراعيها أو ساقها، في إغماد سكين المطبخ في صدرها لتصرخ من الألم ولتسمع صرختها بأذنها وتدرك عن يقين أنها حية وليست ميتة، رغبة جارفة وملحة للإحساس بالحياة إلى حد اقتراف جريمة قتل، في أن تقتل جسدها بكامل وعيها وإرادتها. كانت تدرك أنها ليست جريمة، وإنما الجريمة هي أن يقتل جسدها بغير إرادتها. وعن يقين كانت تعرف أن هناك إرادة أخرى تتربص بها، وتنتهز الفرص أي فرص لسحقها، كانزلاقة قدمها على سلم الترام، أو شرودها لحظة وهي تعبر الشارع، أو انطلاق رصاصة في الجو تصيبها خطأ.
إن موتها بهذا الشكل، بالصدفة وبغير إرادتها، يصبح جريمة غير مشروعة. إن الذي يجعل الموت مشروعا هو أن تكون هدفه المحدد، أن تكون اختياره ويكون اختيارها.
حين رفعت رأسها من فوق صدرها لم تجده، التفتت بسرعة فرأت ظهره يكاد يختفي في ثنية الشارع الملتوي الصاعد، هتفت بصوت عال: سليم.
لكنه لم يرد، رفعت صوتها أكثر ونادت: سليم.
تردد صدى صوتها في جنبات الجبل عدة مرات، لكن أحدا لم يرد. •••
Page inconnue