Ibrahim II
إبراهيم الثاني
Genres
وقال لها إبراهيم يوما: «هل تعرفين يا تحية أن أمى فترت إرادة الحياة فى نفسها وضعف تعلقها بها لما اطمأنت إليك ووثقت أنك لى أم وزوجة وصديق فى آن معا؟»
فلم تدر أينبغى أن تسر أم تألم؟
ولكن السرور غلبها مع ذلك وقالت: «لقد استراحت فقد كانت تكتم ألمها وتحاذر أن تبديه. وكنت أعرف ذلك، وأعرف أنه يسرها أن لا أظهر أنى أعرف ما تكابد. لم أر أشجع منها ولا أرق قلبا. لو وزع حنو قلبها على الناس جميعا لعادوا ملائكة رحمة».
ولكن إبراهيم خامره خاطر غريب جعل يقوى ويستبد بنفسه على الأيام. وكان يدرك بعقله أن هذا من تلف أعصابه. ولكنه مع ذلك لم يستطع أن ينحيه. ولم يفد فى دفعه ما أحاطته به تحية من وسائل التسرية وأسباب التلهى. وكان منطق هذا الوسواس أعجب من الوسواس نفسه، فكان يقول لنفسه إنه كبر وأسن. أليست أمه قد ماتت؟ والأمهات يمتن فى كل سن، عن بنيهن، فى كل عمر. ولكن أمه قد ماتت وهى مقتنعة بأن به الان غنى عنها. فما معنى ذلك؟ أليس معناه أنه شب عن الطوق جدا جدا؟ ودخل مداخل الرجال الذين لا يحتاجون إلى تعهد ورعاية؟ فهو يدلف الان إلى الشيخوخة. لقد كانت أمه تشعره فى حياتها أنه ما زال حدثا بل صبيا صغيرا. وكان هو يشعر بين يديها أن فى وسعه - بل ما زال من حقه - أن يرتمى على صدرها ويرضع ثدييها لا يصده عن ذلك شاربان ولحية، وإن كان يحلقها ولا يبقى عليها، فكان وجودها يفيض عليه شعورا قويا بالشباب والفتوة. وكان يحس أنه لن يكبر ما بقيت حية. فلما فقدها فقد هذا الشعور وأحس أنه ارتفع عن تلك السن التى كان لا يحس أنها تعلو فى حياتها. كان فرعا من أصل، فاجتث الأصل واقتلع، واقتطع الفرع وغرس فصار أصلا له عروق وأطناب. وراح يشعر أنه من الأرض مباشرة وإليها. نعم بقيت له تحية، وهى لا تنى تبره وتسره، وتتعهده، وتحنو عليه. ولكنها تعتمد عليه أيضا - تتكئ عليه كالعصا - تقوى نفسها وتصيبها بالاستمداد منه، كما كان هو يقوى نفسه ويصيبها بالاستمداد من أمه، فصار هو لتحية ما كانت أمه له، متكأ، ومعتمدا، ومعين قوة، وينبوع حرارة، وليس له هو أحد يمتح منه ...
وهو لم يرزق ولدا، وليس هذا لمحزنه. ولكن أهو يا ترى عقم؟ وتمثلت له أرضان، واحدة خصيبة والأخرى جديبة. واحدة يرف نباتها ويربو ويهتز، ويوحى إلى النفس معنى القوة والنعمة والرى. والأخرى خاوية موحشة توحى معانى الفناء والعبث. وتراءت لعينيه شجرتان واحدة عليها ثمرها ونوارها، والأخرى لا ثمر عليها ولا زهر لها. وتساءل عن الشجرة اليابسة ما انتفاعها بالثمرة المضمرة التى لا تطرح؟ ثم أليس الإثمار تفتحا والعقم انسدادا؟
ودار فى نفسه ما هو أثقل وأبعد من الصحة. أحس أنه وثب فجأة من الطفولة التى أطالت أمه عهدها إلى الكهولة دفعة واحدة، وأن شبابه ذهب خطفا، ومر كالقذيفة، فلم يتلبث ولم ينعم هو به وألفى نفسه يتساءل - وينكر من نفسه تساؤلها - ترى كيف طعم الشباب؟
وخطر له أن هذا جحود، وأن الإنسان لا يستطيع أن يدرك الحاضر إلا بعد أن يصبح ماضيا، وأن من تضييع الحاضر والماضى جميعا - وتقصير العمر أيضا - أن يترك نفسه يفكر على هذا النحو وينكر شبابه، ويمحوه ويمسحه من لوح الذاكرة التى لا يحسن الإدراك والفهم إلا بها.
وانثنت خواطره إلى تحية. فحدث نفسه أن شباب المرء يشعر به المرء فى سواه - على الأقل أكثر مما يشعر به فى نفسه. وتساءل: كيف هذا؟ أترانى خرفت؟ لا. ليس هذا من الخرف.. إن صدى شبابى فى نفوس الناس.. أثره ووقعه.. إحساسهم به.. مجاوبتهم له.. هذا هو الذى يشعر المرء بشبابه.. يعنى ماذا؟ هل معنى هذا أن الشباب - أو الشعور به - إيحاء؟ وقال لنفسه، بعد إطراق طويل إنه يحسب أن الأمر كذلك إلى حد كبير.. كل شىء فى هذه الدنيا يكاد يرجع فى مرد أمره إلى الإيحاء.. لو اجتمع نفر على واحد، وألحوا عليه بالإيحاء الخفى أو الظاهر لأقنعوه بما شاءوا.. بأنه عاقل أو مجنون.. وشاب أو كهل، وظريف أو ثقيل ... ولا يمنع هذا أنه فى الواقع غير ذلك.. نعم الشباب قوة ذاتية ولكن الشعور به رهن أيضا بما يتلقى المرء من إيحاء الحياة.
وكان يشعر ويدرك أن فى تفكيره عوجا، أو على الأقل يحب أن يعتقد ذلك. ولكنه لم يستطع أن يقيم العوج أو يثنى خواطره ويصرفها إلى مجرى اخر. ووجد نفسه يتساءل عما توحى إليه حياته وعن نوع إيحائها أهو إيحاء بالشباب والقوة، أم بالكهولة ودلوف الشيخوخة وذهاب النعمة والغضوضة؟ وتنهد أسفا فليس فى حياته غير تحية. وليست تحية بالامتحان الكافى أو المقنع. واستهجن أن يجرى هذا بخاطره، وعده ظلما لتحية، وقلة وفاء. وعالج أن يطرده ولكنه أبى إلا أن يستولى على نفسه حتى صارت المسألة عنده كيف يكون الأمتحان.
وانتابه وسواس آخر جرته عليه النوراستينيا، وكان قد أصيب بها فى صباه وعانى تبريحها سنوات، وكان أخوف ما يخافه فى هذا العهد الأول «الحمى» فكان لا يكاد يأكل شيئا أو يتعب إلا توهم أنه يجد مسها وأنه سيحس بعد ذلك نفضها وإرعادها ثم تشتد عليه حرارتها وتدوم فيموت. وكان لا يريحه ويعفيه من هذه الأوهام إلا أن يشرب شيئا يسيل العرق فيهدأ ويطمئن. وكان فى قرارة نفسه يعرف - كما يدرك بعقله - أن هذا كله من فعل الأعصاب وأنها أوهام فى أوهام وأنه لا شىء به يشكوه ولا خوف عليه من حمى نافض أو صالب. غير أن ما كان يعتريه كان يغلب إرادته فكان يحس هذا الخوف على حين يبقى عقله مطمئنا. وكان ربما قعد على الطعام وهو سليم مبرأ وفى ظنه أن سيقش كل ما على المائدة من شدة الرغبة فيه والشهوة له، فلا تكاد تمتلئ عينه منه حتى يرد يده عنه وينهض ويلبس الصوف - حتى فى وقدة الصيف - ويلف عليه بطانية سميكة ويقول: «اغلوا لى كراويا»، فتتنهد أمه اسفة وتقوم إليه حتى تسرى عنه. ويا ويحه إذا رأى جنازة أو فاجأه عويل نسوة على ميت، أو صادفه رجل له وجه حانوتى، أو مر به غراب يخطف، أو وقعت عينه على بومة.. وأتعبه الأطباء ولم يجده ما كانوا يشيرون به عليه، وأحس أنه لو صدر عن رأيهم لطار عقله، فقد كانوا يأمرونه بالراحة والكف عن العمل وينصحون له باتقاء الإجهاد ويشيرون بالسكنى فى مكان خلوى ساكن لا ضوضاء فيه. وكان هو يرى أن العمل تسلية وأن الراحة تلتمس لا بالكف عن العمل، بل بتنويعه والانتقال من شىء إلى شىء، وأن التعب يجعل نومه هادئا عميقا وأنه على كل حال لا يطيق السكون والجمود، وأنه إذا كف عن العمل لم يسعه إلا أن يدير عينه فى نفسه ويفكر فى حاله فيزداد اضطرابا. وكان يحدث أمه بهذا ويروى لها حواره مع الأطباء، ويحاول أن يقنعها بصواب ما يذهب إليه وخطأ ما يشيرون به، كأن اقتناعها بأحد الأمرين يرجح الكفة ويحسم النزاع، ففهمت أمه حقيقة الحالة وأدركت أنها هى التى بيدها علاجه. وكان رأيها أن الأطباء على حق وأن ابنها أيضا مصيب، فقصدت إلى طبيبه زاعمة أنها هى المريضة وعادت وقد استقر رأيها على النهج الذى بدا لها أنه أوفق. وكانت تعرف حب ابنها لها فأرادت أن تصرفه عن نفسه وتحول عنايته إليها. واختارت للسكنى بيتا فى ضاحية جميلة وله حديقة صغيرة، قائلة إن ضجات المدينة تحرمها الرقاد وتسلبها الراحة، وأغرته بزراعة الأزهار والخضر، وصارت تخرج تتمشى فيرافقها من تلقاء نفسه وهى تبدى الزهد فى ذلك وتدعى أنها تخشى عليه التعب، وما كان خروجها إلا من أجله لا من أجلها. وكانت تحرص على أن لا يدرك أنه هو المقصود بما تصنع وما تتكلف حتى لا يشعر أنه مريض يعالج، وحتى تجىء الصحة التى تستفاد من هذه الحياة الجديدة بثمراتها المنشودة. ولاحظت أنه اتخذ عصا وأنه اعتاد أن يحملها معه كلما خرج ليرافقها. وكانت تراقبه خلسة فبدا لها أنه وهو يتوكأ على العصا يثنى رأسه ويمشى مطرقا متجمعا، وخيل إليها أن هذه العصا توحى إليه شعورا بالضعف وأنه يتخذ سمت الشيوخ الوقورين، فزعمت أن المشى يتعبها قليلا، ورغبت فى الاعتماد على العصا، فناولها إياها فلم تدعها له بعد ذلك. وسرها أن رأته يمشى خفيفا، وكان المشى والعمل فى الحديقة مشغلة كافية، فقلت مطالعاته وطال نومه وصح بدنه وأذهلته العناية بأمه عن العناية بنفسه، وأنسته معظم وساوسه فعاد إلى ما كان قد كاد يخرج عنه من حدود الصحة.
Page inconnue