Ibrahim II
إبراهيم الثاني
Genres
قالت: «لا تخافى فإنى أعرف ابنى لا بال له إلى هذا. همه ما يقرأ ويكتب. وما يخرج خير عنده من البنين والحفدة - أو هو عدله على الأقل - وهذا من لطف الله فلا تقلقى فإنى أخاف أن يذبلك القلق، ولا تضمرى الحسرة واللهفة فإنها شر ما جنى على المرأة وحياتها مع بعلها. ويا بنتى إن ذلك ليس فى أيدينا، وإنما نحن كالأرض لزارعيها، ولسنا ننبت إلا ما زرعوا».
وجاء يوم آذنت فيه بفراق، وكانت تحية وحدها معها فى البيت، فامتنع صبرها - على فرط تجلدها لهذا التوديع الذى كانت تعلم أنه لابد آت - وانحدرت العبرات - «كاللؤلؤ الرطب» - من مدامع قرحات، واضطرمت فى أحشائها نار أليمة الحرقات.
وكانت المسكينة كالمشفى على الغرق، وهو لا يحسن من السباحة إلا الغوص. وكان التمزيق الذى تحسه فى صدرها يجعلها - على الرغم منها - تدفع يديها ورجليها فى الهواء، كأنما تحاول أن تتعلق بشىء. وكانت تنفخ كأنما فى جوفها بركان حام هائج. وعيناها متفتحتان جاحظتان، ولكنهما لا تكادان تبصران، وحملاقهما ثابت لا يتحير أو يتحرك، وجيدها يكاد ينخلع من شدة التلوى، وعروقه ناتئة، وأوردته دارة كالوارمة. وكان منظرها هذا وما تكابده من الآلام المبرحة يقطع من تحية نياط قلبها، فارتبكت لحظة ثم عاد إليها الرشد فدعت طبيبا ثم آخر وودت لو استطاعت - أو أجدى - أن تحشد لها جمهرة الأطباء الحذاق. وجاء أولهما - وكان وثيق الصلة بالأسرة - فدخل عليها هاشا باشا كعادته، فتجلدت وتكلفت الابتسام له، فقال هذا أحسن وفحصها وهو يمازحها وطمأنها. وجاء الثانى فتشاورا ثم حقناها بالمورفين واتفقا على العلاج. وانصرف ثانيهما وبقى الأول حتى جاء إبراهيم، فارتمت على صدره تحية تبكى بأربع. وقال الطبيب إننا نفعل ما نستطيع والله يقضى بما يشاء، ولكنى غير يائس.
وحبست تحية نفسها عليها تمرضها. وكان الطبيب يعودها فى اليوم مرة واثنتين. واستراحت الأم من الالام فى اليومين الأولين واذنت الحالة بالتماثل وقاربت أن تشابه أحوال الصحة، فاستبشر إبراهيم وتحية، ولكن الطبيب ظل يقول إذا مضت لها سبعة أيام رجوت لها البرء. وكان ما خاف أن يكون، فانتابها كالاختناق، فتسترخى إحدى العينين، ويتهدل أحد الشدقين، ويغيض الدم من الوجه، وتصبح الحدقة زجاجة. وكان هذا ربما طال ربع ساعة. ولكن فترات الراحة كانت طويلة، ثم قصرت وتلاحقت هذه الأزمات على قصر مدتها، وضعفت المقاومة وزهدت فيما وصف لها من طعام ودواء، فكانت لا تقبل من ذلك شيئا إلا مرضاة لابنها وتحية.
وكان صباح، فأومأت إلى تحية أن تدنو منها وقالت لها همسا: «يا تحية أوصيك بأمور. إنى أعرف أنى هامة اليوم. فلا صراخ ولا عويل، فإنه أنكر ماسك مسمع حى. ولا نساء يحتشدن حولى، ويبكين مخلصات أو منافقات أو مجاملات. ولا سواد تلبسينه على. ولا مأتم يقام ولا جنازة تشيع، وإكرام الميت دفنه، فعجلوا به، والله يبارك لكما فى حياتكما».
وأمسكت هنيهة تستريح ثم تبسمت لها فى عينيها، وقبلت ما بينهما. وفاضت روحها فى قبلتها، على جبين تحية.
وخالف إبراهيم وصية أمه - بكرهه - فقد كان يخشى شماتة بعض من يعلم أنهم يتنسمون أخباره ويتمنون له السوء. وخاف أن يحملوا العمل بالوصية على محمل الفقر والعجز، فكلف نفسه شططا، واحتفل بدفن أمه وأقام لها مأتما «كنجوم الليل زهرا» ولم يذرف دمعة واحدة وهم يدفنونها، ولم يقل لدافنيها ترفقوا بها وإن كان قد هم بذلك، حين رآهم يحملونها بغير احتفال. وسبقهم فانحدر إلى القبر فسوى لها التراب بيديه، وكاد يعفر به وجهه. وتلقى تعزيات المشيعين - وهو باسم - وقلبه يدمى، والدموع فى حلقه. ولكنه على فرط تجلده لم يستطع البقاء فى البيت، فقد كان يرى أمه فى كل مكان، وكان كل شىء يذكره بها. وانتابه الأرق والوسواس، وتلفت أعصابه حتى صار يشق عليه أن ينام وحده على سريره. واحتاج أن يشعر لإنسان آخر إلى جانبه. وكان هذا الاضطراب يخجله، فتحامل على نفسه وأخفى ضعفه. غير أن تحية فطنت إلى ما به، وكانت عينها عليه، وقلبها معه، فزعمت أنها خائفة فهل يسمح لها بالانتقال إلى جانبه فى سريره؟ ففعل مرحبا مسرورا. ولم يفطن إلى حيلتها. ووسعه أن يغالط نفسه ويوهمها أنه يحمى امرأته ويرعاها ويحرسها، وفتر إزعاج الهواجس، وضعف صوت الهواتف. ولكنه ظل لا يطيق البيت فتحول عنه إلى سواه، وإن كان عزيزا عليه حافلا بالذكريات الحبيبة إليه.
وخالفت تحية الوصية أيضا فلبست السواد. وكانت تعرف أن السواد والبياض سيان، وأن العبرة بما ينطوى عليه القلب. ولكنها خشيت سوء القالة والتأويل، وإن كان لها من الشجاعة وقوة النفس ما يعينها على مخالفة العادات وإهمال التقاليد. ولكن إبراهيم كان يكره السواد ولا يطيق لونه، فانتظر حتى مضت الأربعون، ثم قال لها: «إننا لا نزور ولا نزار - على الأقل الآن - فما فى زيارة حزين متعة، ولا للناس فى ذلك رغبة صادقة، فاخلعى هذا السواد فإنه يثقل على نفسى. وما أظن بك إلا أنه يثقل عليك أيضا. إنه لون قابض يجثم على الصدر، ويشد الجلد، ويسقم القلب، وأنت تعرفين حبى لأمى، وأنا أعرف حبك لها، فهل تظنين أنها تطيب نفسا - لو كانت دارية - بحالنا هذا وما نحن فيه؟»
فنضت السواد - على كره وإشفاق - ولغطت نساء بذلك فيما بينهن، ولكنها لم تجعل بالها إليهن، وإن كن يجدن الوسيلة إلى إبلاغها ما يقلن فيها. وكان عزاؤها حين يتأدى إليها هذا اللغط أن: «هى تعرف، هى تعرف. لا سواها».
وكان الانتقال إلى الحياة العادية بطيئا بطبيعة الحال. ولكنهما عادا سيرتهما الأولى على الأيام. ولم ينسيا هذه الأم الكريمة، وأنى لهما أن يفعلا؟، ولكن حزنهما عليها تحول إلى اغتباط عجيب بذكرها. فكانا يقضيان بعض الوقت - أحيانا - وهما يتساقيان ذكرياتها، فينتشيان. وكانت تحية ربما توقفت وهى تلبس ثيابها استعدادا للخروج معه إلى السينما أو لزيارة صديق أو قريب، وألقت إليه نظرة وديعة، فيها لين وحنين، فيفهم. ويذهب بها إلى قبر أمه فيقفان عليه لحظة - لا يقولان شيئا ولا يقران حتى الفاتحة - ثم يعودان من حيث جاءا، ويذهبان إلى حيث شاءا، وقد استراحا وشعرا أنهما سراها.
Page inconnue