إهداء الكتاب
الفصل الأول
الفصل الثانى
الفصل الثالث
الفصل الرابع
إهداء الكتاب
الفصل الأول
الفصل الثانى
الفصل الثالث
الفصل الرابع
إبراهيم الثاني
إبراهيم الثاني
تأليف
إبراهيم عبد القادر المازني
إهداء الكتاب
إلى كل «تحية» يشقى صبرها ببعلها ... أحيانا.
إبراهيم عبد القادر المازني
الفصل الأول
1
أصبح إبراهيم، ذات يوم مكتئبا، متبرما، يشكو إلى كل من يلقاه من الإخوان أنه لا قدرة له على فهم «هذه المرأة».
ولم يكن يعنى امرأة خاصة على الرغم من اسم الإشارة. وإنما كان - وهو يتكلم ويبسط كفه، ويمد ذراعه، ويطوح بها فى الهواء - كأنما يومئ إلى «الجنس» كله ويدل عليه.
وكان فى العقد الخامس من عمره، ولكنه كان ذا وسواس. وكان أخوف ما يخاف، أن يكون قد شيخ، أو أشفى على الشيخوخة. ولم يكن لهذا الوهم ما يسوغه سوى إرباء إحساسه بالحياة على القدر الذى تتسنى به الراحة فيها. وكانت امرأته ذكية رحيبة أفق النفس، بعيدة مطارح العين. وكانت تتوخى أن تجدد نفسها له وتحرص على أن تحيطه بجو من «الشباب»، ولا تفتأ تدعو من ذوات القربى، أو من بنات المعارف، الفتيات الناهدات، واللاتى ما زلن فى عنفوان الشباب. وكانت ترجو بهذا أن يجد بعلها ما ينعشه وينشطه، ويميط عنه أذى الإحساس بالشيخوخة المخوفة أو المتوهمة. ولم تكن تخشى عليه الفتنة، فقد كانت تعرفه رزينا حكيما، وحييا محتشما. غير أن هذا الذى تحرته معه، كان يعمق شعوره بأنه ارتفع عن حد الشباب، ودخل فى الكهولة، أو هو على عتبتها الباردة. وصار يحس أن به حاجة إلى ما يطمئنه على شبابه الذى ينضب معينه بسرعة. وكان يعلم أن امرأته تحبه - أو لا تزال تحبه - غير أنه كان يخشى أن يكون حبها له عادة، أو بفضل الذاكرة وتشبثها بما نعمت به منه فى شبابهما. فاشتاق أن تحبه غيرها واشتهى أن يسمع كلمات الحب والإعجاب من فم آخر. ولم يكن يعدم ثناء سارا، بل ودا صريحا، من الفتيات اللواتى يحطن به. ولكنه كان يقول لنفسه إن هؤلاء غريرات لا خبرة لهن بالحياة ولا تجربة لهن فيها، فلا اعتداد برأيهن فيه. وكان يستريب بالمجربات الحاذقات، ولا يطمئن إلى صدقهن، وخلوص سريرتهن. فصار الأمر مشكلا، لا حب امرأته يقنعه، ولا مودة الغريرات بها اجتزاء، ولا ثقة له بغيرهن.
وعرف فتاة - فى بيته، وبفضل امرأته - اختلط أمرها عليه. فما كانت، فيما يرى، من الغريرات، ولا كانت تبدو ذات تجربة ما. وكانت متزنة ذات عين فاحصة ولكنها غير صارمة. وكانت أحلى ما تكون حين تبتسم وتتقارب جفونها حتى لتكاد تنطبق. وكانت على سكونها وهدوء مظهرها فى كل حال، لايشك الناظر إليها فى أنها زاخرة بالحياة الفوارة، بهذا كانت تنطق كل حركة وإيماءة، ونظرة، ولفتة. وكان اتزانها فيما يبدو له، كالسد الذى يحبس الماء وراءه، ويمنعه أن يتدفق. ولم تكن مع هذا يبدو عليها الكبت، ولا كان سكون طائرها تكلفا، بل كان خفرا طبيعيا واحتشاما مكتسبا بالعادة على الأرجح.
وما أسرع ما توادا، بل ائتلفا - لا يدرى كيف؟ - وصغا إليها، وصغت إليه. وأنس بها، وأنست به. التقيا مرة فى غير داره، اتفاقا، فوقفا هنيهة يتبادلان التحية والكلام الذى لا محصول وراءه. وكان يهم أن يدعوها إلى مرافقته فلا يسعفه لسانه. فلما وضعت يدها فى يده وهى تودعه وتفتر له عن ابتسامة رقيقة، وأيقن أنها ذاهبة، وأن الفرصة قد لا تسنح مرة أخرى، انطلق اللسان المحتبس، وزايله حذره المألوف فسألها هل تسمح بمقابلته فى يوم آخر؟ وكان يتوقع الاعتذار. وإذا بها تتقبل دعوته باغتباط وبساطة عجيبة.
وصارا يلتقيان. واتفقا على أيام معينة يخلوان فيها بنفسيهما بنجوة من الرقباء. وأعادته بسكونها، فهدأت ثورة القلق وذهبت عنه الوحشة التى كان يكابدها إذ يكون مع الناس. ونفثت فيه من حرارة شبابها فنسى أوهامه، وعادت إليه الثقة والاطمئنان - إلى حد ما - وصدق ظنه أن سكينتها سد وراءه فيض زاخر من الحيوية محتبس، حتى لصار يخشى جدا أن تنفتح «البوابات» كلها دفعة واحدة، فيغرقها - ويغرقه معها - التيار الجارف. وراح يقنع بعلمه باضطراب الماء واصطفاقه وراء الأبواب الموصدة. وسعد بها، وسعدت به، وصارت له، وصار لها، مألفة.
وكانت دائمة البشر والبشاشة، سلسة كالجدول الرقراق، فلا سورات غضب، ولا دلال تتكلفه، ولا هستيريا. وكان هو أيضا معها على هذا النحو الموافق من الرقة، ولين الجانب؟ لأنه أمن منها البطر وسوء السلوك.
غير أنه أقلقه عليها - ومنها - ما علمه من صدها الخطاب وزهدها فى الزواج. وكان يقول لها، وهو يحاورها، إن هذه حياة غير طبيعية، فتقول إنها قانعة راضية وأنها لا تطمع فى غير ذلك، ولا تتطلع إلى ما يجاوزه، وأنها سعيدة هكذا فلماذا تغير الحال؟
وكان هذا يسره، ويسوءه. فأما وجه السرور فذاك أنه وجد فتاة لا ينقصها المعجبون والعشاق ترضى غروره بهذه القناعة به وتقوى شعوره بأنه ما زال كفؤا للحياة، وأن ما كان يخشاه لم يكن إلا وهما ووسواسا أورثه إياهما تلف الأعصاب. وأما ما ساءه - كما قال لها مرارا - فذاك أن عمر هذه الصلة لا يمكن أن يكون إلا محدودا. فإنه أسن منها أكثر من خمسة عشر عاما، فهى تستقبل الدنيا، وهو يستدبرها شيئا فشيئا.
فكان ردها الذى لا يختلف أنه لا يزال بينهما وبين هذه الخاتمة التى يراها محتومة أمد طويل، وما زال أوانها بعيدا، فلماذا تحمل همها سلفا؟
فيأبى أن يقتنع ويقول: «وهل تظنين أن الرغبة فيك ستظل كما هى الان بعد سنوات أخرى؟»
فتقول: «ولم لا؟ إن لكل سن مزيتها، ولكل امرأة من يطلبها فى سنها. دعنا من هذا، خلنا فى الحاضر، فإن الغد غيب..».
وكان لتلف أعصابه يتطير أحيانا من هذا الكلام، ويذكر أن فتاة أخرى كانت لا تنفك تبدئ وتعيد فى أنها لن تتزوج، وقد صدقت وما تزوجت لأنها ماتت. فكان يحدث نفسه أن لعل هذا يحدث له أو لصاحبته فيموت أو تموت. وكانت تضحك من كلامه هذا وتصرفه عن هذا اللون الثقيل من التفكير وتقول له: «وماذا إذا مت أنا؟ أليس خيرا أن أموت سعيدة فى شبابى؟ أم تراك تريد أن ترانى شمطاء تشيح عنها الوجوه وتتحول عنها العيون نافرة، وتجفوها القلوب؟ لا يا سيدى..».
فيقول: «ولكن أنا؟ أنا؟ إنى أخب إلى الشيخوخة..».
فتقول: «يمكنك أن تثق أنى سأظل صديقة وفية ولا ألومك على شيخوخة لم تجنها على نفسك، ولم تدركك بفعلك، ولم تتعمد أن تبلغها لتكايدنى».
ولم يجد جدوى فى مثل هذا الحوار الذى كان ينتهى فى كل مرة إلى غير نتيجة يحسن السكوت عليها، أو يمكن الاقتناع بها. وراح يطفو معها على متن التيار، وكان تيارا رقيقا لا يطغى به ولا يعنف. وكانت هى قريرة العين، صريحة البشر في غير تعمل. وظلا سنتين على هذا الحال، لم يقع بينهما خلاف مرة، ولم تنظر إليه قط بغير الابتسام والبشاشة، وخلت حياتهما معا من العتاب والغيرة. وكان خير ما يسره منها أنها لا تعرف قولة «لا»، فما سمعها منها ولامرة واحدة فى عامين طويلين. وكانت تكل إليه أمرها واثقة مطمئنة، فكان لهذا حفيا بها، متحرزا من أجلها ساهرا عليها، لا هم له إلا أن يذيقها أقصى ما يدخل فى الطوق البشرى المحدود من السعادة الميسورة، وكانت كأنها على يقين من هذا.
إلى أن كان يوم وقعت فيه بينهما جفوة لسبب سخيف. وكانا قد استأجرا سيارة «تاكسى» ومضيا فى الطريق الزراعى الذى ينتهى إلى الإسماعيلية، لينعما بنضارة الخضرة على جانبيه.
فلما صارا على مسافة فراسخ من القاهرة، انثقبت إحدى العجلات، فوقف السائق ليضع مكانها العجلة الاحتياطية فإذا هى فارغة من الهواء. ولم يكن معه منفاخ، فحمل المسكين العجلتين وذهب بهما ليصلحهما. وبقيا على الطريق ينتظران ويتحدثان، ويتضاحكان. ولكن الانتظار طال فثقل عليها واربد وجهها. وحاول أن يسرى عنها ويعيد إلى محياها البشر المألوف الذى لم يعهد سواه فأخفق.
وبعد ساعات عاد السائق المسكين يحمل عجلة ويدحرج أخرى. ورجع بهما إلى القاهرة. فلما بلغاها أبت أن يصحبها وأصرت على ركوب الترام وحدها، وكانت مقطبة. وكثيرا ما عاد بها الترام وحدها فليس فى هذا جديد، ولكن الجديد هو التعبيس الذى يراه أول مرة فى عامين. ولم ير أن له ذنبا، أو أنه يستحق هذا التقطيب، وثارت نفسه على الظلم، وكره أن يفضى بهما الأمر إلى الشجار والنقار السخيفين، وعجز عن فهم البواعث التى جاءت بهذه السحب وعكرت صفاء وجهها ونفسها، فانصرف ناقما ساخطا، أثقل ما يعانيه أنه غير فاهم شيئا.
2
وظل بضعة أيام يحدث نفسه كالموسوس بتعبيس صاحبته «ميمى». وكان امرأ فى أصل طباعه الجد الصارم، وإن كان قد عود نفسه، ابتغاء الراحة، أن يأخذ الأمور من ماخذها السهلة، القريبة، وأن ينظر إلى الحياة من ناحيتها المشرقة الوضاءة، من غير أن تغيب عنه نواحيها الحالكة الكالحة. وكان مما راض به نفسه على ذلك قوله لها وهو يناجيها حين يخلو بها: «إن الدنيا ليست بالجنة، ولم تخلق على هوانا، ولا كان لنا رأى فى خلقنا نحن. وإنما جئنا لأن نواميس الحياة اقتضت أن نجىء، فغير عجيب أن يكون ثم ما يسخطنا ولا يرضينا. ولو ذهبنا نتسخط كل ما لا يرضينا لما عادت الحياة محتملة. فالصبر والحلم وتناول الأمور برفق وتسهل، أوجب ما يجب، وأدل شىء على حسن الفهم وحصة الإدراك. وليس هذا من قبيل قولهم ليس فى الإمكان أبدع مما كان، فإن كل ما فى الدنيا قابل لتحسين وإصلاح وتهذيب، وإن لم يكن فى ذاته غاية فى السوء والفساد».
واكتسب بالأناة، على الأيام، الإنصاف حتى من نفسه. وصارت له قدرة نادرة على وضع نفسه فى موضع غيره، وتصور ما يصدرون عنه من بواعث، وكيف يجيبون ما يهيب بهم من هواتف. وما أكثر ما حزن وتألم، ولكنه كان يستطيع، وهو يعانى ما يعانى، أن يمهد العذر للذى أورثه الألم أو الحزن.
وقال لنفسه: «إن ميمى تظلمنى، فما لى ذنب فيما كان. وتظلمنى ظلما ثانيا حين يثقل على كاهل صبرها أنها حرمت ما كانت تتطلع إليه، فقد كان الحرمان نصيبى أنا أيضا. ثم إنها تنسى ما أتجشم فى سبيلها لأنيلها أكبر حظ من السعادة. وإنى لأعرض عن فتيات كثيرات فى وسعى أن أصل سببى بأسبابهن بغير عناء. وإنى لأنفق فوق ما يشير به حسن التدبير، فما أنا بذى سعة عظيمة فى الرزق. وأكون على موعد معها فلا أبالى ما يفوتنى فى سبيل لقائها، وأكون مريضا، أو متعبا، فأتحامل على نفسى فألقاها ولا أكون معها إلا هاشا باشا - ضاحكا مازحا - لأسرها. ولقد حرمت زوجتى بعض حقها، حين اختصصت ميمى بهذه العناية. فما من شك فى أنى أهمل امرأتى بعض الإهمال، وما جنت شيئا تستحق به ذلك، ولا ذنب لها فيما اعترانى من ملل لطول العشرة وفرط الألفة. وإنها أيضا لجديرة أن تمل وتسأم ولعلها تفعل، غير أنها تتجلد وتتشدد، ولا تبدى لى إلا الود والعطف، وإلا الفرح والإعجاب والزهو بى.. بى أنا المتلهى عنها بميمى.. أفلا تكون هذه الزوجة معذورة إذا اقتاست بى واحتذت مثالى، وذهبت تنشد التسلى والتلهى برجل آخر أصبى منى؟ رجل تكون فى عينه جديدة كميمى فى عينى؟ كل هذا تنساه أو تغض عنه ولا تحفله ميمى، ويسوءها - فتتجهم - أن عجلة انثقبت فقعدنا فى الطريق ساعة ننتظر إصلاحها وفاتنا ما يسهل اجتناؤه فى يوم آخر. وكان جمال الطريق مبتغانا، فتملينا بحسنه قاعدين، لا رائحين غادين. وتأخرت عن موعد عودها إلى بيتها قليلا».
وأحس أن ثورة نفسه تتفاقم، لا على ميمى، بل على نفسه وعلى الدنيا كلها، وما أصاره إلى هذا الحال، وعلى كفرانه حق زوجته. فقد كان فى قرارة نفسه يحبها ويجلها، ولا يستطيع أن يتصور دنياه خالية منها، ولكن إلفه لها فتره، فذهب يلتمس ما به يتجدد، وينشط، وينبعث.
وأراد أن يكبح هذه الثورة فقال لنفسه: «وميمى؟ ألا تتجشم فى سبيلى مثل ما أتجشم؟ ما حاجتها إلى؟ إن فى وسعها أن تتزوج وتهنأ، ولكنها لا تفعل. وليست فقيرة إلى مالى، فما لى مال يطمع فيه طامع، وما عرفت فيها الطمع، والقليل الذى أهديه إليها، تهدى إلى خيرا منه وأنفس. وهى تحرص على لقائى فى مواعيده ولو انطبقت السماء على الأرض. وأمها لا ينقضى عجبها لهذا الخروج فى أيام لا تختلف ساعة ولا تتقدم أو تتأخر دقيقة واحدة، ولا تنفك تلح عليها بالسؤال، وتلج فى استكشاف السر ، ولم تستطع فى عامين طويلين أن تهتدى إلى الحقيقة. ولو شاءت ميمى، أو طاشت، لورطتني عمدا أو عفوا. ولكنها لا تتطلع إلى شىء ولا تبغى إلا أن أكون معها.. هكذا.. ليس إلا.. وما عرفتها ندمت أو قلقت، أو عنيت بأن تمد عينها إلى الغد المحجوب، وما عسى أن يكون حالها فيه. وإنى لأحاول أن أحملها على تدبر هذا الغد، فتأبى إلا أن تصدف عنه وتعرض، لا يأسا منه، ولا مجازفة، بل لأنها راضية قانعة. وما أكثر ما قلت لها إنها تضيع شبابها معى، وإنها لتعيرنى من حرارته، ولكنها لا تستطيع أن ترد على شبابى بما تنفث فى من حرارة شبابها، وأنه أولى بها أن تكون ذات بعل شاب مثلها، فتصغى بعناية ولكن بابتسام ساخر، ثم تقول: «شاب؟ شاب إيه؟ ماذا أصنع بالشباب؟ الطيش والغرور؟ إذا حاولت أن أضع له اللجام، نبا فى العنان، وإذا ألقيته له جمح. وأنا الشقية فى الحالين. ثم الأولاد.. والبيت.. والمطبخ.. لا ياسيدى.. بدرى.. بدرى.. كل شىء فى أوانه. ثم ما عيبك أنت؟ رجل رزين حكيم، مجرب، ولم يذهب شبابك كما لا تفتأ تزعم. أو تحسب أن الشباب سواد الشعر ونضارة الجلد؟ إنك بنفسك أصبى من ألف شاب. وأنا أجد فى صحبتك ما لا يعرف الشبان كيف يتيحونه لى.. إن لى كل يوم جديد متعة أفيدها منك، وقد رفعتنى إليك، وأخلق بالشاب أن يهبط بى معه. ومنحتنى ما كان خليقا أن يفوتنى لولاك.. مزيتك هى مزية الكهولة الناضجة - لا تقاطع - لا تقل إنك لست الوحيد فى الدنيا أو الذى لا ند له، فإنى أعرف ذلك. ولكنى لا أعرف، ولم أعرف سواك. ثم إنى معك فى أمان من المخاوف. لا سوء عاقبة، ولا طرد من الجنة. أتذكر يوم قلت لى ليت أبانا آدم أكل من شجرة الحياة، ولم يأكل من شجرة المعرفة؟ لقد دار هذا فى نفسى مذ سمعته منك، فهل تعلم أنك أطعمتنى من شجرة الحياة، ومن شجرة المعرفة جميعا؟ ثق أنى معك أحيا، وأتعلم، وبلا ثمن أيضا، أو بثمن هين. وإنى لاكون شقية لو استقللت ذلك.. ثم مالك أنت ما دمت أنا راضية قريرة العين؟»
فكان يدهشه منها حكمة الطبع، وهى فى مثل سنها الغضة عجيبة نادرة.
وانتهى من هذا الحوار مع نفسه إلى أن الأولى أن ينتظر حتى يلقاها مرة أخرى فيرى ما يكون منها. فإذا عاد إليها بشرها تناسى الأمر كله. وإلا.. وإلا.. وإلا ماذا؟ لا يدرى.. ولكنه لا يطيق هذا التعبيس، وما من موجب لاحتمال ثقله، ثم إنه لا يفهم لماذا يتكلف الناس ما يفسدون به حياتهم؟ والتكلف جهد على الحالين فلماذا يتكلف الناس ما ينغص العيش ولا يتكلفون ما به يطيب؟
ولقيها فى الموعد المضروب. وكان ينتظرها على رصيف مسجد، وراها قبل أن تراه. وكان يسره منها أنها لا تتثنى فى مشيتها، ولا تتقصع، وأنها تسير غير ملتفتة أو عابئة بأحد. وسره منها فى يومه هذا أنها جاءت فى أحب ثيابها إليه وأشرحها لصدره، وكانت لا زاهية ولا قاتمة، ولا قطعة واحدة بل اثنتين، واحدة كالصدرية، بيضاء مخططة خطوطا زرقاء، دقيقة النسج، رحيبة، ولكنها لا فضفاضة ولا محبوكة، ولا تحجب ما يحسن أن يظهر من فتنة الصدر الممتلئ، ولا تبدى ما يجب - رفقا بطينة الإنسان - أن يستر. والكمان إلى القرب من المرفق، ففيهما من الاحتشام ما لا يمنع أن تحس العين لين الساعد ونعومته ورقته.
وقالت له: «كدت أتأخر.. جاءت بنت خالتى لزيارتنا ودعتنى للخروج معها لقضاء حاجات لها، واضحك.. لما دقت الجرس لم أكن أعرف من الزائرة أو الزائر فخفت أن أتأخر. وكان باقيا على موعد الخروج ربع ساعة فأسرعت وتناولت هذه الثياب فطرحتها على كرسى بحيث يراها من يدخل فيعرف أنى كنت أتهيأ للبسها أى للخروج فلا يطيل.. وقد سألتنى حين رأت الثوب: «أكنت خارجة؟» قلت: «نعم»، وشرعت فى ارتدائها أمامها، فقالت: طيب نخرج معا. قلت: لا يا ستى.. طريقى غير طريقك.. أنا مستعجلة.. فإذا كنت غير مستعجلة، فأنت فى بيتك. وقد كان. خرجت وتركتها، فما رأيك؟ أو لعل الأولى أن أسأل عن رأى أمى حين أعود فأسمعه منها».
وكانت تضحك وهى تروى له هذا الخبر. وكانت تقص عليه كل شىء فهى لا تقصد إلى المن. فنسى ما كان أمضه فى لقائهما السابق، وقال لها: «أظنك أخطأت حين تركتها.. كان ينبغى أن تبقى معها قليلا.. فما فى وقوفى لحظة أنتظر من بأس ما دام لك هذا العذر».
قالت: «لا يا سيدى ... لا بنت خالتى ولا بنت عمتى ... ومالك أنت على كل حال؟»
وكانت هذه العبارة أقوى حججها، فلهج بها فى سره، وصار يقول لنفسه: «ومالى أنا على كل حال؟» غير أنه لم يقتنع، فقد كان يؤثر - ويعنيه - أن لا تتعرض لخلاف مع أهلها بسببه.
وحدث نفسه وهو يرى طلاقة وجهها وإقبالها عليه، وسرورها به، أنه لا يزال عاجزا عن فهم «هذه المرأة».. كانت غاضبة ثم رضيت. ففيم كان الغضب؟ وفيم كان الرضى؟
3
وكانت ميمى فتاة يسعها أن تكون مستقلة، وسيدة نفسها، وأمرها جميعه بيدها، ولكنها نشأت على ما «كان» عودها أبوها، من أن تكون «بنت ناس» ومؤدبة مهذبة. والأدب والتهذيب فى عرف «أبى حمزة» كما يكنى نفسه، أن تلزم بيتها لا تريمه، فإذا احتاجت أن تخرج لحاجة لها فليكن ذلك بصحبة أمها أو إحدى قريباتها العجائز، أو «ولد» من ذوى قرابتها. والشرط بعد ذلك أن يكون الخروج نهارا والإياب قبل المغرب، وعليها أن لا تبدى زينتها فى الطريق أو من النافذة، وأن تكون فى كل حال متجملة محتشمة.
وكان أبو حمزة يريد البنين. فلما لم تجئه امرأته - فى عشر سنوات - بغير هذه الفتاة، ضجر ونفد صبره، فطلقها وترك القاهرة وعاد إلى قريته - على مقربة من دمنهور - واتخذ زوجة غيرها ولدت له ما لم يكن يبغى من بنات وفوق ما كان يبغى من بنين، ولزم القرية إلا فى بعض الأعياد والمواسم الكبرى. ولكنه لم يهمل مطلقته وفتاته، فكان يرسل إليهما نفقة كافية من الأرز والزبد والقمح والجبن وما إلى ذلك. ولا يقتر على ابنته «القاهرية» فيما يتطلبه تعليمها وتثقيفها. ولا ينفك معنيا بها وبأمها، ومتعهدا لهما «بالمراسلة»، فما طلق امرأته كراهة لها، بل كراهة لبقائها فى عصمته وهو مع غيرها فى بلد ناء، فأبرأ ذمته وأرضى شعوره بواجبه لنفسه ولبنته، ولما يفهم من معنى «العرض» بهذه الطريقة التى لا تخلو من غرابة.
ولم يكن أغرب منه إلا مطلقته، فقد حرصت على أن يكون سلوكها حياله وهى مطلقة كما يجب أن يكون وهى زوجة. كانت رسائله إليها فى منزلة الأوامر التى تطاع ولا تعصى فتفعل ما يأمر، وتتقى ما ينهى عنه، أو ما كان خليقا أن ينهى عنه لو كان معها.
وكانت تتوخى فى تربية «ميمى» ما تعلم أن فيه مرضاة أبيها. وكانت «ميمى» تؤثر أن تدرس الطب، ولكن أباها أبى ذلك كل الإباء. فلما ثقل عليه إلحاحها وضاق صدره بلجاجتها، قطع عنها نفقة التعليم. وكان لها من صلابته وعناده حظ غير ضئيل، فلما رأت منه ذلك تحولت عن الطب إلى مدرسة للمعلمات، نزوعا منها إلى الاستقلال والاستغناء عن والد يغضب فيقطع النفقة. فجفاها أبو حمزة زمنا، ثم غلبه الحب والحنو فعاد إلى الرضى وألقى لها الحبل على الغارب، فصارت معلمة فى وسعها - كما أسلفنا - أن تستغنى عن معونته، إلا أنها ورثت عن أمها لينها ووفاءها فبقيت على توقيرها له.
ولم تكن تخالط إلا ذوى قرابتها وقليلين جدا من المعارف من بينهم أسرة إبراهيم. وكان لها ابن خالة اسمه «صادق» لم يكد يفرغ من التعليم الابتدائى حتى مل وكف، وعجز أبوه - وكان فى سعة - عن كبحه فرمى إليه بالزمام، وأطلق له، غير مخير، أن يصنع ما بدا له، فصار نهاره ليله، وليله نهاره، وأمله المفرد ومطمعه الوحيد، أن يكون «منولوجست» مشهورا يذيع «قطعه» فى الراديو، وراح على سبيل التمهيد يجمع حوله لفيفا من أترابه وأشباهه العاطلين، وسربا من بنات الحى ويقضى الوقت مع هؤلاء وأولئك فى التدرب. وكانت له ملكة فى الزجل، وطبع فى الموسيقى، ولكن التحصيل ينقصه فبقى حيث هو، لا يبلغ شيئا، ولا يدرك غاية، ولا يزيد على أنه عاطل.
وكان صادق هذا يتودد إلى ميمى، وهى لا ترى فيه إلا أخيب الخياب وأفشل الفشلة، ولكن زرايتها به كانت لا تمنع أن تشعر بمزاياه وإن كان التدليل قد أفسدها أو حجبها وحال دون الانتفاع بها. وكان طويلا نحيفا، وفى نظرته شدة، وفى مشيته خفة كخفة القط. وكان أكثر ما يروعها - ويرعبها - سكونه وقسوته واستخفافه بكل شىء، وسخريته من كل شىء. وكانت تشعر - حين تكون معه - أنه يجذبها ويدفعها فى ان معا. يجذبها بقوة الشخصية وسحر النظرة الثابتة الفاحصة، ويدفعها وينفرها لإثارة شكوكها فى صدقه وإخلاصه وبما يبديه من السخر من كل ما تعده جليلا، والتهكم على كل ما نشأت على الحرص عليه والتعلق به، من مبادئ وعقائد وتقاليد. وكانت ربما كبر فى وهمها أنه ليس إلا وحشا فى ثياب إنسان، وكان هذا يقلقها منه - وعليه - وكثيرا ما أفضت إلى إبراهيم ببواعث قلقها هذا، فكان يسرى عنها ويقول لها: «هونى عليك. فما الإنسان إلا حيوان، وكلنا ذلك الحيوان إذا أردت الحقيقة. وليست المدنية سوى صقل لا يمنع أن الحيوانية - وهى الأصل - كامنة متحفزة للظهور على الرغم من كل هذا الصقل إذا أتيحت لها الفرصة، أو استثارها مستثير قوى. وما زالت أساليبنا فى حياتنا هى أساليب الحيوان، أو الوحش الضارى، ولكنها ملطفة مهذبة مرققة، أو قولى إنها «منظمة» بالقوانين، والتقاليد والعادات المرعية، ومن هنا تخفى حقيقتها، ومن هنا يروعك صادق لأن فيه تمردا على الظواهر والطلاء، وإخلاصا للأصل».
وكانت ميمى إذا سمعت منه هذا التأويل تهز رأسها غير مقتنعة، أو مطمئنة، وهو الأصح، وتقول له: «إن دأبك أن تنظر إلى الأمور هذه النظرة الهادئة المريحة وأن تحاول أن تنصف غيرك. ولكن ألا يخطر لك أنى أنا أيضا جديرة بالإنصاف؟»
فيسألها: «كيف؟ ماذا تعنين؟»
فتقول: «إن حياتى مثلا تجرى فى مجرى سلس. ولكن صادقا وأضرابه يحدثون فيه اضطرابا شديدا».
فيقول لها: «إنى إنما أحاول أن أريك الجانب الذى ينبغى أن تنظرى إليه حين تتدبرين هذا القريب المثير. إنه لم يجد من يصقل له جانبه الخشن أو يقلم له أظافر الوحشية الكامنة فى نفوسنا، وفى وسعك أن تفعلى ذلك بأن تبدى له صفحة الود والتقدير. إنك بذلك - لا بالنفور والتحقير - تستطيعين أن تظهرى وتنمى بذور الخير والفضيلة فى نفسه، وثقى أن فى نفسه - فى نفس كل إنسان - بذورا كثيرة للخير. ولكن صادقا لم يلق من يعينه على معرفة نفسه، ولقى، على العكس، من يستفزه، ويحنقه، ويستثير شر ما فى نفسه، بالتحقير والنفور والسخط والانصراف عنه يأسا منه، والقول أبدا أنه خائب لا خير فيه ولا أمل ... امنحيه ودك يا ميمى وانظرى ماذا يكون منه ... امنحيه الثقة على الخصوص، فإن ظمأه إليها - تلهفه عليها - أعظم مما تتوهمين. صدقينى.. إن إيلاءه الحب والثقة خليق أن يجعل منه إنسانا جديدا.. جربى.. عرفيه بنفسه المطوية.. أديرى له عينه فيها ... افتحيها له عليها ... لا تجعلى بالك إلى ثرثرة لسانه بما دفعه جهل الناس وسوء سيرتهم معه إلى اللغط به. فإن هذه الثرثرة ليست منه إلا من قبيل الدفاع عن النفس ... أهله جميعا يستخفون به، ويحقرونه، وينفضون أيديهم منه، ولا يرونه جديرا بأدنى عناية، أو أضأل حظ من الثقة. كفروا به جميعا، فهل يلام إذا ثار، وتمرد، وكفر هو أيضا بهم وبما يمثلون مما أغروه بكرهه؟ ولا تقولى إنى أنصفه دونك.. فإنى أنصفك أيضا.. أنت تظلمينه وأنا أحاول أن أريك كيف تنصفينه وترفعينه إلى منازل الكرامة والشرف والفضيلة عندك. فإذا استطعت هذا - وأنا واثق أنك تستطيعين - فإن هذا يكون انتصارا لك.. فماذا تبغين من الإنصاف أكثر من هذا؟»
وقد أطاعته ميمى فكفت عن مجافاة صادق. ولكنها ظلت تخشاه فى قرارة نفسها، وإن كانت تكتم هذا ولا تبديه ولا تدعه يظهر على وجهها أو فى سلوكها معه. وفرح صادق بهذا التحول من ميمى إلى محاسنته، فسلس قياده فى يدها، ولكنه طمع أيضا، أو على الأصح زاد طمعه فيها، فكان أحيانا ينظر إليها وكأنه يريد أن يأكلها، فتفزع وتعانى مشقة عظيمة فى كتمان ما يساورها من الخوف وتستعين على التجلد والتشدد بما قاله إبراهيم. وكانت ثقتها به كبيرة واطمئنانها إلى حكمته وسداد رأيه عظيما، بل تاما، فوطنت نفسها على أن تروض هذا الحيوان وأن تكون له أما رءوما، وإن كانت ربما حدثت نفسها أن ما لها هى. ولم يكن عندها جواب لذلك، سوى أنه يطاردها، وإن الصد والنفور لم تعد لهما أى جدوى، فما هو بالذى يصده شىء، فلعل الرفق يكون خيرا، وعسى أن تكون الحسنى أرد عائدة.
وطمأنها قليلا أنها استطاعت ذات ليلة أن تقنعه - على ما بدا لها - بأن يدع ذكر الحب واللغط به، وأن يقنع منها بالصداقة. وقد سخر فى البداية من هذه الصداقة التى تعرضها بديلا من الحب، ولكنها لطفت به، ولم تزل تحاوره وتداوره، حتى سكن وأمسك، ثم أظهر لها الرضى والاقتناع، وقال بابتسامة لم تخل من سخره المعهود: «ألا تعطيننى عربونا لهذه الصداقة التى جملتها فى عينى؟»
ولمحت السخر الذى فى عينه، وتوجست شرا من نبرة صوته، ولم تكن عبارته مما يبعث الاطمئنان، ولكنها تشددت وتحاملت على نفسها، وآلت لتمضين فى التجربة إلى نهايتها المقدورة، ومالت عليه فلثمت جبينه، فرفع إليها فمه وقال: «هنا موضع التقبيل ... ثم ألسنا قد صرنا صديقين؟» فامتقع وجهها وحدثت نفسها بأن هذه التجربة «الإبراهيمية» قد تؤدى إلى كثير لم يكن فى الحسبان، ولكنه أدهشها بوداعته وقناعته، فلم يحاول إطالة القبلة، ولم يهم بالضم والعناق، وارتد عنها مغتبطا ومضى إلى الباب. ثم كأنما أبى إلا إزعاجها وإقلاقها فقال ويده عليه: «لا أدرى من أشكر على هذه القبلة الأخوية. وأكبر الظن أنى مدين بالشكر للأستاذ ...».
ولم يفته تغير لونها عند ذكر إبراهيم، فقال: «اشكريه عنى من فضلك إذا لقيته قبلى». وتركها مبلبلة موسوسة.
الفصل الثانى
1
لم يكن إبراهيم حين استقر رأيه على الزواج من تحية يعرف قبل ذلك بدقائق - أى نعم بدقائق - أنه سيتزوجها، أو ينوى ذلك، أو يفكر فى زواج.
وكان ابن عمته حامد - أو ابن بنت عمة أبيه إذا أردت الدقة - قد دعاه إلى ضيعته لقضاء أيام مع لفيف من الأهل والأصهار، وقال له فيما قال إن أسرة «طاهر بك» - عميد إحدى القرى المجاورة - ستكون هناك.
ومعها ابنتها «تحية».
وابتسم ...
فقال إبراهيم: «هذا الجمع يحشد إذن لهذا؟»
فقال حامد: «الحقيقة أنها فى حكم الخطيبة، وإن لم يجر كلام فى الموضوع».
قال إبراهيم: «إنك تذكرنى بمن قال لأمه إنه سيتزوج بنت السلطان، فما ينقصه إلا أن يوافق السلطان وبنته. هل أعرفها؟»
قال حامد: «لا أظن. فقد تعلمت فى الإسكندرية حيث اتخذ أبوها دارا فى الرمل قريبا من دارنا التى بعناها. وفى دارنا عرفناها وأعجبت بها. وأنت تعرف رغبة أبى فى تزويجى، ولكن بلدتنا ليس فيها كفؤ لنا. وقد أدرت عينى فى مركزنا كله فلم أجد من هو أكرم وأرفع منزلة من طاهر بك وإن كان دوننا ثروة».
فتبسم إبراهيم وقال: «يخيل إلى من يسمع كلامك أنك ستتزوج طاهر بك أو بقراته وعجوله أو أرضه، أو جاهه..».
فهم حامد بكلام صرفه عنه إبراهيم بقوله: «لا تقل شيئا.. إنى فاهم. هذا أنت.. كالريال النمسوى الذى ضرب فى القرن التاسع عشر.. يتعاملون به فى الحبشة، وقد بطل استعماله فى بلاده».
وأزجى إليه التهنئات «سلفا» ووعد بالسفر.
وخطر له وهو فى القطار أنه آن لحامد أن يتزوج، فقد ناهز الخامسة والثلاثين، ولأبيه الحق فى الإلحاح عليه فما رزق من الولد غيره. ولا خير فى العزوبة لرجل انقطع للعمل فى الأرض فما يفارق القرية إلا فى الندرة القليلة ولأمر تستدعيه مطالب الزراعة. وحدث نفسه أن حامدا حكيم حازم، وأن أباه موفق. ومن حكمته أنه أقنع أباه بالتخلص من الدار التى بالرمل؟ فإن الإقامة فيها معظم شهور السنة تنأى عن «الغيط»، وتكل أمره إلى الأجراء الذين لا يبالون أجاد الزرع أم كندت به الأرض.
وانثنى إلى نفسه فقال إنه هو أيضا فى مثل سنه أو أعلى منها، ولا علاقة هناك تؤذن بزواج. وطافت برأسه صور الماضى فنحاها، كما يهش المرء الذباب. وليس له أرض يحمل همها، فقد كان له أخ أسن منه - عليه رحمة الله - «كنس ومسح » كما تقول العامة وأعفاه من هذا العناء. وقد عنيت أمه بتعليمه، وآتته القدرة على كسب رزقه بعرق الجبين، فما حاجته لأرض؟ وإنه ليكسب كثيرا، ولكنه متلاف لايبقى على شىء ولا يحسن أن يدخر قرشا أبيض ليوم أسود، أترى هى الوراثة؟ وإن ابن عمته ليرى إنفاقه عن سعة فيتوهمه أغنى منه وخيرا حالا.. وضحك إبراهيم وقال: إن هذا هو «الستر» الذى لا ينفك الجمهور الأكبر من الناس يسألون الله أن يضفيه عليهم. ولقد عمل فى الصحافة - وإنه الان لحر - يكتب فى الصحف والمجلات، ويؤلف الكتب، و«يدبج» التقارير والمذكرات لمديرى الشركات بالعربية الذين يحسنون غيرها، ولا يجحد فضل الله عليه.
وما زالت أمه تحثه على الزواج وتدعوه إليه وتقول له: إنها مريضة، إحدى رجليها فى الدنيا والأخرى فى ... العياذ بالله.. ولا قدر الله. وكبر فى وهمه أنه خليق بأن يضل ويشقى إذا فقد أمه؟ فإنها عصمة له. وثقلت عليه وطأة هذا الخاطر، فنفاه بجهد، وذهب يفكر فى تحية، كيف هى ياترى؟ وماذا عسى أن يبلغ من صبرها على حياة الريف وهى بنت الإسكندرية، المشرقة الوضاءة؟
وبلغ القرية، وقد مالت الشمس للمغيب، فاستقبله على الجسر، عند مدخلها خادم أبلغه أنه أعد له «الكشك» الذى فى الجزيرة، وأركبه زورقا إليها، وكان الجو سجسجا، وأشعة الشمس الذهبية ترقص على الماء، فانشرح صدره، وأمر الخادم أن يكف عن التجديف، فبقى - الخادم - كالتمثال، ومقبضا المجدافين فى حجره، وطرفاهما يقطر منهما الماء، والزورق يسبح على غير هدى. وصارت الشمس فى عينيه فرفع كفه وحجبها، فعاد يرى النهر المتوهج و«الكشك» القائم على شاطئه والخضرة اليانعة حوله، وود فى هذه اللحظة لو أنه كان إلى جانبه.. من؟ وأحس أن حياته ناقصة.. ودار فى نفسه ما يشبه الحسد لقريبه، فأنكر هذا، وبادر فقال إنه يرجو له السعادة مع تحية ... ترى كيف هى؟ طويلة؟ قصيرة؟ ثقيلة؟ خفيفة؟ ومتكلفة أم على الفطرة؟ وهز كتفه ومط بوزه، وتنهد. وأمر الخادم أن يرسو به.
وكان الكشك عبارة عن بيت من خشب، فيه غرفتان أرضيتان، واحدة للخادم والأخرى متخذة مخزنا لما عسى أن يحتاج إليه الضيف، وفوقهما غرفتان أخريان للنوم والجلوس، وحولهما شرفة من جهات ثلاث. والأثاث بسيط مريح: طارقتان - كنبتان - بينهما «كليم» من نسج الصعيد، فوقه منضدة مستديرة عليها رخامة، وإلى جانبها كرسيان من الخيرزان، ورف بجانب الباب عليه أكواب وفناجين للقهوة والشاى. وفى غرفة النوم سرير وكرسى هزاز، ومشجب ومنضدة صغيرة. وعلى حافة الشرفة قلل شتى الأحجام والأشكال ملأى بالماء ليبترد، وعلى أرضها وسائد منتثرة للجلوس.
وصرف الخادم وأخرج من حقيبته زجاجة ويسكى صب منها قيراطين فى كوب وشعشعه بالماء، وقعد على كرسى خرج به إلى الشرفة، وتبسم وقد تذكر أنه كتب مرة إلى صديق، من هذه الجزيرة - ومن هذا الكشك - يصف له الموقع والمقام، فما كان من صديقه إلا أن بعث إليه بالرد بهذا العنوان: «بكشك بجزيرة فى مجرى النيل بين قريتى كذا وكذا، لا يمكن أن يخطئها عامل البريد إلا إذا غلط وركب النيل على فرعه الاخر».
وخطر له وهو ينظر إلى الماء والخضرة، أنه لا يريد أن يعبر إلى حيث القوم فى «الدوار»، وماذا يصنع فى ذلك الزحام؟ إن حاجته إلى هذا السكون المريح. وقد يستغربون تخلفه عن العشاء معهم، ولكن فى وسعه أن يعتذر غدا بطول الرحلة وتعب السفر ووجع الرأس. وعلى ذكر ذلك قال لنفسه إن رأسه سيوجعه على التحقيق إذا ظل يعب فى هذا الشراب.
ونهض وانحدر على درجات السلم الخشبى وتلفت فلم يجد أحدا، حتى الزورق اختفى، لابد أن يكون «آدم» قد عاد به إلى الضفة الثانية. إذن سيجىء على الأرجح بحمولة أخرى. وقطب، فقد كان يؤثر أن يظل وحده فى هذه الجزيرة الساكنة، وأن يسعه أن يقول كما قال الشاعر بلسان مستفرد وحاد فى جزيرة كهذه: «إنى ملك على كل ما أرى!». وراح يتمشى، فأشرف على مزرعة بطيخ، فنزع واحدة صغيرة ودقها على ركبته فانفلقت وانشطرت، فإذا هى حمراء مغرية، فقضم، فاستحلاها، فعكف على القضم، وابتل أنفه وخداه، وهو لا يحفل ذلك، ورمى القشرة البيضاء الماسخة، واستأنف المشى غير جاعل باله إلى الوقت.
ودخل الليل فقعد على الأرض، ومد ساقيه، ومد بصره أيضا ليرى الماء. وكان يسمع خريره، ولا يبصر إلا سوادا يخلطه فى رأى العين بالأرض، إلا حين تلتمع صفحته من بعيد. وشاع فى نفسه الاغتباط، فصح عزمه على التخلف عن العشاء هناك. وحدث نفسه أنه اعتاد، فى حياته المضطربة أن يتقبل بقبول حسن ما تجيئه به الساعة التى يكون فيها، وأن لا يضيع أو يفسد ما يفيد فيها بالطمع فيما عسى أن يجنى من سواها. وإنه لكذلك.
وإذا بحفيف توهمه بادئ الأمر من أوراق الشجر، وكان الظلام والسكون قد أرهفا سمعه، فخيل إليه أن أحدا قادم، فحدق فى الليل فلم ير شيئا. وكانت الكلاب تنبح - على الناحية الأخرى من النيل - والضفادع تنقنق حوله، ولكن هذه الأصوات كانت تزيد السكون عمق وقع فى نفسه.
وخاطبه صوت عذب فيه نبرة الشباب: «وحدك؟»
فوثب إلى قدميه من الدهشة، فقد كان صوت فتاة، ما فى ذلك شك. واضطرب وهو ينهض بسرعة، فكاد يقع، لعجلته ولقلة استواء الأرض، وامتدت يداه كأنما يحاول أن يمسك شيئا يعتمد عليه فيتقى الوقوع. فعل ذلك بالغريزة، ولو أتيح له أن يفكر لما دفع يديه. وكانت دهشته أعظم لما التقت يداه وهما تذهبان فى الهواء بجسم لين، ولو فكر لما تعجب.
وقالت: «لا تفعل هذا مرة أخرى. كدت توقعنى فى الماء».
كأنما كان قد تعمده.
فقال - وفاته أن يعتذر -: «لم أكن أدرى أن الماء قريب من هنا». وكان لا يرى منها إلا ثوبها الأبيض، وكان مع ذلك غامضا.
ولم يسمع جوابا فقال: «أنا إبراهيم ... قريب حامد».
وانتظر، فجاءه الجواب فى الظلام الدامس: «أنا تحية.. تحية طاهر».
وأضحكه أنه كان ينحنى لها فى الظلام، ولكنه صد نفسه عن هذا العبث وقال: «ستكونين سعيدة مع حامد.. رجل طيب جدا.. لا لأنه قريبى. بل لأنه طيب».
فلم تجب عن هذا، وقالت: لأ أظنك تتعجب وتتساءل عما جاء بى إلى هنا؟ وحدى فى الليل ... لا ألومك إذا تعجبت ... ولكنه لم يكن يسعنى إلا أن أفعل ... كان لابد أن أفر ... لم أعد أطيق الزحام ... ضاق صدرى جدا ... عمتك ست طيبة جدا ... غريبة ... لا متعلمة ولا.. مثقفة.. ولكنها ذكية.. ذكية جدا.. أدركت حاجتى إلى الهواء الطلق.. وإلى البعد من هذا الزحام.. والراحة من الضجة.. ورافقتنى إلى هنا!. وضحكت ثم قالت: «لفت نفسها بملاءة سوداء، كأن أحدا يمكن أن يراها فى هذا الظلام، وجاءت معى، تركتها فى الكشك، وخرجت أبحث لها عنك، فما جاءت إلا من أجلك. تالله ما أطيبها ... تحبك كحامد».
ولم يستغرب ما أنبأته به، فقد كان يعرف حبها له، ولا عجب فإنها بنت عمة أبيه. ولكنها كانت تحنو عليه حنوا شديدا، ولعل كل هذه الرقة منها له، مصدرها حبها لأمه هو؟ فقد كانتا صديقتين. امرأة طيبة على كل حال، ولها عنده منزلة تقارب، وإن كانت لا تعادل، منزلة أمه. فإن هذه لا شريك لها ولا مزاحم وكلهم يعرف ذلك، وما من أحد يسوءه أن منزلته عنده دون منزلتها.
وقالت تحية: «إنهم هناك يلغطون بغيابك».
قال: «أحسب أنى فررت سلفا. كما تفرين من الضجة».
وسكتا.
وراعه بعد هنيهة أنها تدندن - بصوت خافت ولكنه يسرى إليه - بكلام لا يتبينه.
ثم قالت وقطعت الغناء: «لست أحسن أن أغنى. ولكن هذا الليل الساجى ... وهذه الجزيرة المنعزلة.. والماء الذى يومض من بعيد وإن كان أدنى شىء ... كل هذا أغرانى ... سامحنى».
فلم يقل شيئا.
وبقيا واقفين برهة، ثم قالت، وخيل إليه أنها تبتسم: «إن حديثنا عبارة عن فترات من الصمت، هل نعود؟»
فمشى خلفها صامتا، وسمعها تقول، كأنها تحدث نفسها: «غريب ... منذ نصف ساعة كنت بين عشرين أو يزيدون، وإذا بى أشعر فجأة أنى وحدى ... أحسست بوحشة عجيبة وسط القوم.. أعنى أنى لم أشعر فى نفسى بوجودهم حولى.. كيف تعلل ذلك؟»
قال: «لعله الحب».
وندم على ما قاله، وود لو كان لسانه استل أو قطع، ولم يقله، وخشى أن تحمله على محمل السخرية أو التقريع.
وخيل إليه أنها استدارت ونظرت إليه. على أنها لم تقل شيئا، حتى بلغا الكشك.
2
وراها فى الكشك - على ضوء مصباح بترول تحمله حلقة مدلاة من السقف - وخيل إليه أن وجهها متهضم، ولونها باهت، وأن شفتيها ذابلتان، وأن جسمها كله صغير منحوف لا ترى عليه نعمة، وخطر له أن لعل هذا اليبس والسهوم من ضوء المصباح، أو لعلها أساءت اختيار الثوب ولونه أو لم تحسن تفصيله على قدها، ونصف جمال المرأة يستفاد من تفصيل الثوب ولونه.
وقالت له عمته، بعد أن رحبت به، وربتت عليه، ولثمت جبينه، ولثم هو يدها: «يا ابنى. لماذا أبطأت علينا؟»
فقال بإيجاز: «السفر، والكسل، والاسترخاء».
قالت: «لا. هذه آفة العزوبة الطويلة، اعتدت الوحدة». وابتسمت فانبسطت أسارير وجهها المخدد، وقالت: «عندى لك عروس. تعال، وتمل بالنظر إلى حسن وجهها».
قال: «من تكون المسكينة؟»
قالت: «إيه؟ لا تقل هذا، إنك لقطة».
فقهقه وقال: «أنت وأمى ... لا أدرى أيكما شر؟»
واشتركت تحية فى الحديث، فقالت: «هى زهرة ... زهرة غضة نضيرة».
فألفى نفسه يسألها: «مثلك؟»
قالت: «لا تسخر منى».
وقالت عمته: «نعم ياسمينة مثل تحية».
وهز رأسه كالموافق. وحدث نفسه أنه لا يسعه غير هذا.
وسمع تحية تقول: «ليتنى كنت ذاك، ولكن الحقيقة أنى ... إن الذى يرضى بى يحتاج إلى الصبر الطويل، والحلم الكثير. فإنى كثيرة النسيان، أنسى مشابك شعرى ولا أذكر أين وضعتها ... وأهم بقطف قرنفلة فأقطف وردة، وأذهل عن الطعام وأنا أقرأ، وأذهب إلى محل أو بيت أعرفه، فادخل فى شارع غير شارعه، وأترك نقودى ومناديلى وأشيائى الأخرى فى كل مكان، ثم أروح أزعج الناس بالسؤال والبحث، ثم إنى لا أحسن شيئا، ولست أكتم عيوبى أو أخفيها، ولكنهم يضحكون ولا يصدقون».
فألفى نفسه يقول مرة أخرى: «سيسعد بك حامد».
ودار فى نفسه قولها إنها دائمة النسيان، وإنها لا تحسن شيئا، وإنها تشغل بالزهرة والكتاب عن الطعام وتدبير المنزل. وكان يسمع خرير الماء، تحت قدميه فيما يحس، ويرى ضوءا خافتا على الضفة الأخرى. وحدث نفسه؟ وهو يكلم المرأتين - العجوز والصبية - أن تحية لن تكون ربة بيت كأمه، ولكنها أجدى له منها ... ومن يدرى!. لعل زهرة مطلولة تكون أشهى - وألزم أيضا - من حكمة ربة البيت المدبرة، وعسى أن يكون الفل والياسمين والقرنفل والنرجس والورد على أغصانه أو فى زهريته أجلب لطيب الحياة، ورغد العيش. ولم يطل عمر هذا الخاطر سوى هنيهة ثم طرده ونحاه. وراح يقول لنفسه إن المرأة التى يتزوجها، إذا قسم له الزواج، تحتاج أن تكون كأمه، حسن تدبير، وسيكون عليها أن تؤدى طوائف شتى من الواجبات المختلفة، ولن تكون فى بيته للزينة والمتعة وحدهما. كلا. فليس هذا جزاء أمه.
ورأى نفسه يقول: «صبرا حتى تتزوجى. وحينئذ تتغيرين».
وأمنت العجوز على ذلك وأكدت لتحية أن الزواج يذهب بكل ما أحدث التدليل والفراغ.
وقالت تحية لإبراهيم: «أواثق أنت أن الزواج يفعل هذا؟ ليته يفعل».
قال: «هذا أثره فى العادة ... يحدث تغييرا على كل حال».
قالت: «لا أدرى لماذا كنت أتوقع أن تقول لى شيئا آخر ... أهم».
قال وهو يبتسم: «آسف.. ربما كان حامد أقدر على ذلك ... وأولى».
وبدا له أن كل هذا الحوار غير لائق، فى الكشك، وفى جزيرة منعزلة. وخيل إليه مع ذلك أنه لا يستطيع أن يتحرك، ولا يقدر أن يعبر إلى الضفة الأخرى ... فى هذه الليلة على الخصوص. وكبر فى وهمه أن لا وسيلة إلى الاتصال بهذه الضفة الأخرى، كأن الجزيرة قد سبحت وانتقلت إلى موقع اخر قصى ... موقع ليس له حدود، ولا على جانبيه ضفتان. وكم من «ضفة أخرى» فى الحياة ينشدها المرء ويشتهيها ويتمناها ولا يبلغها.
ولم تقل له عمته من العروس التى اختارت له. ولكنه عرفها تخمينا، وهل فى القرية كلها من بنات الأسر الظاهرة من تستحق أن توصف بالجمال غير «كريمة»؟ وكان أبوها قد اختفى بعد مولدها وانقطعت أخباره فليس يعرف أحد أحى هو فيرجى، أم ميت فيندب؟ وآثرت زوجته له الموت كراهة منها لأن يكون حيا، ويهجرها هذا الهجر القبيح، وإن كان قد ترك لهما أرضه ولم يبعها ولم يرهنها، فنشأت كريمة يتيمة وإن كانت لعلها غير ذلك . وكان عهد إبراهيم بالبلدة غير قريب ولكنه تذكر كريمة كما راها آخر مرة: وكانت تفرق شعرها الوحف من الوسط وترسله على جانبى وجهها وتربطه من الخلف بأنشوطة، فكأن محياها من شعرها الدجوجى فى إطار. وكانت وجنتاها كالوردتين، وعيناها سوداوين نجلاوين، وفيهما سعة وفتور. وقدر إبراهيم أن تكون قد ناهزت السادسة عشر من عمرها الغض فهى صغيرة، ولكنها لابد أن تكون الآن ناضجة. وتبسم إذ تذكر حديثا روى له لما كان فى البلدة اخر مرة، وكان على الطعام مع الأسرة، وكانت كريمة وأمها حاضرتين. وكانت كريمة تتهامس هى وجارة لها فى مثل سنها، وكان ذلك يستغرقهما ويكاد يلهيهما عن الطعام. وكانت عمته على يمينه، وإلى جانبها فتاة صغيرة أخرى، فمالت الفتاة على عمته فألصقت فمها الدقيق - وعليه ابتسامة رفافة - بأذنها وقالت همسا - كذلك جرت الرواية -: «هل تعرفين فى أى شىء تتحدث كريمة وفتحية؟» قالت المرأة: «كلا. ولكنا نحن أيضا نستطيع أن نتهامس مثلهما». قالت الصغيرة: «ولكن لا يجوز أن يسمع إبراهيم ما أقول»، فوعدتها الكبيرة أن تكتم الخبر، وأكدت أن الكلام سيدخل من أذن ويخرج من أذن. فزوت الصغيرة ما بين عينيها وقالت: «إذن سيصك سمعه لا محالة»، فضحكت الكبيرة وطمأنتها على أن الكلام الخارج من الأذن الأخرى لن يبلغه، فأنبأتها أن كريمة تحب إبراهيم ...
وأقبل الخادم الهرم «عم آدم» يسأله ألا ينوى أن يتعشى؟ فقال إبراهيم إنه يكتفى ببطيخة، وطلب منه أن يقطعها ويقشرها ويضعها على الشرفة لتبرد. ففعل، ووضع معها سكينة، فاستغرب إبراهيم وقال له: «كان الأولى أن تجىء بشوكة إذا كان لابد من شىء آكل به» قال: «هذه لتصرف الشمامة» فلم يفهم وسأله «أى شمامة؟» قال: «التى تشم البطيخ»، فضحك إبراهيم وصرفه، وغطى الطبق بفوطة. ولكنه نام قبل أن يأكل منها فى ليلته.
وفى الصباح عبر النهر إلى الضفة الأخرى التى زايلها الغموض والنأى فى النهار، فالتقى بالقوم جميعا جلوسا إلى المائدة يفطرون. وكان الجو رقيقا، والهواء معطرا بأنفاس الحقول والرياض. وأقبلت تحية تسلم عليه كأنها لم تره من قبل، فاستغرب هذا وكبر فى ظنه أن لعلهما كتمتا رحلتهما إليه البارحة فلماذا؟ أتراهما يخشيان أن يثير الخبر غيرة حامد؟ ومم يغار الأبله؟ وأيتهما صاحبة الرأى فى الكتمان؟ وألفى نفسه يسخط على عمته.
وحدث نفسه وهو يختلس النظرات إلى تحية أنها أقل جمالا حتى مما توهمها البارحة فى الظلام. ولم يخدعه المصباح حين أراه أن خديها متهضمان، ووجد أن عينيها عسليتان، وبدا له أن جمال شعرها فى أنه كأنما يأبى أن يخضع للتمشيط أو التصفيف أو الترجيل. وكانت لا قصيرة ولا طويلة. على أنه أحس أن عليه أن يغير رأيه فيها، وإن كان لم يدمن النظر إليها، فإن لها لجمالا، وإن شبابها ليفيض عليها رونقا عجيبا، وإن فى صوتها لحيوية «حادة» هذا هو الوصف الوحيد لما يصافح سمعه من نبراتها، وخيل إليه أن حيويتها تكاد «تؤلمها». واستغرب منها أنها طويلة النظرات حديدتها، ولكن فيها مع ذلك رقة مستوردة، ولينا وراء هذه اللحظات الحداد. ثم رشاقة جسمها ومرونة بدنها ...
وأمسك عن الاسترسال، وأنكر من نفسه أن تطوف برأسه هذه الخواطر، وشعر بارتباك، فأطبق فمه وزمه كأنما كان يتكلم. وأحس أن وجهه يضطرم، وخشى أن يلاحظ أحدهم ذلك، وسمع حامدا يقول لتحية، وكأن الصوت يأتى من بعيد: «إنك خليقة أن تحبى إبراهيم فإنه من هؤلاء الخياليين الذين تعجبين بهم. يحلم بدنيا سعيدة حافلة بالخير، له ولمن حوله من أهل وإخوان».
وسمع نفسه يقول فى جواب ذلك: «إنى ما فكرت فى هذا قط، ولكنك لابد أن تكون على صواب».
وغاظه ما انطوى عليه كلام حامد من التهكم، وأعياه أن يجد له مسوغا وراح يتعجب لتحية مرة أخرى.. كيف يا ترى ستكون حياتها مع هذا الرجل الذى لا يلبس إلا الجلاليب الفضفاضة، ولا يعنى بغير القطن والفول والذرة والبرسيم والجاموسة والثور؟ وود فى هذه اللحظة لو يعرف رأى حامد فى تحية.. وانثنى من هذا يسأل نفسه عن رأيه هو فيها؟ وامتعض وقال لنفسه إنه لا حاجة به إلى جواب، ولا حق له فى أن يكون له رأى فيها، فإن شأنها لا يعنيه.
ونهضوا عن المائدة وذهب هو إلى الشرفة المطلة على النيل من بعيد، وكانت كريمة قد سبقته إليها وهو لا يدرى. فخشى أن يساء تأويل ذلك عند قوم عهده بهم أنهم لا تفوتهم كلمة أو حركة من ضيف، ولا يبعد أن يحملوا ما يكون منه على غير محمله، وخطر له أن يقظتهم وسوء ظنهم ثمرة عصور طويلة من الظلم والاستبداد وقلة الأمن والاطمئنان، وأنهم ورثوا ضعف الثقة بالعدل وحسن النيات.
وكانت كريمة متكئة على السور، فاعتدلت لما دنا منها، وتبسمت له. ولكن لسانه لم يسعفه، فلم يجد كلاما حاضرا، وكان يرى جانب وجهها المتورد، وشعرها الفاحم المرسل، وتذكر فى هذه اللحظة تحية - لا يدرى لماذا؟ - وهى تدندن بما لا يتبين فى ظلام الليل على حافة الجزيرة. وأغضبه أن تنثنى خواطره مرتدة إلى تحية، وأن لا يستطيع الكلام مع هذه الفتاة المشرقة الديباجة، الصابحة المحيا، كأن على فمه شبح يد يصده عن فتحه.. ورآها تنظر إليه بعينيها الواسعتين الفاترتين، ويفتر فمها الدقيق المغرى، وخيل إليه أن أنفاسها أسرعت، وأن صدرها يعلو ويهبط، وأحس أن شبابها يحمل عليها حملة رجا ألا تكون عنيفة هوجاء.
وقال فجأة، ومن غير أن يفكر: «أنت أجمل من رأيت يا كريمة».
فاتقد محياها وقالت وهى مطرقة: «يسرنى أن هذا رأيك».
ورآها جادة، وكان صوتها عميقا ساكنا كصوت الماء حين ينتهى إلى بركة. ووقفا بعد ذلك صامتين. ثم مضت بخطوات بطيئة إلى الداخل. فلما بلغت الباب التفتت إليه ولم تقل شيئا، وألقت إليه ابتسامة خفيفة.
وارتد بعدها داخلا فالتقى بتحية فسألها متبسما: «متى الزواج إن شاء الله؟» فهزت كتفيها، ثم قالت وأغفلت سؤاله: «الجزيرة أحلى من هنا».
فلم يدر أهى تصرفه، أم تبدى رأيا. وقال: «الحق معك. سأعود إليها».
قالت: «الآن».
وقال وقد ذهب عنه الشك: «نعم، فإنى بى حاجة إلى عزلتها. هى عالم اخر تسكن فيه النفس، وتطمئن، وتكف عن الجيشان، وتستريح من شدة المخض. ثم هناك الخضرة والماء - كهنا - ولكنهما هناك أوقع، حتى كأن الماء أمهى، والخضرة أخضر».
قالت: «والوجه الحسن»؟
قال: «هذا أتركه لحامد».
ولم يدر لماذا قال هذا. وكأنما لم تلتفت إلى ما سمعت، فسألته ورفعت حاجبيها قليلا: «والمخض؟»
فابتسم، وأطرق هنيهة ثم رفع رأسه، وحدق فى وجهها الشاحب، وهم بكلام، ثم عدل.
وتركها ... إلى الجزيرة.
3
وقال لعمه - كما اعتاد أن يدعوه -: «إن ضيفكم يدعوكم أن تكونوا ضيوفه».
فضحك الشيخ وصار فمه الفارغ كمدخل الكهف. وكان فى يده مغزل وصوف يصنع منه جوارب للشتاء. وقال إنه ليس هناك ضيف ومضيف. فقال إبراهيم: «إنما أعنى أن الجزيرة أحلى وأطيب، وأن المقام فيها أحرى أن يكون حميدا فى كل وقت». وألفى نفسه قد حمس وهو يقول: «ثق يا عم أنها قطعة من الجنة وإن كانت كلها بطيخا، وليس فيها سوى حوض واحد صغير من الورد خلف الكشك. ولكن أليس البطيخ نصف فاكهة أمة محمد؟ وما أراها ينقصها إلا الحور العين، فأرسلهن إليها، وأطلقهن فيها واعمرها بهن، وسأسبقهن لأعد لهن متكات أو حصيرا مما فى المخزن. وما أظن أن الحصير مما يفرش فى الجنة لأهلها السعداء، ولكننى أظن أن الحصير فى جنة، يكون أوثر من السجاد العجمى، والعبرة بشعورك بأنك فى جنة».
واضطجع فى الزورق ويده على الدفة، وأمامه فى وسط الزورق عم آدم يجدف، وطاف برأسه خيال كريمة، فانطلق يفكر فيها وفى شبابها الغض وشعرها الوحف، وتذكر أنهما تقاذفا كرة قبل بضع سنوات، فكان ثدياها الناهدان يرتجان، فكف عن ملاعبتها إشفاقا على نفسه.
وكان لطول ما استنفدت الوحدة من حياته كثير التفكير طويله، يستطرد من خاطر إلى خاطر ببطء وعلى مهل، كالذى أمامه الدهر كله فلا موجب للعجلة. ومن أجل ذلك كانت عباراته - حين يتحدث - قصيرة موجزة، وأشبه بفهرس الكتاب، تومئ إلى ما فيه ولا تبسطه، إلا حين يقصد إلى الإفهام، أو يرى مدعاة للبيان. وكان فى الأغلب هادئا لا يكاد يخرجه شىء عن طوره، ولا يسبق لسانه عقله وإن كان عصبيا، لطول ما راض نفسه على الحلم والاتزان.
وخطر له وهو مضطجع فى الزورق أن لسانه أفلت منه زمامه وهو يحادث تحية. وهز رأسه لما خطر له ذلك مستنكرا «فضول» تحية وتطفلها على خواطره، كأنما كانت هى التى أقحمت نفسها.
وترك الزورق ورده إلى الضفة الأخرى ليجئ بمن يشاء أن يجىء ممن يقبل دعوته. واستلقى على الوسائد فى الشرفة فنام. ثم استيقظ على مثل أصوات العصافير تناديه، فألفى عمته قاعدة على عليا درجات السلم الخشبى. وأجال عينه فرأى كريمة حيث كان هو قاعدا فى الزورق، وعينها على الماء، وكفاها على الحافتين وعلى صفحة خدها الوردية خصلة متمردة من شعرها المرسل، فخطر له أن هذه فرصة ... بعد دقيقة أو اثنتين - إذا ظلت كما هى - أهبط إليها. ونطت سمكة من الماء ثم غطست. وأبصر «ذهبية» مقبلة يقطرها زورق بخارى كبير فوقف ينتظر مرورها، ودنت فأبصر الذين على سطحها يطلون على الجزيرة، فتمنى لو كان معهم. وإذا بأحدهم يصيح: «يا ولاد الكلب ...»، وأضحك إبراهيم هذا الأسلوب فى الإعراب عن الإعجاب، واستغرب أن يحسد ركاب الذهبية الأنيقة الفخمة سكان جزيرة ليس فيها سوى البطيخ، ونسى أنه وصفها بأنها قطعة من الجنة، ولكن لعل الجنة ليست جنة إلا نسبيا، وفى أوقات دون أخرى.
ولم تبرح كريمة مكانها من الزورق، ولم ينزل إبراهيم إليها، وكأنما أتعبتها الجلسة فتحركت ووضعت يديها وراء رأسها فبرز صدرها الناهد. ولم يسعه إلا أن يرى أحد ثدييها ناتئا راسخا كالكمثرى. وسخط على نفسه حين جرى بباله هذا، فرد عينه عن النظر، وأدارها فى الجزيرة، فرأى تحية مع أتراب لها، فتذكر دندنتها فى الظلام وشعر بأسف لأن ألفاظ الأغنية قد فاتته، فخطا خطوة، فضربت الشمس وجهه وأزاغت بصره، فلم يعد يرى سوى نقط سود ترقص فى الجو، فلفت وجهه، فرأى تحية تنظر إليه. وخيل إليه أن فى نظرتها حيرة واضطرابا، وأنها أجمل من رأى - أجمل على كل حال من كريمة - ونزل إليها لا إلى كريمة. وقال بلا مناسبة: «لقد كانت الشمس فى عينى»، فلم تقل شيئا، ولم تنظر إليه . وكان وجهها إلى الشمس وشفتاها منفرجتين، وكفها مرفوعة إلى جبينها. ثم التفتت إليه وقالت: «أحسست بشىء غريب ...» وأمسكت ولم تزد، وأطرقت هنيهة ثم مضت عنه - فى صمت - إلى الكشك.
ولم يحدث فى بقية ذلك النهار سوى أن الطعام جاءهم من «الدوار» فى الزورق فأكلوا وتلاغطوا، ثم رقد من رقد، وذهبت البقية تتمشى فى أرض الجزيرة. وكان إبراهيم ممن رقدوا، فقد كانت عادته أن ينام قليلا بعد الغداء. وأطل على حوض الزهر من غرفة نومه، فبدا له كالمنديل الموشى. وطلب القهوة، وكان يتوقع أن يجيئه بها عم ادم، فجاءته بها كريمة، فجرى بخاطره أن هذا من مكر عمته، أو من يدرى؟ لعلها بريئة وهو يظلمها. وصبتها له فى الفنجانة، وناولته إياها، كما تفعل المرأة إذ تقوم على خدمة بعلها. وثقل على نفسه هذا الخاطر. وجلست أمامه وهو مغمض عنها لغير علة يدركها، فتوجع لها فى سره، وعكف على القهوة يترشفها، والسيجارة يدخنها ولا يكاد يرفع رأسه، وفى أذنيه دندنة تحية، وفى عينيه منظرها وهى واقفة تظلل نفسها من الشمس براحتها.
وملت كريمة الانتظار والإعراض فسألته: «فيم تفكر؟»
فقال - بلا تفكير -: «فيك».
فضحكت ضحكة السرور والخوف والأمل والشك وقالت: «إن هذا خير على كل حال من الصمت».
ولم يكذب إبراهيم حين قال إن تفكيره كان يدور عليها، وهو يتصور تحية، فقد كانت خواطره تروح وتجىء من هذه إلى تلك كرقاص الساعة. وكان يشعر بحيرة لا يدرى لها سببا، فإن تحية خطيبة حامد أو فى حكم الخطيبة، فلا داعى لانثناء خواطره إليها، وقد يسعدها أو لا يسعدها فذاك شأنهما وحظها. أما كريمة فشأنها مختلف جدا، وهى حرة طليقة مثله ومن واجبه أن يقصر خواطره عليها وأن لا يعدوها إلى سواها - إلى تحية على الخصوص - إذا كان لا معدى عن التفكير فى إحداهما. فإذا اقتنع بأن زواجه بكريمة يكون ملائما فبها، والا ... وإلا فقد انتهى الأمر. فما هو مقيدا بشىء. وليس من الضرورى أن تكون المسألة مسألة حب ... فى البداية لا ضرورة ... فإن الحب شجرة تنمو، ولا تخلق كاملة فى لحظة بأغصانها وأورا قها ونوارها.
وجاء الليل، على عجل فيما أحس، وتمشى مع ضيوفه فى الجزيرة. وانفض من حوله، وبقى هو على الشرفة وحده وخلا بنفسه وخوالجه. ولم يكن ما يدور فى نفسه يبلغ أن يكون خواطر أو معانى، فقد كان لمحات خاطفة ينقصها الاتصال والتسلسل، كالشرار المنبعث من وقع حوافر الجياد على أرض صلبة. ولا كان «عواطف»، على قدر ما كان يستطيع أن يتبين. وكان الأمر يبدو له أشبه بالومضات من خلال السحب. وأورثه ذلك الغموض اكتئابا لا تعليل له يعرفه.. كلا لم يكن هذا اكتئابا، وإنما كان رأيا لا يتكون ويتولد شيئا فشيئا ويبرز من هذا الغموض الذى كان يلفه فى مثل الضباب الكثيف.. وإذا به يدرك فجأة أنه لا يستطيع أن يتزوج كريمة.
وأدهشه إدراكه لهذا. وحاولى أن يطرد ما باغته منه، ولكنه شعر أن هذا عبث وأن لا مفر له من الاعتراف بهذه الحقيقة التى كأنما صاح بها فى وجهه صائح. وأحس بمثل اللطمة حين تبين أنه لا يحبها، ولا يستطيع أن يحبها، لا لعيب فيها، بل لأن هذا هو شعور قلبه. ورفض ما كان يقول من أن الحب خليق أن يجىء على مهل وبحكم الألفة.. كلا لا سبيل إلى هذا. ولو تزوجها لقضى عليها بالشقاء السرمدى.. وليس الأمر أمر امرأة يلقى إليها بزمام بيته. ولو كان كذلك لكان سهلا وخيرا أيضا.
وخطر له أن لعله قد شط وأسرف، فأراد أن يراجع نفسه ويحاسبها، فسألها: «ما عيب كريمة؟» ونفى أن بها عيبا. فإن لها لجمالا، وإنها لعلى حظ من التعليم، وفى مقدورها بفضل نشأتها أن تتولى أمور بيته، وتريح أمه. وكره هذا اللون من التفكير، وحدث نفسه أنه لا يشترى بقرة من السوق. إذن ما علة هذا النفور من كريمة، وستشقى المسكينة، إذا صح ما كان بلغه عنها من. حبها له، وإذا صدقت دلائل ما رآه اليوم منها.. ولكن هل هى تحبه؟ إنها صغيرة، ولا يبعد أن يكون ما تشعر به - إذا كانت تشعر بشىء - ثمرة الإيحاء وجنايته. ولعل عمته الماكرة قد ظلت تحدثها عنه وتعدها به حتى تعلقت المسكينة بهذا الأمر، وشغل به خيالها، وصارت تحدث به نفسها وتناجيها. ولكن شبابها خليق أن يكون عونا لها، وسيندمل الجرح بسرعة، والشباب كفيل بذلك. والآن ماذا ينبغى أن يصنع؟ هل يخاطب عمته لتكف عن إلقاء الفتاة عليه؟ أو لا يقول ولا يصنع شيئا؟
ونهض. وفى مرجوه أن يفتح الله عليه بالرأى الأصوب، وانحدر ومضى إلى الشمال حتى بلغ حوض الورد، وكان الظلام قد أرخى سدوله، فاستغرب أن يبدو له الورد أسود فى الليل، وخطر له أنه لم يلاحظ ذلك من قبل. ثم استأنف المشى، فالتقى بمن لم يتبين، ولكنه قال: «تحية؟» نطق اسمها غير مستغرب كأنما كان يدور على لسانه طول عمره. ولم تجبه. ولكنها بدت له كأنها تترنح، وكبر فى ظنه أنها ستقع، فخطا إليها ودنا منها وأحاطها بذراعيه، فلم تدفعه، ولم تلق بنفسها عليه. وكانت كأنها غير مفيقة وليست تامة الوعى، وكان رأسها مطرقا، وذراعها على ذراعه. وظلا هكذا برهة، وهو مطوقها بذراعيه، وهى واقفة لا تبدى حراكا، ولا تقبل ولا تنفر، كأنما ليس لها فى الأمر رأى أو خيار، ثم رفعت رأسها، فأحنى رأسه، وباسها.
ولم يشعر حين باسها بنشوة، وإنما كان شعوره باغتباط هادئى. وكان مبلغ إدراكه لما هو فيه شبيها بصوت الموجة مقبلة من بعيد. وتلقت قبلته أول الأمر بلا مجاوبة، كأنها تمثال، ثم حركت شفتيها بغتة، وباسته، فأحس كأنه يكاد يختنق.
وكأنما ارتجت الأرض فتحاجزا، وتراخت السواعد إلى الجنوب. وكان يستطيع أن يرى، على الرغم من الظلام، جانب خدها وبياض جيدها، ويحس رشاقة قوامها، ويود لو تكلمت، لو نطقت بأى شىء، ولكنه لم يسمع سوى أنفاس غير منتظمة، ولم يجد هو كلاما يقوله سوى: «يحسن أن نجلس».
وجلسا، متباعدين، غير متلامسين. وخطر له وهو يتدبر تعمدها التباعد، أنها المعرفة التى أحوجت آدم وحواء إلى الخصف بورق الجنة، وكانا قبل ذلك لا يستحييان من العرى ولا ينكران شيئا. ثم قال بعد برهة: «لست آسفا، فلا تتوقعى منى الإعراب عن أسف». وقالت بعد فترة: «ولا أنا. كلا، لست اسفة، وإنى ...».
ولم تتمها.
فهم بكلام، فرفعت كفها الدقيقة الرخصة إلى فمه تصده، وقالت: «إنك لا تدرى ... ولكنى تمنيت أن يحدث ما حدث ... لم يبق إلا أن تقال الحقيقة فلأقلها. ولم أكن أدرك على وجه واضح ما أبغى، ولكنى كنت أحس برغبة غامضة فى شىء غير جلى. أخشى أن ترى كلامى هذا فارغا، ولكنى لا أعرف كيف أقول غير ذلك، وإنما أصف ما خامرنى».
قال: «لست أراه فارغا، فإن له لصدى فى نفسى. أنا أيضا كنت جاهلا ما يضطرب به صدرى، وكنت أحسى دفع الدوافع إلى مجهول أو غامض يأبى أن يخرج إلى النور. وقد عرفنا الآن، وهذا هو المهم، وسأخبرهم بما حدث، فما يليق ولا يعقل أن يبقى هذا مكتوما وموقفهم منك ما تعلمين وأعلم. يجب أن يسدل ستار على هذا الفصل، وإلا صار هزلا مرا».
فألحت عليه أن لا يقول شيئا، وأن يدع لها تدبير الفكاك من الموقف، فإنه موقفها، فأبى. فعادت تلح، وقالت: «إن ظهور الحقيقة يثير العداوة بينه وبين أهله، وبينهم وبين أهلها، ويخلق لغطا هم جميعا فى غنى عنه، وقد يحمل أباها على العناد فيأبى عليهما الزواج. وفى الوسع اتقاء هذا كله بالحكمة وحسن التدبير».
وبدت له الحكمة فيما تشير به. ولكنه رأى فيه ضربا من التامر والتواطؤ غير لائق، وذهب إلى أن الصراحة أمثل وأكرم. فوافقت على أن هذا تآمر قد تأباه المروءة، ولكنه تآمر يتقيان به ما هو شر من لوثته - يتقيان به لغطا أليما لا داعى له ولا مسوغ؛ وعداوة يسهل اجتنابها، وعذابا غليظا قد يجره عليهما استنكاف أبيها، وما قد يغريه به من العناد، ويكسبان به أخيرا سعادتهما.
فأصر على الإباء أنفة منه أن يسلك هذه السبيل العوجاء، وأنفة - لم يصارحها بها - من أن يكل إلى امرأة تدبير أمره. فعرفت له ذلك، ولكنها هى أيضا أصرت على رأيها. ولما رأته لا يقتنع أنذرته أنها لا تملك إذن إلا أن تتحامل على نفسها وتضحى بها، وتتزوج حامدا إذا طلبها، وخيرته بين الإذعان لرأيها وركوبها هذا المركب الصعب، فلم ير سبيلا إلى غير الإذعان.
ولكنه قال لها: «سأرحل فى الصباح على أول قطار، فما أرانى أطيق أن ألقاهم وفى قلبى هذا السر».
وأصبح الصباح فسافر من غير أن يعلم بسفره غير «عم ادم».
وبعد شهور وشهور - كأنها الأحقاب طولا - تزوج تحية، وعاشا فى «تبات ونبات»، ولكنهما لم يرزقا ما يرزق الأزواج، من صبيان وبنات.
4
وعاش إبراهيم مع تحية سنوات، وفيا لها بالعين والقلب. وكان يطوف ويعمل ويكد، ويعود إلى البيت فيلقى إليها بما أفاد من مال. وكان ما يكسب من الرزق يجيئه من هنا وههنا، وبين بعضه والبعض الآخر فترات تطول وتقصر. ولكنه فى جملته - وبفضل تدبير أمه ثم تحية - واف بالحاجة، كاف لستر المظهر. وكانت أمه هى ربة بيته، وظلت كذلك زمنا بعد زواجه؛ فلما آنست من تحية الرشد وشامت من سيرتها الخير، ألقت إليها بالزمام امنة مطمئنة، ولم تجشم نفسها حتى عناء الإيحاء والتوجيه، ووكلت كل شىء إلى ذكائها وفطنتها وعقلها وحكمتها.
وكانت كبيرة السن ضعيفة القلب، فأتيحت لها الراحة التى تعذرت قبل زواجه، ووسعها أن تقول لتحية يوما: (الآن أستطيع أن أودعكما، وأنا سعيدة قريرة العين. فإنك كنز ظفر به، ووقع عليه إبراهيم، وأرجو أن يكون رأيك أنه أهل له. على أن فى يديك أن تجعليه كذلك، وكما تحبين. والرجال يحبون أن يكونوا سادة، ولكنهم يكونون بين يدى المرأة الحكيمة أطفالا رضعا، وأنا أحب أن يطول عمرى فأسعد بسعادتكما، ولكن وجودك أغنانى عن البقاء والتلبث، وأشعرنى أنى كنت متعبة مرهقة، وأفقدنى الباعث على التشدد، فأنا أنهد بسرعة. وليس لى إلا رجاء واحد إليك، فقد كنت لابنى أما وصديقا، وأخشى أن لا يهون عليه أن يفقدهما جميعا بعد طول الإلفة، فيتغير وتنكرى منه ما لا عهد لك به، فلا تحملى ذلك منه على غير محمله ورديه إلى ما عرفتك، لا إلى ما عسى أن يطوف برأسك من البواعث، وآثرى معه الحسنى - في كل حال - وطول الإناة، ولا تنسى أنه إنسان مخلوق من طين، وثقى إذا فعلت ذلك أنه سيعود إليك - كما كان يعود إلى - فيفتح لك مغاليق قلبه. وقد يكلفك هذا شططا، ولكنك حقيقة أن تحمدى المغبة إذا رضت نفسك على أن تكونى صديقته لا زوجته فقط. لا تجعليه يشعر أنه فقد أمه؟ أى صديقته، فإنه يتعزى عن فقد الأم ولا يتعزى عن فقد الصديقة. والذنب لى فقد أنسيته الأم لما صرت له صديقة. لقد كان يفضى إلى بما لا تسمعه أم من بنيها أو بناتها لأنه كان يثق أنى أفهم وأعذر. فى حجرى هذا كان يدفن وجهه ويبكى كالطفل فيتفطر قلبى. فليس أقسى ولا أوجع من بكاء رجل ... نحن النساء يا بنتى دموعنا قريبة، وإن ذلك لمن رحمة الله بنا. ولكن الرجل لايبكى.. لم يخلق للبكاء مهما بلغ من لوعة الحزن.. فهل تدرين ماذا كنت أصنع؟ كان يرتد بين يدى طفلا فأرتد أول الأمر أما، ولا نخجل - لا هو ولا أنا، فما يستطيع أن ينسى، ولا أستطيع أن أنسى أنه رضع من ثديي هذين، ثم أعود فأصير له صديقا. لقد كان الأمر أسهل على لأنه رضع من ثديي، ولم يرضع منك، ولكنك تستطيعين أن تعوضى ذلك إذا استطعت أن تكونى صديقة قبل أن تكونى زوجة. دعى الحقوق والواجبات ... تناسيها ... نحيها، وغضى عنها، فإنها قيود لك وله.. وصدقينى فقد جربت.. لم يكن أبوه مثال الوفاء والقناعة فى نظر الزوجة، فقد كان مزواجا.. وقد شقيت به زمنا وكدت أخسره، ولكنى استعدت وفاءه وثقته وحبه واحترامه لما أنسيته أن لى حقوقا عليه، وأن عليه واجبات لى، وأن بيننا هذا الحساب الذى لا ينقضى، فصرت بذلك امرأة جديدة عنده وتكشفت له جوانب لم يكن يفطن إليها أو يراها.. وإنها لفى كل امرأة. ولكن النساء اللواتى تزوج لم يبدينها له كما أبديتها ولم يقدرن على ما قدرت، فعاد لى بقلبه وعقله جميعا. ووصيتى الأخيرة يا تحية أن تجعلى دأبك ووكدك أن تجددى نفسك له؛ فإنى أخشى فتور الألفة. لا تكونى له فى يومك كما كنت فى أمسك، ولا تظهرى له فى مباذلك أبدا. ولا تقولى إنه زوجى ويعرفنى معرفتى نفسى فما داعى التكلف؟ لا.. ينبغى أن تكونى له فى كل يوم امرأة جديدة تتصدى له وتغريه وتفتنه. وإنه لعناء يا بنتى ولكنها لعنة جنسنا، ولا حيلة لنا إلا أن نتكلف العناء إذا أردنا أن نحتفظ ببعولنا.. وسامحينى يا تحية واغفرى. لى أنى أنصح لك كأنى أسىء الظن بعقلك فإنها تجربتى، ومن أنفع بها إذا لم أنفعكما؟»
فقالت تحية، وهى ترد الدمع بجهد: «أخشى يا نينا - أى يا أم وكانت هكذا تدعوها - أن أكون خيبت أملك»، تشير إلى أنها لم تجئها بذرية وإلى الخوف من أن تكون أعقمت.
قالت: «لا تقولى لى هذا فإنها إرادة الله. فإن تكن خيبة أمل فهى لك قبل أن تكون لى. وإنى كون جاحدة فضل الله على إذا لم أشكره، فقد كان لى ولد فصار لى ولد وبنت. ولا أتكلف التواضع فأقول إنى لا أستحق هذه النعمة، فقد أنعم الله على بها، فلابد أنى عنده أهل لها. نعم، لقد رضى الله عنى حين رزقنى بك، ولا قنوط يا بنتى من رحمة الله فاصبرى تؤجرى».
قالت: «إنما أسفى من أجله لا من أجلى، فإنى راضية قريرة العين، ولكن أكبر خوفى أن يثقل عليه هذا الحرمان».
قالت: «لا تخافى فإنى أعرف ابنى لا بال له إلى هذا. همه ما يقرأ ويكتب. وما يخرج خير عنده من البنين والحفدة - أو هو عدله على الأقل - وهذا من لطف الله فلا تقلقى فإنى أخاف أن يذبلك القلق، ولا تضمرى الحسرة واللهفة فإنها شر ما جنى على المرأة وحياتها مع بعلها. ويا بنتى إن ذلك ليس فى أيدينا، وإنما نحن كالأرض لزارعيها، ولسنا ننبت إلا ما زرعوا».
وجاء يوم آذنت فيه بفراق، وكانت تحية وحدها معها فى البيت، فامتنع صبرها - على فرط تجلدها لهذا التوديع الذى كانت تعلم أنه لابد آت - وانحدرت العبرات - «كاللؤلؤ الرطب» - من مدامع قرحات، واضطرمت فى أحشائها نار أليمة الحرقات.
وكانت المسكينة كالمشفى على الغرق، وهو لا يحسن من السباحة إلا الغوص. وكان التمزيق الذى تحسه فى صدرها يجعلها - على الرغم منها - تدفع يديها ورجليها فى الهواء، كأنما تحاول أن تتعلق بشىء. وكانت تنفخ كأنما فى جوفها بركان حام هائج. وعيناها متفتحتان جاحظتان، ولكنهما لا تكادان تبصران، وحملاقهما ثابت لا يتحير أو يتحرك، وجيدها يكاد ينخلع من شدة التلوى، وعروقه ناتئة، وأوردته دارة كالوارمة. وكان منظرها هذا وما تكابده من الآلام المبرحة يقطع من تحية نياط قلبها، فارتبكت لحظة ثم عاد إليها الرشد فدعت طبيبا ثم آخر وودت لو استطاعت - أو أجدى - أن تحشد لها جمهرة الأطباء الحذاق. وجاء أولهما - وكان وثيق الصلة بالأسرة - فدخل عليها هاشا باشا كعادته، فتجلدت وتكلفت الابتسام له، فقال هذا أحسن وفحصها وهو يمازحها وطمأنها. وجاء الثانى فتشاورا ثم حقناها بالمورفين واتفقا على العلاج. وانصرف ثانيهما وبقى الأول حتى جاء إبراهيم، فارتمت على صدره تحية تبكى بأربع. وقال الطبيب إننا نفعل ما نستطيع والله يقضى بما يشاء، ولكنى غير يائس.
وحبست تحية نفسها عليها تمرضها. وكان الطبيب يعودها فى اليوم مرة واثنتين. واستراحت الأم من الالام فى اليومين الأولين واذنت الحالة بالتماثل وقاربت أن تشابه أحوال الصحة، فاستبشر إبراهيم وتحية، ولكن الطبيب ظل يقول إذا مضت لها سبعة أيام رجوت لها البرء. وكان ما خاف أن يكون، فانتابها كالاختناق، فتسترخى إحدى العينين، ويتهدل أحد الشدقين، ويغيض الدم من الوجه، وتصبح الحدقة زجاجة. وكان هذا ربما طال ربع ساعة. ولكن فترات الراحة كانت طويلة، ثم قصرت وتلاحقت هذه الأزمات على قصر مدتها، وضعفت المقاومة وزهدت فيما وصف لها من طعام ودواء، فكانت لا تقبل من ذلك شيئا إلا مرضاة لابنها وتحية.
وكان صباح، فأومأت إلى تحية أن تدنو منها وقالت لها همسا: «يا تحية أوصيك بأمور. إنى أعرف أنى هامة اليوم. فلا صراخ ولا عويل، فإنه أنكر ماسك مسمع حى. ولا نساء يحتشدن حولى، ويبكين مخلصات أو منافقات أو مجاملات. ولا سواد تلبسينه على. ولا مأتم يقام ولا جنازة تشيع، وإكرام الميت دفنه، فعجلوا به، والله يبارك لكما فى حياتكما».
وأمسكت هنيهة تستريح ثم تبسمت لها فى عينيها، وقبلت ما بينهما. وفاضت روحها فى قبلتها، على جبين تحية.
وخالف إبراهيم وصية أمه - بكرهه - فقد كان يخشى شماتة بعض من يعلم أنهم يتنسمون أخباره ويتمنون له السوء. وخاف أن يحملوا العمل بالوصية على محمل الفقر والعجز، فكلف نفسه شططا، واحتفل بدفن أمه وأقام لها مأتما «كنجوم الليل زهرا» ولم يذرف دمعة واحدة وهم يدفنونها، ولم يقل لدافنيها ترفقوا بها وإن كان قد هم بذلك، حين رآهم يحملونها بغير احتفال. وسبقهم فانحدر إلى القبر فسوى لها التراب بيديه، وكاد يعفر به وجهه. وتلقى تعزيات المشيعين - وهو باسم - وقلبه يدمى، والدموع فى حلقه. ولكنه على فرط تجلده لم يستطع البقاء فى البيت، فقد كان يرى أمه فى كل مكان، وكان كل شىء يذكره بها. وانتابه الأرق والوسواس، وتلفت أعصابه حتى صار يشق عليه أن ينام وحده على سريره. واحتاج أن يشعر لإنسان آخر إلى جانبه. وكان هذا الاضطراب يخجله، فتحامل على نفسه وأخفى ضعفه. غير أن تحية فطنت إلى ما به، وكانت عينها عليه، وقلبها معه، فزعمت أنها خائفة فهل يسمح لها بالانتقال إلى جانبه فى سريره؟ ففعل مرحبا مسرورا. ولم يفطن إلى حيلتها. ووسعه أن يغالط نفسه ويوهمها أنه يحمى امرأته ويرعاها ويحرسها، وفتر إزعاج الهواجس، وضعف صوت الهواتف. ولكنه ظل لا يطيق البيت فتحول عنه إلى سواه، وإن كان عزيزا عليه حافلا بالذكريات الحبيبة إليه.
وخالفت تحية الوصية أيضا فلبست السواد. وكانت تعرف أن السواد والبياض سيان، وأن العبرة بما ينطوى عليه القلب. ولكنها خشيت سوء القالة والتأويل، وإن كان لها من الشجاعة وقوة النفس ما يعينها على مخالفة العادات وإهمال التقاليد. ولكن إبراهيم كان يكره السواد ولا يطيق لونه، فانتظر حتى مضت الأربعون، ثم قال لها: «إننا لا نزور ولا نزار - على الأقل الآن - فما فى زيارة حزين متعة، ولا للناس فى ذلك رغبة صادقة، فاخلعى هذا السواد فإنه يثقل على نفسى. وما أظن بك إلا أنه يثقل عليك أيضا. إنه لون قابض يجثم على الصدر، ويشد الجلد، ويسقم القلب، وأنت تعرفين حبى لأمى، وأنا أعرف حبك لها، فهل تظنين أنها تطيب نفسا - لو كانت دارية - بحالنا هذا وما نحن فيه؟»
فنضت السواد - على كره وإشفاق - ولغطت نساء بذلك فيما بينهن، ولكنها لم تجعل بالها إليهن، وإن كن يجدن الوسيلة إلى إبلاغها ما يقلن فيها. وكان عزاؤها حين يتأدى إليها هذا اللغط أن: «هى تعرف، هى تعرف. لا سواها».
وكان الانتقال إلى الحياة العادية بطيئا بطبيعة الحال. ولكنهما عادا سيرتهما الأولى على الأيام. ولم ينسيا هذه الأم الكريمة، وأنى لهما أن يفعلا؟، ولكن حزنهما عليها تحول إلى اغتباط عجيب بذكرها. فكانا يقضيان بعض الوقت - أحيانا - وهما يتساقيان ذكرياتها، فينتشيان. وكانت تحية ربما توقفت وهى تلبس ثيابها استعدادا للخروج معه إلى السينما أو لزيارة صديق أو قريب، وألقت إليه نظرة وديعة، فيها لين وحنين، فيفهم. ويذهب بها إلى قبر أمه فيقفان عليه لحظة - لا يقولان شيئا ولا يقران حتى الفاتحة - ثم يعودان من حيث جاءا، ويذهبان إلى حيث شاءا، وقد استراحا وشعرا أنهما سراها.
وقال لها إبراهيم يوما: «هل تعرفين يا تحية أن أمى فترت إرادة الحياة فى نفسها وضعف تعلقها بها لما اطمأنت إليك ووثقت أنك لى أم وزوجة وصديق فى آن معا؟»
فلم تدر أينبغى أن تسر أم تألم؟
ولكن السرور غلبها مع ذلك وقالت: «لقد استراحت فقد كانت تكتم ألمها وتحاذر أن تبديه. وكنت أعرف ذلك، وأعرف أنه يسرها أن لا أظهر أنى أعرف ما تكابد. لم أر أشجع منها ولا أرق قلبا. لو وزع حنو قلبها على الناس جميعا لعادوا ملائكة رحمة».
ولكن إبراهيم خامره خاطر غريب جعل يقوى ويستبد بنفسه على الأيام. وكان يدرك بعقله أن هذا من تلف أعصابه. ولكنه مع ذلك لم يستطع أن ينحيه. ولم يفد فى دفعه ما أحاطته به تحية من وسائل التسرية وأسباب التلهى. وكان منطق هذا الوسواس أعجب من الوسواس نفسه، فكان يقول لنفسه إنه كبر وأسن. أليست أمه قد ماتت؟ والأمهات يمتن فى كل سن، عن بنيهن، فى كل عمر. ولكن أمه قد ماتت وهى مقتنعة بأن به الان غنى عنها. فما معنى ذلك؟ أليس معناه أنه شب عن الطوق جدا جدا؟ ودخل مداخل الرجال الذين لا يحتاجون إلى تعهد ورعاية؟ فهو يدلف الان إلى الشيخوخة. لقد كانت أمه تشعره فى حياتها أنه ما زال حدثا بل صبيا صغيرا. وكان هو يشعر بين يديها أن فى وسعه - بل ما زال من حقه - أن يرتمى على صدرها ويرضع ثدييها لا يصده عن ذلك شاربان ولحية، وإن كان يحلقها ولا يبقى عليها، فكان وجودها يفيض عليه شعورا قويا بالشباب والفتوة. وكان يحس أنه لن يكبر ما بقيت حية. فلما فقدها فقد هذا الشعور وأحس أنه ارتفع عن تلك السن التى كان لا يحس أنها تعلو فى حياتها. كان فرعا من أصل، فاجتث الأصل واقتلع، واقتطع الفرع وغرس فصار أصلا له عروق وأطناب. وراح يشعر أنه من الأرض مباشرة وإليها. نعم بقيت له تحية، وهى لا تنى تبره وتسره، وتتعهده، وتحنو عليه. ولكنها تعتمد عليه أيضا - تتكئ عليه كالعصا - تقوى نفسها وتصيبها بالاستمداد منه، كما كان هو يقوى نفسه ويصيبها بالاستمداد من أمه، فصار هو لتحية ما كانت أمه له، متكأ، ومعتمدا، ومعين قوة، وينبوع حرارة، وليس له هو أحد يمتح منه ...
وهو لم يرزق ولدا، وليس هذا لمحزنه. ولكن أهو يا ترى عقم؟ وتمثلت له أرضان، واحدة خصيبة والأخرى جديبة. واحدة يرف نباتها ويربو ويهتز، ويوحى إلى النفس معنى القوة والنعمة والرى. والأخرى خاوية موحشة توحى معانى الفناء والعبث. وتراءت لعينيه شجرتان واحدة عليها ثمرها ونوارها، والأخرى لا ثمر عليها ولا زهر لها. وتساءل عن الشجرة اليابسة ما انتفاعها بالثمرة المضمرة التى لا تطرح؟ ثم أليس الإثمار تفتحا والعقم انسدادا؟
ودار فى نفسه ما هو أثقل وأبعد من الصحة. أحس أنه وثب فجأة من الطفولة التى أطالت أمه عهدها إلى الكهولة دفعة واحدة، وأن شبابه ذهب خطفا، ومر كالقذيفة، فلم يتلبث ولم ينعم هو به وألفى نفسه يتساءل - وينكر من نفسه تساؤلها - ترى كيف طعم الشباب؟
وخطر له أن هذا جحود، وأن الإنسان لا يستطيع أن يدرك الحاضر إلا بعد أن يصبح ماضيا، وأن من تضييع الحاضر والماضى جميعا - وتقصير العمر أيضا - أن يترك نفسه يفكر على هذا النحو وينكر شبابه، ويمحوه ويمسحه من لوح الذاكرة التى لا يحسن الإدراك والفهم إلا بها.
وانثنت خواطره إلى تحية. فحدث نفسه أن شباب المرء يشعر به المرء فى سواه - على الأقل أكثر مما يشعر به فى نفسه. وتساءل: كيف هذا؟ أترانى خرفت؟ لا. ليس هذا من الخرف.. إن صدى شبابى فى نفوس الناس.. أثره ووقعه.. إحساسهم به.. مجاوبتهم له.. هذا هو الذى يشعر المرء بشبابه.. يعنى ماذا؟ هل معنى هذا أن الشباب - أو الشعور به - إيحاء؟ وقال لنفسه، بعد إطراق طويل إنه يحسب أن الأمر كذلك إلى حد كبير.. كل شىء فى هذه الدنيا يكاد يرجع فى مرد أمره إلى الإيحاء.. لو اجتمع نفر على واحد، وألحوا عليه بالإيحاء الخفى أو الظاهر لأقنعوه بما شاءوا.. بأنه عاقل أو مجنون.. وشاب أو كهل، وظريف أو ثقيل ... ولا يمنع هذا أنه فى الواقع غير ذلك.. نعم الشباب قوة ذاتية ولكن الشعور به رهن أيضا بما يتلقى المرء من إيحاء الحياة.
وكان يشعر ويدرك أن فى تفكيره عوجا، أو على الأقل يحب أن يعتقد ذلك. ولكنه لم يستطع أن يقيم العوج أو يثنى خواطره ويصرفها إلى مجرى اخر. ووجد نفسه يتساءل عما توحى إليه حياته وعن نوع إيحائها أهو إيحاء بالشباب والقوة، أم بالكهولة ودلوف الشيخوخة وذهاب النعمة والغضوضة؟ وتنهد أسفا فليس فى حياته غير تحية. وليست تحية بالامتحان الكافى أو المقنع. واستهجن أن يجرى هذا بخاطره، وعده ظلما لتحية، وقلة وفاء. وعالج أن يطرده ولكنه أبى إلا أن يستولى على نفسه حتى صارت المسألة عنده كيف يكون الأمتحان.
وانتابه وسواس آخر جرته عليه النوراستينيا، وكان قد أصيب بها فى صباه وعانى تبريحها سنوات، وكان أخوف ما يخافه فى هذا العهد الأول «الحمى» فكان لا يكاد يأكل شيئا أو يتعب إلا توهم أنه يجد مسها وأنه سيحس بعد ذلك نفضها وإرعادها ثم تشتد عليه حرارتها وتدوم فيموت. وكان لا يريحه ويعفيه من هذه الأوهام إلا أن يشرب شيئا يسيل العرق فيهدأ ويطمئن. وكان فى قرارة نفسه يعرف - كما يدرك بعقله - أن هذا كله من فعل الأعصاب وأنها أوهام فى أوهام وأنه لا شىء به يشكوه ولا خوف عليه من حمى نافض أو صالب. غير أن ما كان يعتريه كان يغلب إرادته فكان يحس هذا الخوف على حين يبقى عقله مطمئنا. وكان ربما قعد على الطعام وهو سليم مبرأ وفى ظنه أن سيقش كل ما على المائدة من شدة الرغبة فيه والشهوة له، فلا تكاد تمتلئ عينه منه حتى يرد يده عنه وينهض ويلبس الصوف - حتى فى وقدة الصيف - ويلف عليه بطانية سميكة ويقول: «اغلوا لى كراويا»، فتتنهد أمه اسفة وتقوم إليه حتى تسرى عنه. ويا ويحه إذا رأى جنازة أو فاجأه عويل نسوة على ميت، أو صادفه رجل له وجه حانوتى، أو مر به غراب يخطف، أو وقعت عينه على بومة.. وأتعبه الأطباء ولم يجده ما كانوا يشيرون به عليه، وأحس أنه لو صدر عن رأيهم لطار عقله، فقد كانوا يأمرونه بالراحة والكف عن العمل وينصحون له باتقاء الإجهاد ويشيرون بالسكنى فى مكان خلوى ساكن لا ضوضاء فيه. وكان هو يرى أن العمل تسلية وأن الراحة تلتمس لا بالكف عن العمل، بل بتنويعه والانتقال من شىء إلى شىء، وأن التعب يجعل نومه هادئا عميقا وأنه على كل حال لا يطيق السكون والجمود، وأنه إذا كف عن العمل لم يسعه إلا أن يدير عينه فى نفسه ويفكر فى حاله فيزداد اضطرابا. وكان يحدث أمه بهذا ويروى لها حواره مع الأطباء، ويحاول أن يقنعها بصواب ما يذهب إليه وخطأ ما يشيرون به، كأن اقتناعها بأحد الأمرين يرجح الكفة ويحسم النزاع، ففهمت أمه حقيقة الحالة وأدركت أنها هى التى بيدها علاجه. وكان رأيها أن الأطباء على حق وأن ابنها أيضا مصيب، فقصدت إلى طبيبه زاعمة أنها هى المريضة وعادت وقد استقر رأيها على النهج الذى بدا لها أنه أوفق. وكانت تعرف حب ابنها لها فأرادت أن تصرفه عن نفسه وتحول عنايته إليها. واختارت للسكنى بيتا فى ضاحية جميلة وله حديقة صغيرة، قائلة إن ضجات المدينة تحرمها الرقاد وتسلبها الراحة، وأغرته بزراعة الأزهار والخضر، وصارت تخرج تتمشى فيرافقها من تلقاء نفسه وهى تبدى الزهد فى ذلك وتدعى أنها تخشى عليه التعب، وما كان خروجها إلا من أجله لا من أجلها. وكانت تحرص على أن لا يدرك أنه هو المقصود بما تصنع وما تتكلف حتى لا يشعر أنه مريض يعالج، وحتى تجىء الصحة التى تستفاد من هذه الحياة الجديدة بثمراتها المنشودة. ولاحظت أنه اتخذ عصا وأنه اعتاد أن يحملها معه كلما خرج ليرافقها. وكانت تراقبه خلسة فبدا لها أنه وهو يتوكأ على العصا يثنى رأسه ويمشى مطرقا متجمعا، وخيل إليها أن هذه العصا توحى إليه شعورا بالضعف وأنه يتخذ سمت الشيوخ الوقورين، فزعمت أن المشى يتعبها قليلا، ورغبت فى الاعتماد على العصا، فناولها إياها فلم تدعها له بعد ذلك. وسرها أن رأته يمشى خفيفا، وكان المشى والعمل فى الحديقة مشغلة كافية، فقلت مطالعاته وطال نومه وصح بدنه وأذهلته العناية بأمه عن العناية بنفسه، وأنسته معظم وساوسه فعاد إلى ما كان قد كاد يخرج عنه من حدود الصحة.
فلما ماتت عاودته الوساوس ولكن فى صورة أخرى، فصار يخشى الموت بالسكتة أو الذبحة، وبتوهم أن قلبه ضعيف. أليست أمه قد أصيبت بالذبحة؟ ألم يكن قلبها ضعيفا؟ أليس هو ابنها، فهو لعله قد ورث بعض ضعفها؟ وصار يزعجه ويؤرقه ويثير مخاوفه على نفسه أنه يسمع - حين يضع رأسه على الوسادة - دقات قلبه، فكان يؤثر النوم قاعدا فيرص المخدات وراء ظهره لتسنده، حتى إذا خفت صوت هذه الدقات وكاد النوم يغلبه انحدر عن المخدات برفق وحذر ونام كالعادة. وكثر تردده على الأطباء ليقولوا له كيف حال قلبه، ويبينوا له ما خطبه، فقال له صديق له منهم: «يا سيدى إن قلبك سليم، وأنت رجل جسمه ليس بالضخم الهائل الأنحاء فهو لا يكلف طلمبة قلبك - فما القلب إلا طلمبة - جهدا ولا يتعبه ولا يرهقه. ولا أدعى أن لك قلب مصارع أو ملاكم أو رجل مغرى بالرياضة البدنية، ولكنه كاف جدا لجسمك وخليق أن يظل كافيا زمنا طويلا. فلا تقلق عليه، واعلم أن الذى بك هو تلف الأعصاب ليس إلا. إن جسمك - وصدقنى فقد درسته وأنا أعرف به منك - أقول إن جسمك عبارة عن شبكة معقدة من الأعصاب، وهى أعصاب حساسة مرهفة جدا، وهذه الأعصاب فى إطار من الجلد، تحمله عظام وقد وضع هنا قلب وهنا معدة وهنا كلية إلى اخر ذلك، وكل هذا سليم لا عيب فيه ولا مرض، وإنما البلاء أعصابك هذه، فاعرف ذلك ورد كل ما تحس به وتقلق من جرائه إلى هذا واحمد الله واشكر نعمته، فإن إخوانا لك أصغر منك سنا، وكانوا أصح منك أبدانا، قد أصيبوا بأمراض وبيلة، وأنت تجيئنى متغير اللون مربد الوجه من الفزع وتقول لى: قلبى مريض.. أسمع دقاته وأنا نائم.. يا أخى كل إنسان يستطيع أن يسمع دقات قلبه وهو راقد إذا جعل باله إليها، فاصنع معروفا وأرح نفسك من هذه الوساوس وابتسم واضحك والعب وأدخل السرور على نفسك، ولا تجالس من يقول لك إن الدنيا دار شقاء وإن الحياة ذميمة، فما أعطينا الحياة لنشقى بها بل لنحياها على خير ما نستطيع وفى أسعد حالة تتيسر لنا.. ثم ما هذه الضجة بالله؟ ماذا تخاف؟ أو هو الموت؟ فإنا جميعا أبناء الموت ولا مهرب لنا منه، ولو أعطيت أقوى قلب فى الدنيا لما منع ذلك أن تموت فى يوم ما. فلماذا نعنى أنفسنا بالموت طول حياتنا ؟ وإنه لحال مقلوب، فى شبابك - لا تضحك فإنك مازلت فى شبابك - أقول فى شبابك يسود الخوف من الموت عيشك، وتعلو سنك شيئا فشيئا وتدلف إلى الكهولة والشيخوخة فيكون من أثر هذا أن يوطن نفسك ويروضك على المصير المحتوم، وفى الشيخوخة يشعر المرء بالبلادة كلما طاف برأسه خاطر الموت - لأن الشيخوخة عبارة عن تبليد هو بمثابة الإعداد للموت - ففى صباك، فى نضارة عمرك، فى عهد القوة والفتوة واستطاعة الانتفاع بالحياة والاستمتاع بها، تنغص على نفسك هذه الحياة وتفسدها بالموت والفزع منه، ثم ينقضى الشباب الذى لم تصنع به شيئا ولم تركب به ما يركب، وتجىء الشيخوخة - إذا مد الله فى عمرك - فيفتر وقع الموت فى نفسك ولا يعود له ذلك التنغيص القديم، ولكن ما الفائدة حينئذ؟ أليس هذا حالا مقلوبا؟ اذهب.. اذهب يا رجل واختش.. وانتفع بما لا يزال لك من شباب».
ولم تخل هذه «المحاضرة» من أثر، وصار تفكيره أن صدق الطبيب والله! ولقد أضعت شبابى بين الخوف والحذر! أنفقته فى غير ما ينفق فيه، بددته تبديد سفيه أخرق.. لا فى لذات ومتع، بل فى بلابل ووساوس وهواجس ما أنزل الله بها من سلطان.. ليت أن من الممكن الحجر على الشباب كالحجر على المال.. إذن لأمكن أن يحجر أحدهم - أمى مثلا أو تحية زوجتى - على شبابى فيظل محفوظا لى مصونا حتى أرشد كما أكاد أرشد الآن، حتى أفيق وأصحو من غاشية الأوهام وأستطيع أن أحسن الانتفاع بهذا الشباب الذى يولى ولا يتمهل ... أو ليت العمر يرفى كما يرفى الثوب كلما بلى منه شىء.. ولكنه لا يرفى ولا سبيل إلى الحجر على الشباب وصونه من البعثرة والتبديد والإنفاق بخرق وحماقة.. فهل ضاعت الفرصة؟
وكر إلى رأس أمره من توهم الدلوف إلى الكهولة المنذرة بالعجز.. العجز عن ماذا؟ إنه يستطيع التفكير، وتفكيره أنضج وأسد وأحكم، ورأيه أقوم. فالعجز عن أى شىء إذن؟ ما هى هذه الحياة؟ أهى الفكر؟ العقل؟ إن كانت هذا فلا قيمة للشيخوخة المخوفة، ولعل بلوغها يجعل الحياة أتم وأكمل . أهى الإحساس؟ فإنى أراه قد صار أعمق على الأيام. إن كل يوم يمضى يزيد ذخيرتى من الشعور والإحساس، ويتركنى أقدر مما كنت على التلقى والاستجابة، لأنى أزداد فهما ورحابة أفق، وحياتى تتسع وتعمق، كالماء المتحدر، تحدره يوسع مجراه ويعمقه. أهى القوة البدنية؟ إن القوة ليست مطلبا بل وسيلة، وليست غاية بل أداة إلى غيرها. فما غيرها هذا؟ أهى القدرة على كسب الرزق؟ ما أسخف أن تكون الغاية من الحياة لقمة! أهى السعادة؟ وتذكر قول شاعر أن السعادة أشبه بعود من البرسيم معلق أمام عينى حمار، فهو لا يزال يعدو ليبلغه ولا يزداد دنوا منه ولا بعدا. أهى القدرة على إسداء الخير إلى الجماعة؟ قد تكون هذه من غايات الإنسان المحس المدرك، بل هى ينبغى أن تكون من غاياته. ولكن ما الغاية التى ينشدها لنفسه، فإن لنفسه عليه حقا وما يستطيع أن ينسى هذه النفس أو حقها. وكاذب مغالط من يقول غير هذا.. فماذا يطلب بالقوة لنفسه؟ شيئا من النعيم فى الدنيا؟ نعيم العقل والإحساس والجسم؟ وخطر له أنه يوشك أن يغالط نفسه، فما هذا العقل الذى يتميز من الجسم؟ وما هو هذا الإحساس الذى لا يتصل بالجسم؟ إن هذا وذاك بعض الجسم أو بعض ما يؤدى إليه تركيب الجسم وتكوينه على هذا النحو. فالمسألة أولا وقبل كل شىء مسألة جسم. وكل ما نباهى به ونعتز، ثمرة هذا التكوين الجسمانى الخاص فلا داعى للمغالطة وتقسيم الإنسان إلى جسم وعقل أو غير ذلك، فإنه لايتجزأ، أليس كل شىء يذهب ويتعطل حين يتعطل ما يجعل الجسم كائنا حيا؟ لا يبقى عقل، ولا يبقى شعور، ولا يبقى أى شىء اخر حين تعدو المنية على هذا الجسم الذى نغالط أنفسنا باحتقاره. هل نقول إن العقل يبقى بآثاره؟ هذه مغالطة أخرى فما أمكن أن توجد هذه الآثار إلا لما كان الجسم موجودا وحيا. انتهينا إذن، والمسألة مسألة جسم.. وهذا الجسم له حقوق فى السعادة الميسورة والنعيم المتاح. والعقل والشعور يشقيان إذا شقى الجسم المزدرى. وقال لنفسه لما انتهى إلى هذه النتيجة: «إن كل حالات الإنسان، كل ما يقوى عليه، وكل ما يكون منه ويصدر عنه، ونوعه، وصفته، وقيمته - كل ذلك رهن بحالة جسمه».
وحدث نفسه أن مغالطات الشباب لا محل لها فى مثل سنه، فإنه يوشك أن يخرج عن حد الشباب. وحينئذ تكون صحة الفهم بعد الأوان غصة ونقمة. ولحرى به أن يعجل.. يعجل؟ يعجل بماذا؟ هذا هو السؤال.
وتردد فى الإجابة الصريحة. فما بالسهل أن يخالف ما جرى عليه طول عمره، وأحس، وخاف. إنه صار حزمة من العادات حتى فى تفكيره.. وأسخطه هذا وأثار نقمته، وحنقه، وآلى ليفكن هذه الحزمة وليبعثرنها. فما يريد أن يكون كهذا الترام الذى لا يستطيع أن يخرج عن قضبانه، ولا يصلح لشىء إذا هو خرج عنها، والأولى به أن يكون كالسيارة التى لا تتقيد بقضبان ولا تعجز عن الانثناء إلى أية ناحية والسير فى أى اتجاه. وهبط قلبه إذ خطر له مفاجأة أن تحية إحدى عاداته، فهل يتحرر من هذه العادة أيضا؟ ورأى نفسه يستعيذ بالله، وينثنى فيقول، إن التفكير على هذا النحو يقود إلى الشطط. وسأل نفسه - وخيل إليه وهو يفعل ذلك أنه انتزع من نفسه شخصا آخر يضعه أمامه ويلقى عليه السؤال - هل يستطيع أن يحتمل خلو حياته من تحية؟ وقال: «الأن نريد الجواب الصريح».. وكان الجواب الذى دار فى نفسه أنه لا يستطيع.. ثم قال إنه استطاع أن يحتمل حياته من غير أمه.. شق عليه ذلك أول الأمر، ولكن الإنسان رزق الكفاية من المرونة، أى القدرة على التكيف. فهو يألف كل حال، وإن بدا فى أول الأمر عسيرا.. فهل معنى هذا أنه يقدر أن يألف خلو حياته من تحية؟ نعم. وساءه هذا اللون من التفكير. فغضب وصاح بنفسه «ولكن ما الحاجة إلى إخراج تحية من دنياى؟» ثم إنه لا يشعر أن حبه لتحية قد ضعف، وإنما يشعر أن به فتورا عنها كامرأة ليس إلا.. وليس هذا بذى قيمة، وهى عسى أن تكون مدركة لهذا، ولعل بها مثل فتوره. فإنها تتوخى أن تكون له صديقا، وهو يحمد منها هذا، ويراه أطيب وأوفق. غير أن تحولهما إلى صفة الصديقين أوجد بينهما نوعا من الحياء، وأقام فواصل خفية يتطلب الأمر فى بعض الأحيان تنحيتها. فهما يتكلفان جهدا واضحا حين يحاولان أن يتجاوزا حد الصديقين ويعودا زوجين أى رجلا وامرأة. وهذا عناء يزيده فتور الألفة ويبدو أحيانا ممتعا ولكنه على كل حال عناء. وإذا طال الأمر على هذا النحو فأخلق بأن تكثر الحوائل بينهما، لأن كل حال تتقرر بالعادة.. أفلا يمكن أن تزال هذه الحوائل دفعة واحدة ليعودا كما كانا؟ ممكن ولا شك. ولكن ما القول فى الفتور؟ ما خير أن تزال الحوائل مع بقاء هذا الفتور اللعين؟
وصار الأمر فيما يرى معضلا، وأعياه التماس الوسيلة لحل هذا الإشكال. وألفى نفسه يتساءل: أليس على تحية - كما على - أن تعالج حل العقدة؟ لماذا تتركنى أنفرد وحدى دونها بمعاناة هذه المشقة والأمر مشترك بينى وبينها؟ وقال فى جواب ذلك إنه هو الرجل، وإن المرأة ما زالت تنتظر أن يكون السعى من جانب الرجل ابتداء، لأنها مازالت أضعف منه وهو أقوى منها، وله السيادة والسلطان على الرغم من كل هذا التحرير الذى لم يحررها، لأنه لم يكسبها إلى الآن ما ينقصها من أسباب القوة التى للرجل. وقد يجىء زمن يتساويان فيه. وقد يجىء زمن تصبح فيه أقوى منه، وحينئذ لا تنتظر سعيه بل تسعى هى جهرة. وإنها الان لتسعى سعيها إلى ما تريد من الرجل، ولكن خفية وبخبث، وإنها لتبلغ من غاياتها أكثر مما يبلغ الرجل من غاياته، بالحيلة التى تتقنها ولا يتقن الرجل مثلها، لأنه لشعوره بقوته وإربائها على قوة المرأة اعتاد أن يسير إلى غايته جهرة، ويمضى إلى ما يطلب غير متكلف هذا الضرب من المكر الذى تحسنه المرأة. وإنها لتغلبه وتسيطر عليه من حيث لا يشعر - وأحيانا من حيث يشعر - ضعفا منه إذا كان ضعيفا أو التذاذا لرؤيتها تسيطر عليه، وتتوهم أن لها هذه السيطرة فعلا.
وعاد يقول لنفسه: «لا يا شيخ. والله إن المرأة لمسكينة». وأطرق قليلا ونفسه فياضة بالعطف على المرأة المظلومة، ثم وجد نفسه يثور على هذا الخاطر ويقول: «إن المرأة هى التى أوحت إلينا أنها ضعيفة مسكينة لتغرينا بإلقاء السلاح والكف عن الكفاح فتبلغ ما تريد، والله ما المسكين إلا الرجل المخدوع».
وضاق صدرا بهذا كله فصاح: «ولكن ما دخل كل هذا فى أمرى وأمر تحية؟ لماذا أرانى أذهب أتفلسف هذه الفلسفة العقيمة كلما فكرت فيما ينبغى أن تكون عليه حياتى وكيف أنتفع بها؟ هذه أيضا عادة، وهى أولى من سواها بالترك. فإن الذى يطول تفكيره على هذا النحو قلما يصنع شيئا. وأنا أريد سيرة أسيرها، لا فلسفة أتفلسفها، فلنضع حدا لهذا العبث».
ولم يضع هو الحد بإرادته - ولو ترك لها لما صنع شيئا - وإنما تكفلت بهذا الأقدار.
الفصل الثالث
1
كان إبراهيم جالسا إلى مكتبه وأمامه نافذة مفتوحة. وكان وجهه إلى النافذة ولكنه لا يرى، لفرض اشتغاله بما يجول فى رأسه وذهوله به عن النظر. ثم كأنما تقشع غمام فأبصر فتاة هيفاء ممشوقة، متكئة على درابزين السلم الذى ينحدر إلى حديقة بيتها، وهى فى منامة - بيجاما - من الحرير الأبيض. وكان بناء داره هو على مقربة من الطريق، والحديقة من الخلف. فترك ما كان مشغولا به وتساءل من عسى تكون هذه الجارة؟ وقديمة هى يا ترى أم حديثة؟ إن لى هنا سنوات طويلات ومع ذلك لم تأخذ عينى إنسانا يدخل أو يخرج من هذه الفيلا حتى لقد حسبتها مهجورة.. لم أر حتى بوابا أو بستانيا، ومع ذلك.. غريب هذا.. لقد تذكرت الان فقط أن حديقتها غير مهملة.. وأتأر الفتاة بنظرة فخيل إليه أنها جميلة رشيقة، وأعجبه منها مرونة بينة على الرغم من سكون أوصالها وقلة حركتها. وراقه شعرها الذى تفرقه من الوسط وترسله على جانبى وجهها - مثل كريمة - وحدث نفسه أنها نحيفة.. نحيفة جدا.. ولكن النحافة خير من إلحاح اللحم.. ونظرتها؟ كيف هى يا ترى؟ إن عينها تبدو له من هذا البعد حوراء واسعة، وفى نظرتها لين وعذوبة .. فتنة. وأحس من نفسه شوقا إلى معرفتها. وضحك إذ خطر له أن هذا هو الحب من أول نظرة! ومط بوزه ساخرا، فما ارتجت نفسه إلا مرة واحدة من قبل. وليس حبه لتحية بالفائر الثائر، وإنه لساكن جدا، وأشبه بحب المرء لأخته. وقد نسى على كل حال مبلغ اضطرام شعوره فى البدايات - إذا كان قد اضطرم - فهو لا يذكر ولا يعرف إلا أن تحية صديقته التى لاغنى به عنها.
وظل برهة طويلة هكذا ... لا يفعل شيئا سوى أنه ينظر إلى الفتاة. والفتاة التى يتأملها قبالته معتمدة على الدرابزين. وقال لنفسه إن الجديد من الأمر يتطلب جديدا من التصرف والتدبير، فماذا يصنع؟ لو كانت له خبرة بمثل هذه المواقف، أو سبق له بها عهد لقاس حاضره على ماضيه وأجراه فى مجاريه. وغريب أن ينقضى شبابه وهو جاهل بهذه الشئون؟ ثم يشارف الكهولة ويقف على بابها ويأخذ الأبيض يختلط بالأسود، ويبدأ الزمن يرسم خطوطه فإذا هو يشتهى أن يفعل ما يفعل الشبان. وارتفعت يده إلى وجهه متحسسة، وإلى شعر رأسه كأنما يحاول باللمس أن يعرف كيف وخط الشيب لمته. وهل هذا إيذان باندلاع نار المشيب ذات الوقود؟ وتلفت ولكن غرفة المكتب ليس بها مراة.. وخطر له وهو يفعل ذلك أنه لا يذكر أنه عنى مرة بالنظر فى المراة.
وألقى القلم - فقد كان يكتب - واضطجع. وقال يناجى نفسه وهو يضحك ساخرا: «هل أصنع كما يصنعون فى الروايات الكثيرة التى قرأتها؟ وعلى ذكر ذلك ماذا ترى أبطال هذه الروايات يصنعون فى حالات كهذه؟ لقد نسيت والله. فكأنى ما قرأتها، ولا وقعت عينى عليها. وهبنى كنت ذاكرا فهل يصح من دنيا الحقيقة ما يصف الخيال».
واستطرد من هذا إلى القول بأن الروايات ليست، ولا يمكن أن تكون خيالا بحتا، أو شيئا يخلقه الإنسان من لا شىء ولا يحور فيه إلى أصل من حقائق الحياة. وأنكر قدرة الإنسان على هذا الخلق من لا شىء. وذهب إلى أن كل ما يسعه هو التوليد، وهو أن يلفق القصة من جملة ما شهد وجرب وسمع، ويكون الشخصيات من أشتات ما عرف، ثم تعمل الفطنة الطبيعية واللب العبقرى فعلهما بعد ذلك. فليست القصص خيالا ولا ما تصفه محالا. اذن يكون تقليدها ميسورا. أو دع كونه ميسورا أو غير ميسور، وقل إنه لا يكون شططا.
ولم يرض عن هذا الرأى، فقال: إن القصص يعنى فيها واضعها بترتيب الأحوال والمواقف على النحو الذى يؤثره هو ويراه أوفق لغايته، ومن عسى يرتب لى دنياى كما يرتب مؤلف القصة دنيا أبطاله؟
أم أستشير صديقا مجربا؟ ولكن هذا مخجل. ثم إن العبرة بنوع استجابة الفرد لوقع الحياة فى نفسه هو. والاستجابة تختلف باختلاف الأفراد. والذى يفعله إنسان ما، فى موقف ما، ليس من المحتم - ولا من المعقول - أن يفعله كل إنسان فى الموقف عينه. فالاستشارات عبث ولا خير فيها ولا جدوى منها إلا الفضيحة. الفضيحة؟ نعم أليس فضيحة أن تفتح قلبك لمخلوق غيرك وتبيحه سرك وتكشف له عن ضعفك وتدع عينه ترى مقاتلك؟ ولكن هل معنى هذا أن الحب ضعف؟
وأسخطه هذا السؤال وقال إنه لا داعى له فما بلغ الأمر الحب.. أى حب يا هذا؟ إن المسألة كلها أنى أرى فتاة جميلة للمرة الأولى فمن الطبيعى أن أتعجب. وإذا كنت أشعر برغبة فى معرفتها فليس هذا أيضا بمستغرب.
وبدا له من الحزامة أن يصرف نفسه عن الفتاة. فأكب على عمله ساعة ثم نهض متثاقلا. وحانت منه التفاتة إلى النافذة فلم ير الفتاة، فاستغرب، ثم ضحك، وقال متهكما: «أترانى كنت أتوقع أن تظل واقفة هنا إلى الأبد، أن تقضى حياتها كلها على رأس السلم كالتمثال؟»
وعالج أن يتشاغل فى الأيام التالية ولكن الجهد الذى أحس أنه يتكلفه فى هذه السبيل أقنعه بأنه معنى بالفتاة، وإن ما يفعله ليس سوى مكابرة. وقال لنفسه إنه لا يرى بأسا من الإقرار بأنه يؤثر أن يعرف الفتاة، بل إن معرفتها تكون أجلب لراحة نفسه. وقال يوما لنفسه، وهو يناجيها على عادته: إن فى هذا الحى بضع مئات أو بضعة الاف من الناس لو رحلوا جميعا لما حزنت عليهم ولا أسيت لهم، ولا استوحشت، ولا أحسست نقصا أو خسارة، ولا أسفت على خلو الحى وخرابه، وقعودى فيه وحدى على تله. ولكنى لو علمت أن هذه الفتاة جرح أصبعها أو أصابها زكام لبت كاسف البال - لا أقول مسهد القلب ولا أظن أن الدنيا تسود فى عينى - ولكنى كنت على التحقيق أشعر بأسف وعطف. ومع ذلك لا أعرفها.. ومن يدرى؟ لعلها مزكومة.. مسكينة! وصد نفسه بجهد عن هذه السخافة، وأمر فنقل مكتبه إلى ركن آخر فى الغرفة. ولكنه لا يفتأ ينهف ويدنو من النافذة ويحاول أن يرى من غير أن يظهر، فلا يبصر شيئا. فيعود «وينحط على الكرسى، ولا يستطيع أن يعود إلى العمل إلا بمشقة. واستغرب أن شبابيكها وأبوابها لا تكاد تفتح.. أو لا تفتح أبدا فما رآها قط إلا موصدة.. أو لا تخرج هذه الفتاة للنزهة أو السينما أو لزيارة؟ أو لا يزورها أحد؟ إنها ليست من الطراز القديم، فإن بنات الطراز القديم، لا يلبسن المنامات. وأدهشه أنها خرجت إلى الحديقة أو أطلت من رأس السلم وليس على بدنها سوى هذه المنامة، فإنها ليست مما يليق أن تبرز فيه فتاة. ولكنها صغيرة ولعلها لا تجد من يرشدها أو ينبهها. وعلى ذكر ذلك قال إنه يتكلم عنها كأنما ليس فى البيت سواها وليس هذا بمقبول. وخطرت له فكرة.. لماذا لا يزور هذا الجار؟ ولكن من المحتمل أن لا يكون فى البيت رجل.. فلمن تكون الزيارة إذن؟ هل يسأل خادما؟ واستحى أن يفعل، وماذا عسى أن يقول للخادم؟ وبماذا يسوغ السؤال؟ وسيبدو عليه التكلف ولا شك حين يلقى السؤال، وهو يحاول أن يتظاهر بقلة الاكتراث. وفرك عينيه بأصبعه وهو يدير هذا كله فى نفسه، ثم أطبق جفونه وراح يحاول أن يحضر صورتها لذهنه كما بدت له على رأس السلم، فلم يجد عناء فى ذلك، فقد كانت الصورة مطبوعة على صدره. وذكر قول العقاد من قصيدة مرقصة له «ذهبى الشعر ساجى الطرف حلو اللفتات ». وقال لنفسه أما أنها ذهبية الشعر فنعم. وأما سجو الطوف فأشهد أنى ما رأيت أحلى من نظرتها ولا أسحر للب فكيف إذا ابتسمت وأشرق وجهها الواضح الصبيح؟ وأما حلاوة لفتاتها فلا شك فيها، ولكنه ينقصه أن يذوق هذه الحلاوة. وراح يقطع الغرفة الواسعة المكظوظة بالرفوف والكتب وغير ذلك. وحدثته نفسه أن يركب الحياة بما يركبها به الشاب، ثم ضحك وقال: لم يكن باقيا إلا هذا: أمسح لها شعرى بكفى، أو أعبث - على مرأى منها - بوردة أرجوانية (كتفاح خدها الأرجوانى)، أو أبعث إليها مع النسيم بقبلة؟ أو هو هو هو!
وقهقه وهو يتخيل نفسه فاعلا ما يفعل الشبان والأحداث. ثم أشعل سيجارة وارتمى على مقعد وسألى نفسه أترانى أحتقر الشبان وأسخر مما يصنعون؟ من الذى عليه أن يتصدى للآخر؟ الرجل أم المرأة؟ كلاهما يفعل ذلك. فأما المرأة فتصديها مخايلة بالجمال وألوانه وبالزينة لزيادة فتنته، وبالشفوف والأفواف والأدهان والأصباغ والشعر المصفف أو المرجل والمشية المغرية، والخطرة، وبما تعرض وما تستر إلى آخر ذلك. وأما الرجل فتصديه يكون بالإقدام لأنه هو القوى الذى عليه أن يطلب ويسعى ويخطو. فلا محل لتكلف الزراية على الشبان فإنهم يصنعون ما يصنعون بوحى الفطرة والأصل الذى فى الطباع. وهذا الاحتشام الذى اعتدته آفة - وليس نعمة - وما أراه فى قرارة نفسى - فضيلة.. لا لا، إنه ضعف ولا أعنى أن التوقح والتهجم فضيلة، أو حكمة، أو عمل مقبول. ولكنى أعنى أن المبالغة فى الاحتشام والخروج به عن حده ضعف كالحياء، لأنه ينافى الطبيعة التى ينبغى أن يصدر عنها الرجل، وهى طبيعة تفرض عليه السعى إلى المرأة، لا القعود حتى تتكلف المرأة السعى إليه.
وخرج عصر يوم مع تحية، وإنه لواقف بالباب ينتظرها وإذا بجارته نازلة على درجات السلم وكانت فى ثوب وردى اللون محبوك، مفصل على قدها تفصيلا يجلو محاسنها كلها، ويعرض مفاتنها جميعا. وكان نحرها يضىء - أى نعم يضىء - وثدياها الناهدان يبدوان من تحت الثوب بارزى الحلمتين ... ما أعظم فتنة هذا الجسم الغض الجديد الذى لم تبتذله السن ولم يرهله الزواج؟
وكان شعرها الوحف الأثيث اللامع الناعم مرخى. وكان الضوء المراق عليه يخيل للناظر إليه أن فيه نجوما زهرا أبهى وأسنى من نجوم السماء. وكان وجهها الدقيق المعارف مشرق الديباجة - «يا ويل الرجال من هذا الفم الذى لم يعرف الأصباغ، وهو مع ذلك يبدو لى كأنما غذته الورود!» - وقد لانت نظرتها ورقت. وبدا خداها كأنهما غلالتا وردة جورية. وتذكر قول الشاعر مهيار: «آه على الرقة فى خدودها لو أنها تسرى إلى فؤادها». صحيح.. وليس من يدرى كيف فؤاد هذه الفتاة الرائعة الرقيقة الخدين اللينة النظرة.. أرقيق هو يا ترى كخديها أم.. كلا.. لا يمكن أن يكون إلا رقيقا.. ولكن لماذا؟ وأى منطق هذا؟ على كل حال لا يزال أوان السؤال بعيدا.. بعيدا جدا.. وما حاجتى إلى الاطمئنان من هذه الناحية ولا صلة هناك ولا كلام ولا حتى إشارة؟ وستكون بعد ثانية على الباب وتخرج أمامى ولا تلقى إلى نظرة أو إيماءة. وأقبلت تحية فبادرها بهذا السؤال: «من تكون هذه البنت الحلوة؟» سألها عن ذلك بغير تفكير أو تحرز أو إشفاق من أن تسىء امرأته الظن! فنظرت تحية إليها ثم إليه وقالت: «ألا تعرفها؟ إنها عايدة ... تعالى يا عايدة هذا زوجى يسألنى من تكون هذه البنت الحلوة.. لن نعرفك بعد الآن إلا بهذا الوصف ... من اليوم فصاعدا سيكون اسمك على لسانى البنت الحلوة. وقد صدق».
فخجلت عايدة واتقدت وجنتاها. واندلعت النار فى وجه إبراهيم، وقال لامرأته بصوت يكاد يكون همسا: «إنك خبيثة.. ما كان ينبغى أن تفضحينى هكذا».
قالت: «لا تخف.. فإن ثناءك سرها.. ألا يسرك يا عايدة ثناؤه؟».
فغلبها الحياء والخفر. وقالت تحية: «إن زوجى ذو عين فاحصة وذوق سليم، أليس كذلك؟»
فوجد إبراهيم لسانه، وأراد أن يزيل أثر هذه الحادثة فقال: «كل ما يشهد لى بذلك أنى اخترتك».
والتفتت تحية إلى عايدة وسألتها: «إلى أين؟» قالت: «والله مترددة بين السينما وال ...».
فقالت تحية مقاطعة: «تعالى إذن معنا، لا تخجلى. فإن بعلى هذا رجل طيب، وثقى أنه أليف لا يعض».
فضحكتا وابتسم، وشكر لتحية فى قلبه حكمتها ورحابة صدرها وعقلها.
وذهبوا جميعا إلى السينما لأن عايدة ذكرتها. وشهدوا رواية فيها مهندس ناهز الأربعين يقول لفتاة صغيرة السن إن عليها أن تخشى أمثاله من الكبار المجربين فإن لهم لحيلا وخبرة باقتناص قلوب العذارى، وليس للشبان مثل خبرتهم أو قدرتهم على الاحتيال، فهم - أى الكبار المجربون - أخطر من الشبان على الفتيات الغريرات.
ومال على عايدة وقال: «هذا صحيح. لقد أخلص الرجل لها النصح».
فقالت عايدة: «ألك خبرة مثله؟» فأحرجه هذا السؤال، ولم يدر كيف يجيب. لأنه لو قال إنه لا خبرة له صار فى عينها غريرا وفقد مزية السن. وإن قال إنه ذو خبرة كان هذا اعترافا غير لائق. فاثر أن يكتفى بنظرة، فألقاها إليها كأنما يريد أن يقول: «يا خبيثة» فابتسمت وثنت رأسها ناظرة إلى حجرها. واستغرب هو جرأتها على هذا السؤال. وكبر فى وهمه أنه ممن تخلفوا عن ركب الحياة، فلعل الجيل الجديد لا يرى فى السؤال ما يعد اجتراء غير لائق.
وأبت تحية إلا أن تتعشى عايدة معهما: «لتتوثق الصلة بينك وبين زوجى» كما قالت، فرفعت هذه البساطة الكلفة. وأحس الجميع أنهم من أسرة واحدة، وأن معرفتهم ترجع إلى عهد بعيد. وعادت عايدة تسأل: «هل صحيح ما قاله هذا المهندس فى الرواية من أن الكبار أخطر على الفتيات من الشبان؟» فلم يرتح إلى هذه الكرة إلى الموضوع، وثقلت عليه. وآلى ليحرجنها كما تحرجه فقال: «قولى لنا أنت أولا ما رأيك؟» فقالت ببساطة: «أنا لا أحب الشبان»، ثم نظرت إليه وسألته: «وما رأيك أنت؟» قال: «رأيي أن الكبار يمكن أن يقال على العموم إنهم أعقل وأرشد، وأقل اندفاعا، وأأمن على الفتيات». والتفتت تحية إليه وقالت: «أليس صحيحا أن الكبار حين يعشقون يندبون ويغرقون إلى الاذان؟» فقال: «ليس هناك ضابط لهذه الأمور، ولا يمكن استخلاص قاعدة أو حكم عام. فمن الشبان المندفع، والذى يضبط نفسه ويكبحها. ومن الشيوخ أو على الأصح الكبار، الذى يفقد إرادته والذى يحتفظ بها. والدنيا تحتاج إلى كل صنوف الناس لتكون دنيا.. كلا.. ليس هناك حكم عام ولا سبيل إلى الجزم بشىء».
وخيل إليه أن هذه الفتاة أجرأ من رأى فى حياته، فقد عادت تسأله: «ومن أى الفريقين أنت؟ المندفع أم الحكيم؟»
فابتسم ابتسامة متكلفة لم تخف سخطه على السؤال والسائلة وقال: «هذا تسأل عنه تحية». فعادت تقول: «ألا تعرف نفسك؟» قال: «لو عرفت نفسى لكنت أحكم الحكماء». واغتنم الفرص فاستطرد وقال: «إن الإنسان كثيرا ما يتوهم أنه يعرف نفسه، ولكن هذا خطأ أو غرور لأنه لا يستطيع أن يعرف كيف يكون سلوكه فى المواقف التى تعرض له، وأنا لم أجرب كل حالة ممكنة، حتى أستطيع أن أعرف كيف يكون سلوكى فى كل موقف محتمل. ثم إن الإنسان يتغير، والذى يراه اليوم صوابا قد يراه فى غده خطأ. والذى كان يعده بالأمس فضيلة، قد يعده فى يوم آخر ضعفا أو قلة حيلة. وكل إنسان فى الحقيقة عبارة عن عدة أناس يجىء بعضها فى أثر بعض. رأيه يتغير، وإحساسه يختلف، كما يتغير جسمه سنة بعد سنة، ويختلف مظهره على كر الأعوام. وقد يفعل المرء الشىء اليوم فإذا كان الغد فعل غيره، لأن كل شىء تغير، هو والدنيا».
2
ورأت تحية من حال زوجها - على الرغم من تحرزه - أنه يصغو بوده إلى عايدة، فأقلقها ما يقلق المرأة، ولكن معرفتها وخبرتها به وثقتها أنه لا يندفع ولا يتورط، ويقينها أن حدة شعوره بذاته وشدة تحفظه بكرامته، تساعده على تغليب إرادته وعقله على هواه. كل هذا طمأنها وأقنعها بأن لا خوف عليه من عايدة أو سوها، وأن الحزامة أن لا تعترض سبيله، أو تحاول أن تأخذ عليه متوجهه. فقد كان فيه عناد وجموح، لا يخفيهما أنه لين سلس القياد. فما قال لها قط: «لا»، ولكنها ما استطاعت فى حياتها الطويلة معه أن تفعل شيئا على خلاف رأيه، ولا نازعتها نفسها أن تخالفه. وذكرت قوله لها مرات عديدة، بعبارات شتى، إن الناس فى ركب الحياة رفقاء إلى حين، فليس أسخف من أن يقضوا الفترة القصيرة المتاحة لهم فى خلاف ونزاع، وشجار ونقار. والمثل الحكيم يقول اختر الرفيق قبل الطريق. ولست أعلم أن للمرء اختيارا، وأنا أشك فى حريته فى ذلك. ولكن المثل مع ذلك يعجبنى. والرفيق لا يختار ويتخذ للتنغيص والتغثية. وسواء أكان أم لم يكن للمرء اختيار، فإن الحكمة تقتضى أن يحاول الرفقاء فى هذه الرحلة أن يجعلوها مرضية على قدر ما يتسنى لهم ذلك، وإلا كانوا قليلى العقل. وما خلقت الدنيا لواحد دون واحد، ولا أعطيت الحياة لمخلوق دون مخلوق، والخلق جميعا سواء فى الحقوق والواجبات. أفليس الأولى إذن أن يتحروا التعاون ويجروا على سنة التسامح؟ ولفظ التسامح هنا فى غير موضعه، وخير من ذلك أن نقول الاعتراف بحق كل امرئ فى عمل ما لا يضير غيره».
وكان منحاه الخاص فى التفكير، وما تعرفه بالتجربة من حرصه على احترام حق غيره، كاحترامه حق نفسه، واتقائه أن يسىء إلى أحد، وقدرته على وضع نفسه فى موضع سواه ليكون أشد إنصافا له. كان هذا هو الذى طمأنها، فأقدمت غير مترددة على توثيق صلته بعايدة وإن كانت أصبى منها وآنق حسنا وأنضر شبابا وأكثر رونقا. وناهيك بقلب امرأة تحتمل الإقدام على ما قد يؤدى إلى تضحية. وكان شعور خفى فى قرارة نفسها يقول لها إن زوجها سيعرف لها هذا الجميل ويحفظه، فإنها تعده شكورا غير جحود، ومنصفا لا يظلم ولا يغبن. وسرها من نفسها أنها قصت عليه من أخبار عايدة ما هو خليق أن يعطف قلبه عليها. وكانت فى هذا حكيمة وهى لا تدرى، فقد جعلت علاقته بها علاقة عطف ورحمة، وحمتها أن تكون علاقة حب وعشق، فحكت له أن أباها كان رجلا حسن الحال، ميسور الرزق، ولكنه كان متلافا. فلما قضى نحبه فجأة لم يترك شيئا. وكان من حسن الحظ أن أمها استطاعت أن تحتفظ ببضعة فدادين قليلة لا تزيد على العشرة، وبنصف بيت فى حى وطنى لا يغل أكثر من ثلاثة جنيهات، وبهذه الدار المقابلة لدارهما. ولعايدة أخت كبرى متزوجة ، مرفهة، ولكنها تحاول أن تغرى أمها أن تبيعها الأرض والعقار. وعايدة تقاوم ذلك وتجاهد أن تصرف أمها عنه، ليبقى لها شىء تعتمد عليه فى حياتها. وقد أورث عايدة هذا الأضطراب تلفا فى الأعصاب وأصيبت إحدى عينيها بما كاد يذهب ببصرها، لولا لطف الله وقد صنع لها الطبيب بعد شفائها نظارة أوصاها أن لا تنزعها، ولا تضعها عن عينها. ولكنها تخجل وتتوهم أن اتخاذ النظارة يسلكها مع العميان، فيزداد ما تتوهمه من زهد الرجال فيها، وانصرافهم عنها. وكأنما هذا لم يكن كافيا، فاعتراها وسواس يخيل إليها أنها مريضة الصدر، وأنها ستصاب لا محالة بذات الرئة. فهى لا تزال تعرض نفسها على الأطباء، ولا تنفك كل بضعة شهور تصور صدرها بالأشعة لتطمئن، فلا تطمئن، ولا تزول الهواجس. وقد قل أكلها، وطال سهدها وتعب قلبها قليلا، والأزمات العصبية تنتابها وتتركها مهدمة محطمة.
على أن تحية عنيت أيضا بأن تحيط زوجها بغير عايدة من الفتيات الحسان من معارفها، حتى لا تصبح عايدة عادة له ولتدخل السرور على نفسه، وتضىء وجوه العيش فى عينه، وتنشر البشر والبشاشة فى جو حياته. غير أنه كان يؤثر عايدة على الأخريات، ويختصها بالميل والود. فلما رأت تحية ذلك كفت عن «التوسع» وتركته معها على ما يحب من الحال. وكان هو فى أول الأمر يقنع بالحديث والنظر، وقلما كانت تقول شيئا أو تزيد على السؤال، فيروح يتدفق، ويسره منها حسن إصغائها، وإن كان يسخطه أنها شديدة الاحترام له، حتى لبلغ من ذلك أنها ما كانت تجرؤ أن تدعوه باسمه فكانت تدعوه «الأستاذ»، وتستغنى بذلك عن الأسماء والألقاب. وكان هو يكره ذلك ويشعر أنه يجعل بينهما بونا يتعاظم المجتاز، أو على الأقل يقيم بينهما حدودا من التكلف لا داعى لها، ولا خير فيها. فما كان مطلبه «الاحترام»، ولا كان ينقصه أن يعرف أن له فى النفوس مهابة، وإنما كان يريد - وهو يخاطبها - أن ينسى أن بينه وبينها مسافة من العمر تزيد على عشرين عاما.
وكان حديثهما - من ناحيتها - عبارة عن محاولة لجعله «شخصيا»، ومن ناحيته هو عبارة عن إصرار على إبقائه «نظريا» عاما لا يدور على شخص بعينه. فكانت هى تلقى عليه السؤال من شأنه أن يغريه بالتحدث عن نفسه، فيصرفه هو إلى العموم دون الخصوص، ويحيله أشبه بالدرس والمحاضرة. ويراها تتابعه فيجد لذة فى رفعها إليه، وتقريبها منه، وترحيب أفقها وتوسيع دائرة نظرها، ويشعر أن هذا خليق أن يساعدها على تخفيف ما تعانى. وكان أشد ما يبدو له أنها تعانيه الكبت الشديد، والحرمان من كل ما عسى أن يكون فيه إرضاء للأنوثة، وتلطيف من حدة ثورتها الطبيعية، وقلة الثقة بنفسها. وكان يخشى عليها عاقبة هذا، ويرد إليه كل ما يرى من يأسها من الخير فى الدنيا. وقد قالت له مرة وكان يحاول أن يغريها بالأمل: «لا فائدة فإنى واثقة أنى سأموت قبل أن تلوح أية بارقة من الأمل فيما تصفه لى، وتمنينى به»، فقال لها: «اسمعى يا عايدة، إننا أعطينا الحياة ولم نعطها بشرط. وقد أعطيناها لنحياها لا لنقطع نفوسنا حسرات على أنها لا محالة زائلة - ونسى وهو يقول لها ذلك أنه هو نفسه موسوس - ولا قيمة لطول العمر أو قصره. فإن العمر لا يقاس بعدد السنين، بل بمبلغ ما يعمره من الإحساس والفكر. ورب معمر أربت سنه على المائة وكأنه مات يوم ولد. ورب فتى فى العشرين قد حفلت حياته بما يجعلها أطول فى الحقيقة، وفى إحساسه هو نفسه، من عمر نوح الذى يقال إنه ناهز الألف. وأنت بنت مرهفة الحس والشعور قوية الإدراك، فأنت تعيشين فى كل دقيقة أطول مما يعيش غيرك فى أعوام. وأنت الان فى العشرين من عمرك الغض، ولكنك فى الحقيقة أسن من امرأة فى الأربعين. ثم لماذا تفكرين فى الموت؟» وأحس وهو يسألها كأنما الخطاب موجه إلى نفسه: «إن المرء يعيش ما يعيش - زمنا طويلا أو قصيرا - ثم يوافيه الأجل المحتوم. وما دام على ظهر الأرض فهو حى، وهذا كل ما ينبغى أن يعنيه. فإذا مات - كما لابد أن يحدث - فإنه يصبح غير دار ، فيستوى حينئذ أن يكون عاش عشرين عاما أو عمر ألفا». فقالت: «هذا صحيح، ولكن ما فائدة الحياة؟ ما هو الخير الذى نصيبه فيها؟» فقال: «آه.. هذا سؤال من العبث أن نلتمس له جوابا، فالحياة لا يسأل فيها عن الفائدة منها، وإنما علينا أن نحياها على خير وجه وأصلحه. ثم إنك أنت الملومة إذا كنت لا تصيبين منها خيرا. الدنيا كلها أمامك فماذا يمنعك أن تنشدى هذا الخير الذى تسألين عنه؟ تمسكين عن التماس الخير ونشدانه والسعى إليه، ثم تروحين تلومين الحياة وتسخطين على الدنيا؟ هل هذا عدل؟ تقعدين وفمك مفتوح منتظرة أن تحشوه لك الملائكة سكرا، ثم تشكين إذا حشته الأيام ترابا؟ لا يا سيدتى لومى نفسك».
فسألته: «ولكن ماذا تصنع فتاة مثلى؟ ما حيلتها؟»
فسألها: «ماذا تشعرين أن بك حاجة إليه وأنه ينقصك وأنك حرمته؟ لا تجيبى.. إنما أسأل لأقول إن كل شىء يجىء فى أوانه».
قالت: «أو تعرف إذن ما ينقصنى؟»
قال: «أستطيع أن أخمن فإن الطبيعة الإنسانية واحدة لا تختلف ولا تتفاوت، وحكمها معروف لا شك فيه. وفى وسع الإنسان دائما بتحويل إحساسه إلى مجار أخرى غير التى يحس أنه يتجه إليها، وفى وسعه أن يخفف من ثقل وطأته وينتفع بهذا التحويل. أنا مثلا، ولست أعنى شخصى وانما أضرب مثلا.. أحس ضغط إحساس معين، وأشعر أن إرضاءه وإراحة نفسى من ثقله عسير أو غير مرغوب فيه، فأعكف على كتاب أقرأه أو أخرج فأتمشى مدة كافية، وأحول هذا الإحساس الضاغط عرقا يتصبب فأستريح وأعود فأنام ملء جفونى». فعادت تسأله «ولكن لماذا هذا التكلف إذا كان الإحساس طبيعيا؟»
فقال: «عقلى يقول لى إنه لا داعى للتكلف. وإن إرضاء الإحساس الطبيعى أولى، ولا عيب فيه، ولا ضير منه. ولكن العقل ليس هو وحده المسيطر على حياتنا، فلا تحسبى أنك الوحيدة التى تعيش فى أسر تتمردين عليه، وتسودين عيشك بالضجر منه».
وكان أكثر ما يجتمعان فى البيت، وتحية معهما تسمع وتتركهما لحظة وتعود إليهما، وقلما تشترك فى حوارهما. وكان يحس أن هذه الفتاة محتاجة للرياضة، وأن انتقالها من بيتها إلى بيته ساعة لا يغير من حالها، ولا يجد لها شيئا، وأن كل ما يحدثها به ويشرحه لها لا جدوى منه، ولا أثر إلا زيادة الشعور بالكبت، وأن المسألة مسألة جسم، يجب الترفيه عنه، وإراحة أعصابه. فقال لتحية إنه يرى أن تخرج بها من حين إلى حين للتنزه. فقالت تحية: «يا عبيط. ليس للمرأة فى المرأة لذة. اخرج أنت معها». قال: «على شرط أن تكونى معنا» قالت: «لا تكن سخيفا.. إن وجودى يشعرها بالقيد وأنت تريد لها الانطلاق، وإنك لعلى حق». قال: «ولكن الانطلاق لا يستدعى أن لا تكونى معنا». قالت: «أنا واثقة ولست خائفة. فاذهب أنت معها». وأصرت، فحمل عايدة إلى حيث الهواء طلق، والحرية تامة فى الجرى والنط والضحك. وكان ربما حمل معه طعاما خفيفا مما أعدت تحية، فكانت عايدة تعود من هذه الرحلات متقدة الوجنتين ولكنها متعبة. وحدث مرة أن كانا يتقاذفان كرة صغيرة يرميها فتلقفها. فدنت منه والكرة فى كفها وقلبها يخفق خفقا شديدا، وعلى فمها ابتسامة، وألقت نفسها على صدره، وأراحت كفيها على كتفيه، فوقف برهة لا ينطق بكلمة، ولا يسألها شيئا، أو يحاول أن يتبين حالها. وتركها على صدره، ولم يكن يسعه إلا أن يحس بثدييها، فثنى عينه إلى شعرها الناعم المرسل، وقد رقدت خصلة على ثوبه تحت أنفه، ولكنه طرد هذه الخواطر ورفع عينيه إلى السماء. وأفاقت عايدة وصعدت عينها إليه، وهى لا تزال على صدره، وقالت له بصوت خفيض كالهمس: «بسنى يا أستاذ». فتبسم وقد دار رأسه ومال عليها فقبل جبينها فرفعت نفسها عنه وقالت: «لكأنك أبى.. لا. لست أبى.. لم أعد أطيق صبرا.. أنت حبيبى. نعم.. لا تفتح فمك هكذا كأنى رميتك بحجر. وما حيلتى؟ كن منصفا. ألقاك كل يوم وأسمع حديثك وأشعر بقربك، ولا أرى أو أسمع سواك وأحس عطفك.. بل أعلم أنك ترتاح إلى وجودى وترغب فيه، ومع ذلك أحس أنك بعيد كنجوم السماء. ألست معذورة؟ لقد علمتنى أشياء، وإنك لمسئول عنى، ولا أمل لى فى الحياة، ليس لى غيرك، أنت عزائى فيها».
فدنا منها وتناول كفها ومضى بها إلى حجر كبير، وخلع سترته وطرحها عليه لجلوسهما، وقال: «اسمعى يا عايدة. إنك عزيزة على وأثيرة عندى، ولكن الحب شىء اخر. لا ينبغى أن يكون بيننا هذا. إنه يفسد كل شىء على وعليك. أنت فتاة صغيرة غريرة ومستقبلك كله أمامك. وأنا رجل كهل قد خلفت صباى ورائى. ثم إن لى زوجة تحبك وتأتمنك على زوجها كما تأتمننى عليك. ثم ماذا يكون مصير الحب إذا قامت عليه علاقتنا؟ لا مصير إلا الاضطراب والآلام. واسمحى أن أقول إنى لا أصدق أن فتاة مثلك يمكن أن تحب رجلا مثلى. كلا. ليس هذا حبا وإنما هو فورة إحساس. إنها حركة نفس مكبوتة ليس إلا.. نشوة عارضة طارئة تحسينها وتغلطين وتتوهمينها حبا، كما يشرب الرجل كأسا من خمر فيبذل وهو البخيل، ويشعر بالقوة وهو الضعيف، ويهيج وهو الساكن الرزين، ويغضب وهو الحليم الرضى. هى نشوة لا أكثر ولا أقل. ثقى بذلك. وستفيقين منها وتعرفين حيئذ أنى على صواب وتشكرين لى أنى حميتك من نفسك».
فضحكت ضحكة مرة وقالت: «ولكن لماذا تريد أن تحمينى من نفسى وأنا لا أريد هذه الحماية؟ أليس لى حق فى نعيم الحياة؟ ألست مخلوقة كغيرى؟ أليس لى قلب وشعور؟ لماذا يجب أن أعيش محرومة مذادة عن نعم العيش ومتع الحياة..».
قال: «لست محرومة فإن هذا من الوهم.. أنت تنعمين بالكثير الذى لا تحفلين به ولا تجعلين بالك إليه. والذى ترين نفسك قد حرمته سيجئ أوانه كما قلت لك من قبل.. كل مخلوق يطول به انتظار ما ينشد».
قالت: «ما أملى؟ الزواج على ما أظن؟ ومن يتزوجنى؟ ولماذا يتزوجنى أحد؟ جمالى؟ مالى؟ مقامى؟ أسرتى العظيمة؟ لا يا سيدى إنى أعرف أنى قصيرة العمر. وقد فتحت لى عينى فأشكرك، ولكنك مطالب الان بأن تغمض لى عينى كما كانت، أو تسمح لى بأن أحبك».
فلاطفها ولاينها وسايرها قليلا ليعدل بها إلى الطريق الأقوم فما ازدادت على ذلك إلا صلابة وعنادا. وأنذرته أنها جنت وأنها إذا ظل على تمنعه ستلقى بنفسها على أول رجل تصادفه، ففزع، فقد رأى من لهجتها الجادة ما أخافه وأقنعه أنها لا تمزح. وأيقن أن هذا الجنون ثمرة الكبت الطويل. وحار ماذا يصنع، واستمهلها دقائق ليفكر. فضحكت وتهكمت وقالت: «لابد أن يكون كل شىء بالمنطق.. كل شىء لابد أن يوزن ويقاس..». ثم قالت جادة: «الآن اقتنعت أنك لا تستطيع أن تحب امرأة. إنك آلة مفكرة لا إنسان من دم ولحم». وثارت حتى لأشفق عليها وعالجها، حتى فاءت إلى السكينة.
وخطر له أنه ليس من المروءة - ولا من العدل - أن يمضى فى المقاومة فإنها تكون صدمة مخوفة العاقبة. وبدا له أن من الحكمة أن يأخذها باللين ولا بأس من قبلة أو قبلات. وفى وسعه أن يسعدها بالقليل الذى لا ضير منه وفيه راحتها وسكونها. وحدث نفسه أن من حق هذه الفتاة أن تسعد قليلا، وغالط نفسه فقال إن جهده معها سيكون جهد الطبيب المعالج. ولكن ماذا يقول لتحية؟ يكتم؟ فبأى وجه يلقاها وهو يطوى عنها هذا السر؟ يكذب؟ إن الكذب نقص فى الرجولة وغض من المروءة.. يصارحها؟ ولكن كيف يصارحها؟ وكيف يرجو أن تطيق هذا وتصبر عليه؟ إنها واسعة الصدر كريم النفس ولكن هذا ما توصد دونه أبواب الغفران. وبأى شىء يعتذر لها؟ يلقى التبعة على عايدة ويزعم أنها هى التى أغرته وأبت إلا هذا وأنها مريضة ولابد من مسايرتها؟ ما شاء الله! ما أكبر هذه الرجولة!. ثم إن هذا ليس بصحيح. نعم إنها فاجأته بهذا، ولكن أصح من ذلك أنه هو الذى رغب فى صحبتها وهو الذى جرها إلى هذا الموقف، وكانت قبل ذلك بعيدة غير معنية به فلم يزل بها حتى صار (عادة) لها. وشعر فى قرارة نفسه أن حب هذه الفتاة يسره ويغره، ومن هذا الذى لا يسره أن تحبه فتاة جميلة كهذه؟ ولكن هل هى تحبه؟ أليست لعلها مخدوعة؟ ألا يمكن أن يكون الأمر كما وصفه لها نشوة طارئة ليس إلا؟ ولكنه هو على كل حال مصدر النشوة وباعثها.. أتراها لو كانت تعرف غيره من الرجال أكانت تخصه بهذا الحب كائنة ما كانت حقيقته؟ وتحية؟ أليست قد شجعته ويسرت له الاتصال بعايدة؟ وما معنى هذا؟ هل أريد أن أحملها التبعة؟ هل أعد حرصها على سرورى ذنبا لها، وثقتها بى واطمئنانها إلى عقلى خطأ منها؟
كان هذا كله وما يشبهه يدور بنفسه وهو يحنو على عايدة، ويلثم فمها وهى متعلقة برقبته كأنما تريد أن تخلعها، أو تخاف أن يطير من يديها. وأحس بحرارة الصبى فى شفتيها. وحدث نفسه أن هذه الحرارة العجيبة لا يجدها - الآن - من شفتى تحية. واستهجن هذه المقارنة، وأنف أن يجعل تحية موضعا لها ثم عاد عقله يقول له ولم لا؟ أين الزراية بتحية فى هذه المقارنة؟ ولماذا هذا الغض من عايدة؟ إنها ليست سوقية، ولقد قبلت تحية قبلة الحب وقبلتنى مثلها قبل زواجنا، فما الفرق؟ ولكنى تزوجت تحية ولست أنوى - ولا عايدة تنتظر - أن أتزوجها. هذا هو الفرق.
3
وكان يتعجب لعايدة وزهدها فى الزواج، ويتساءل: «أتراها خاب لها أمل؟». وقد عرف من تحية أن هذه الفتاة شقية بأختها. وأدرك أن أمها ضعيفة، وأن قيادها سلس فى يد بنتها الكبرى، وأنها لعلها تحب عايدة كحبها لتلك، ولكن تلك لها عليها سلطان ليس لعايدة. غير أن هذا ليس حقيقا أن ينفر عايدة من الزواج، وإن إحساسها الجنسى لقوى، وإنه ليبدو أقوى فيها منه فى الفتيات الأخريات المطمئنات.
وخطر له أن لعل قلة اطمئنانها وكثرة قلقها واضطرابها يثيران إحساسها الجنسى، أو يخيلان إليها أن إرضاءه - على نحو ما - هو علاجها مما تكابد، ولكن ماذا تكابد غير ذلك؟
وذكرت مرة ابن عم لها بلهجة واشية بالمرارة، فسألها: «لم أكن أعلم أن لك ابن عم؟ فأين هو؟»
قالت: «انقطعت الصلة مذ تزوج».
فسألها: «لماذا يقطعها أنه تزوج؟»
فامتقع لونها، وحاولت أن تهرب من الجواب، غير أنه ألح عليها، فعرف أنه كان يمنيها الزواج، ويتودد إليها، ويظهر لها الحب.
واستخلص من زلات لسانها أنها كانت فرحة بهذا الحب، وكانت ترجو أن يخرج بها من جو القلق الذى أحاطتها به أختها، إلى الاطمئنان. وكانت لهذا حريصة على رضاه. وإذا به يتخلى عنها فجأة ويتزوج غيرها، فوقعت النبوة، وحلت الجفوة، وكانت هذه القطيعة.
وسألها إبراهيم: «اصدقينى يا عايدة.. هل قبلك؟»
قالت: «وأى بأس فى هذا؟ إنه ابن عمى».
قال: «نعم، ولكن بالى ليس إلى البأس أو سواه. إنما أسأل عن الواقع، وسأشرح لك باعثى على السؤال بعد أن أسمع جوابك».
قالت: «نعم».
قال: «بس؟»
فأطرقت شيئا ثم رفعت رأسها وقالت: «إنك تعرف كيف تكون الفتاة حين تنضج وتستيقظ أنوثتها. ثم إنى كنت حريصة على رضاه، لأنى كنت أحب أن أسعده فى حياتى، وكان ينوى أن يتزوجنى، فسايرته إلى حد».
قال: «إلى أى حد؟»
قالت: «لم يسرف فى الطلب».
قال: «ولو كان أسرف؟»
قالت بغير تردد: «ما أظننى كنت أضن عليه بما يريد إذا كان فى ذلك سعادته».
وكانا يتمشيان فى الجزيرة. فاقترح أن يركبا زورقا فى النيل. وكان الوقت عصرا، فقضيا ساعة أو بعض ساعة يسبح بهما الزورق على الماء فى رفق. لا يتكلمان ولا يسمعان إلا وقع المجدافين إذ يخبط الملاح بهما الماء. وكان إبراهيم ثابت الحملاق ينظر إلى حيث تلتقى الأرض والماء بالسماء عند الأفق. وعايدة تتلفت منه إلى حيث ينظر، وتجيل عينها فى هذا الشاطئ وذاك، ولا تنبس بحرف. وكأنما عجزت عن احتمال هذا الصمت الطويل الثقيل فصاحت فجأة؟ «أى نزهة هذه؟»
فرد إبراهيم عينه إليها، وتبسم بجهد وقال: «معذرة. لقد كنت أفكر فيك. والآن يحسن أن نرجع فإن عندى كلاما طويلا أريد أن أحدثك به».
ولم يتركا الزورق لما عادا إلى البر. ورجا إبراهيم من الملاح أن يقعد بحيث يراهما ولا يسمعهما. فلما فعل قال إبراهيم: الآن سأقص عليك قصة:
حكى أن فتاة مات أبوها وهى تلميذة فى السنة الأولى من مدرسة ثانوية. وكان متلافا فلم يخلف لها مالا. ولولا بعض مال لأمها لافتقرت بعد غنى. ولكن مال أمها لم يمنع أن تعانى الفتاة الضيق بعد السعة. وكانت تنظر إلى مستقبلها مشفقة واجفة القلب. فقد كانت ترجو فى حياة أبيها أن تستوفى حظها كاملا من التعليم. فالآن لا أمل فى أكثر من التعليم الثانوى، وقد تعجز عن إتمامه. وكانت ترجو أن تجد زوجا صالحا، فأما وقد مات أبوها فمن ذا عسى أن يرغب فيها؟ إن شبان هذا الزمان يسألون عن مال الفتاة وجاه أسرتها قبل أن يسألوا عن الفتاة وأدبها وخلقها وجمالها. وزاد الطين بلة أن أختها الكبرى المتزوجة الحسنة الحال طمعت فى مال أمها وسعت للاستئثار به دون هذه الفتاة. وأبى سوء الحظ لفتاتنا إلا أن تصاب إحدى عينيها بما كاد يذهب ببصرها، واحتاجت بعد علاج طويل، وشفاء كان ميئوسا منه، أن تضع على عينها نظارة كانت تأنف وتستحى أن تضعها، فتخالف وصية الطبيب، نفورا من تشويه النظارة لحسن الوجه، ولأنها قد توهم من يبصرها أنها عمياء. وهكذا كبر فى وهمها أنها ليست ممن يرغب الشبان فيهن، فلا هى غنية، ولا أسرتها - بعد وفاة أبيها - ذات جاه، ولا هى جميلة. وفوق هذا كله يأمرها الطبيب أن تشوه وجهها بنظارة! فملأ قلبها الخوف، وخلا من الثقة بالنفس. الخوف من مستقبل يسوده طمع الأخت، وضعف الأم، وقلة الثقة المتولدة من اجتماع كل ما ذكرت. فماذا بقى لها؟ لم يبق إلا أنها أنثى. أنثى قد تشتهى لأنوثتها وصباها وغضاضة بدنها، وجدة بشرتها التى لم تبتذل، ولكنها لا تحب لذاتها، ولا تطلب لمزية أخرى فيها.
واضطرت، كما توقعت، أن تنقطع عن المدرسة، لأن مواصلة الإكباب على الدرس كانت خليقة أن تؤذى عينها التى شفيت ولما تكد. فزاد هذا فى خوفها الباطن وقلة الثقة التى استحوذت على نفسها.
وفى هذا الوقت جاء ابن عم كان خليقا بها - لولا ما صارت إليه من سوء الحالة النفسية - أن تفطن إلى أنه أولى بنفورها منه بإقبالها. ولكنها كانت ظمأى إلى الحب والعطف، متلهفة على الاستقرار والاطمئنان. وكانت تتوهم أن الوسيلة إلى ذلك - إلى الأمن والرى والراحة - هى المطاوعة وإسلاس العنان. كانت تطيع أمها وتتوخى مرضاتها لتمنع أن تخطف الأخت حقها. وكانت تتزلف إلى أختها لتعطف عليها، فتكف عما تسعى له من هذا الخطف. والآن وقد جاء ابن العم يظهر الحب، ويلوح بالزواج والأمن والراحة من هذه المزعجات، فما عليها إلا أن تجيبه إلى ما يهيب بها إليه لتستبقى رغبته فيها. ولما كانت قد وقع فى روعها أنها ليست إلا أنثى تشتهى لأنوثتها، ولا تحب لذاتها، فسبيلها إلى ما تنشد هى أن تجعل أنوثتها متاعا له مخافة أن تفقد حبه. ولو أسرف فى الطلب، وأغرق فى طلب المتعة، لما أحجمت عن التلبية. وكانت تتوهم أنها بهذا تسعده، وأن سعادته هى كل مبتغاها، وأنها مستعدة للتضحية فى سبيل ذلك. وكانت تحدث نفسها أن أنوثتها استيقظت، فهى تجاوبه لهذا، وتجد من قبلاته وضماته وقربه مثل ما يجد. ولكن الأمر لم يكن كذلك، وإنما كانت خائفة قليلة الثقة بنفسها، وكان هذا هو الذى يغريها بالمسايرة والمطاوعة، بل بلغ من خوفها وضعفها أنها صارت لا تقتصر على المسايرة، بل تتجاوزها إلى المجاوبة. وكانت تجهل أن الزواج الصالح إنما يكون بين كفوءين لا بين سيد وجارية، وإنها لم تكن تحبه، ولكنها تخشى فقده، وأن الحب الذى يكون كله تضحية من جانب واحد، ليس حبا، بل عبودية لا خير فيها للجنس الإنسانى، وليس الحب أن تهب ولا توهب، بل أن تعطى وتأخذ.
وجفاها ابن عمها وملها، ونباها وتخلى عنها، وبنى بغيرها، أو لعله أساء الظن بها، ولم يحمد سيرتها معه، وأغلب الظن أنه كان نذلا. فلما اعتاض منها سواها، صارت أقل ثقة بنفسها، وأضعف، وأعظم خوفا من المستقبل.
ولقيت كهلا ذا زوجة، وآنست منه ودا، فقالت أمنحه من نفسى ما يحب، لأنها لا تزال تعتقد أنها أنثى تشتهى، ولا تحب لذاتها أو لمزية لها. ولو عرفت نفسها معرفتها لأدركت أنها لا تحتاج إلى البذل، وإنما تحتاج إلى الثقة بالنفس، وتفتقر إلى اطمئنان القلب وانتفاء الخوف، ولعرفت أن حدة الإحساس الجنسى هى الزى الذى اتخذه الضعف والخوف. وفى الوسع تلطيف هذه الحدة، وكبح هذا الجماح، فإن الإحساس الجنسى ليس مستعصيا على الضبط. ولو راضت فتاتنا نفسها على السكون إلى الصداقة والعطف والقناعة بالمودة التى تكون بين الرجلين، ولا يندر أن تكون بين رجل وامرأة، ووثقت بنفسها، ونفت عنها هذه المخاوف التى تتلف أعصابها، وتدفع إحساسها فى مجرى غير صالح ولا مأمون، لو فعلت ذلك لاستراحت، ونعمت. والآن ما رأيك فى هذه القصة؟
فلم تجب. وكانت قد أصغت، ولم تحاول أن تقاطع.
فقال: «يحسن أن تفكرى فيها، فإنها قصة حقيقية، ولا عمل فيها للخيال».
وعاد إلى بيته فى تلك الليلة وهو مطرق، ولكنه غير ساهم، فقالت له تحية: «مالك؟»
قال: «اه لو كنت درست الطب، كما كنت أبغى».
قالت: «ما هى الحكاية؟»
قال: «أظننى أصلح أن أكون طبيبا نفسيا ... هل تظنين أنى كنت أرزق التوفيق؟»
قالت: «لا أزال أنتظر جواب سؤالى».
فلما قص عليها القصة قالت: «لعل وعسى». ولم تزد.
وخطر له وهو يأوى إلى فراشه أنه ليس خيرا من عايدة حالا، وأنه لعله هو أولى بما قال لها.
4
ولكن عايدة لم تقتنع. ولم يشفها العلاج النفسانى الذى رجا إبراهيم وتحية أن يشفيها مما بها، فتعقدت الأمور فى حياته، وصار يحس أن المتع اليسيرة لا تنال إلا بأضعاف أضعافها من الالام ومما يحاذر.. فهو يحب زوجته حبا هادئا، ويكبرها، ويطيب بها نفسا، ولا يطيق أن يتصور أنه قد يفقد - فى يوم ما - حبها واحترامها، وإن كانت وطأة الفتور الذى عراه معها قد ثقلت على كاهل صبره. وقد وجد فى عايدة الصبا والجدة. ولكن عايدة فتاة غريرة مكبوته ضعيفة البنية، وهنانتها، وخائفة وجلة، ولا يتزعزع يقينها بأن عمرها عمر الورود. فما كادت تلتقى به حتى انطلقت تريد أن تعدو بغير عنان وتحاول وتطلب أن تعتصر وتختزل فى القليل الباقى لها من العمر، فيما تعتقد، كل ما يخطر على بالها أن تستفيده من متع الحياة ولذات العيش. وهو يجاهد أن يكبح هذا الجماح، ويردها إلى القصد والاعتدال، ولا يسلس فى يده قيادها إلا بعناء شديد ومشقة عظيمة. وكان يقول لها فيما يقول إن من الجهل أن تسرفى فى إنفاق حياتك على هذا النحو، فتقول إنها لا تنفق وإنما تستفيد وتكسب، فيقول لها: «كلا. وإنك لكالرجل الذى يريد أن يذوق الخمر ويجرب الخفيف من نشوتها فيروح يعب فيها حتى تطير فى رأسه، ويدار به، ويفتر ويسترخى، ويفقد الإحساس بما هو فيه، فلا يخرج بغير هذا الأذى. وكان خيرا له لو قنع بالدبيب الهين والتمشى اللين، فيبقى له وعيه ويظل مدركا لما أفاد من سرور، شاعرا بما أكسبته من انتعاش. ثم إنك تزعمين أنه لا أمل لك فى طول العمر. أفلا ترين إذن أنك تنفقين من رأس مالك بلا حساب؟ ولو حرصت عليه لطال استمتاعك به.. ثم إنك جاهلة جهلا آخر، ذلك أن أمتع ما يستفاد من نعيم الحياة هو ذكراه. نعم الذكرى أمتع من النعيم نفسه ساعة الفوز به ومواقعته. فإن المرء يكون مستغرقا فيه فلا يستطيع أن يحيط بصوره ومعانيه ومختلف ما ظفر به من وجوهه ومتعدد ما شاع فى نفسه منه. وإنما يتيسر ذلك بعد انقضائه وعند إدراكه فى هدوء. مثال ذلك أنك تظمئين فتشربين. ولا شك أنك تجدين لذة وأنت ترشفين الماء على ظمأ، ولكن ألذ من ذلك أن تتذكرى ما كان من ظمئك، وما كان من حلاوة الماء فى لسانك وحلقك، وطيب انحداره باردا إلى جوفك الحار، وحسن ما شعرت به من الارتواء بعد الحر والأوام، وكيف كنت قبل ذلك تجمعين ريقك تحت لسانك، لتبلى به لثاتك، وكيف كان الكوب الذى رفعته بالماء إلى شفتيك الجافتين، إلى آخر ذلك. ولا سبيل إلى إدراك هذا كله وجمع صوره، وإحضارها إلى الذهن، وتمثلها، إلا بعد حصول الشرب والارتواء، حين يجد العقل فسحة فيكر راجعا إلى ما كان مما عانى وما أفاد. أما قبل ذلك وعند الشرب فهو مشغول بحر العطش، والحاجة إلى إطفائه، وبتناول الماء لإطفاء الحرقة الأليمة. وهكذا فى كل أمر آخر، فإن متعة تفوزين بها فى خمس دقائق قصيرات لا تشعرين فى أثنائها بكل ما تشعرين به فيما بعد خين تذكرين ما كنت فيه. والذكرى هى التى تغريك بالمعاودة. فإذا أنت رحت تنهبين اللذات نهبا بكلتا يديك كما تريدين أن تفعلى، كنت كذلك السكران الذى ضربت لك مثله، والذى لم يورثه فرط عبه فى الخمر إلا أذاها».
وكان مخلصا فى إشفاقه عليها من هذا الجموح. وكان يدرك عذرها ويمهده لها من شبابها وغرارتها وطول كبتها وسوء أحوالها، وهذا الاعتقاد الثقيل الذى لا يزايلها بأنها قصيرة العمر. ولكنه كان مقتنعا بأن شططها خليق أن يزيد عمرها قصرا. وكان يرى أن ليس من حقه أن يسايرها، وأن الأولى والأرشد أن يقاومها ويضع لها اللجم ويروضها فتكسب ولا تخسر، وتعتاد ذلك على الأيام. ولكنه كان يراها فى أيام كثيرة ذابلة ثقيلة الجفون مسترخية الهدب متغيرة اللون، فخطر له أن لعلها فتحت لنفسها بابا نفذت منه إلى ما صدها عنه؟ وأنها لم تقتنع بما أبدأ وأعاد فيه من النصح. وإنما أظهرت الإذعان لما رأت من إصراره على خطته وإبائه أن يجاوز معها حد القصد، وأضمرت التمرد وآثرت اللجاجة فيما بينها وبين نفسها، ولا حيلة له فى هذا ولاسبيل إلى شىء يصنعه.
وكانت تحية لا تبدى خلاف ما ألف منها وعهد. ولم يكن هذا المظهر يخدعه. وكان يشق عليه أن يجمح بها الخيال فتتوهم الأمر أكبر مما هو فى الواقع والحقيقة. فما كان به حب عايدة، ولعله عاجز عن هذا الحب المستغرق الاخذ بالكليتين، انما كان ما ينطوى عليه لعايدة مزيجا من العطف والمودة والفرح بصباها وأثر الشباب فى نفسه. على أن الحقيقة - وإن كانت يسيرة هينة وليس فيها ما يغير من حاله مع زوجته - لم تكن هذه الحقيقة مع ذلك مما يمكن أن يكون موضع بحث وجدل بينهما. فكان مضطرا أن يصبر على تركها تكبر فى وهمها الحبة حتى تصبح عندها قبة. وكان هذا يشق عليه، ولكنه لم تكن له فيه أيضا حيلة. وقد همت تحية مرات بأن تفتح الموضوع ثم أحجمت، وآثرت أن تستعيد ما توهمت أنها فقدته من حب زوجها بالصبر والحكمة والإيثار. وهمت مرات أخرى أن تستأذنه فى قضاء وقت مع أبيها فى البلدة، ولكنها ردت نفسها عن ذلك لأنه أشبه بأن يكون خطوة لا تخلو من صفة الحسم، ثم لأنها بذلك تترك الميدان لمن تزاحمها عليه فى ظنها، فتكون هذه بداية الهزيمة المخوفة. وكانت إلى هذا مترددة فى الجزم، ولو استطاعت أن تجزم لاستراحت، فما زال صحيحا أن اليأس إحدى الراحتين. فقد كانت ترى حال عايدة فلا يخامرها شك فى أن الأمر بلغ مداه، ثم تراها مضعضعة وكأنها مشفية على التلف، فيعصر قلبها العطف والمرثية. فقد كانت تعرف أن قلبها ليس بالقوى، وأن همومها غير هينة وأن أختها علة بلائها، وكانت تنظر إلى إبراهيم فترى المعهود من ضبطه لنفسه، ولا يبدو لها من نظرته إلى عايدة حين تراهما معا ما يريب أو يثير القلق. وكل ما كانت تلاحظه أنه بادى الأنس بها، وليس الأنس ما تكره له وتأبى عليه. ولقد حاولت هى أن توفر له أسبابه. وكانت هذه المظاهر المتناقضة المتعارضة لا تسمح لها بالاستقرار على رأى والانتهاء إلى حكم، وكان هذا عذابا لها، ولكنها كانت تحمد الله عليه أحيانا وتحدث نفسها أن اليقين خليق أن يذهب بلبها.
وظل هذا الحال عاما وبعض عام. وكانت عايدة تزداد نحافة وهزالا وذبولا، وصارت عيناها أوسع، وقل لحم خديها ونتأت عظام وجنتيها. وذهب شيئا فشيئا ذلك البهاء والحسن المالئ للعين، ورونق الورد الريان على ديباجة محياها المشرق الوضاء. وأصيبت بالدوسنتاريا وتحاملت على نفسها وأهملت، فكادت تيبس من الهزال، وذبلت الشفتان الرقيقتان واتخذت الأحمر لهما وللخدين لتستر ما عراهما من إدبار النضرة. وصار إبراهيم معها كالممرضة. ورق لها قلب تحية فأرخت الحبل لبعلها وألقته له وقد وسعها أن تكون كريمة. فكان إبراهيم يحملها فى مركبة أو سيارة - فما عادت تقوى على المشى الطويل المجهد - ويحاول أن يرفه عنها ويعيد إليها البشر والنعمة والرى بالهواء النقى والطعام المنتقى يحمله معه لها ، ويشاركها فيه ليشجعها وهى لا تتناول إلا بقدر. وكان يرى زهدها هذا فى الطعام فيخشى عليها فقر الدم مع ضعفها البادى. وكان هذا رأى الأطباء أيضا. ولكنها هى لم تكن تحفل هذا أو تباليه، وكانت تقول له كلما ألح عليها أن تعنى بنفسها، وراح يبين لها أن العناية سهلة وأسبابها قريبة وغناءها مكفول: «ما الفائدة؟ ثم إنى لست آسفة.. والفضل لك. ألم أقل لك إنى قصيرة العمر؟ فأنت ترى أنى كنت صادقة، وإنى لأحس من نفسى وأعرف ما لا يحس سواى أو يعرف - لا الطبيب ولا أنت - ولولاك لمت وما كنت قد حييت، ولكنك أحسنت إلى، وجدت على بالحياة قبل أن يوافى الأجل».
فلم يكن يجد ما يجيب به، وإن كان لايقصر فيما يعتقد أنه خليق أن يبعث فى نفسها الأمل، ويقوى الرغبة فى الحياة، ويوقظ إرادتها عبثا، فما كان يبدو منها ما يدل على أنها تريد البقاء.
واتفق بعد ذلك أن انقلب ماعون فيه ماء مغلى على رجل أمها، فقامت عايدة على خدمتها، وانقطعت لها وكفت عن الخروج للقاء إبراهيم، وأبت عليه زيارتها كما أبتها على تحية. وقيل برئت، ولكنه كان برءا على بغى، فقد بقى فى الأصبع شىء من النغل، فاحتيج إلى الجراح لبتره. ثم صحت ورجعت إليها القوة. ولكن عايدة انهارت، فقد أبت أن يشاركها فى السهر على أمها أحد - ولا أختها - وانفردت بذلك ليلا ونهارا. وكانت نفقة العلاج باهظة والمورد شحيح فقترت على نفسها. وكانت لا تتخذ طاهيا أو طاهية، وشغلت بأمها عن الطبخ فكانت تكتفى بالكسرة من الخبز وبجبن أو زيتون أو نحو ذلك. ولا تتكلف الطهو إلا لأمها فهد ذلك كيانها. ولم تكد أمها تشفى وتنهض حتى خرج بها التعب وسوء التغذية عن كل حد للصحة، فدنفت وبراها المرض، ثم ثقلت وأثبتت فصارت لا تبرح الفراش. وكانت تبعث إليه كل يوم بكتاب، قصاصة من كراسة تقطعها وتخط عليها كلمات الشوق، وتتقى أن تقول فيها ما عسى أن يسوء وقعه فى نفس تحية إذا وقعت فى يدها أو فتحتها. وكانت لا تزال تأبى الزيارة، فكان لا يعلم شيئا عن حقيقة حالها. أما تحية فكانت تزور أمها وتعرف منها ما صار إليه هذا الحال، غير أنها كتمته عن زوجها. وفى ضحى يوم من الأيام بعثت عايدة إليه برسالة شفوية مع خادمة صغيرة فحواها أنها تطلب منه أن يشترى لها تفاحا ولوزا محمصا، فاستغرب الطلب. وحدث به تحية، فلم تكن أحسن فهما له أو أقدر على تأويله. ولكنه قضى لها حاجتها ووجهها إليها مع الخادم. وكانت تحية تريد أن تحملها إليها لعلها تستطيع أن تقف على سر هذا الطلب، ولكن إبراهيم أبى ذلك. وعاد الخادم يقول أن الست الكبيرة - الأم - أخذت منه التفاح واللوز وقالت وعلى خديها عبراتها: «لوز إيه وتفاح إيه يا بنى ... ده حالها حال.. الأمر لله». ولم يكد يتلقى هذه الرواية حتى أقبلت الخادمة الصغيرة تقول أن ستها الصغيرة تطلب إبراهيم. فنظر إلى امرأته، فأومأت إليه برأسها أن اذهب بسرعة.
ودخل على عايدة فى غرفة نومها. وكانت راقدة فى سريرها على ظهرها والملاءة البيضاء عليها، فخيل إليه أنه ينظر إلى جثة، فقد كان وجهها أصفر وعيناها مغمضتين ويداها ممدودتين إلى جانبيها، وكانت أنفاسها مضطربة، وكانت شفتاها تتحركان بتمتمة خفيفة، لا تبلغ أن تكون صوتا مسموعا. فقعد على كرسى وقد كبر فى ظنه أنه ما بقى منها إلا شفا. ودار رأسه وهو ينظر إليها، ويتعجب لهذا الوجه الذى كان ينضح بالدم الحار، ويرف على صفحتيه ماء الحياة، وتونق فيه نضرة الصبا، كيف ذبل ويبس وأربد، وحلت به الكمدة فى عامين اثنين ليس إلا؟ وهاجت حرقاته، واضطرم سخطه على الدنيا وقسمة الحظوظ فيها. وكاد غيظه، قبل حزنه، يبكيه، لولا أنه جامد العين بعيد العبرة جافها، يحس بها تتردد فى صدره وحلقه، ولا تترقرق أو تنحدر من جفنه. ولبث عشر دقائق ناظرا إليها لا هو يقول شيئا، ولا هى تفيق، ثم نهض وقد أحس بالعجز عن احتمال ذلك. وتعجب وهو خارج، للمرأة وقدرتها على الصبر على ما لا صبر للرجل عليه.. أهى بلادة فيها ونقص فى الإحساس أو الإدراك أو الخيال؟ أم هى غريزة الأمومة تجعل المرأة تفيض حنانا، ويستغرقها حنانها فيطغى على كل إحساس اخر؟ من يدرى؟
وقال لتحية: «لست فاهما شيئا.. كيف أمكن أن يحدث هذا»؟ قالت: «لكأنى بك لا يعنيك إلا أن تفهم كيف ولماذا؟ مسكينة». قال: «لا تظنى أن قلبى غير موجع، فإنه موجع. ولكنى أريد أن أفهم ... هذه فتاة لم أر أول ما رأيتها شبابا اكثر من شبابها ريا ونعيما ونضرة. لم يكن يبدو عليها أن بها مرضا دفينا. كلا. كانت مظاهر الصحة مجتمعة. ولست أعلم أنها رقيقة الحال، فإن عند أمها فوق الكفاية لاثنين. وقد كانت دائما حسنة الثياب. وكنت أرى معها أكثر مما تحتاج إليه لنفقتها. وليس بأمها بخل. فكيف أصابها هذا الذوى السريع؟ وما علته؟ نعم كانت مكبوتة ولكن الكبت قد يتلف الأعصاب، أو يورث مرضا غير مستعص، أو حتى يجن. ولكن هل يمكن أن يقتل على هذا النحو وبهذه السرعة إذا كان يقتل؟ وأعرف أنها كانت شقية بأختها.. فقد حدثتنى أنت بذلك. ولكن أين الإنسان الذى تصفو حياته ولا تعكرها الهموم أو تخلو من المنغصات؟ وشقاؤها بأختها كانت علته أنها منهومة لا تشبع، وأنها تطمع فى مال أمها ولا تبالى حرمان أختها. ولكن الأم لم تستجب للبنت الطامعة، ولم تطاوعها ولم تضيع على بنتها الأخرى شيئا. فشقاؤها بأختها كان يلطفه ويخففه الواقع، وهو أنه لم يحدث ما تخاف. ثم إنى لا أرانى قادرا على التوفيق بين هذه المتناقضات. كانت عايدة تعتقد أنها قصيرة العمر وأن أجلها لن يطول حتى تنعم بالزواج. ومع ذلك كانت شقية، لأن أختها تطمع فى مال أمها وتحاول أن تغتصبه، وتحرم عايدة منه، فعايدة قلقة على مستقبلها. ثم لماذا كانت لا تأكل؟ لماذا أهملت نفسها إلى هذا الحد الوبيل؟ إنه أشبه بالانتحار فيما يبدو لى، لم تكن غبية أو ضعيفة الفهم أو جاهلة أو عاجزة عن تبين ما لا بد أن يورثها هذا الإهمال . أم كانت تهمل أن تأكل لأنها لا تشتهى الطعام؟ لماذا؟ إن هذه الأمور تحيرنى».
فلم تقل تحية شيئا لأنها كانت تعرف أن زوجها يحس «بعقله»، أى يحول كل إحساس إلى فكرة، ويروح يعرضها على عينيه ويتأمل وجوهها. وخواطره هى الصور التى تتخذها إحساساته. وكثيرا ما تتحول الفكرة عنده إلى إحساس. فهذا يتسرب فى ذلك، وذاك يعود فيتسرب فى هذا، ولا نهاية لهذا التحول عنده.
وقضت عايدة نحبها دون أن تفيق. أو لعلها أفاقت وما درى بها أحد.. ومن يدرى.
ووجم إبراهيم لما جاءه نعيها، فقالت له تحية وهى تربت له على كتفه: «اسمع. إنى لم أكلمك فى هذا قط، ولكنى أقول لك الان إنى آسفة.. اسفة من أجلها. والموت حسم، فاطو أنت أيضا الصفحة».
قال: «ولكنها لم تكن صفحة.. لا ليست صفحة فى حياتى ... هنا خطؤك. إنها كانت كتابا كاملا. ولكنه خطف من يدى، وأنا مازلت أجيل عينى فى صفحاته الأولى.. أوه أظن أنى أقول كلاما سخيفا.. لم يعد فى رأسى عقل. كل ما أشعر به أو أدريه أنه لم يكن ثم من بأس لو بقيت هذه المسكينه.. هل عندنا شىء من الشراب؟ هذا الموت ثقيل.. أكاد أرتاب فى حكمة الحياة والموت.. فى كل شىء.. لا ينبغى أن أكف عن التفكير فى أى شىء فى هذا اليوم».
ففهمت تحية وعذرت. وكانت تعرف تلف أعصابه وما عانى فى سنوات طويلات من عذاب النوراستينيا.
وما أكثر ما تفهم وتعذر المرأة الطيبة المخلصة الرحيمة.. ولعلها أجمل وأروع ما فى الدنيا.
5
أحس إبراهيم فى الشهور القليلة الأولى التى تلت وفاة عايدة أنه تغير، وأن حياته خلت من بعض ما كانت تجمل به وتطيب، وإن كانت هذه الفتاة المسكينة لم تستطع أن تملأ حياته. وكان هو ربما أحس أنه لم يعرفها معرفتها، وأنها مرت به تخطف ولا تتلبث.
وصار يلزم بيته ويعتكف فيه، معظم الوقت، ولا يخرج إلا لحاجة ملحة. وكانت تحية تدعه لخواطره ولا تتطفل عليه إلا أن يدعوها أو ينشد مجلسها فتكون معه ساكنة وادعة، متكلفة متجملة. وكان يمهد لها العذر ولا يلوم. فما احتملت امرأة مثل ما احتملت تحية منه، ولا تجاوزت بنت لحواء عن مثل ما تجاوزت عنه، وإن كان الذى كبر فى ظنها أوهاما. ولكنه كان مع ذلك يحس أن ليس له صديق، وأنه فقد الصديق يوم فقد أمه. وكان يقول لنفسه إن ألف ألف من أنصاف الصداقات خير منها صداقة واحدة تامة. وكل إنسان منا عالم قائم بذاته. والذى يستطيع أن يدير عينه فى حياة إنسان اخر ويتبينها على حقيقتها يكون قد استطاع أن يرى ويعرف عالما جديدا. ولم تكن تحية تتجهم أو تقصر فى لقائه بما تعرف أنه يحب، ولكنها كانت ساكنة، وكان هذا لا يشجع على التبسط أو المصارحة والتفاهم. وما أكثر ما تعجب فى خلوته الطويلة بنفسه لقدرة المرأة على إشقاء الرجل وتعذيبه من غير أن تنطق بكلمة جافية أو تفعل شيئا ينطوى على القسوة! وكان ربما خطر له أن قوة المرأة مهولة، وصولتها فظيعة، وسطوتها لا يستخف بها عاقل؟ وأنها لهذا خطرة ومستبدة، وأن ودها من أجل ذلك له قيمته، وعطفها جدير أن يطلب وينشد.
على أنه لم يسخط ولم يتذمر، فقد كان يؤثر الإنصاف على صعوبته ومشقة التكلف فيه. فكان يحدث نفسه أنه هو الذى جنى هذا، وأن عليه أن يمهل تحية - أو يستمهلها - حتى ترى منه ما يعيد إليها البشاشة والطلاقة والخفة والنشاط، ولابد لذلك من عودة الثقة وحصول الاطمئنان. ولم يسعه إلا أن يبتسم، إذ خطر له أن الزواج يشبه لبس الحذاء، والأعزب كالذى اعتاد الحفى، فإذا لبس حذاء شعر بالضيق والكرب. والزوج الذى يهمل زوجته زمنا ما، يكون كالذى ترك حذاء وتحذى سواه. فإذا عاد إلى الأول أتعبه وأحس أنه ناشف، لا يلين لقدمه، أو أن رأسه المستدق أضيق مما ينبغى، أو أن لسانه قد تلوى، أو أن جانبيه قد تقبضا، أو أنه يزم زما محكما. والمواظبة والصبر لا غنى عنهما حتى يلين الحذاء ويعود مريحا كما كان.
وذكر بهذا المثل الحذاء الصينى الذى يقال إن المرأة تصب قدمها فى قالب منه. فقال لنفسه إن هذا هو مثال اطراد الحياة على نسق واحد لا يتغير. وليست الحياة - أو لا ينبغى أن تكون - كذلك، وإنما الحياة - كما يقول سبنسر - محاولة مستمرة لتنسيق العلاقات الخارجية والداخلية أو التوفيق بين النفس وغيرها. فإذا كان كل ما أفادنى من التحصيل والتجربة لا يعيننى على التوفيق بين نفسى وبين الحياة، فأنا إذن لا خير فى ولا أمل. فالصبر الصبر يا هذا.
وأراد أن يسرها ويبرها، فإن الصبر وحده لا يكفى، ولا مفر من مجهود يبذله لتعود فتسكن إليه وتثق بأنه عاد إليها كله لا بجانب من نفسه. وذكر أنها كانت قالت له لما اتخذ هذا البيت مسكنا: «إن ساكن الضواحى القصية لا يستغنى عن سيارة»، فسألها يومئذ: «هل تشتهين أن تكون لك سيارة؟» فكان ردها: «وأى امرأة لا تشتهى ذلك؟ ولكنه بذخ لا أحسبه يدخل فى طوقنا فلا تعجل». فسكت، ونسى، إلى أن كان ما كان مما أسلفنا عليه القول، فاغتنم فرصة مزاد تباع فيه مقتنيات إنجليزى أزمع العودة إلى وطنه. وكان بين المعروضات سيارة متينة البناء سليمة المحرك إلا أنها حائلة اللون، غير ذات رونق، فاشتراها بمبلغ زهيد.
ستين جنيها ليس إلا. وبعث بها إلى من طلاها وأعاد إليها جمال الشكل وبهاء المنظر. وأعدها - ومعها سائقها - أمام الباب فى ساعة معينة. فعل هذا كله دون أن يخبر زوجته. وفى مأموله أن يفاجئها بما يعتقد أنه يسرها. ودعاها إلى الخروج، وفى عينيه بريق يكاد يفضحه، فما كان يحسن التكلف. فنظرت إلى وجهه مستغربة، وخرجت طائعة، فلما رأت السيارة وقفت والتفتت إليه وسألته: «ما هذا؟» قال: «أتعجبك؟» قالت: «إنها جميلة. ولكنى لا أفهم». قال: «إنها لك». قالت: «لى أنا؟ متى اشتريتها؟ ولماذا لم تخبرنى؟» قال: «لو أخبرتك لما كانت هناك مفاجأة». فعبست وقالت: «ولكن هذا إسراف». وغالبت نفسها فتبسمت وفتحت الباب ودخلت. ولما انطلقت بهما السيارة قالت له: «لولا خوفى عليك لقلت لك تعلم قيادتها، لنقتصد على الأقل أجر السائق». قالى: «لا تخافى على. سأتعلم وأعلمك أيضا فما اشتريتها إلا لك».
وصمتا برهة قالت بعدها: «لا تظن أنى غير شاكرة فإنى شاكرة. ولكن الثمن الذى ذهب فيها، والتكاليف، وأجر السائق! أليست هذه مجازفة؟»
قال: «ربما. ولكن الذى لا يجازف لا ينال شيئا». وتمتم: «وفاز باللذة الجسور».
وسرت تحية، فما كان يسعها إلا أن تسر بالتفاتته هذه. وخيل إليها أنها بداية لعودة العصفور إلى عشه، لا بجسمه، فما كان فارقه، بل بقلبه وروحه. ولكنها على هذا لم تكن تبدو سعيدة كما كان يرجو أن يراها. وبدا له أن الحزامة أن يصارحها، فما يطيق أو يستطيع أن يظل معها هكذا متكلفا متظاهرا بالرضى، وأن يدعها تتعمل وتتكلف هى أيضا، ولعل خواطرها سود حالكة. وما ثم خير فى ترك الأمور تستفحل وتتفاقم وفى الوسع منعها من ذلك. وقد لا تجدى المصارحة، ولكنها على التحقيق لن تزيد الحال سوءا.
واغتنم الفرصة ذات ليلة، وهما يشربان الشاى وحدهما قبيل النوم - وكانت تلك عادتهما - فقال لها إنه يراها متغيرة منذ زمن وإنه جاهد ليردها إلى سابق العهد بها، ولكنه لا يرى أنه أفلح. فما هى الحكاية؟ فحاولت أن تهرب من الموضوع، وزعمت أن النعاس يغالبها، ويكاد يثنى رأسها على صدرها، وأن للكلام وقتا آخر، إذا كان لا بد من ذلك، فألح وأصر. فقالت له إنها لا تستغرب أن تكون تغيرت، فإنه هو أيضا قد تغير. ولعل مرد الحالين إلى أمر واحد. فسألها: «هل تعنين عايدة؟»
قالت: «لا أحب أن أذكرها بغير الخير. وإنى لأرثى لها وأتوجع لما حاق بها وصارت إليه. ولكنى لا أكتمك أن حكايتها معك قد أورثتنى برغمى هذا الذى تنكره من حالى. وثق أنى لا أسىء بك الظن، ولكنى امرأتك، ولا أكون أنثى إذا لم يصبنى ما أصابنى».
قال: «لقد كنت أراها كل يوم تقريبا، وكنت تعرفين ذلك، وكنت أنبئك أنا إذا لم تعرفى، وكنت أحرص على هذا لتطمئنى. على أنى أقول لك إنى أؤثر المرأة التى لها عقل رجل ، لا لأنها تكون أحلى أو أفتن، بل لأنى أرانى عاجزا عن فهمها إذا لم تكن كذلك».
قالت، وهى تبتسم: «بل أحلى منها عقل امرأة وزينة امرأة».
قال: «هذا صحيح، وليست المرأة امرأة إلا بذلك، ولكن الأخرى التى يكون لها عقل رجل، تجذبنى لأنها شاذة، ونادرة. وأقول لك إنى أحمد عهد عايدة ولا أزال أذكره شاكرا. ولكن الطريق الذى سرنا فيه لم يفض بنا إلى ما يدعو إلى هذا منك».
قالت: «كان يمكن».
قال: «ربما، جائز، ولكنه لم يكن. أفمن أجل أن أمرا ما، كان يمكن أن يقع، تعذبين نفسك وتعذبيننى هذا العذاب؟»
قالت: «ألست معذورة؟»
قال: «نعم. ولكن هذا الاحتمال موجود أبدا، ولا يحتاج إلى عايدة على الخصوص ليمكن أن يكون ما دام الأمر كله أمر إمكان وجواز واحتمال».
فأحست الخوف، فقد كانت هذه أول مرة يبسط لها فيها الأمر على هذا النحو الواضح، وشعرت أن لا سبيل إلى أمن أو اطمئنان ما دام هذا جائزا ومحتملا فى أى وقت. ولكنها غالبت نفسها وقالت بابتسام كأنما تمزح: «إنى أعتقد أنك من الرجال الذين يمكن أن يحبوا أية امرأة بشرط أن يكون لها من المفاتن الكفاية».
وكان من الجلى - من نظرتها وابتسامتها ولهجتها - أنها تمزح، ولا تقول هذا جادة. أو لعلها كانت جادة، ولكنها آثرت أن تبطن كلامها بالمزاح.
ولم يغضب، ولم يسؤه هذا، بل قال وقد انتوى أن يذهب فى المصارحة - ما دام قد بدأ - إلى النهاية: «إنك مخطئة خطأين كبيرين، الأول قولك أنى مستعد أن أحب أية امرأة إذا كان لها من الجمال القدر الكافى للإغراء أو استثارة الإعجاب. والحقيقة أنى مستعد أن أحب كل امرأة ولو كانت دميمة، فإن للدمامة فتنتها أيضا، والبراعة فى تكوينها جديرة بالإعجاب، والمرأة الدميمة المزهود فيها خليقة بالرحمة. ألم تسمعى قول ابن المعتز: «وأرحم القبح فأهواه؟». وخطؤك الثانى ظنك إنى بدع فى الرجال. فاصغى إلى جيدا.. إن الرجل الذى يقدر على الحب هو الذى يحب المرأة أولا - الجنس كله، النساء جميعا - ثم بعد ذلك يحب امرأة معينة. وإنه ليحسن بكل امرأة أن تعرف هذه الحقيقة الأولية لأنها حيوية. إنك تخطئين حين تتوهمين أن رجلا لا تعنيه النساء، يستطيع أن يحبك ويفهمك ويقدرك. لا يا ستى ليس إلى هذا السبيل. فإن الانتقال يكون من العموم إلى الخصوص. وأنت أيضا لا تستطيعين أن تمقتى «الرجل» وتحبى رجلا. إن الذى يعرف كيف يحب امرأة هو الذى يحب المرأة، أو فكر المرأة، والأمران سيان. فإذا كنت تطلبين الشاذ والاستثناء، فاعلمى أن الشذوذ فى هذا يفضى إلى شذوذ آخر، لا تصلح به حياة المرأة الطبيعية التى لا تعانى شذوذا فى طبيعتها».
فبدا عليها الرعب، ولكنه لم يرحمها وألح عليها فقال: «إنك تريدين أن تفوزى بلذات الحب ونعيمه من رجل محدود، ضيق الأفق والنفس، أعمى العين والقلب، فلماذا تزوجتنى إذن؟ تطلبين الدفء من رجل بارد مقرور النفس! تشتهين نظرة الحب المثيرة من عين كالزجاج لا معنى فيها ولا تعبير لها، لأن من لا يرى ولا يحس لا يستطيع أن يعبر. تريدين أن يخفق لك قلب بعلك بالحب والحنان وهو لا يخفق إلا لمنظر الحمام المحشو، والبطاطس فى الصينية، إذا كان يخفق حتى لهذا ... لماذا خلق الله هذه الدنيا وما حفلت به من جمال؟ ما خيرها لنا إذا كنا سنعمى عنها؟ هل تذكرين الجبن اللذيذ الذى أكلنا منه ظهر اليوم؟»
وكان الانتقال مفاجئا، ولا صلة له بما هو فيه. ولكنها ألفت منه هذه الوثبات، فتبسمت وقالت: نعم. ماله؟»
قال: «لقد كان هذا جبنا طيبا. وكان طعمه لذيذا. وهو صالح نافع أيضا.. ولكن إذا تركناه زمنا كافيا، فإن شيئا غريبا ممتعا يحدث له. تدب فيه حشرة طفيلية نسميها الدودة، وتتكاثر الديدان، وتجعله كالأسفنج.. من أين جاء الدود؟ إنه لم يجىء من الخارج. وهو طفيلى، وعلامة فساد وانحلال.. أنتجه الفساد الذى دب فى الجبن. وكذلك النفس لاتفسد وتتعفن بشىء يجىء من الخارج، بل يكون ما يظهر فيها من الخوارج السود القبيحة نتيجة الفساد الذى اعتراها من الباطن».
واضطجع فى كرسيه وغام وجهه وهو يقول: «يخيل إلى، أن من الممكن أن نكون نحن الآدميين، وغيرنا من صور الحياة، علامات فساد وانحلال. وعسى أن نكون ظهرنا فى هذه الدنيا كما يظهر الدود فى الجبن أو المش، ومن يدرى؟ لعلنا حشرات طفيلية يغص بها كيان ضخم، فهى تعيث فيه.. كيان ظل موجودا أكثر مما ينبغى.. ففسد.. وصار جديرا بأن يرمى أو يمحى».
فشق عليها أن يسبح هذه السبحة، ورق له قلبها، فقد أيقنت أنه هو أيضا يتعذب، وأنه يتألم لنفسه ولها، لنفسه على الاثر لأنه فقد ما يطيب به نفسا، ولكن الذى فقد، هو الذى أحب منها. فصاحت: «إبراهيم.. أرجو ... أرجو أن لا تتكلم هكذا».
فصاح بها هو أيضا: «لماذا؟ لماذا تطبقين جفونك وتحجبين عقلك؟ لست أمية ولا أنت عمياء، ولا أنت بليدة. ألا تعرفين أن النظر إلى الجمال والإعجاب به، بل حبه، كقراءة الشعر يجعل الإنسان أعرق فى الإنسانية؟ ألا تعرفين أن الرجل البليد كالسفينة التى تسير بغير بوصلة؟ ألا تدركين أن الفطنة إلى الجمال فى مظاهره المتنوعة يعينك حتى على حسن الاختيار، حتى حين تشترين حذاء أو تفصلين ثوبا؟ أهملى ما فى الدنيا من مباهج العيش، وفتن الحياة، وحلاوة الحسن، وروعة الجلال، وانظرى كيف تصير الدنيا والناس؟ بهائم فى مرعى، لا تدرك حتى أن ما ترعاه أخضر. لا ترفع عينها مرة إلى السماء، لأنها لا تدرى أن فوقها سماء. إن الإنسان إنما صار إنسانا لأنه رفع عينه، وأجالها، وأحس وأدرك.. ماذا جرى لك؟ أتبغين الموت فى الحياة؟ أتريدين أن أكون مخلوقا ذا بعدين اثنين فى عالم ليس فيه حتى ولا أشباح؟»
فقالت بلهجة وديعة: «إنى لم أعد أدرى ماذا أنا حتى أعرف ماذا أريد». قال: «ولست مع ذلك بالغبية، ولو كنت، لأقصرت. فما يلام النبات من أجل أنه نبات.. وإنك لذكية، وفيك فكاهة، وذهنك سريع، وحيويتك دافقة.. ولكنك تنفقين كل ذلك عبثا، تبعثرينه سدى، تضيعينه فى غيرة سخيفة. لقد تعبت ونشفت ريقى فاسقنى شيئا».
فأشارت إلى إبريق الشاى، فأشار إليها أن لا، فجاءته بقدح صبت فيه قليلا من الويسكى، وهمت أن تشعشعه بالماء، فهز رأسه، وتناول القدح، وقلبه على فمه، فاكتوى حلقه، وقطب، ونهض واتجه إلى الباب فى صمت. فلحقت به ووضعت راحتها على كتفه، وقالت بلهجة هى أعذب وأرق ما صافح سمعه فى سنوات: «آسفة ... مسكين ... اعذرنى وسامحنى ...».
وارتمى على سريره فى تلك الليلة وهو يقول لنفسه: «ألا إنها لمعذورة، وتالله لأنا الذى جنيت هذا كله.. فما أقدر الإنسان على الثرثرة والمغالطة».
وأدركه النوم وهو يحاور نفسه ويسألها: «أترانى كنت أغالطها؟ أكنت أتفلسف عليها لأرد عنها ما يسوءها، ويثقل عليها، ولأدفع عنها ما يعذبها، كما يفتح أحدنا الشمسية ويرفعها فوق رأسه ليتقى الشمس أو المطر؟ وهل ينفى هذا أن الشمس عظيمة الوقدة أو أن المطر يهطل؟»
ودخل فى عالم آخر قبل أن يجيب أو يعرف الجواب.. عالم ملؤه السكينة التى لا تخلو مع ذلك من مغالطة الأحلام.
الفصل الرابع
1
ثم كانت «ميمى».
وهى طراز اخر من الأنوثة. لا تشابه تحية، ولا تشاكل عايدة، شبابها ريان، وجسمها بض فى نصاعة لون، ووجهها كأنما يترقرق فيه ماء الحياة من نضرة النعمة، رشوف، عبقة، لبقة، لينة فى منطقها وعملها، ناعمة فى ملمسها، مطواع، لا كبر بها ولا تكلف، تتجمع أنوثتها فى عينيها الدعجاوين، وتنطق منهما حين تبتسم فتضيقان. لا تعرف قولة «لا» ولا تحسن أن تقول: «نعم» ولكنها تحسن أن تفعلها. أبرز صفاتها البساطة والقناعة. فهى تأخذ الأمور مأخذا سهلا وتتناولها من قريب، وتقنع بالميسور، ولا تعنى نفسها بما كان خليقا أن يكون من خير أو شر. وتنظر إلى ما يسوء من جهته التى تجعله أضوأ أو أخف وأهون. وكانت صادقة لا تكذب، لأنها ما عرفت ولا أحست حاجة تدعوها إلى الكتمان أو مجانبة الحق. ولم تكن غريرة، ولكنها لم تكن مجربة، فهى تدرك مطالب أنوثتها. ولكن ما اعتادت - أو ما فطرت عليه - من تلقى الحياة بالرضى والتسليم والتهوين، يمنعها أن تلج بها رغبة، ويحميها أن يجمح بها مشتهى أو يشقيها حرمان أو يذلها للرجل أنها مفتقرة إليه. ولم تكن بها جفوة أو جمود، ولكنها كانت ساكنة متزنة، إذا جاعت صبرت ولم تتلهف، وإذا شبعت شكرت، ولم تر أن تصيح من فوق الماذن بشكرها وسرورها، ولم يبطرها أو يغرها إحساسها بالشبع والرضى. وكانت دائمة البشاشة والتهلل، لا تستطيع أن تقطب حتى حين يغضبها أو يؤلمها شىء. وكانت لبسة صناعا تحسن انتقاء الألوان وتؤثرها بسيطة، ولا تحبها زاهية أو مختلطة أو كثيرة الوشى والتفويف. وكانت تبدو كأنها لا تدرك أن لها من المحاسن ما يصبى الرجل إليها، ويفتنه بها. فكان يحاول على سبيل التجربة أن يثير فيها هذا الإدراك الذى خيل إليه أنه ناقص، فيروح يصف لها مواطن الحسن فى تكوينها وفى طباعها، فتبتسم أو تضحك. ولكنها لا تبدو كأنها تصدق. وكانت ربما قالت له حين يلح عليها بهذا الكلام كأنما يدعوها إلى الإعجاب بنفسها: «إذا رسمت صورة جميلة فهل يكون للصورة فضل فى جمالها؟» فكان يقول لها: «اسمعى. إن لكل إنسان حظه الموفور من الغرور، ولست أدرى - ولا أنا أستطيع أن أتصور - كيف يمكن أن يطيق الإنسان الحياة لو فقد الغرور، والغر ور فيما يرى الناس رذيلة، ولكنى أراه نعمة، أو على الأقل القدر الكافى منه لإطاقة العيش. وأنت كغيرك لا بد أن يكون لك شعور بنفسك، وإلا كنت كالحيوان الأعجم الذاهل عن نفسه وعن الدنيا. والإنسان يصاحب الحيوان ويبادله قدرا من الود والإحساس، ولكنه لا لذة له فى مصاحبة إنسان مثله إذا كان معدوم الإحساس بنفسه. وأحسبك تتكلفين هذا الذهول، وإنه لتواضع أو أدب منك جميل. ولكن الإفراط فى تكلفه يخرج بك عن حد الطبيعة القويمة التى لا تعترف بهذا التجاهل التام للنفس».
فتقول: «ولكنى كما تقول مغرورة، وحظى من الغرور أوفر مما تظن. ولكن هذا لا يدعو إلى الإثقال على الناس».
فيقول: «إذا قلت لك بلهجة المؤمن بما يقول، المخلص فيه، إنك دميمة أفلا يسوءك هذا؟»
فتقول: «نعم. ولكنك لست الناس جميعا، والذى تراه أنت قبيحا قد يراه غيرك جميلا أو حميدا».
فيسره منها هذا الأسلوب فى تناول الأمور، والنظر إليها من أكثر من وجه واحد لتسهل به وتهون.
فيعود فيقول لها: «وقياسا على هذا يسرك أن تسمعى من رجل أنك جميلة».
فتقول: «طبعا. ويزيد فى سرورى أن يفيض ذلك، ويبدئ ويعيد، حتى ولو لم يكن مخلصا».
فيقول: «إذن لماذا تبدين كل هذه الدهشة حين أذكر مفاتنك؟»
فتضحك وتقول: «لأستزيدك ولأغريك بالتكرير والتأكيد».
ولم يستطع أن يثير فيها الإعجاب «الظاهر» بنفسها، ولكن إلحاحه عليها بالثناء على ما يحمد من مزاياها وصفاتها المحببة، أثمر شيئا آخر هو حرصها على دوام تميزها بهذه الصفات، وضنها بها أن تحتجب أو تفتر. وهذا فعل الإيحاء. وكان الإيحاء الخفى اللبق سبيله مع المرأة، يصبها به فى القالب الذى هو أشهى إليه وأحب. وقد حذق ذلك حتى لقد قالت عنه تحية مرة: «إنى لا أستطيع أن أقاومه أو أغالبه، لأنه يستولى على، كالنوم، بلا ضجة أو عنف أو رجة، بل من غير أن أشعر، وبعد أن يقهرنى يدعنى للطبيعة، ولا يحاول التظاهر بصولته وقدرته. ومن يدرى؟ لعله لو كان اشتغل بالتنويم المغناطيسى لكان أبرع فيه من «طهرا بك» الذى يفعل العجائب ويأتى بما يشبه السحر». وكانت هذه مبالغة من امرأته. ولعله يسرها أن تبدى جانب الضعف والخضوع ليلقى سلاحه ويطمئن ويحسب نفسه قد أمن، فتعود فتكر عليه وهو غافل، ومن مأمنه يؤتى الحذر.
وبفضل الإيحاء صارت ميمى مطواعا له، حريصة على مرضاته، بما استقر فى نفسها أنه مزيتها التى تحببها إليه. ولم تكن تعرف رجلا غيره معرفة تستحق الذكر، أو يمكن أن يكون لها أثر فى نفسها أو سيرتها إلا صادقا قريبها.
ولكن صادقا شاب يفزعها بما يحمل عليها به من فورة الشباب، فيغريها بالتوقى والتحرز، ويدفعها إلى النفور. ولم يكن الحب هو الذى يبعثها على الاحتماء منه، فليس الحب بمزهود فيه، وإنه لمنية قلبها وهوى نفسها. ولقد كانت فى سريرتها مزهوة بحبه، ولكنها كانت ترى صادقا كالعباب الطاغى المربد المزبد، فتشعر بالخوف على نفسها من الغرق فيه، وتحس أنه خليق أن يحملها على متنه الصاخب، ويرميها على صخرة تتحطم عليها. على حين كان إبراهيم يبدو لها كالغدير الصافى المترقرق فى روضة انف حالية بالزهر - لا يخيف، ولا يروع، ولا يقلق أو يزعج، بل يبعث فيها الأنس، ويشيع فيها السكينة، ويحلو التمشى على حفافه، والتنعم بمنظره وبنضرة ما حواليه. وإنه لسهل أن تغرق فى مائه الرقراق، كما يمكن أن تغرق فى العباب الخضم الراغى الطاغى، ولكنها إذا غرقت فيه، تغرق وهى حالمة ناعمة مطمئنة، واثقة من السلامة، بل منساقة إليه وراضية بالغرق فيه. فهنا اطمئنان، قد يكون كاذبا ولكنه يغرى بالمطاوعة والمسايرة والانسياق، مع الاستحلاء والاستمتاع. وهناك خوف من الضيعة، وإشفاق من مصير جارف، لا تملك لنفسها حياله مقاومة أو مدافعة. ومن أجل هذا كانت تنفر من صادق، وتقبل على إبراهيم. وزاد إقبالها أنها كانت ترى وجوها شتى، ومعانى عدة، وتنعم بصور من المتع هى ثمرة التجربة والخبرة والفهم وصحة الإدراك وسعة الأفق. على حين لم يكن عند صادق إلا حبه المضطرم، واللون واحد والصورة لا تتغير، والمعانى لا تتعدد، والحلاوات المرتقبة أو المتخيلة لا تتفاوت طعومها، فهى خليقة أن تمل وتسأم.
وكان إبراهيم يحرص على تنويع أحوالها معه، بل لقد كان يتقى أن يكون كلامه على وتيرة واحدة، أو نسق لا يتغير، وكان يخشى أن تقول لنفسها: «إنى أعرف ماذا سيقول لى حين يلقانى، وبأى كلام سيبدأ حديثه». وكان لهذا يتحرى أن يخلف ظنها، فيلقاها كل مرة بجديد من القول والاستقبال والاقتراح والمتعة، وكان هذا لا يخلو من مشقة وعسر، ولكنه كان يهون الأمر على نفسه بقوله: «إن من الجمود الذى ينبغى أن يتقيه الإنسان أن يجرى فى حياته مجرى واحدا. والحروف فى كل لغة - إلا الصينية على ما يقال وأمثالها، إذا كان لها أمثال - محدودة العدد - سبعة وعشرون تنقص أو تزيد واحدا أو اثنين. وانظر ماذا يتألف منها من الكلمات؟ عشرات الالاف فى كل لغة.. وانظر ماذا تؤدى من المعانى؟ شىء لا يأخذه حصر. وكل هذا مستطاع ببضعة حروف قليلة لا تزيد على الثلاثين. فإذا كان هذا مستطاعا فى اللغة التى نتخذها للتفاهم والبيان، فلماذا لا يكون مستطاعا فى غيرها؟ فى كل شىء؟ إن قلة الاستطاعة كسل، أو نقص فى الخيال، أو القدرة على الابتكار، نقص على كل حال. ولن تكون الحياة كاملة بذلك. ولن يكون الإنسان قد أحسن الانتفاع بحياته إذا لم يستطع أن يجد لها كل يوم جديدا».
وكان يجد لذة فى هذا العناء، بل لذات.. لذة السعى والاجتهاد، ولذة النجاح حين ينجح، ولذة الرضى الذى يحسه من ميمى. ولكن ضميره كان ربما نغص عليه عيشه وأفسد هذه اللذات جميعا. فقد كان بعد أن يودع ميمى، ويكر راجعا إلى البيت، يحاسب نفسه ويقول لها ولماذا لا أجتهد مثل هذا الاجتهاد مع تحية؟ أليست جديرة أن أتعب فى سبيلها كما أتعب فى سبيل ميمى أو سبيل نفسى معها؟ ولعلها، لو فعلت، تكون أسعد، وأكون أنا معها أسعد، ولا أحتاج حينئذ إلى ميمى أو سواها». ثم ينقلب مدافعا عن نفسه فيقول: «ولكنها سعدت باجتهادى معها سنوات حتى تعبت ومللت.. ثم لماذا لا تجتهد هى أيضا بعض الاجتهاد؟ لماذا أحمل أنا العبء وحدى كله حتى أنوء به؟ لقد كان كل الاجتهاد من جانبى، وكان كل عملها أن تنعم بما أسرها به، وكانت كل مجاوبتها إظهار الشكر والرضى».
ثم يعود فيقول لنفسه: «ألست أنت الرجل؟ أتعد صبرها عليك وأنت منصرف عنها فتورا منها، وزهادة فى تكلف مرضاتك؟ وهى إنما تبغى أن تفسح لك فى الوقت حتى تراجع نفسك فترجع إليها. إنها تنتظر متجلدة، فماذا يكون الحال، إذا ملت الانتظار والصبر، ودفعها اليأس منك إلى مثل ما دفعك الملل إليه؟ كن منصفا. إنها تصبر على مضض، ولا تنشد عزاء أو تسلية، ولا تفكر إلا فيك، ولا تتطلع إلا إليك، ولا تحلم إلا بعودك، ولا تسعد إلا بذلك، وأنت تروح تقطف الأزهار اليانعة، وتنعم بشمها ومنظرها، وتنساها إلى أن تؤوب إلى بيتك، فتدخله كأنك داخل سجنا أو فندقا، تقوم فيه هذه المرأة الصابرة التقية على خدمتك فيه، ولا تسألك أين كنت ولا ماذا فعلت.. ثم تجىء وتحملها وزر ما أنت صانع. لا يا صاحبي.. ليس هذا من العدل فى شىء».
وكان العجز عن إقناع نفسه بأنه على حق، وأنه لا يفعل ما يسوء، هو الذى ينغص عليه ما يفوز به من ميمى من الأنس والروح والريحان.
وكانت ميمى - وهذه إحدى مزاياها - تخفف عنه بعض هذا التنغيص بصحة إدراكها لواجبه لتحية، فكانت لا تطالبه بأكثر من منزلة الصديقة ولا تتطلع إلى ما فوقها ولا تكتم شكرها - بسلوكها إذا لم يكن بلسانها - لهذه المنزلة عنده. وكانت تأبى أن يتكرر لقاؤه لها فى الأسبوع الواحد أكثر من مرة، وتقولى له إن حق امرأته أولى بالرعاية. وكانت مخلصة فى هذا لا تحاول به أن تزيد اجتذابه إليها. فكان يقول لها: «إن حق تحية أمانة فى عنقى أنا لا فى عنقك. ولست مسئولة عنها ولا عنى فكفى عن هذا». فتقول له: «كلا.. بل أنا أخشى أن يعترى صداقتنا ما ينغصها أو يجعلها تكليفا شاقا إذا أنت لم تحسن حالك مع تحية. فعالج هذا فإنه خير لك ولي».
فيقول: «إذا حسن الحال على نحو ما تبغين فإن الأمر خليق أن يفسد بينى وبينك».
فتقول: «لا يفسد.. لأنها صداقة تظل منشودة لما تنطوى عليه من تحرر مما يربطنى ويربطك، وما عسى أن يثقل على أو عليك فى المستقبل، وثق أنى أعرف ما أقول».
فيقول معترفا: «المصيبة والبلاء أنى مقتنع أنك على صواب».
ويروح يفكر فى ميمى وحكمة هذا الطبع النادر، ويحمد الله لأنه وقاها الغيرة المرذولة التى تفسد حياة الرجل والمرأة جميعا.
وكانت ميمى هى التى أبت عليه أن يستخدم سيارته فى نزهاتهما. وقالت له: «إنك اشتريتها وأهديتها إلى تحية. فليس من اللائق أن تعود فتسلبها إياها وتتنزه بها معى. لا.. إنى لا أسيغ هذا.. فدع السيارة فما بنا حاجة إليها».
وكان إبراهيم قد حرص فى هذه المرة أن يكتم صلته بميمى عن تحية، حتى لا تتعذب كما تعذبت من جراء صلته بعايدة. وكان الكتمان يثقل عليه، ولكنه رآه أدعى لراحتها وراحته، وأرشد على العموم. وكانت ميمى تزور تحية غبا وتطيل فترات الغياب، وتتحرى أن تكون الزيارة فى وقت تعلم أن إبراهيم ليس فيه فى البيت، ولم يكن هذا بالعسير فقد كانت تطلعه على نياتها، فيتعمد الخروج قبل أن تأتى.
واتفق يوما أن كان إبراهيم ذاهبا مع تحية لقضاء حاجة من حاجات البيت التى لا تنتهى. وكانا فى السيارة، فوقفا على باب بقال كبير. وإذا بميمى وصادق خارجان من دكان يحملان لفافتين كبيرتين، فتبادلوا التحيات المألوفة. ودعت تحية ميمى إلى الانتظار ريثما تشترى ما تريد ثم تحملها معها لتخفف عنها هذا الحمل، فقبلت وذهبوا جميعا إلى بيت ميمى. ورضى إبراهيم وتحية أن يبقيا قليلا للقهوة أو الشاى، ولم يدر حديث يستحق الرواية. ولكن صادقا كان لا يكف عن لحظان إبراهيم وزوجته ولا يكاد يحول عينه عنهما. فلما انصرفا قال لميمى: «صديقك هذا.. أثق به وأرتاب فى آن معا. هيئته. كلامه. لهجته الرزينة الهادئة. إشاراته القليلة، بل النادرة. سكونه. كل ذلك يحملنى على الأطمئنان. ولكن عينيه.. نظراتهما تحيرنى. تشكنى أحيانا كأنما تريد أن تنفذ إلى ما تحت جلدى، وتغمض وتغيم أحيانا أخرى، حتى لأحسبه ذاهلا عن الدنيا وما فيها، فما يعنيه من الخلق شىء. هل هو يحب زوجته؟»
فقالت: «طبعا يحبها.. ما هذا الكلام الفارغ؟»
فهز رأسه وقال: «ربما.. لعلك أدرى.. ولكن من أدراك؟»
فقالت: «أما إنه لسؤال عجيب..».
فسألها: «أتعرفينه هو أو امرأته؟ أعنى أيهما صديقك؟»
قالت: «كلاهما».
قالى: «ولكنى أراك حفية به هو على الخصوص».
قالت: «إنه الرجل، ثم إنه رجل.. رجل محترم.. ما هذه الأسئلة البايخة؟»
قال متهكما: «بايخة.. ربما.. الحق معك.. لكنى ليتنى أعرف سر تأثيره فى نفسك».
قالت: «وما شأنك أنت بهذا أو غيره».
قال: «شأنى أنى أحبك.. ألا تعرفين هذا؟ ألم أخبرك به؟ تالله ما أعظم تقصيرى».
قالت: «عدنا.. ألم أخبرك أنا أيضا أن الذى حملنى على احتمالك هو إبراهيم الذى تستريب به الان؟»
فلم يزد على أن قال: «شكرا له ولك على تذكيرى».
ونهض يتمشى فى الغرفة، ولا يتكلم. ثم اتجه إلى الباب وقال: «إنك ثمرة لا يطيب لى أن يقطفها لى أحد ويناولنى إياها على طبق. لا. سأقطفها أنا بيدى متى استطعت، بل متى أردت فاعرفى ذلك. وأحبينى أو ابغضينى. سيان».
فاستوقفته وكان يهم بالخروج. وقالت له ويدها على كتفه: «صادق ... ألم نتفق أن نكون صديقين؟ قل إنك سكنت.. فإن هذه الثورات ترعبنى.. وثق بإبراهيم.. ثق أنه يفهمك أحسن مما تفهم نفسك.. ولا يضمر لك إلا الخير».
قال: «طيب هدأت ... ولكنى مع ذلك سأقطف الثمرة.. فى أوانها.. متى نضجت للقطف».
فآثرت ملاينته، وقالت: «متى نضجت ... متى نضجت».
ومضى وتركها قلقة. تشعر أن وراء ما قال، ما كانت تود أن تعرفه لتطمئن وتأخذ حذرها. وودت لو كان معها إبراهيم فى هذه الساعة ليمسح على قلبها، ويرد إليها سكينة نفسها.
2
وأقبل العيد، فأصبح الناس مفطرين بسنة الله الرضية، بعد أن صاموا رمضان بالبر. وكانت عادة إبراهيم منذ ماتت أمه أن يقضى العيد - كل عيد - مع تحية عند أبيها فى البلدة، لا طلبا للسكون، ولا رغبة فى التملى بجمال الريف، فما كان بيته بالصاخب، ولا الضاحية غير جميلة. ولكنه كان يثقل عليه أن يرى بيته فى العيد وليست فيه أمه. وكانت تحية هى التى فطنت إلى هذا، فاقترحت أن يزورا القبر ثم يرحلا إلى البلدة، فصارت هذه عادة مرعية. وكان يود لو قضى يوما من العيد مع ميمى، ولكنها هى أيضا كانت تهم بالسفر إلى أبيها فقال لها: «تعالى إذن معنا فإنا ذاهبون بالسيارة فنقطع الطريق إلى دمنهور على مهل، وهناك نفترق على أن نلتقى مرة أخرى فى الإياب». فأبت، وقالت: «إن تحية خليقة أن تستغرب هذا، وليس يحسن أن نثير هواجسها فحسبها ما عانت». وكانت ميمى تعرف قصة عايدة، فقد حدثها بها.
وعرف صادق أن ميمى مزمعة سفرا إلى أبيها، فاقترح عليها أن يذهب بها بالسيارة - سيارة أبيه - إلى الإسكندرية، وهناك يقضيان النهار كله، ثم يكران راجعين إلى دمنهور، فترددت ميمى فما كانت لها ثقة بهذا الفتى المقلق.
فسألها: «أتخشيننى يا ميمى؟»
ولم تستطع أن تبدو له مترددة، ولا أن يجىء جوابها أسرع مما ينبغى فيكون أدل على الخشية، فتمهلت هنيهة، وسترت ما تنطوى عليه بنظرة فاحصة ألقتها إليه، وطيف ابتسامة ساخرة على شفتيها. ثم قالت: «أتظن جادا أنى أخشاك؟»
فقال وهو يروح ويجئ وعينه إلى الأرض: «إنك فتاة عجيبة. وما أدرى والله ماذا أظن، ولكنك لا تخشيننى، وهذا جلى فلا ترفضى إذن.. تصورى يوما كاملا نقضيه فى الهواء الطلق.. سأذهب بك إلى أجمل ناحية فى الرمل، وسأكون خادمك، بل عبدك. ولا أكون معك إلا على الحال الذى ترضين. لا لا لا.. لا تنظرى إلى هكذا.. كونى امرأة حقيقية مرة واحدة فى العمر. على الأقل معى ...».
فصاحت به: «صادق».
قال: «ليس هناك أى سبب يمنع أن تذهبى معى.. وسأعنى بك وأسهر على راحتك.. لماذا تحرمين نفسك هذه المتع البريئة؟»
ففكرت فيما كان إبراهيم قال لها وأشار به عليها، من إيلائه الثقة التى يضن بها عليه الناس، وأهله خاصة. وقالت: «وماذا أعددت فى رأسك لى من هذه المتع؟»
قال: «إن كل ما رسمته رهن بموافقتك، نذهب من الطريق الصحراوى، ونستريح عند محطة (شل)، ثم نستأنف السير فنقطع الطريق كله فى ثلاث ساعات ونصف ساعة، فإذا قمنا من هنا فى الساعة الرابعة صباحا استطعنا أن نبلغ الإسكندرية فى الثامنة على الأكثر، ويبقى أمامنا النهار كله نرتع ونلعب إلى الخامسة مساء. وتكفى ساعة واحدة للوصول إلى دمنهور».
قالت: «وإلى أين نويت أن تأخذنى فى الرمل؟»
قال: «لو أخبرتك بكل ما أعددت لك فى رأسى لضاعت مزية الرحلة. انتظرى حتى يجىء كل شىء فى أوانه، لتكون المتعة مضاعفة. على أنى أستطيع أن أقول لك الآن إنى أنوى أن ألقى إليك بالزمام لتفعلى ما تشائين».
قالت: «ولكن الرابعة صباحا؟»
قال: «كما تشائين.. لتكن الخامسة.. ما عليك إلا أن تأمرى فإنى من الساعة خادمك المطيع».
وكان فى صوته وهو يقول ذلك نبرة سرور صبيانية.
وبلغا أول الطريق الصحراوى، وهما صامتان. فأما صادق فكان كأنما أسدل على وجهه نقابا كثيفا. وكانت هى ربما أقلقها أنها ترى نفسها عاجزة عن استشفاف خواطره أو التفطن إلى ما عسى أن يكون دائرا فى نفسه. ولكنها هى أيضا كانت تحس بفتور عن الحديث وزهد فيه. وكانت تريد أن تستمتع بالبكرة المطلولة والحركة السريعة، ولم تكن تخشى السرعة، فقد كانت تعرف أن صادقا جرىء ولكنه حريص. وليست هذه أول مرة حملها فى السيارة. وخطر لها أن هذا أقل ما ينبغى أن يحسنه شاب عاطل ميسر الرزق. وانثنت خواطرها إلى إبراهيم فذكرت أنه هو أيضا سيكون على الطريق بعد قليل، وابتسمت وقد تذكرت أنه لن يتخلى عن القيادة لزوجته، وإن كان يشهد لها بأنها أقدر عليها، لا لأنه يجد فيها لذة، بل لأنه يرى أن الرجل يجب أن يكون فى يديه الزمام فى كل حال، حتى فى مثل هذا الأمر الصغير، لا ينزل عما يعتقد أن الرجولة تفرضه عليه. وشعرت وهى تفكر فى إبراهيم أنه لا يخلو من غموض، نعم يقص عليها أخبارا شتى، ويكاشفها بما يفعل أو يترك، ولكنه يأبى أن يجعل تحية زوجته موضع لغط بينهما. وكثيرا ما تعجز عن فهمه؟ فقد قالت له مرة وقد خالجها خوف غامض: «ألا تشعر بندم حين تفكر فيما نحن فيه؟» فنظر إليها مقطبا وأطرق قليلا، حتى لخشيت أن يقول لها إنه نادم. ثم رفع رأسه إليها وحدجها بنظرة قوية وقال: «لماذا تسألين؟ لا. لست نادما إذا كان يعنيك أن تعلمى».
فأحست حين سمعت منه ذلك أنه يوبخها، ولكنه قال بعد ذلك: «لا. لست نادما. إن الندم لا ينطوى على إخلاص صادق».
فاستغربت قوله، وسألته عما يعنى، فقال: «إنه يا فتاتى الساذجة أشبه بالأسف على توسيخ ثوب جميل، هذا هو الندم. الرجل يريح نفسه من ثقل ضغطه باللغط به، والمرأة تريح نفسها منه بالبكاء. كلاهما يهرب مما ينبغى أن يستتبعه الندم الصادق بدلا من أن يعمق شعوره به . فإذا سمعت من يقول لك إنه نادم فاعلمى أنه بلسانه يحاول أن يوجد متنفسا لما يضيق صدره به، أو يدافع بلسانه عن نفسه. لا.. لا محل للفظ الندم.. فإنه أكذوبة. فإما التوبة النصوح، وإما المضى على الوجه بغير تلفت. أما أن تكون عين فى الجنة وعين فى النار، فأنا على الأقل لا يطيب لى هذا».
ولم تستطع ميمى أن تتبين معنى هذا مقرونا إلى سلوكه معها ومع زوجته، وألفت تتساءل: «هل هو ينطوى لى على حب؟» ولم تستطع أن تهتدى إلى الجواب. فإن إبراهيم لا يلهج بالحب، ولا يجرى به لسانه إلا نادرا. وقد سألته مرة عن الحب ورغبت أن تسمع منه كلاما فسألها: «أى حب تعنين؟» قال هذا، كأنما هناك دكان فيه ألف صنف من الحب. ثم أمسك وقال لها بعد قليل: «لا تكونى حمقاء.. إذا كنت راضية عما أنت فيه فلا تفسديه بأن تطلبى أن تسمعى كلاما فارغا حلوا، فلا تسمعى إلا كلاما يفسد عليك حلاوة ما تنعمين به. ثم إياك والغيرة فإنها بلاء. وفسحة العيش أقصر من أن نضيعها، أو نضيع دقيقة واحدة منها، فيما تجره الغيرة السخيفة من عناء وبلاء».
فأرادت أن تبين له أن سؤالها لم يكن مصدره الغيرة، فأبى أن يسمع وقال: «اسمعى. أنت لا تغارين من أحد فيما يتعلق بى، وأنا لا أغار من أحد فيما يتعلق بك. هذه سبيل الراحة والوسيلة إلى صفو الود بيننا».
وكان هذا أول درس تلقته عنه، ولم تفهمه كل الفهم، ولكنها أذعنت. وخطر لها والسيارة تخطف فى طريق الصحراء أن سلوكه مع زوجته لابد أن يكون مختلفا، وأحست وهى تفكر فى هذا أن يد صادق قد صارت على يدها، فالتفتت كالمذعورة وسحبت يدها، فضحك بل قهقه وقال: «ألا ترين أنك تخشيننى؟ والحق معك فإنى وحش.. أحيانا.. ولكن من الخير أن يواجه الإنسان الوحش لا أن يفر منه.. على أنك رضته يا ميمى.. أتذكرين؟ لقد قبلت هذا الوحش مرة، وكانت هذه القبلة أعظم ما فاز به فى حياته ».
وكان يتلفت إليها وهو ويقول ذلك، ولكن نظرته كانت وديعة لينة كأنما يريد أن يطمئنها ويصرف عنها الخوف، فقالت: «لقد ظللت بعدها أتساءل أترانى لم أخطئ حين قبلت الوحش؟»
قال: «إذن كفى عن التساؤل. فقد صارعت هذا الوحش الذى فى نفسى بعدها ولا أقول إنى صرعته، ولكنى أعرف الان أن فى وسعى أن أواجهه، وهذا كله بفضل قبلة واحدة قصيرة».
فتنهدت وشعرت أن هذا الكلام لا يقرر الثقة مع ذلك فى نفسها، ولا ينفى القلق. وألفت نفسها تتلهف على الطمأنينة التى تجدها حين تكون مع إبراهيم، وولكنها ردت نفسها عن الاسترسال فى هذه الخواطر، وقالت: «إذا كانت قبلتى قد صنعت هذا فلست آسفة عليها».
فرمى إليها ابتسامة عوجاء، وقال: «أظنك ستجعليننى رجلا طيبا إن شاء الله».
قالت: «إنما أريد أن تكون كخير ما تستطيع».
قال: «أحسب أنك رسمت لى الصورة التى تريدين أن أكون مثلها».
وضحك ثم قال: «مما يدعو إلى الأسف أن الصورة التى فى رأسك ليست إلا أسطورة.. جميلة بلا شك، ولكنها من نسج خيالك البديع».
وبلغا محطة «شل» فترجلا وذهبا يعدوان إلى المقاعد، ويصفقان للخادم، فمال صادق نحوها، وقال: «ما قولك فى قضاء النهار هنا بدلا من الإسكندرية؟»
فخفق قلبها مرتاعا، فإن المكان موحش، وليس صادق بالرفيق المأمون. وليس ثم أحد فيما ترى إلا الخدم. ولكنها تجلدت وقالت: «أتعبت؟» قال: «لا. وإنما أود أن تعرفى أن ههنا مطعما وفندقا فإذا شئت بقينا.. بل بتنا أيضا وإلا فإلى الإسكندرية.. لماذا يجمح بك سوء الظن؟»
فتشهدت. وجاءت القهوة فشرباها. ونهض صادق ليتزود لسيارته من البنزين والزيت، وغاب قليلا ثم عاد بوجه كاسف وقال: «يظهر أن المحرك به بعض التلف.. أظنه يسيرا. وقد تركت عاملا يعالج أن يصلحه.. لا تخافى سنصل إلى الإسكندرية ولكن بعد الوقت الذى قدرناه.. هذا كل ما فى الأمر».
فعاودها الخوف وقالت: «وإذا تلف فى الطريق مرة أخرى؟»
فلم يطمئنها، بل زادها قلقا فقال: «يكون الله فى عوننا».
قالت: «ماذا تعنى؟»
قال: «ليس فى الطريق محطة أخرى ولست أتوقع أن يحدث تلف آخر. ولكن إذا حدث فإنه لا يكون فى وسعنا أكثر من أن ننتظر نجدة أحد المسافرين إذا كان يستطيع النجدة».
قالت: «فإذا لم يستطع».
قال: «نبيت فى السيارة، أو يحملنا أحد المسافرين معه إلى القاهرة أو الأسكندرية».
فنهضت تتمشى وهى تقول: «كان ينبغى أن أتوقع هذا».
فلم يرحمها وقال: «ألا ترين أن الأفضل والأسلم أن نبقى هنا؟»
قالت: «بل نعود إلى القاهرة.. ماذا يقول أبى؟ ماذا تقول أمى؟ ماذا..؟» فأشار إليها أن كفى وقال: «أظن أننا سنتشنج».
قالت: «أنا لا أتشنج أبدا».
قال: «هذا بشير خير.. إذن كونى عاقلة وتقبلى ما يكون بالحلم والصبر.. ليس لى فيما حدث حيلة ثم إنه لا يحوج إلى كل هذا».
ولكن نصف النهار انقضى والسيارة تأبى أن تصلح، فدعاها إلى الغداء، ولكنها رفضت أن تتناول شيئا. ولم يبق لها هم إلا أن تعود إلى القاهرة، وكانت لا تفتأ تصيح به: «ما هذا التلف المفاجئ الذى أصابها؟ إنى لا أصدق.. لقد وصلنا إلى هنا وهى على خير حال.. فلا بد أن تكون قد صنعت شيئا أتلفها عمدا. إن السيارات لا تفسد هكذا فجأة بلا مناسبة. ثم إنها جديدة، فغير معقول أن تفسد بهذه السرعة، وفجأة بعد أن كانت تسير كالجواد الأصيل».
قال: «إن الرجل يبحث عن العلة».
قالت: «ومتى ينتهى؟»
فهز كتفيه وقال: «علمى علمك. فإنى لا أحسن إلا القيادة».
قالت: «أنا لا أعتقد أن السيارة أصابها شىء».
قال: «سلى العامل».
قالت: «أشكرك.. وماذا يمنع مثلك أن يرشوه ليكذب؟»
قال: «اسمعى. أوسعينى سوء ظن. فإن هذا لا يعنينى، ولست أول مخلوق فعل ذلك. كل الدنيا تعدنى مخلوقا لا خير فيه. لا بأس: زيديهم واحدا. ولكنى لم أصنع هذا الذى ترميننى به. صدقى أو لا تصدقى. سيان. لقد حاولت أن أكون طيبا كما تريدين.. سنة كاملة وأنا أعالج وأجتهد أن أعيش بالفضيلة والخير كما دعوتنى.. طلبا لمرضاتك. لا لأنى شرير، فلست بذاك، وليس من الشر أن أحبك، بل لأنك ترين أن تغيرى ما بى. لا أدرى لماذا. فأنا أروض نفسى على السلوك الذى هو أحب إليك. ثم ماذا كانت النتيجة؟ إنك مازلت على رأى الناس جميعا فى. وأقول لك الحق إنى مللت هذه الفضيلة كما تتصورينها.. الفضيلة التى تأبى أن يكون الإنسان كما خلقه الله. أى عيب فى أن أحبك؟ أى رذيلة فى هذا؟»
وسكت وراح يتمشى ثم التفت إليها وقال: «لقد كففت عن هذه المحاولة وأرحت نفسى من عناء باطل».
فزوت ما بين عينيها، وقالت وهى ترجو أن تتألفه بالكلام اللين: «لقد كنت أرجو أن تنتهى إلى غير هذا».
فقال: «كيف يمكن؟ عام كامل وأنا أحيا حياة الأولياء الصالحين. تصورى هذا فى سنى. ثم ماذا؟ لا أرانى أدنى إليك أو أحب مما كنت.. لا يا ستى. إنى شاب وهذه الخطوات البطيئة لا تطاق.. ولست أستطيع أن أظل هكذا إلى ما لا نهاية».
قالت وهى لا تزال تحاول التسكين: «ومن الذى يستطيع أن يعرف أين أو متى تكون النهاية، أو ماذا قسم الله لنا؟»
قال: «آه هذا كلام خليق بإبراهيم وأظنه مما لقنك.. لا يا ستى مرة أخرى. إنى أعرف ما أريد وأعرف الطريق إليه. الطريق الذى يبلغ لا الذى يقصى».
وقعد على كرسى بعيدا وساد الصمت برهة، وهى تفكر فيما قال، وفى دلالته التى لا تخفى ثم قالت: «ليت هذا العامل يسرع».
فنهض وأشار إليها أن تتبعه ومضى بها إلى حيث السيارة والعامل، فقال لهما إنه اهتدى إلى العلة وهى فى الأسلاك، وسيعالجها بأسرع ما يستطيع. فمضيا عنه وراحا يتمشيان، وقد اطمأنت قليلا وجرى فى بالها أنه يستوى أن تذهب إلى الإسكندرية أو القاهرة، فإنها تستطيع بعد ذلك أن تتخلص من صاحبها. وإنما العقدة فى الطريق والله المسئول أن يلطف بها.
وكانا يسيران فى صمت ثم تلفت صادق فلم ير أحدا فانثنى إلى ميمى يقول فجأة: «هل مللت الانتظار؟ إذن لا انتظار بعد ذلك».
فأحست بمثل لسع النار من أنفاسه على وجهها. وقبل أن تتبين ما هو صانع، كان فمه على فمها. وراح يقبلها كما لم يقبلها أحد فى حياتها، وكانت تنتفض وترتعد، ولكنها عاجزة عن التخلص من عناقه، وكان تطويق ذراعيه لها يؤلمها.
وصاحت به، وقد رفع فمه: «هل جننت؟ دعنى».
قال: «نعم جننت». وأهوى عليها مرة أخرى بفمه المضطرم. وعادت هى تحس بلسع النار من فرعها إلى قدمها، وحاولت عبثا أن تقاومه فقد كان كالوحش الضارى. ثم أمسك فجأة وخلاها، وتراجع خطوة، وهو يقول: «أتظنين أنك تستطيعين أن تقصينى إلى ما لا نهاية؟ إذن فاعلمى أن هذا يزيدنى جنونا. ولماذا تقاومين ما كتب الله كما تقولين؟ لقد بذلت من المقاومة ما فيه الكفاية ولقد انهزمت أخيرا. حولى وجهك عنى إذا شئت. سيان. لقد ظللت أنتظر أن تسنح لى مثل هذه الفرصة، وقد شاءت إرادة الله أن تسنح، فأنا اغتنمها. لقد كنت إلى الان كأنك فوق منصة عالية تلقين منها الأوامر إلى. أما بعد الآن، أما اليوم فأنت امرأة ليس إلا».
فكادت تيأس. ولكنها أحست ومض أمل خافت بأن النجاة ليست مستحيلة. وكان إحساسها بالغريزة وحدها لا بالعقل، كما يحس الحيوان المطارد. وكانت تعلم أنها معه هنا كأنها فى قلب غابة تحترق، ولكنها مع ذلك لم تفقد الأمل. وأيقظ الفزع نفسها فقالت: «ومع ذلك تقول إنك تحبنى» فصاح بها: «إيه؟ أتجرئين على الشك فى هذا؟ هل تريدين امتحانى؟ أتريدين أن أقدم لك الدليل؟»
قالت: «نعم».
فأخلى سبيلها وقالى: «والان ماذا؟»
فكادت تسقط بعد أن فك إسارها بغتة. وخطر لها أنه ما أطلق سراحها إلا ليسخر منها. وخيل إليها أنها تنظر فى عين نمر، ولكنها تشددت وقالت: «والآن يجب أن نتفاهم».
فضحك ملء شدقيه وقال: «نتفاهم؟ ألم تفهمى أن مثلى حين يريد شيئا يأخذه ولا ينتظر أن يعطاه؟»
فاعتدلت فى وقفتها وقالت له بلهجة كلها كبر: «أو تظننى من اللواتى يؤخذن؟ أو تحسبنى ملكك؟ إذا كنت تظن ذلك أو تتوهمه فإنه ينقصك أن تعرفنى. ولا أنا مع الأسف كنت أعرفك».
فقال: «نعم، أعتقد أنك ملكى، وأنك لى، ويجب أن تعترفى لى بأنى كنت صبورا جدا».
قالت: «كلا. إنك تبنى على أساس من الرمل، ولخير لك أن تدرك خطأك بسرعة. لقد عاملتك كما ينبغى أن يعامل القريب وزدت فعددتك صديقا. وتوهمت أن من الممكن أن أثق بك، ولكنى لن أرتكب هذا الغلط مرة أخرى».
قال: «ولماذا تقولين لى هذا الآن كأنه يمكن أن يغير شيئا؟»
ولم يزد منها قربا أو بعدا، ولكنها أحست أنه متربص للوثبة وقالت: «نعم يغير أشياء».
قال: «هذا وهم منك، وإنك لتخدعين نفسك، ولكنك لا تخدعيننى. لقد نفذ صبرى، فانا آخذ عنوة ما لا يؤخذ صبرا».
قالت ساخرة: «وتسمى هذا حبا؟»
قال: «سميه ما شئت فلست فيلسوفا كصاحبك. كل ما أعرفه أن أنوى أن أجعل من هذا التمثال امرأة من لحم ودم. إن لم أستطع أن أصعد إلى الذروة التى تقعدين فوقها، فعليك أن تنزلى إلى حضيضى ليمكن أن تكونى آدمية حية».
وسمعا العامل يناديهما من بعيد فارتدا إليه.
3
وكانت ميمى وهى راجعة مع صادق إلى حيث العامل والسيارة، تدير عينها فى هذه الصحراء المتقاذفة، وفى الشمس التى أخذت تميل، وتطيل الظلال، وفى هذا القريب الذى تخشى أن تعصف بها ثورة نفسه، وهياج حرقاته، وما تعلم ويعلم من قلة النصير، وفيما يحسن أن تصنع لتخرج من هذا المأزق بغير ضجة، وتؤنب نفسها على مطاوعتها له وثقتها به، ولا تبخل باللوم على إبراهيم؛ لأنه هو الذى أغراها بالاطمئنان إلى هذا الفتى الأحمق ودعاها إلى إيلائه الثقة التى تبينت الان أنه لا يستحقها، ومع ذلك كانت تتمنى لو تيسر لها أن تتصل بإبراهيم لتستشيره.
وسمعت صادقا يقولى لها بصوت امتزجت فيه الرقة بالعنف: «ماذا جرى؟ إنك كنت تحبيننى».
وسمعت نفسها تقول وكأن الصوت غير صوتها: «أنا ما أحببتك قط. إنما كنت لك صديقا».
فقال: «كنت؟ هل تعنين أنك تبغضيننى الان؟»
قالت: «لا.. ليس لك فى قلبى حتى ولا البغض».
فقال وهو يضحك ولا يفهم: «لا بغض، ولا حب. فماذا إذن؟»
قالت: «الاحتقار. ليس إلا».
وعضت لسانها نادمة وأدركت أنها زلت، وخشيت أن يزيده هذا حماقة وطيشا. وراح رأسها يدور وأحست أن الأرض غير مستقرة أو ثابتة، وأزعجها أن تحتاج إلى الاتكاء على صادق، فتشددت وتماسكت بجهد. واستغربت من نفسها أنها تذكرت فى هذه اللحظة الحافلة بالاحتمالات المخيفة، يوم دخلت على التلميذات وحدها أول مرة وفى يسراها دفتران واحد للأسماء والاخر لتحضير الدروس، وكانت قد أعدت درسها بعناية وكتبته بخط واضح جميل، ووضعت تحت العناوين خطوطا حمراء، وتوقعت أن تبهر التلميذات بالوقار والسمت وحسن الإلقاء والبيان، وإذا بالتلميذات يقف بعضهن - أقلهن - وهن جميعا يتلاغطن، ورؤوسهن متدانية، وأصابعهن مشيرة إليها. ومنهن من وضعن أيديهن على أفواههن ليكتمن الضحك، ومنهن اللواتى ضحكن غير متحرزات أو عابئات، وهى واقفة لا تدرى ماذا تصنع لتفىء بهن إلى الصمت والسكون، وما يجب أن يتلقين به معلمتهن من التوقير. وظلت هكذا لا تقول أو تفعل شيئا ولا تحرك يدها بإشارة، ثم افتر ثغرها بكرهها عن ابتسامة خيل إليها فيما بعد أنها ابتسامة السخر من نفسها أو اليأس من قدرتها على السيطرة على هؤلاء التلميذات. وإذا بهن يبادلنها ابتساما بابتسام، ويرخين أيديهن، ويقفن معتدلات القدود، فأشارت إليهن أن اقعدن، فقد أشفقت أن تنطق فيشى صوتها باضطرابها. وسلس لها الأمر بعد ذلك، ولم تعان مشقة معهن. وخطر لها - وهذه الصورة ماثلة لعينيها - أن لعل إبراهيم على صواب، وعسى أن يكون رأيه ونهجه أسد، وقد تكون الحسنى أرشد وأحق أن تبلغها أمنها.
وبلغا السيارة، وجرب صادق محركها، وحمد ما صنع العامل، وأنقده أجره وسخا فيه، ودعا ميمى إلى الركوب. فقالت وهى تبتسم: «ألا ترى أن الأحزم أن نتزود للطريق».
ورأى ابتسامها، ونظر إليها مليا، كأنما يتفرس، ثم وثب إلى الأرض وتركها تتمشى حول السيارة ثم عاد بسجاير وطعام. وكان فى السيارة (ترمس) صغير وآخر كبير فأراق ما فيهما من ماء وذهب بهما إلى المقصف وعاد بعد برهة، وقد ملأ الصغير قهوة، والكبير ماء مثلوجا. وأشار إليها أن اركبى ففعلت بلا سؤال، فأدار المحرك مرة أخرى وخرج بالسيارة من نطاق المحطة حتى بلغ الطريق المعبد، فوقف وسألها: إلى أين؟ فأبدت قلة اكتراث وقالت: «كما تشاء». فانطلق فى طريق الإسكندرية.
وأحست بالجوع ففكت إحدى اللفافتين وأخرجت منها أربعة سندوتشات وجعلت تأكل وتطعمه، وتنفض عن ثيابه ما يتساقط من الفتات، وهو بادى الرضى والسرور، وإذا بالسيارة كأنما يقف محركها ثم يعود إلى العمل من تلقاء نفسه. وكان لهذا العارض رجة خفيفة شعرا بها، ولكنها لم تتكرر إلا بعد عشرة كيلومترات أو نحو ذلك. وبدا على صادق القلق ولا سيما بعد أن أحس هذا العارض مرة ثالثة بعد مسافة قصيرة، فأراد أن يسرع ولكن السيارة كانت كأنما لا تستطيع أن تمضى بأسرع مما تفعل. وقطعا على هذا الحال، ومن غير أن ينبسا ببنت شفة أكثر من سبعين كيلو مترا، واذا بالسيارة يخرج منها صوت كالحشرجة ثم يقف المحرك. وعبثا حاول صادق أن يديره مرة أخرى، وقد ظل يجاهد حتى تصبب منه العرق.
فقالت ميمى: «يحسن أن تستريح». وتكلفت أن تهون الأمر فقالت مازحة: «من يدرى.. لعل بالسيارة أيضا حاجة إلى الراحة».
فصاح: «كلام فارغ.. هذا العامل حمار ولا يستحق مليما مما أخذ.. ولعله أتلفها وهو يحسب أنه أصلحها».
قالت: «لا فائدة من هذا الكلام الان».
قال: «ولكن ماذا نصنع الان؟ لو كنا بقينا فى المحطة لأمكن أن نجد لنا حيلة.. وكنا نستطيع أن نبيت إلى أن تأتينا نجدة. أما الآن فهل نبيت فى الصحراء؟»
قالت: «ولماذا؟ ألا يمكن أن تمر بنا سيارة فتحملنا؟»
قال: «ونترك سيارتنا؟ مستحيل. هذا تخريف».
قالت: «للضرورة أحكام».
فعاد يقول: «مستحيل».
قالت: «ابق إذن مع السيارة العزيزة أما أنا».
قال: «ها ... أهو ذاك؟ تظنين أنك نجوت منى؟ سترين أنك مخطئة. فما لك نجاة وقد وقعت فى يدى».
قالت ساخرة: «وقوع العصفور فى فم الأفعوان؟»
قال: «تماما.. الان فهمت سر هذا اللطف والظرف..». وهز رأسه ودس يده فى جيبه وأخرج رأس مسدس وقال: «أتعرفين هذا؟ هل رأيت مثله فى حياتك؟ هل تعرفين ماذا يصنع الناس به؟»
فاصفر وجهها وارتجفت شفتاها وهى تقول: «لقد كان ينقصنى أن أعرف أنك نذل ووغد».
فقال وأعاد المسدس إلى مكانه وكان فارغا غير محشو، ولكنها لم تكن تعرف هذا: «أنا كل هذا وزيادة، وليس يعنينى أن يسوء رأيك فى وإنما يعنينى أن أنال مأربى. ولا تحسبى أنى سأقتلك.. كلا.. إنى احتفظ بك لنفسى وأدخرك لمتع كثيرة سأفوز بها منك.. برضاك أو بكرهك.. سيان».
قالت: «لن تقتلنى ولن تقتل نفسك طبعا لأنك تدخرنى لمتعتك. فلماذا تحمله إذن؟»
قال: «لأقتل به من علمك كرهى».
فضحكت، ولكنها كفت فجأة وقد خطر لها أن لعلى المعنى إبراهيم، وصاحت وقد ارتفعت يدها إلى جانبها: «لا لا لا لا».
فدنا منها ورماها بنظرة فيها من الغضب والغيرة معان. وقال: «تحبينه؟»
فرفعت رأسها وحدجته بنظرة المتحدى: «وما شأنك إذا كنت أحبه أو لا أحبه؟»
قال: «يا للجبانة.. لا تجرئين حتى على الاعتراف بحبه.. وإذا كنت لا تحبينه فلماذا تفضلين رجلا على رجل؟»
فصاحت: «يا سافل.. كيف تجرؤ على هذا الكلام؟»
قال: «أتحسبين أنى لا أعرف أنك تخرجين معه. فهل تريدين أن تزعمى أنكما تخرجان للصلاة والتعبد؟»
فلم تجبه أنفة ومضت عنه إلى سلم السيارة فقعدت عليه، وتناولت سيجارة أشعلتها. ولم يكن التدخين عادة لها، ولكنها كانت تجد فيه راحة وتفيد منه سكينة.
ودنا منها وأشرف عليها وقال: «هذا أحسن.. نعم فكرى بهدوء فى هذا.. أعنى أنى أنا أولى منه بك».
فانتفضت قائمة ولطمته على وجهه، ثم انحطت على السلم وكادت تسقط على الأرض مغشيا عليها، فما كانت تشعر أن فيها ذرة من القوة، لولا أنه انطلق يقهقه كالمجنون فرد هذا إليها رشدها، فرفعت رأسها إليه وحملقت فى وجهه فانحنى عليها وقال: «هذه اللطمة إقرار منك بأنك فهمت ما أعنى أتم فهم وأدقه. ألست أولى منه؟ اعترفى بهذا أيضا. اعترفى بيدك إذا كنت لا تجدين لسانك. هذا خدى الطميه مرة أخرى».
فكادت تبكى من الغيظ والشعور بالعجز. ولكنها ردت الدموع مخافة أن تشى بما هى فيه، وودت لو مرت فى هذه اللحظة سيارة لتصيح بمن فيها مستنجدة ولكن الشمس كانت تنحدر والأفق يلتقى بالصحراء، والطريق يذهب شمالا وجنوبا كالنهر، ولا يبدو شىء مقبل من هنا أو هنا. وأحست بالحاجة إلى تمزيق وجه صادق بأظافرها أو تمزيق ثيابها هى، وخطر لها أنه قد يروقه - فإنه حيوان - أن يرى المحجوب من مفاتنها. فلم تمزق ثيابها ولكنها ضمتها على صدرها. ولم تفت صادقا هذه الحركة فسألها: «هل تشعرين ببرد؟»
قالت: «نعم»، بصوت خيل إليها أنه خارج من جوف الأرض لشدة خفوته وضعفه، فخلع سترته وأراد أن يلقيها على ظهرها فانتزعتها من يده ورمتها على الأرض وداستها بقدمها. وسرها أنها مرغت فى التراب شيئا له وتمنت لو كان هذا وجهه. ولكن صادقا لم يعبا بهذا شيئا وقال وهو يقعد على الأرض فوق السترة: «أشكرك.. إن السترة أوثر من الرمل، ثم إن الرمل لا يوسخ شيئا، وهذه مزية الصحراء. وبعد قليل يدخل علينا الليل ويلفنا فى شملته.. وليل الصحراء بارد يا مولاتى.. وستضطرين أن تلوذى بالسيارة وستحتاجين إلى قربى للدفء.. أى نعم.. الخيرة فى الواقع.. لا بد أن الله أراد هذا، وإلا فلماذا تعطلت سيارة جديدة كهذه فى قلب الصحراء، وما اشتراها الوالد المحترم إلا منذ أربعة شهور ليس إلا؟ وفى أربعة شهور لا تخرب السيارة الجديدة. هى مشيئة الله يا مولاتى».
فألفت نفسها تقول: «أليس حتى لأبيك احترام عندك؟»
فقال: «وهل من قلة الاحترام أن أدعوه الوالد المحترم؟ سبحان الله العظيم وتالله ما أظلمك». فلم تجب. وبعد برهة عاد يقول: «معذرة يا ستنا ميمى ... سؤال لا يليق ولكن أظن الموقف يوحى به.. أترى لو كان إبراهيم مكانى وكانت سيارته هى التى تعطلت بك معه، أكان يسوؤكما أن تتاح لكما هذه الفرصة؟»
فوضعت رجلا على رجل وأشاحت عنه بوجهها. ومضى هو فى تعذيبها فقال: «إن له سيارة لا بأس بها ولكنه يتركها للزوجة المسكينة.. يضحك بها عليها.. يلهيها بها.. ويخرج معك فى تاكسى أو مركبة خيل.. هذا الرجل لا سافل ولا نذل.. ولا وغد ولا شىء مما تفضلت به على من النعوت الجميلة. وأنا السافل، أنا النذل.. ليس لى زوجة وإنما لى قريبة أحبها ومن حقى أن أحبها.. وهى أيضا ليس لها زوج.. ومن واجبها أن تتوقع أن يرغب فيها من كان مثلها.. لا امرأة له.. ليس فى هذا ما يستغرب.. لأنه هو الطبيعى.. ولكن الطبيعى ليس هو الطبيعى فى نظر المدموازيل ميمى.. لأن المدموازيل ميمى ترى أن تهب نفسها لرجل له زوجة وتضن بنفسها على رجل ليست له زوجة.. ويصبر هذا المحروم بغير حق.. ويطول صبره حتى ينفد.. ولكل شىء آخر. وبعد أن ينفد صبره تستغرب المدموازيل ميمى أنه لم يبق له صبر، وتقول له إنه نذل.. نذل لماذا؟ لأنه يحبها بحقه.. يحبها كما تعرف فما كتمها حبه.. ولو كانت تقبلت حبه لما احتاج أن يلجأ إلى الوسيلة التى يشير بها اليأس ولكنها أيأسته.. أيأسته حتى لم يعد فى وسعه أن يصدقها إذا قالت له، وأقسمت إنها تتقبل حبه لأن هذا لن يكون منها إلا محاولة للإفلات من يده. كونى منصفة وقولى إن هذا الرجل معذور».
فثارت به تلعنه وتقول له فيما تقول: «وماذا تظننى؟ سلعة.. كتابا على رف؟ أحبب من تشاء، ولكن أليس لى رأى فى نفسى؟»
فقال بتهكم «ترى ماذا أعجبك من إبراهيم هذا؟ سفسطته وثرثرته؟ فلسفته العجر؟ ماذا بالله؟ لا بد أن يكون شىء أعجبك؟»
وفى هذه اللحظة أقبلت سيارة تخطف فنهضت وجعلت تشير إليها ولكنها مرت ولم تتلبث. وكان صادق قد التفت أيضا إلى السيارة وأشفق أن تقف، فلما مضت تبسم وقال: «لا فائدة يا قريبتى العزيزة.. وطنى نفسك على التسليم لقضاء الله».
وارتمت ميمى على السلم مرة أخرى وقد بدأ اليأس يخامرها. وماذا يكون مصيرها إذا ظلت كل سيارة تقبل وتمر خطفا ولا تقف؟ وسيجئ الليل كما أنذرها فتخفى فى ظلامه الإشارة. وقد لا يسمع صوتها أحد ممن فى السيارات إذا صاحت مستنجدة، ومن يدرى فقد يخطر لهذا المجنون أن يكمم فمها ويقيدها.
وقال صادق: «اسمحى لى.. أعنى أنى أرجو أن تنهضى عن السلم فإنى أريد أن أجر السيارة عن الطريق مسافة متر أو مترين لتكون ونكون فيها فى مأمن من الحوادث. ألا توافقين؟»
فنهضت وهى تقول: «وماذا يهم؟» وتمنت أن يصدمها صادم فيكون هذا مخرجا لها.
وأقبل صادق على السيارة يدفعها ويحولها عن الطريق إلى الأرض الرملية، على حين وقفت تتلفت يائسة فما كانت ترى شيئا. وانحدرت الدموع بكرهها فكفكفتها. وكان صادق مشغولا بالسيارة وتحويلها - يدير العجلات ثم يروح يدفعها من الأمام وهكذا - حين أقبلت سيارة صغيرة لم ترها ميمى إلا وهى على مسافة قصيرة، فاندفعت إلى وسط الطريق ورفعت كلتا يديها وراحت تشير إشارة الوقوف، وتنظر عن عرض إلى صادق وكان ظهره إليها فهو لا يرى. وخطر لها أن السيارة الآتية قد تدوسها إذا ظلت واقفة فى طريقها هكذا، ولكنها كانت لا تبالى أوتعبأ شيئا بما عسى أن يصيبها، بل لقد تمنت أن تداس، فإن هذا منج على كل حال. غير أن السيارة لم تدسها بل وقفت على مترين منها، ونزل منها إنجليزى رفع القبعة وسألها هل يستطيع أن يساعدها.
وإذا بها تسقط على الأرض مغشيا عليها. وأدركها الرجل وحملها على يديه، ونظر إلى صادق وسيارته ورأى ما يصنع، فمضى بميمى إلى سيارته هو ووضع رجله على السلم وأراح جسم ميمى على فخذه، وفتح الباب وترفق بها وهو يضعها على المقعد الخلفى، ثم شرع يحاول إنعاشها وردها إلى الدنيا.
وتنبه صادق إلى ما هو حاصل، فترك السيارة وأقبل على الرجل فقال له هذا: «والآن يا صاحبى يحسن بك أن تركب معنا أيضا. دع السيارة إلى الصباح، وفى الإسكندرية تستطيع أن تجد من تبعث به ليصلحها».
فهم صادق بكلام، ولكنه كان لا يحسن الإنجليزية، وكان إلى هذا يحس أنه لا فائدة من المكابرة، فقد خرج الأمر من يديه، وأراد شيئا وأراد الله خلافه. فعاد إلى السيارة وحمل ما فيها ونقله إلى سيارة هذا الإنجليزى المتطفل الذى جاء فى وقت الحاجة إلى غيابه.
وفتحت ميمى عينها فتشهدت واعتدلت على المقعد، ومالت قليلا إلى الأمام ولمست كتف الرجل وقالت له لما أدار إليها وجهه قليلا: «أشكرك»، فابتسم الرجل وهز رأسه ولم يزد.
ثم كأنما تذكرت شيئا فاعتدلت مرة أخرى والتفتت إلى صادق وقالت له: «هات هذا المسدس».
فلم يسعه إلا أن يخرجه ويناولها إياه، وهم أن يقول إنه فارغ. ولكنها فتحت النافذة وقذفت به على الرمل، وقالت لصادق وهى تغلق الزجاج: «ابحث عنه حين تعود لتأخذ السيارة».
فقرض صادق أسنانه ولم يقل شيئا.
4
لم يحمد إبراهيم من ميمى أنها قصت عليه ما كان من صادق معها فى رحلتهما المضطربة. فما فيها ما يخف على اللسان جريه أو على الأذن سماعه وإن كانت قد انتهت بخير على ما روت، ولم يشك فى صدقها، ولكنه كان وهو يصغى إليها يحس كأنها تصكه بالحجارة، وكان أمرأ يكره المشاكل والتعقيد والضجات ولا يحب وجع الرأس والقلب. وزاد امتعاضه أنه شعر أن ميمى تحمله تبعة بغير حق. وكان قد عاد من رحلته مع تحية إلى بلدة أبيها مسرورا راضيا، شرحت صدره مناظر الريف وبساطة أهله وحفاوة صهره، وإقباله عليه ومساناته له، فأضمر أن يسر تحية ويبرها، وكان يتكلف ذلك فى أول الأمر، ثم ألفى نفسه محمولا على متن التيار كالممثل الذى وافقه دوره فاستغرقه حتى نسى أنه يمثل. وكانت تحية ترى إقباله عليها ورغبته فيها وتحريه ما يسرها فتحمله على محمل الحرص على إخفاء الفتور الذى عراهما، عن أبيها وقومها. وكان هذا مبتغاها هى أيضا فسايرته متكلفة مثله ثم شامت منه الإخلاص، وانست صدق السريرة، فهتف قلبها، وازدهاها الفرح وأولته من نفسها ما كان بعد العهد به قد فترها عنه، فصارا كاللذين خرجا للتنزه وجاء كل منهما بطعامه فتاكلا فى موضع واحد، وعادا إلى القاهرة وما يذكران أنهما فازا بمثل هذه السعادة.
ولو أن إبراهيم سئل عن إحساسه لما التقى بميمى بعد هذه الأوبة المرضية لما استطاع أن يبين، فقد كان مغتبطا بهذا الصفو بعد الكدر، وكان لا يفكر إلا فى طيبه ولا يعنى إلا باستدامته. وكانت حلاوة ما سقته تحية من حبها المتين قد بغضت إليه المخادعة والغش. ولم يخطر له أن ينقض عهد ميمى، ولكنه أحس أنه لا يستطيع أن يعطيها باللسان ما ليس فى القلب. وانتوى أن يرتد بها رويدا رويدا إلى حد من الصداقة يرضيانه ولا ينكره عليهما منكر. وكان يدرك أن هذا ليس مما يهون، ولكنه توكل على الله وآلى أن يمضى فى هذا النهج الذى بدا له أنه أحكم ما يستطيع أن يأخذ فيه.
وكان يقول لنفسه وهو فى طريقه إلى ميمى إنه لم يملها وإنها لا تمل ولكنه فاز بطيبات زهدته فى الطلب. وكان كالشبعان الذى أكل حتى هنئ، فهو لا يستطيع أن ينظر بعينيه إلى طعام، وإنه من يدرى؟ لعل الصداقة التى يرجو أن يقيم على حدودها علاقته بميمى تكون أمتع لهما جميعا. ولميمى مستقبلها وستتزوج يوما ما وليس هو بالذى يستطيع أن يغنيها عن الزواج، وأنه لا سنه ولا حاله تسمحان باستقامة الأمور على الأيام مع ميمى مع سنها وحالها. ولكن هل تقتنع المرأة بالصداقة؟ أو هل تسمح لها طبيعتها أن لا تخلطها بالحب والجنس؟ وخشى أن لا تستطيع المرأة ذلك مع الرجل كما يستطيعه الرجلان.. فإن قطب الرحى فى حياة المرأة هو الغريزة النوعية، ولا حيلة لها فى هذا ولا لوم عليها فيه، فإنه الذى تقضى به طبيعة خلقها والوظيفة التى كلفتها ووكلت إليها، ولكنه مع ذلك رجا أن يجد من عقل ميمى وحكمة طبعها عونا له. ولماذا لا يحضها على الزواج ويزينه لها؟ ولكن أين أو من أين يجيئها بهذا الزوج الصالح؟ وتالله ما أثقل أن يكلف نفسه عناء هذا السعى أوحتى أن يفكر فيه.
ولقيته ميمى بهذه القصة فاستهجن موضوعها واستنكر ما انطوى عليه تحديثه بها من إشعاره أن هناك تبعة ولو ضمنية خفيفة يحملها. ولم يعبأ شيئا بتهديد هذا الفتى، وإن كان لا يخفى عليه ما عسى أن يجر إليه طيش الشباب وحنق الحب الفائر المحلأ عما يطفئ الغلة وينقع الظمأ. ولكنه لم يجعل باله إلى هذا، وبدا له أن العقدة كلها تحل إذا هو حل عقدته. وكان همه كله فى هذه الاونة أن يشعر أن كل ما يفعل أو يترك لا يمكن أن يكون فيه ما يكتم عن تحية أو ما يعد خيانة لثقتها به وائتمانها له. وإن لميمى عليه لحقا أيضا. ولكن حقها يجىء بعد حق تحية ما فى هذا شك. أو هكذا يجب أن يكون الأمر.
وقال لميمى بعد أن أصغى إلى القصة: «إن صادقا هذا قريبك، وهو شاب، ثم إنه يحبك، وليس فى هذا ما يعاب أو يستنكر، وإنه ليثنى عليك حين يقول إنه يحبك، والحب مجهوده فهو الحقيق أن يتيه به عليك. نعم أنت الباعث، ولكن الطبيعة هى الباعث الحقيقى، وما أنت إلا أداة وإنها لأداة قوية ثمينة ولكنها أداة ليس إلا، وأنت كالزهرة على عودها، ولا تستوى زهرة فى صحراء لا يراها فيها أو يحسها مخلوق، وأخرى حيث يراها الناس ويحمدون منظرها وطيب مشمها، فأنت حقيقة بأن تفرحى بحب هذا الفتى، والذى بدا لك من جنونه هو من فورة هذا الحب، وعنف عصفه بنفسه، فأنت أولى بأن تزيدى سرورا لا أن تسخطى وتنفرى. وما أراك أحسنت إلى نفسك بجحود فضله، نعم فإن حبه من فضله عليك. ولو ثقل على نفسك هذا المعنى فإنه الحقيقة، وما أراك أنصفته أو أنصفت عقلك، فأين كان عقلك حين استثرته وهيجته وأغريته بهذه الحماقة؟
قالت متعجبة: «وماذا كنت تريد منى أن أصنع؟ أترانى كتابا على رف من شاء أن يمد يده ويتناوله فله ذاك؟»
قال: «ليس الأمر كما تتصورين، لا أنت كتاب ولا هو يريد أن يغتصبك، واسمحى لى أن أقول لك إنك عمياء».
قالت: «عمياء؟ ماذا تعنى؟»
قال: «أعنى أنك تحبينه وأنت لا تدرين».
فضحكت.
قال: «لك أن تضحكى ولكنك ستعرفين أنى صادق الفراسة حين تستطيعين وأنت ساكنة النفس أن تديرى عينيك فى قلبك وتتبينى ما فيه».
قالت: «كله إلا هذا».
قال: «والحقيقة أيضا أن الذى يستر حبك عن عينك هو خوفك وفزعك من حبه الطاغى العاتى».
قالت: «أما أنى أخافه وأفزع منه فصحيح وأما أنى أحبه فلا».
قال: «هذا أكبر ظنك.. إذن قولى واصدقينى».
قالت: «إنك تعلم أنى لا أكتمك شيئا».
قال: «ليتك تفعلين أحيانا».
قالت: «لماذا؟»
قال: «لتزيد فتنتك.. ليس مما يطيب للمرء فى كل حال أن تكون المرأة كالصفحة المرفوعة لعينه، وكل ما فيها مسطور بالخط الكبير».
فنظرت إليه كأنما تحاولى أن تستشف المعنى من هيئته لا من ألفاظه، ولكنها لم تقل شيئا ولعلها لم تستطع أن تستوضح شيئا. ومضى هو فى كلامه فقال: «ألا تحسين أنك تتمنين لو كان يلقاك هادئا غير فاتر».
قالت: «هذا أشهى إلى كل نفس، فما لأحد لذة فى هذه الثورات المزعجة».
قال: «ليس إلى كل نفس، ولا إلى نفسك أنت. وإنه ليسرك - فى قرارة نفسك - أن حرقاته تهيج من فرط حبه لك. ولكن عنصر الفزع يستر هذا السرور. ولو كنت تشعرين بالأمن أو بأن لك حيلة أو أن زمامك لا يوشك أن ينتزع من يدك لبدا لك السرور المحجوب. وإنه ليسرك أيضا أن ينتزع الزمام من يدك، ولكن الأوان لم يأت، لأنك لم تفطنى إلى حبك له فأنت لا تزالين تقاومين الشعور الخفى بأنك يوشك أن تغلبى على أمرك وتلقى السلاح وتفتحى ذراعيك».
قالت: «هذه خيالات.. إن خيالك يجمح بك».
قال: «كلا ... ليست هذه خيالات وإنما هى حقائق أراها ماثلة كما أراك. وستعلمين بعد حين أنى على صواب».
قالت: «لماذا تتكلم كأنى لست إلا كتابا تبدى فيه رأيك؟»
ففطن إلى مرادها وأغضى عنه وقال مجيبا: «لأن فى وسعى أن أنتزع من نفسى شخصا اخر، أى أن أتجرد وأدرسه كأنه إنسان غيرى على قدر ما يتيسر هذا لإنسان».
قالت: «ولكنى أحس كأنك لا يعنيك مصيرى».
قال: «لو كان لا يعنينى لما حاولت أن أفتح لك عينيك. إنى أبغى لك السعادة وأدلك عليها».
قالت بلهجة التهكم: «السعادة مع هذا الفتى؟»
قال: «نعم مع هذا الفتى. إن عقلك يقول لك إنه فتى عاطل، وأنت فتاة تكدحين لكسب رزقك، ويقول لك عقلك وما عودك التدريس من احترام نفسك إنه لا يليق بك أن يستولى على قلبك فتى عاطل، أو أن يعرف عنك أنك قد تدلهت بمثله، ولكن قلبك يحن إليه بل يتفطر لهفة. هل تستطيعين أن تذكرى لى ماذا كان شعورك الحقيقى لما تناولك بين ذراعيه كرها، وأهوى عليك بالقبل الحرار، وأنت تحاولين أن تتفلتى من عناقه العنيف؟»
قالت وقد اتقدت وجنتاها: «هذا سهل. لم يكن لى شعور غير الاشمئزاز والنقمة، ولو استطعت أن أمزق له جلدة وجهه لفعلت».
قال: «لا شك، لا شك. ولو شعرت بغير ذلك لما كنت ميمى التى أعرفها، بل لما كنت امرأة لها قيمة. ولكن ألم تشعرى أن دمك قد صار أسرع فى عروقك؟ ألم تحسى بمثل الدوار الخفيف الذى يجعل الأعضاء تسترخى؟ فكرى.. أديرى عينيك فى قلبك».
قالت: «نعم. ولكن هذا كان من الغيظ والضعف».
قال: «ومن شىء آخر. ولو عنف بك هذا العنف فى بيتك وأمك فى غرفة أخرى بحيث تسمع إذا نوديت لاختلف الحال.. كان الاشمئزاز يبقى، ولكنه كان خليقا أن لا يبلغ مبلغا يحجب الشعور باستطابة القبلات، أو يمنع الرغبة فى المجاوبة أن تظهر ولو اثرت أن تقاوميها.. ولكن عامل الخوف فى الصحراء الموحشة تغلب».
قالت: «ماذا تريد أن تقول؟»
قال: «أريد أن أقول إنك تحبينه يا فتاتى. أصدقى نفسك فإن هذا يكون أعون لك فى موقفك».
قالت: «موقفى؟ ما هو موقفى؟ إنه لم يتغير».
قال: «سيتغير.. لا تعجلى.. هذا الفتى يحبك وأنت تحبينه فواجهى الأمر من هذه الناحية فإنه أجدى عليك».
قالت: «يخيل إلى أنك تريد أن تتخلص منى.. قل هذا بصراحة إذا كنت تعنيه وتضمره».
قال: «لا.. لا خلاص لى ولا رغبة لى فى خلاص.. ولا خلاص لك منى إلا بإرادتك. إنما أريد أن أوجهك الوجهة القويمة التى تصلح بها حياتك».
قالت بضعف: «ولكنى لا أحبه.. ثم إنه عاطل».
قال: «ما دمنا قد دخلنا فى أسباب عدم الحب، فقد اعترفنا بأن الحب هناك».
قالت: «إنى لم أعترف».
قال: «بل اعترفت.. وعلى أنى لا أطلب اعترافك لأنى أعرف».
قالت: «أما إنك لغريب اليوم.. ماذا جرى؟»
قال: «الذى جرى هو أنك تحبين هذا الفتى.. ألا تذكرين أنى أوصيتك بمحاسنته؟»
قالت: «أكان هذا هو السبب؟»
قال: «تقولين إن هذا الفتى عاطل. وإنه لكذلك. وفى يدك أنت كما قلت لك من قبل أن تصلحى من أمره.. أن تجعلى منه شيئا له قيمة فى الحياة. إن كونه يحبك فرصة لك.. وجهيه.. بثى فى نفسه الثقة والاطمئنان.. أطمعيه فى حبك واحترامك.. إنه الان حائر ضال لا يهتدى، حبه المزدرى يغريه بالاستحواذ عليك بالقوة ... يريد أن يعلمك احترامه بالوسيلة الطبيعية الساذجة.. بالقوة ... وسيلة أهل الكهوف من أجدادنا الأقدمين.. ولكنه إذا آنس منك الاستعداد لاحترامه، إذا التمسه من طريق آخر فلا أحسبه يتردد فى اكتسابه من الطريق الذى تصفين وتؤثرين. طاوعينى وأطمعيه فى احترامك، فإن به حاجة إليك. يكفى أنه قريبك فله عليك هذا الحق.. حق التوجيه الصالح».
قالت: «هذا واجب أبويه قبل أن يكون واجبى».
قال: «بل هو واجبك الآن. انظرى إليه على أنه محبك المفتون بك لا أنه ابن أبويه.. وكابرى إذا شئت فى حبك له، فما هذا بالذى يقدم أو يؤخر، وسترين حين يهدأ وتهدئين أن الأمر كما أصف، وأنى أستحق منك قبلة الشكر».
قالت برقة: «أترانى أضن عليك بالقبلة حتى تؤدى ثمنها؟»
قال: «إنما أريدها فى أوانها قبلة شكر.. قبلة شكر تستطيعين أن تمنحينى إياها على عينه وبرضاه.. قبلة يشاركك هو فى معنى الشكر الذى يبعث على منحها».
فأطرقت كالمفكرة ثم رفعت رأسها وقالت: «أتعلم ماذا؟ لكأنى بك تغرينى به.. لا أدرى.. ولكن هذا ما يبدو لى.. لعلى مخطئة فاعذرنى».
قال: «لست أغريك به فما بك حاجة إلى الإغراء. وعلى أنى لو كنت أغريك به لما كنت إلا حكيما».
فابتسمت وقالت: «دع الحب وقل لأى شىء يصلح هذا الفتى؟»
قال: «لماذا لا يوليه أبوه شئون زراعته؟ إنه قوى وذكى وخفيف كالثعلب وآفته أنه لا يعمل شيئا.. لو كان مغرى بالألعاب الرياضية، أو ذا عمل يشغله زمنا لما أمكن أن تبلغ ثورته هذا الحد الذى يفزعك ويحجب عنك إيثارك له».
قالت متهكمة: «لقد كانت المحاضرة يا سيدى الأستاذ مدهشة، وأظن أننا نستحق شيئا من الراحة بعدها، فهل تسمح بأن أدق الجرس؟»
قال: «كان فى وسعك أن تدقيه من اللحظة الأولى. ومعذرة إذا كان موضوع المحاضرة يا تلميذتى النجيبة قد ثقل عليك.. ولكنك تعرفين الأساتذة.. ثرثارين.. لا يكاد المرء يفتح لهم بابا حتى ينطلقوا كالقنبلة.. ما علينا ولنخرج إلى فضاء الله بعد هذه الجلسة المتعبة».
ونهضا وذهبا يتمشيان.
ولبثا هنيهة لا يتكلمان. وهو يفكر فيما قال لها وكان مؤمنا بصحة نظرته وصدق فراسته، وراضيا عن نفسه لأنه فتح لها عينها، وبدا له أن هذا خير حل، وأنه المخرج المأمون من ورطته. وهى تفكر فيما سمعت ولا تكاد تصدق ولا تريد أن تسلم. ثم التفتت إليه فجأة وقالت: «ولكنى لا أحبه.. إنما أحب..».
وأمسكت. فقال ولم يلتفت إليها: «لا تخدعى نفسك.. كلا لست تحبين أحدا سواه. نعم، أعرف أنك لا تنطوين لى على كره. بل أستطيع أن أزعم أنك تحبيننى ولكنه حب من طراز آخر. هو تعلق بمن أيقظ شعورك وأزخر تيارا كان راكدا وأفادك بعض النعيم بشبابك.. تعلق بمن أعدك لما أنت حقيقة به من نعيم الحياة.. ثم تفوزين بالنعيم المذخور لك فتشعرين أن الغدير يصب فى نهر عظيم، أو أن النهر يصب فى بحر. وللنهر جماله، وللغدير حسنه وطيبه، ولكن البحر أروع وأجل، وأعظم استغراقا للنفس. وتلقيننى وألقاك فنتساقى التذكر فنكون كأننا تساقينا خمرا كما يقول الشريف، ونحمد ما كان ونشكر الله عليه، وتظل ذكريات هذا العهد الحميد رباطا وثيقا.. أليس هذا أجمل؟»
فوضعت أصابعها على ذراعه، وقالت: «مالك تتكلم كأن هذا وداع؟»
قال: «هو وداع.. ليس بالمعنى الذى يسبق إلى الذهن. كلا.. ولكنى انظر إلى غد فأراك زوجة صادق.. وأراك راضية ناعمة قريرة العين.. وأرانى فرحا بك وبسعادتك مغتبطا بأنى يسرتها لك، وأعفيتك من مشقات التخبط حتى تناليها فيكون هذا حينئذ وداعا.. توديعا لعهدنا الخاص».
فوقفت وقالت: «لست أصدق.. كلا، لا أصدق.. ما لك تقذفنى هكذا؟ ألا تمهلنى حتى أتدبر؟ إن رأسى يدور وأعصابى كالخيوط التى اختلطت وتعقدت، ولولا أنك أنت لما أمكن أن يحدث لى ذلك».
قال: «وهذا أول يوم أراك فيه غير دائمة الابتسام».
قالت: «هذا فعلك».
قال: «تبسمى.. تبسمى.. اه، هذا أحسن.. والان تعالى نأكل لقمة فإنى أتضور».
وكانا فى الجيزة فمضى بها إلى مطعم على النيل وطلب لها ولنفسه حماما مشويا وزجاجة من البيرة، صب لها قليلا فى كوب وقال: «هذا نخب سعادتك»
قالت وهى ترفع الكوب: «نعم، ولكن معك.. لماذا تريد أن تحرمنى سعادتى هذه؟ إنى قانعة بها ولا أتطلع إلى سواها».
قال: «ستتطلعين حين تعرفين نفسك».
قالت: «لا فائدة.. إنك عنيد.. وليس هذا عهدى بك، ولكنى لا أدرى ماذا جرى لك.. ولا أرى لى حيلة فيحسن أن أقصر.. ولكنى واثقة أنك ستعود فى الأسبوع الآتى كما كنت».
قالى: «وأنا واثق أنك ستهتدين إلى نفسك هذا الأسبوع».
فقالت: «كيف يمكن؟ ألم أقل لك؟»
قال: «نعم. ولكنك لم تقولى غير ما أعرف.. وسترين أنى أعرف بك من نفسك».
فأمسكت.
ولما هما بالافتراق فى يومهما دنت منه، وقالت: «إنك لم تقبلنى اليوم».
قال: «أقول لك الحق إنى أشعر أن ليس لى هذا الحق».
فلم تسؤها قسوته وقالت: «ولكنه حقى أنا ولست أنزل عنه».
فضحك وقال: «لا يضيع حق وراءه مطالب ملحاح».
وقبلها قبلة من يحس أنه سيحرم مثلها. ولم يفتها هذا الطعم الجديد، ولكنها لم تقل شيئا.
ولما عاد فى تلك الليلة إلى بيته قال لتحية: «هل تعرفين أن ميمى ستتزوج صادقا قريبها؟»
فقالت: «متى؟ من قال؟ لماذا لم أعلم من قبل لأفكر فى هدية؟»
قال: «هو هو..! على مهلك.. إنى أنا الذى أقول ذلك.. وليس يعلمه سواى حتى ولا صادق».
قالت: «لست فاهمة».
قال: «ستفهمين.. وسترين.. كل شىء فى أوانه.. أتحسبين أن المرأة وحدها هى التى تحسن تدبير هذه الأمور؟»
فدهشت، وكادت ترتاب، وهمت بسؤال، ولكن وجهه طمأنها.
5
ولكن الأمر لم يكن من السهولة بالمكان الذى يتصوره المرء من حديث إبراهيم مع صاحبته. فقد جمح به الخيال، فراح يتكلم كأنما كشف له عن الغيب. وكان امرأ تستغرقه اللحظة التى هو فيها ما دام فيها، ويفتنه المعنى الذى يخطر له فيسترسل فيه ويصفيه، ويذهله سحر ذلك أو حلاوته عما عداه. وكان لهذا يبدو لعارفيه كأنه أكثر من إنسان واحد. فهو فى سيرته رجل عملى حازم سريع البت، يتناول الأمور من حيث هى أقرب ويمضى إلى غايته من أوجز الطرق وأسهلها وأسلسها. وإذا اعترضته الموانع تدبرها ووزنها وقاس قوتها إلى ما يتقاضاه تخطيها أو تذليلها من جهد. فإذا أيقن إنها هينة أو إذا رأى أن الأمر يستحق العناء، أقدم مصمما وإلا تحول، غير أسف، إلى ما هو أولى وأرشد. فما كان أبغض إليه من بعثرة الجهد وتبديد القوة فى غير طائل، وتكلف ما هو عبث أو محال استحياء من أن يقال انهزم أو ضعف. ويعرف من يعرفونه أنه رجل عاطفة ووجدان، واحساس مرهف وأعصاب كالأوتار المشدودة. ولكنهم كثيرا ما كان يخفى عليهم أن عقله مسيطر على عاطفته، وأن زمام نفسه لا يفلت من إرادته، وأن العواطف تتحول عنده إلى فكرة، فهى غذاء لعقله، كما يتحول الطعام قوة فى بدنه. وقد اعتاد أن يراجع نفسه ويدير عينه فى كل ما فى نفسه من خوالج. وما من عاطفة تستطيع أن تحتفظ بقوة العصف مع هذا «الأجترار» المتواصل. وكان إذا قرأ، أو كتب، يغيب عن الدنيا وما فيها، ومن فيها، ولا يعود له إحساس إلا بما يعالج، فيبدو للناظر رجل خيال لا يعرف الدنيا ولا تعنيه حقائق الحياة لفرط انصرافه عن ذلك كله، وتمام استيلاء ما هو فيه عليه. وكان يكره الضجات وينفر من الأصوات العالية. وكان خافت الصوت يحوج السامع إلى حسن الإصغاء وإرهاف الأذن، ولم يكن هذا عن ضعف، بل لأنه كان يسمع صوته يدوى فى جوانب رأسه من الباطن، فلا يزال يخفضه ويهوى بطبقته حتى تفتر هذه الأصداء الباطنية وينقطع إزعاجها. وأعانه على رياضة نفسه على خفوت الصوت، أنه يرى أن الحديث له لذته وإمتاعه، ولزومه أيضا. ولكنه جهد معظمه ضائع فى الهواء وذاهب مع الرياح الأربع، فلا داعى لتكليف النفس فوق ما يقتضيه الأمر من جهد. وأحجى أن يدخر المرء كل ما يستطيع إدخاره من قوته، وأن لا ينفقه فى باطل لا خير فيه. وكان لهذا، على كونه ثرثارة، يطول صمته أحيانا حتى ليثقل على جليسه. وكان إذا مرض أطبق فمه واستغنى بالإشارة عن اللسان، وأبى أن يعوده أو يدخل عليه أحد، حتى لا يتكلف جهد الكلام أو الإصغاء، وليحتفظ بجهد نفسه كله لمغالبة الوعك. ومع ذلك كان يتفق وهو فى بيته ومع زوجته وبين ضيوفه أن يغيب عنهم جميعا، وينطوى على نفسه فلا يعود يسمع ما يقال، أو يحفل ضجة الحديث فكأنه فى خلوة تامة، أو كأنه فى غيبوبة، لولا أن الوعى لم يفارقه. وكانت تحية تعرف فيه هذه القدرة - وما كان يسعها إلا أن تعرفها - وكانت ربما مازحت ضيوفها وراهنتهم على أن ليس فى وسع أكبر ضجة أن ترده إلى الدنيا إذا غاب بنفسه عنها. فكانت تفتح «الراديو» ولا تزال ترفع طبقة الصوت شيئا فشيئا، حتى يبلغ أقصى قوته وهو كأنه دمية، أو ليس من بنى الإنسان أو أصم أو مذهوب بسمعه، فيضحك الضيوف ويستغربون. ويبلغ من عجبهم ودهشتهم أن يخافتوا بحديثهم، حتى يصير همسا، ويكون أبعث على تعجبهم أن الهمس يوقظه ويرده إليهم، كما ينام المرء وهو فى «القطار» على ضجته حتى إذا بلغ المحطة وسكنت الضوضاء استيقظ.
وراح إبراهيم بعد ذلك الحديث الذى ألح فيه على ميمى بأنها تحب صادقا وهى لا تدرى، يسأل نفسه، على عادته فى مراجعتها، ألا يمكن أن تكون فراسته قد خانته؟ ولماذا لج فى قوله لها إنها تحب صادقا؟ أتراه اندفع، بقوة شعوره بالرضى الجديد بتحية وعنها؟ أتراه يريد أن يخرج من ورطة علاقته بميمى؟ ولكن هل هذه ورطة؟ إنها صداقة أفاد منها متعة لا تنسى ولا تستقل . ولكن الأمر لم يبلغ حد التورط فى شىء، وقد سقاها ما يشبه كئوسا من خمر الحب، ولكنها فى رأيه خمر لها نشوة ولا شك. غير أنها لا تشتد لها سورة، ولا يأخذ فى شاربها دبيبها، ولا يعنف به تمشيها. غير أنه من يدرى؟ إن القليل الهين فى ظنه قد يكون كثيرا فى إحساس ميمى. أليست قد قالت له إنها تحبه؟ ولقد أمسكت وصدت نفسها عن إتمام الجملة. ولكن الجملة الناقصة كانت أفصح وأقوى. وما ردت لسانها إلا لعلمها أنه يستثقل دوران اللسان بألفاظ الحب، ويستهجن اللغط به ويؤثر حقيقته على وصفه، أو لعلها خافت أن لا يصدقها. فقد قال لها مرارا إنه لا يصدق أن امرأة يمكن أن تحبه لما يعرف من النقص فى نفسه، والقصور عما يجعل المرء جديرا بالحب، وأنه من أجل هذا يؤمن بالصداقة ولا يؤمن بالحب. ولكن من يدرى مع ذلك؟ إن هؤلاء النساء أمرهن عجيب والذى يستطيع أن يعرفهن ويفهمهن على حقيقتهن، لم يخلق بعد. ولقد قيل إن المرأة خلقت من أحد أضلاع الرجل. فليكن ... فما يدل هذا إلا على أنها قريبة منه، ولكن خلقها غير خلقه وبدنها غير بدنه. واختلاف التكوين يؤدى إلى اختلاف الوظائف فاختلاف أساليب التفكير والإحساس.. ولكن ماذا يكون إذا صح أن ميمى تحبه؟ هل يتفق الحب والقناعة وانعدام الغيرة؟ إن ميمى قانعة راضية لا تطمع فى غير ما هى فيه ولا تتطلع إلى خلافه أو مزيد عليه، ولا تبدو عليها رغبة فى الاستئثار به، أو غيرة من امرأة أخرى، أو امتعاض من الحظ الأوفر المذخور لتحية من قلبه وحياته. بل إنه لينزل تحية منزلة القداسة ويجعلها فوق أن يجرى حديث عنها بينهما، أو بينه وبين إنسان آخر - رجلا كان أو امرأة - ومع ذلك لا يثقل عليها أنه يضعها فى هذا المحل الأدنى، وأنه يرفع تحية هذا المقام الكريم الذى لا يتسامى إليه اللحظ. فأى حب يكون هذا الذى تحبه ميمى، إذا كانت تحبه؟ أتراه يمكن أن يكون من ذلك الضرب الخيالى الذى يعز فى الحياة والذى تكون فيه التضحية بالذات، وإنكار النفس بل فناؤها، لذة ما بعدها لذة؟ وحدث نفسه أن هذا كلام فارغ، وأن الأقرب إلى العقل، والأرجح فى الظن، هو أن ميمى لا تنطوى له على أكثر من صداقة كريمة لا تبلغ درجة الحب المستغرق الاخذ بالكليتين. ولكن هبها.. هبها تحبه؟ إنها إذن تكون مسكينة فما يستطيع أن ينيلها فوق ما تنال من وده إلا بخيانة تحية. وهو لا ينوى ولا يستمرئ أن يخونها، ولا موجب لأن يعنى نفسه بهذا. ولكل شىء أوانه، ولكنه مع ذلك لم يسترح، ولم يكف عن تقليب الأمر على كل وجه.
ولم تكن ميمى أقل منه حيرة، وقد عادت بعد هذا اللقاء الأخير، وهى تحس كأنها تمشى على رأسها. فقد باغتها إبراهيم وألح عليها ولم يترفق بها. فكانت كالسابح الذى فاجأته موجة عظيمة، وغمرته ودفعته، فهمه أن يرفع رأسه فوق الماء ليتنفس وينظر أين هو. وكانت قبل اليوم لا تفكر فى أمرها معه، ولا تحاول أن تتبين حالها ومكانها وموقفها. وكانت تذهب إلى لقائه، كما تذهب إلى مدرستها بطبيعة الحال، أو كما تستيقظ من النوم، لأن هذا هو الذى يكون ولا يكون سواه، سواء أفكر أم لم يفكر فيه الإنسان. وكان التعليم ربما ثقل عليها أحيانا، وشعرت بالزهادة فيه، والرغبة فى الانقطاع عنه، والقعود فى البيت والانصراف إلى شئونه. وكانت تحسن الطهو، وتدبير أمور المنزل، ولا تكف عن العمل فيه فى أيام البطالة، مؤثرة ذلك على الخروج إلا فى اليوم الذى تلقى فيه إبراهيم. فقد كانت تنفض يدها من كل شىء وتتخلى لموعدها معه. ولا تفعل ذلك وهى مضطربة، أو متطلعة، أو متلهفة، بل كأن هذا بعض عملها اليومى. وكان الذى تعرفه أمها، وناظرة مدرستها، وزميلاتها المعلمات، أنها فى ذلك اليوم المعين للقاء إبراهيم تذهب لإعطاء «درس خصوصى» لإحدى البنات فى بيتها. وكانت الناظرة تحمد لها حسن إقبالها على عملها وإخلاصها فيه، وعنايتها به، وندرة تخلفها، فأخلتها فى ذلك اليوم من العمل بعد الظهر، ورتبت لها جدول دروسها على نحو يتيسر لها معه أن تتغدى فى بيتها، ثم تذهب إلى «درسها». وكانت زميلاتها المعلمات ربما عابثنها مازحات وسألنها عن هذا الدرس العجيب الذى استمر سنتين، ولم يختلف موعده مرة واحدة؟ ولكنهن كن يرين جدها واحتشامها، وعدم اختلاف حالها عن المعهود من إشراق ديباجة الوجه، وافترار الثغر، وحسن الأدب، وسكينة النفس، فلا يخالجهن شك، ولا يستربن. وقد ائتمرن بها مرة مع الناظرة، وأوهمنها أن إحدى زميلاتهن مرضت فجأة، وأن عملها بعد الظهر لابد من توزيعه على الباقيات الخاليات وهى فى جملتهن. وكان ظنهن أنها ستمتعض أو تعتذر، ولكنها تقبلت «الحصة» الإضافية الموهومة بابتسام، وزادت فسألت عن عنوان المعلمة لتعودها، فارتبكن ثم أنبأنها بالحقيقة، فلم يبد عليها أن إعفاءها من هذا التكليف أدخل على نفسها سرورا خاصا. وكان الذى سهل الأمر على ميمى أن هذا التكليف لا يؤخرها عن موعدها، وإن كان يحرمها الغداء فى بيتها، وليس هذا الحرمان بالذى يشق احتماله. ولكن زميلاتها ما كن يعرفن هذا، ولا كن يدرين أنها إنما تحرص على الخروج قبلهن، لتلقى إبراهيم وهى فى أمان من عيونهن وفضولهن. فقد تحب إحداهن أن تصحبها، أو تسايرها، فلا تأمن حينئذ أن تطلع على سرها ولو اتفاقا ومصادفة.
ولو سئلت ميمى عن المدرسة، وماذا يحببها إليها لقالت إنها تحب إحدى تلميذاتها، وهى فتاة فى الرابعة عشرة، دميمة معروقة، إلا أنها خفيفة الروح كبيرة القلب. وكانت هذه الفتاة شديدة التعلق بميمى - أبله ميمى، وكانت تهجم عليها وتقبلها كل صباح وعلى مرأى من التلميذات جميعا. وكانت ميمى تكل إليها بعض عملها، وتستعين بها فى رسم الخرائط، وحمل الكراسات إلى خزانتها، أو درجها، وتلقى إليها بمفاتيحها وتتركها معها. فهى تتولى عنها أمر الخزانة وما فيها من معطف أبيض ومثبنة، ومناديل وصابون وفوط وغير ذلك.
وكانت ميمى فخورة مزهوة بحب هذه الفتاة الصغيرة لها. وكانت ربما شعرت أنها تتطلع إلى لقاء إبراهيم فى موعده، كما تذهب إلى المدرسة كل يوم متطلعة إلى قبلة هذه الفتاة المحبة المخلصة. ولكن إبراهيم ليس بفتاة، ولا هو بصغير. اذا كانت لا تظهر لهفة على لقائه، ولا تبدو معه عليها اضطراب، فإنها تدرك - ولا تكتم نفسها - حرصها على ما تفيد منه، ورغبتها فيه. وكزهوها بالفتاة الصغيرة وحبها، زهوها بأن لها صديقا وامقا له منزلة إبراهيم وعلمه وأدبه وفضله وسنه وتجربته.
ولكن هل هى تحبه حب المرأة للرجل؟ ولو سئلت عن هذا قبل أن يدير لها رأسها بكلامه عن صادق، وإصراره على أنها تحبه وهى غير دارية لما كان جوابها إلا: «نعم، على التحقيق». ومازال الجواب: «نعم»، ولكنه لم يعد بعد هذه الزلزلة: «على التحقيق»، وشعرت أنها تستطيع أن تقول: «لا. على التحقيق»، وبلا أدنى شك إذا سئلت: «هل تستطيعين أن تستغنى عنه وتكفى عن لقائه؟» بل شعرت أنها لا تقول إلا؟ «لا. على التحقيق». وإذا سئلت: «هل تستطيعين إذا تزوجت أن تفارقيه وتبتى صلتك به؟» لا، بل هى تضمر إذا تزوجت صادقا أو غيره - فما لهذا قيمة - أن تحافظ على صلتها به، كما هى الآن بكل ما تنطوى عليه.
وخطر لها أن لعل إبراهيم لا يود ذلك. فإن له لشذوذا.. وغاب عنها أن من الشذوذ أن تود هى استمرار هذه الصلة بعد زواجها إذا كتب لها الزواج. أو لعله أراد بحديثه أن يمهد للفراق. ولكنها نفت هذا الخاطر، وأبت أن تطيل الوقوف عنده، وقالت لنفسها إن إبراهيم لا ينطوى على خبث أو غدر. وذكرت نفسها بأنه قال لها إنه لا يريد التخلص منها ولا يود معاناة ذلك، وأنه يضن بصداقتها أن يعتريها فتور أو ملال.
وحكاية صادق هذه التى طلع عليها إبراهيم بها فجأة، ما الرأى فيها؟ أيمكن أن يكون صحيحا ما قاله من أنها تحبه وهى لا تدرى؟ وأضحكها أنها يمكن أن تكون عاشقة غير دارية. وهزت رأسها منكرة ذلك. وودت لو استطاعت أن تنتزع قلبها وتضعه أمامها وتعكف عليه فاحصة منقبة مستقصية. وقالت لنفسها إن صادقا قريبها، وإنها تحبه لهذا. ولكن حبها لقريب لا يمكن أن يشبه حب امرأة لرجل. وهو لا يخلو من مزايا وصفات تحببه إليها، ولكنه طائش وجموح، وعاطل، وخائب. ثم إنه أصغر منها، وهى أسن منه.. تكبره بسنتين، فهى أشبه بأخت كبيرة له. وقد جربت منه ما يفزع وينفر. فهل يمكن أن يكون صحيحا قول إبراهيم إنه لو انتفى عامل الفزع لبان المستور؟ وهل صحيح قوله إن النفس فى حالة الفزع تكون شبيهة بالماء المضطرب، فلا يستطاع أن يرى ما فى قاعه ما دام مربدا ولكن ذلك يتسنى إذا سكن وصفا؟ ربما. ولكن كيف يتيسر ذلك؟ أترانى لو أقبل صادق الآن وهو ساكن وادع لا يثير مخاوفى بكلمة أو إشارة، أو نظرة أو حركة، أستطيع أن أتبين حقيقة هذا الشعور الذى يقول لى إبراهيم إنه مستور، تحجبه الخشية والرغبة الطبيعية فى الدفاع عن النفس؟
وملت هذا الحوار الذى لا يفيدها الاستقرار، وكانت بطبيعتها تؤثر الراحة وتنفر من الاضطراب، وتتقى بواعثه، وتهرب من المثيرات، فكفت وقالت لنفسها إن لها الساعة التى هى فيها، وإن المستقبل غيب، وسيتسع الوقت للتفكير فيه حين يجىء، بما يجىء به، وكل ما أعرفه الان أن إبراهيم صاحبى الذى أضن به على الدهر.
أما صادق ...
ومطت بوزها.
6
وكان إبراهيم يتطير من لا شىء، ومن كل شىء. وليست الطيرة فى الطباع، كما يزعم ابن الرومى، ولكنها إلا تكن فيها ليست مما يستغرب. ولعل مكافحتها أدل على معاناتها من الإقرار، فما يغالب المرء غير موجود، أو يصارع معدوما. وإذا قيل إنه يطرد وهما، فالوهم حادث والشعور به حقيقى، وله أصل ينجم منه، وعلة تحدثه. ولم تكن طيرة إبراهيم عن ضعف فى العقل أو نقص فى صحة الإدراك؟ بل كانت بعض ما أورثته النوراستنيا، وتلف الأعصاب. وكان يعرف أن طيرته خرف وكان لهذا يكتمها. ومن ذلك أنه كان يكره أن يصبح على غير وجه «تحية» فإذا أصبح على غيره، ظل يومه متوجسا غير منشرح الصدر، وكان يستثقل، ولا يهون عليه أن يوقظها ويزعجها فى البكرة المطلولة، فقد كان يبكر فى القيام، وينهض من فراشه - صيفا وشتاء - حين يبدو الصبح بأصوات العصافير، فيكتفى بأن يذهب إلى سريرها - على أطراف أصابعه - ويتملى بالنظر إلى وجهها الصابح، وربما اتفق أن يكون وجهها للحائط، فيدور حول السرير ويشب، لينظر من فوق شباكه، ومن أجل هذا أقنعها بأن تجعل بين السرير والحائط مسافة شبرين، وزعم أن البقعة خاوية وأن للبيت حديقة فهو لا يأمن أن تدب الحشرات إلى البيت. وإنما فعل ذلك ليتسنى له أن يدخل بين السرير والحائط وينظر إلى وجهها حين تكون مائلة أو نائمة على جنبها الأيسر. وكان لهذا أيضا يغريها بالنوم على الجنب الأيمن ويزينه لها، ويقول لها، إنه أصح وأرفق بالقلب حتى ولو كانت المعدة فارغة. وكان إذا تعذر أن يراها قبل أن يرى سواها، قصد إلى المرآة وابتسم لنفسه فى صقالها، وقال: «هذا على كل حال وجهى، ولا حيلة فيه، وهو على دمامته أحب إلى من وجوه الناس». وكان يحب أن يرى الهلال - أول ما يراه - وفى يده قطع من النقود الفضية، فينظر إلى الهلال، ثم إليها، ويلثمها ويلمس بها جبينه. وإذا اتفق له ذلك عفوا، وبغير تدبير سابق، كان أشرح لصدره وأبعث له على الاستبشار. على أنه مع ذلك كان لا يترك الأمر للمصادفة، فيحرص على إدخار بضع قطع فضية لرؤية الهلال، مؤثرا ذلك على ما فيه من التكلف على رؤية الهلال على وجوه الناس. وكان ينفر من الألوان القاتمة عامة، واللون الأسود خاصة، فينقبض صدره منها ويضيق، ولكنه على هذا، لا يلبس من الثياب ما كان لونه زاهيا ويفضل ما هو أقرب إلى الحشمة، وأشبه بالوقار. حتى كسوة الكراسى والمقاعد آثر فيها البساطة والخلو من الزينة، وما هو أدعى إلى راحة العين وأبعث على سكينة النفس. حتى الضوء مال فيه إلى الخفوت ونفر من السطوع. وكانت عادته أن ينزع كل صباح ورقة من التقويم المعلق، فإذا أقبل اليوم الثالث عشر من الشهر، زعم أنه سها، وترك ورقة اليوم الثانى عشر، ونزع فى صباح اليوم التالى ورقتين معا، وطواهما وألقاهما فى سلة دون أن ينظر فيهما لشدة اشمئزازه من رقم 13. وكان أبغض شىء إليه أن يفجأه صياح أو صراخ، أو صوت باك أو باكية، أو جنازة أو تابوت، ولو كان فارغا، وما يجرى هذا المجرى. ومن تطيره أنه أبى أن يقتنى أثرا فرعونيا، أو ما هو على غراره فى الصنعة. وكان يفزع من الثعابين والحشرات والهوام بأنواعها، وقد أهدى إليه أحد أصحابه مرة، منشة أو مذبة من صنعة أسيوط وعصا رأسها على هيئة الثعبان فاحتفظ بالمنشة لأنها لا صورة فيها، ودق رأس العصا حتى طحنها، وأبى أن يهديها إلى أحد، أو حتى أن يتركها وينساها فى مكان ما - فى الترام أو فى مقهى أو غير ذلك - لئلا يحيق شرها بأحد.
ولم تكن تحية تعرف أنه يتطير. فقد كانت طيرته تخجله، فهو يخفيها، ولا يعدم ما يفسر لها به، ما يبدو من الشذوذ فى سلوكه. وكان يقول لها فى تعليل ذلك إنه لا ضابط هناك ولا قاعدة للمزاج الخاص، والأمر فيما يرتاح إليه الإنسان أو ينفر منه من لون أو شىء لا يرجع إلى العقل، بل إلى الإحساس أى إلى الأعصاب، والأعصاب شىء معقد وبعض حالها موروث، والبعض اكتساب فلا تعجبى، ولكن اعذرى. وكل امرئ مهما جل شأنه، وكبر عقله، وعظم علمه، لا يسلم حاله مما يفتقر فيه إلى تمهيد العذر والصفح، والإغضاء، والتسامح. وفى كل امرئ مواطن ضعف تذكر بأنه - على علو قدره - ما زال من بنى الإنسان المخلوق من الطين الواهى أو الحمأ المسنون.. أى نعم. نحن من الطين، ففينا كل عيوبه وضعفه وهوانه أيضا يا امرأتى العزيزة، فلا تنسى هذا، وكونى أبدا منه على ذكر.
يقول هذا وأمثاله مازحا، وعلى سبيل التهوين من الأمر واجتنابا للصدق فى الإبانة، وهو فى قرارة نفسه يحس بما يسخر منه إحساسا حقيقيا يشيع فيه علوا وسفلا.. من فرعه إلى أخمص قدميه.
واستيقظ يوما، فتنبه فجأة، ومازالت عينه مفتوحة كمغمضة، إلى أن هذا هو الثالث عشر من الشهر، فاستعاذ بالله وأطبق جفونه، وانقلب على جنبه وأدار وجهه إلى الحائط وود لو ينام إلى صباح اليوم التالى. ثم قال لنفسه وهو يتكلف البشر: «لا حيلة لى أعرفها لأختزل بها هذا النهار الذى لن يكون فيما أعتقد إلا ذميما». وكانت عادته - ودأبه - أن يتوقع الذى هو أسوأ، فإذا نجا، أو كان ما هو أخف سوءا وأهون على العموم، اغتبط، وتشهد.
ونهض متثاقلا، ومشى على أطراف أصابعه إلى سرير تحية، فألقاها على جنبها وذراعها على خدها، فهو لا يكاد يرى سوى أرنبة أنفها. فقال لنفسه وهو يتنهد مستسلما لقضاء الحظ فيه: «لاعجب فإنه اليوم المنحوس من كل شهر، وأول نحوسه أن أحتاج إلى النظر إلى وجهى فى المرآة ...». وتذكر قول الحطيئة «فقبح من وجه، وقبح حامله»، وساءه أن يذكر هذا الشطر من شعر ذلك الشاعر السليط اللسان، وتساءل لماذا لم يذكر إلا هذه اللعنة على الريق؟ أليس فى شعر العرب أجمعين، وفى شعر الغربيين قاطبة ما كان يمكن أن يطفو إلى السطح غير هذا الكلام الثقيل؟
وأسلم أمره إلى الله. وقال لن أوقظ الخادمة. وصب الماء فى إبريق للشاى ليغليه. فلما غلى الماء، أنزله عن النار وكشف الغطاء ليلقى بالشاى فلسعه، فقال: هذا جزاء من يصبح على هذا الوجه، وأهون به إذا اقتصر الأمر عليه. وخطر له أن يلزم داره يومه، فدار فى نفسه قول القائل:
راح يبغى نجوة
من هلاك فهلك
والمنايا رصد
للفتى حيث سلك
فانقبض صدره. وأحس أن هذا نذير، وحمل الأبريق على الصينية، وحاول والصينية على كفه أن يفتح الخزانة ويتناول الفنجان، فوقعت الصينية بما عليها على الأرض، وكانت لها ضجة أيقظت تحية، ولم يصبه من اندلاق الماء المغلى سوء.
وأقبلت تحية تسأل: «ماذا جرى؟ لماذا لم توقظنى أو توقظ الخادمة؟»
فترك المطبخ وهو يقول: «لا تصنعى شيئا.. لا تصنعى شيئا.. فما أظن إلا أن كل ما أتناول فى يومى سيقف فى حلقى ويخنقنى».
فلحقت به تحية وقالت: «مالك؟ إنك مضطرب.. اقعد هنا (وأدنت منه كرسيا وثيرا) سأعد لك بيدى أنا..».
فقاطعها وهو ينحط على الكرسى: «لا لا لا.. قلت لك لاتصنعى شيئا.. كل ما أريد هو الراحة».
قالت: «ألم ترتح فى نومك؟ مالك؟»
قال: «مالى؟ أوه لا شىء. كان النوم مريحا.. لا حلم فيه، ولكن انظرى بماذا يجىء الصباح الجديد؟ أباريق مقلوبة.. وأصابع ملسوعة.. ومن يدرى ماذا يخبئ هذا النهار البديع أيضا؟ سنرى».
قالت: «هذه غلطتك.. لماذا تتكلف ما لا تحسن؟ هذا عملنا نحن. ونحن هنا لخدمتك.. لا بأس. أرنى أصابعك..».
ومالت عليه، فابتسم لها، وقال: «لا شىء بها.. كانت اللسعة مؤلمة فى وقتها، ولكنها لم تزد على ذلك.. صحيح».
وصنعت له الشاى، وجلست قبالته تشاربه، وتحادثه، وتسرى عنه. وكانت تعرف أنها تستطيع أن تلهيه عما يثيره أو يؤلمه، أو يخامره، إذا استطاعت أن تجره إلى حوار تستثير فيه عقله، وتغريه بالتفلسف. وقالت تستدرجه: «هذا يثبت أنكم معشر الرجال أطفال ... تزعمون أنكم أنتم المجاهدون فى الحياة. ومع ذلك لا يحسن الواحد منكم أن يصنع فنجان شاى، أو يقلى أو يسلق بيضة. وتدعون أن النساء لا يصلحن إلا لشئون البيت.. وأنهن أداة للنسل ليس إلا.. يطبخن ويحملن ويلدن، ولا خير فيهن لغير ذلك ... حسن. ولكن ماذا يحسن الرجل ولا تستطيع المرأة أن تحسن مثله؟ هل يعجزها أن تجلس إلى مكتب فى ديوان وتدخن وتشرب القهوة، وتكتب بضع رسائل قصيرة؟ أو إذا تلقت من التعليم كفاية، أن تكتب مقالات كمقالاتك، أو إذا تعلمت الطب أو الهندسة أن تحذق ذلك كحذقكم؟ وانظر إلى براعتكم فى الهندسة، جعلتم البيوت كالمقابر.. لا شمس ولا هواء! وبراعتكم فى الطب.. كل طبكم تخمين وتجارب.. كالذى يمد يده ليتحسس فى الظلام. وأى امرأة متعلمة يعييها أن تتولى أمر الحساب فى المصارف؟»
فأقبل عليها يجادلها، ونسى ما كان، وتلهى عن طيرته. ولما نهض انحنى عليها وقبلها وقال وهو يعتدل: «يا امرأة ماذا عسانى كنت أصنع لولاك؟»
فقالت وهى تضحك: «كنت تكسر كل يوم ما فى بيتك من أطباق وفناجين، وتخرج كل يوم، ولا هم لك إلا أن تشترى جديدا سليما بدلا من المكسور».
ثم دنت منه حتى لصقت به، وأرخت جفونها وسألته جادة، وأصابعها تعبث بزرار المنامة (البيجامة): «صحيح؟»
فلم يجبها بكلام، وضمها إلى صدره، وقبلها قبلة طويلة حارة.
وكان العصر موعده مع ميمى، على باب المسجد كالعادة فسألها: «أين نذهب اليوم؟» ولم يكن ينتظر رأيها، ولكن كانت عادته أن يجاملها بالسؤال، وعزمه موطن على ما يفعل، فأمالت إليه وجهها وتبسمت، وهزت كتفيها، هزة خفيفة، فقال: «حسن، إذن فإلى المعادى» كأنما كان هذا ما اقترحت.
قالت: «ما هذا الإسراف؟»
قال: «إسراف؟ أمن الإسراف أن نمشى على الأقدام إلى محطة باب اللوق ونركب القطار ذهابا وإيابا ببضعة قروش؟»
فرفعت حاجبيها وهو تبتسم له، كأنما تقول: «لا بأس، لقد خفت أن تستأجر تاكسى لهذا المشوار الطويل».
وسألها فجأة: «هل رأيت صادقا فى الأيام الأخيرة؟»
فالتفتت إليه، واجهته وقالت: «ألا يمكن أن تعفينى من ذكره؟» قال معتذرا: «إنما أردت أن أقول شيئا، وكان هذا أول ما خطر لى».
قالت: «ولماذا لا يخطر لك سواه؟» وابتسمت وهى تقول: «أهذا من الغيرة؟»
وكان يسرها أن يقول: «نعم»، ولكنه قال: «لا.. ليس هذا من الغيرة.. لا أظن.. ثم إنى منصف، ومن شيمتى إنصاف الناس حتى من نفسى، لست أفاخر، ولكنها الحقيقة. ويخيل إلى أحيانا أن هذا ليس إنصافا وإنما هو بلادة، على كل حال أريد أن أقول إن له فيك من الحق أكثر مما لى وإنه أولى بك».
قالت بفتور: «لقد سمعت هذا من قبل».
قال: «لا تعجلى.. فما أريد أن أعود إلى ذلك الحديث.. كلا.. ولكنك تسألين فأجيب».
قالت: «سألتك عن شىء فأجبت عن خلافه».
قال: «لا.. ليس عن خلافه. فما يمكن أن تكون الغيرة من لا شىء والشىء هنا هو صادق. فما ذنبى؟ كونى منصفة».
قالت: «دع ذكره بالله فإنه لا يطيب الآن».
وبعد خطوات قالت: «هل تعرف؟ لقد زارنا البارحة ... وبقى معنا إلى العشاء وكان ظريفا لطيفا، ووديعا، هادئا. ولكن مشيته كمشية الثعلب ... مشية مريبة مقلقة فلا تحس به إلا وهو أمامك. كأنما خرج من جوف الأرض، ثم إذا به قد صار فى غرفة أخرى أو فى المطبخ أو الدهليز. ويخيل إلى، وأنا أراه ينظر إلى، أو يمشى أمامى، كأنه لابد أن يخطف أو يسرق منى شيئا، وأنى لن أشعر بما فقدت إلا فيما بعد، وهذا هو الذى يخيفنى ... شعورى بأنى معه لست فى أمان ... وهو الوحيد الذى يخامرنى منه هذا الشعور ... أنا معك مثلا لا أخاف ولا أحذر ...».
والتفتت إليه وقالت برقة: «قل لى ... هل تشعر أنى حرمتك شيئا تريده أو أبيت عليك أمرا لك رغبة فيه ...».
فتناول ذراعها وقال: «أنت أكرم من ذلك ... ثم إنك أعرف بى من أن تحتاجى إلى الحذر، أو تخافى عاقبة الطمع».
قالت: «اصدقنى».
قال: «سأصدقك ... نعم رغبت فى الكثير ... وزهدت فيه، أو قنعت بما دونه أو رضت نفسى على القناعة، لا خوفا من ضنك، بل خوفا عليك من نفسك. والإنسان طماع يا ميمى، ولا نهاية لما يريد، أو آخر لما يتطلع إليه ويشتهيه. وما يكف عن الرغبة إلا حين تنقطع أنفاسه ويملأ تراب الأرض فمه. ولكن هناك يا ميمى ما هو أجل وأمتع أيضا من إدراك المآرب. هناك لذة القدرة على ضبط النفس، والاكتفاء بما يفيد السعادة، وكبح النفس عن الإسراف والشطط بغير موجب. هذا الإدراك الصحيح الدقيق لقيمة ما ينال المرء بالقناعة، وللقيمة الحقيقية لما يشتهى وما تلج به الرغبة فيه، إذا ناله ... هذا الوزن الدقيق لهذه الأمور هو الذى يساعد على كبح النفس بلا أسف أو شعور بخسارة».
قالت ضاحكة: «هذا دأبك ... تتفلسف دائما».
فسألها: «إذن أصدقينى أنت ... هل أنت قانعة؟»
فأطرقت وهى سائرة. وتركت لحظات تمر قبل أن تقول: «لا أدرى.. هذه أول مرة ألقى فيها هذا السؤال على.. من نفسى أو منك.. لم أسمعه منك على ما أذكر، ولم أوجهه إلى نفسى.. وأقول الحق أنى مترددة..».
قال: «التردد معناه أن القناعة غير حاصلة».
قالت: «إنما أريد أن أقول أنى لم أفكر فى الأمر من قبل. ولكن سؤالك يثير فى نفسى خواطر وصورا شتى. وهذا ذنبك ... لماذا سألتنى؟ لماذا تغرى عينى بالامتداد إلى ما بعد الحاضر والواقع؟»
قال: «لا لا.. ليس هذا فعل السؤال.. لا تجهلى..».
قالت: «كيف؟ ألست أنت الذى تفتح لى آفاقا جديدة من النظر والرغبة كنت مصروفة عنها؟»
قال: «ليس السؤال هو الذى فعل ذلك، وإنما هو فعل ما استيقظ فى نفسك حين دار فيها الوسواس الجديد.. أن لعلك تحبين صادقا.. وهل أنت تحبينه أو لا تحبينه.. وهل قسم لك الزواج منه أو لم يقسم.. وهل ستتزوجين أو لا تتزوجين.. هذه الخواطر تبدو فى ظاهرها مجرد أسئلة.. ويبدو أن الغرض منها الاستبانة أو الاستشفاف أو الاستجلاء، ولكنها تنطوى على أكثر من ذلك، لأن كل سؤال مقترن فى الخيال بصورة.. بل بصور.. صور شتى للحياة كما هى فى حاضرها، وللحياة كما يمكن، أو يرجى، أو يخشى، أن تكون فى الغد القريب أو البعيد. وهذه الصور تكون فى أول الأمر غامضة ملتاثة، ثم تتضح شيئا فشيئا، وتتجسد، وتتخذ أشكالا تكاد تلمس وتحس. ولا يقتصر الأمر على هذا، بل تشرع الصور التى تتمثل للخيال وتزداد جلاء وتجسدا على الأيام، ومع طول مناجاة النفس، أقول تشرع فى الإيحاء إلى النفس ... فتحرك إحساس الإنسان، وتثير رغبته وتبعث ما كان كامنا، وتوقظ ما كان راقدا، وتزيد ما لا ينقصه الابتعاث، قوة. ومن هنا تضعف وتقل القناعة بالحاصل الموجود».
وأمسك، وسارا خطوات وهما صامتان، وذراعه ما يزال فى ذراعها. ثم رفعت إليه وجهها، وقالت مرة أخرى - بابتسام يخفف من وقع التهكم، إذا كان فى عبارتها تهكم: «تتفلسف دائما.. أليس هذا دأبك؟»
قال مستغربا: «أتفلسف؟ أعوذ بالله.. لماذا تعدين بسط الحقيقة أو مواجهتها فلسفة أو تكلفا للفلسفة؟»
قالت: «لقد بلغنا المحطة.. خلنا فى الدرجة الثانية».
قال: «يا خبيثة، إنما تريدين أن تستريحى من فلسفتى.. بل سنركب فى الدرجة الأولى.. واطمئنى فإنى لا أستطيع الكلام مع ضجة القطار.. وحسبى أن تتكلمى أنت وأسمع.. جاء دورك.. تعالى».
وأخذ التذكرتين - ذهابا وإيابا - ومضى بها إلى مركبة الدرجة الأولى.
7
ولكنه تكلم على طول الطريق من باب اللوق إلى المعادى. ذلك أنه ما كاد يقعد وميمى إلى جانبه، حتى دخل رجل طويل موخوط الشعر، وانحط على مقعد قريب منهما، فهمست ميمى فى أذنه: «هذا الرجل يتبعنى».
فسألها بصوت خفيض، ومن غير أن يحول وجهه إليها: «من هو؟» قالت: «هو الجار الذى حدثتك عنه».
وكانت قد حدثته مرة من قبل، أن بين أسرتها، وأسرة هذا الجار المراقب، معرفة وتزوارا. فحدث مرة أن لقيها وهى عائدة من المدرسة، فقال لها إنه يود أن تكون زوجته، فنهرته وزجرته، وقالت له: «إنك رجل متزوج ولك بنون وحفدة، وإن هذا الكلام منك لا يليق».
فلم يرعو. ولم يغن عنها ما كانت تؤثره معه من الإغلاظ فى القول، وقال لها مرة: «إذا كنت لا تريدين أن تكونى زوجة لى، فلتكونى صاحبتى». فأنذرته أنها ستقص الخبر بحذافيره على زوجته.
وزعم لها، فيما زعم، أنه زار إبراهيم وسأله عنها، وأن إبراهيم ذكرها بخير وأثنى له عليها. وكان هذا كذبا صراحا فما رأى إبراهيم وجهه من قبل.
ودعا إبراهيم ربه وهو يخالس الرجل النظر: «اللهم ارزقنى الدم البارد، وآتنى السكينة والحلم والرزانة».
واعتزم أمرا. فالتفت إلى الرجل وقال له: «ألا تتفضل معنا؟ إن بيننا معرفة وإن كنت لا تدرى..».
فدهش الرجل، ولكنه تحول إلى مقعد أمامهما.
فقال إبراهيم: «أظنك تعرف الانسة ميمى.. فقد حدثتنى عنك وقصت على ما كان منك.. كل شىء.. ولعلك كنت متتبعنا طول الطريق، وها أنت ذا قد ركبت القطار معنا لترى إلى أين هى ذاهبة».
فتلعثم الرجل واضطرب لهذه المفاجأة، ثم وجد لسانه، فزعم أن له بأبيها معرفة، وأن أباها كان أوصاه بها، وأنه استغرب أن تذهب فى طريق حلوان، فما لها أهل أو معارف على هذا الطريق.
فشد عليه إبراهيم ولم يرحمه، ولم يتق أن يسمع الناس، وقال: «وأوصاك أبوها أن تعرض عليها الزواج بغير علمه؟ وأوصاك أن تقترح عليها أن تكون خليلة لك؟»
فوقف بعد ذلك كل كلام فى حلق الرجل. ومضى إبراهيم بصوت هادئ متزن وبابتسامة متكلفة يقول: «ما دمت تبغى المعرفة، فابق معنا لترى بعينك إلى أين هى ذاهبة، وسترى وتطمئن إن شاء الله، وتكتب إلى أبيها بما يؤيد حسن الظن بك».
ولما بلغوا المعادى، وقف الرجل على الرصيف يعتذر ويطلب الصفح. ثم انتقل إلى الرصيف الآخر ليعود من حيث جاء.
ولم ينقض عجب إبراهيم من جرأة هذا الرجل على مطاردة ميمى، ولا عجب ميمى من هدوء إبراهيم، وأخذه بتلابيب الرجل على هذا النحو.
وكانت وقدة الحر شديدة فمالا إلى روضة مقهى على النيل، وانحدرا إلى شاطئه واتخذا مكانهما فى ظل شجرة وارفة. ونضا إبراهيم سترته، وحل رباط رقبته، وألقاهما على كرسى، واضطجع وهو يقول: «أكثر ما نلبس، للزينة. ولا تكاد تحتمل الزينة، مهما خفت، فى هذا الحر. وأحسب أن لو كان هذا أول لقاء لنا، لكان الأرجح أن أتشدد وأتكلف الصبر على ما أعانى من الضيق والاختناق، رغبة فى حسن رأيك. ولكنك قدمت يا فتاتى، وعرفتنى معرفتى، فلا حاجة بى معك إلى معونة الثياب الأنيقة والهندام الجميل».
فضحكت وقالت: «ليتنى أستطيع أن أصنع كما تصنع، ولكن ما على بدنى هو أقل ما ينبغى للستر فلا حيلة لى إلا الصبر».
قال: «مهلا. مهلا. لو علمت امرأة أن التجرد أفتن، لما عبأت شيئا بالستر والحشمة، والحياء والخفر. لا يا فتاتى، لا تغالطى نفسك فى الحقائق. فليس مطلب المرأة الستر، بل الفتنة والإغراء. ولا تحسبى أن للتقاليد والعادات والآداب أثرا فى هذا. فإنها نتيجة لا سبب. وأنت تتخذين الثياب، وتبدين بها شيئا وتخفين أشياء، لا لأن الآداب والعادات والتقاليد تقضى بذلك، بل لأن المرأة أدركت بفطرتها الذكية أن الثياب زينة، فوق أنها نافعة، وأنها تضاعف جمالها، وتزيد سحرها، وتقوى عوامل الأغراء، ولو أن الأية انقلبت، والقضية انعكست، وكان العرى أجمل، لكانت الآداب والتقاليد والعادات تستنكر الثياب، وتستهجن لبسها، وتقضى بنبذها. أى نعم. المرأة هى التى تقرر لنا آدابنا وعاداتنا لا الرجل».
قالت: «ما أقوى هذه المرأة.. وهى مع ذلك مغلوبة على أمرها. ومازال الرجل هو القوام عليها».
قال : «نعم هو كذلك. وإنها لضعيفة إذا قيست إلى الرجل، ولكن لها قوتين لا يستخف بهما إلا أبله؟ قوة الحيلة التى أنماها ضعفها البدنى. وقوة الجمال الذى ضمنته «الحياة» واختزلت فيه كل قوتها. فأين وجه العجب إذا كانت المرأة تصوغ للرجل دنياه؟»
وكانا قد طلبا شايا له وعصير ليمون مثلوجا لها، فأقبل الخادم بصينية واسعة فضية اللمعان، وأقبلا عليها يتناولان مما فوقها. وأدنت ميمى قدح الليمون من شفتيها، ثم ردته والتفتت إليه وقالت: «فى نفسى سؤال».
قال: «هاتيه».
قالت: «هل يثقل عليك أن أحشر نفسى فيما لا يعنينى؟»
قال: «إنه لا يعنينى الآن إلا سرورى بوجودك معى، فى هذه البقعة الجميلة، والنيل يجرى تحت أقدامنا والشجرة الوريقة تظللنا».
قالت: «ألم يخطر لك قط أنك مسرف مبذر؟ إن الباعث لى على..».
فقال مقاطعا: «دعى البواعث.. نعم أنا كما قلت، مسرف مبذر. ولكنى لم أفكر فى هذا، لأنى خلقت هكذا، كما لا يفكر الإنسان كيف يمشى أو لماذا يمشى».
قالت: «صحيح أنك كريم سخى اليد ولكن».
فعاد إلى مقاطعتها وقال: «لا تغلطى.. ليس هذا كرما، ولا هو من الكرم فى شىء، وإنما هو التبذير ليس إلا، والفرق كبير بين الأمرين. ولست أجهل قيمة المال، ولست أدعى أنى أحتقره، وأنى لأعرف أن لو كان لى مال لكان لى شأن اخر فى الدنيا بين الناس، تصورى مثلا ما كان خليقا أن يكون لى من مقام، وما كنت جديرا أن أبلغه من المراكز الملحوظة لو كنت ذا مال. وكنت أستطيع مثلا أن أدعو إلى بيتى هؤلاء وأولئك من أصحاب المناصب العالية والجاه العريض، والنفوذ العظيم، وأن أدعى إلى بيوتهم - أو قصورهم - وأن أكون معهم كأنى من أندادهم وأقرانهم، أشهد معهم سباق الخيل وأغشى ما يغشون من أندية وغيرها وأقامر مع من يقامرون، من يدرى حينئذ ماذا كنت خليقا أن أكون؟ أعرف كل هذا، ولا يخفى على شىء منه، ولكنى لا أتحسر على فوته، ولا يحزننى عجزى عنه لأنه ليس مطلبى فى الحياة، أو همى من دنياى ، ولست أشتهيه، أو أرغب فيه، أو أحس بما يغرينى به. وقد بلغت حيث أريد بفقرى، واستطعت - بذراعى، وبغير مدد من المال والناس - أن أكون حيث أنا، ولست بالقانع، ولكن ما أطمع فيه لا يحوجنى إلى مال، ووسيلتى إليه ما أرجو أن يكون هنا».
ووضع أصبعه على جبينه.
فقالت: «لست أعنى هذا. ولكنى أعنى أنك لا تدخر شيئا لشيخوختك».
قال: «اليوم الذى أعجز فيه عن كسب رزقى بعرق جبينى هو اليوم الذى لن أحتاج بعده إلى مدخر. وليس لى ولد، وإذا كنت تشفقين على تحية فإن أباها بخير وهو يكفلها إذا طال عمره، وقد أفرد لها من ماله ما هو فوق الكفاية، فلماذا أضيق على نفسى وعليها، احتياطا لمستقبل لا داعى للاحتياط له؟»
قالت: «ولكنك قد ترزق الولد».
قال: «صحيح، قد يحدث هذا، ولكنى أرى أنه يكون خيرا لبنى أن يبدأوا حياتهم فقراء.. لا تستغربى. لقد كنت فى حياة أبى، وإذ أنا فى رخاء ورغد، تلميذا بليدا، خائبا، فلما مات وحلت بنا الفاقة، ذهبت البلادة، وتعودت الجلد، واستفدت القدرة على معاناة الحياة، ومغالبة الصعاب، وخوض العباب. كلا، لست أوثر لأبنائى - لو كان لى أبناء - الترف واللين والطراوة، ولحسب كل ولد أن يكفل له والداه الكفاية من التعليم، وخير له بعد ذلك، أن يقذف به فى بحر الحياة المتلاطم».
قالت باسمة: «والفتاة؟»
قال: «والفتاة أيضا، فإن المناعة لا تكتسب بين أربعة جدران، بل بالمعاناة والمكابدة، أم تخشين العاقبة على الفضيلة؟ - وضحك - إن فضيلة معظم فتياتنا هى فضيلة الجدران السميكة، ولهذا لا تكاد الفتاة تزايل ما يحيط بها من الجدران - المادية والمعنوية - حتى تضل، لأنها لا تستطيع، ولا تعرف، كيف تقاوم، كالذى يلبس ثيابا كثيرة كثيفة، فهذه الثياب هى التى تقاوم وتحميه، ويكفى أيسر التعرض لإصابته بالمرض الذى يتقيه، وعلى خلاف ذلك من يعتاد التخفيف، فإن بدنه يحتاج إلى المقاومة فيتعودها ولا يضيره التعرض، كما يضير الذى يبالغ فى التوقى».
وكان وجهه إلى الماء، وهى جالسة بحيث ترى معظم المقهى، فقالت بلهجة أقرب إلى الخفوت: «لو كنت أسدل على وجهى نقابا كثيفا، لكان خيرا لى الان على الأقل».
فلفته خفوت الصوت، واضطراب النبرة، وقال، وأمال وجهه إليها: «ماذا تعنين؟»
قالت: «صادق، ومعه فتاة».
قال: «آه ... لم يكن هذا فى الحساب.. تبسمى له وادعيه».
ففعلت بجهد. وأقبل صادق يحمل على ذراعه فتاة بارعة الحسن، زاهية الثياب، وعلى رأسها قبعة كبيرة من الخوص. وحياهما إبراهيم كأنما كان على موعد معهما، ولكنه لم يبالغ فى الترحيب حتى لا يخرج إلى التكلف.
وسألته ميمى: «ماذا جاء بك إلى هنا؟»
قال: «لأن هذا المكان، فى مثل هذا الوقت، يكون أحلى من غيره. ففى وسعنا أن ندندن ببعض المنولوجات التى أعددتها للإذاعة. على فكرة.. هذه فتحية.. تلميذتى.. أو إحدى تلميذاتى.. أبرعهن جميعا فى الحقيقة وأحلاهن صوتا.. وهذا.. الأستاذ إبراهيم.. وميمى بنت خالتى.. حدثتك عنها كثيرا. ألا تذكرين؟»
وقال بعضهم لبعض: «تشرفنا».
وقالت فتحية بصوت أجش، استغرب إبراهيم أن يصلح للغناء: «لماذا لم تعلم ميمى منولوجاتك؟»
فتبسمت ميمى متهكمة. وقال صادق: «نسيت أن أقول إنها معلمة. ولا يتسع وقتها لهذا، ولا يليق أيضا بها».
فرفع إبراهيم حاجبيه متعجبا لقلة ذوقه. وقالت ميمى: «المكان خالى تقريبا إلا من الخدم.. وهم بعيدون.. فأسمعونا شيئا».
فقالت فتحية: «لا. ليس هنا ... إنى أستحى».
فقال إبراهيم: «سأغطى وجهى ... أو - إذا كان هذا لا يكفى - سأسد أذنى».
وضحكوا. وقال صادق: «ليس هذا وقته».
وقالت ميمى: «ولكنكما جئتما لهذا. فهل وجودنا ...».
قال: «نعم ... وجودكما يغير كل شىء..». وضحك ثم قال: «لا داعى للعجلة فما استطعت إلى الآن إقناع محطة الإذاعة بقبول مونولوجاتى».
فقال إبراهيم: «إذا كانت فتحية تستحى، فأنت - ولا مؤاخذة - لا تستحى. فلماذا لا تسمعنا شيئا، لنرى أيكما على حق، أنت أو المحطة؟»
فأبى كل الإباء. وقال إن ميمى تسخر منه، وتعد من السخافة أن يحاول أن يكون منولوجست. ولم تنف ميمى أنها تفعل ذلك، ولم تفارقها ابتسامتها، وكانت كأنها مطبوعة على شفتيها. ولم يفت إبراهيم هذا، وسره ما رأى وأفزعه أيضا؟ سره أن يتبين أن جمودها هذا من الغيرة، حين رأت هذه الفتاة الجميلة وإن كانت قبيحة الصوت، على ذراع صادق. وأفزعه أن تغلبها الغيرة وتجنبها الحكمة. غير أنه رجا أن تظل - كعهده بها - متزنة الأعصاب، وإن كان لم يختبر متانة أعصابها فى موقف تعصف بها فيه عاطفة قوية. وحدث نفسه وهو ينظر إلى صادق أنه لا عجب إذا أحبته ميمى، وخشيته فى آن معا، فإنه شاب قوى وسيم، ونظرته فاحصة نافذة، ومعارف وجهه كلها ناطقة بقوة العزم والجرأة، وفى خفة حركته وخبث نظرته ما يريب ويقلق ولا شك، ولكنه ليس على هذا بشرير. وإن كان ما عامله به أهله قد جعله ينطوى للناس على المقت والرغبة فى الأذى، وأغراه بالاندفاع والتهور دون الاعتدال أو محاولة اكتساب حسن الظن به وطيب الرأى فيه. وقال لنفسه وهو يدير هذه المعانى فى صدره إنه لم يخطئ حين حض ميمى على إيلائه الثقة وإيثار الحسنى معه، وتشجيعه، بدلا من الزراية عليه.
وصفق، فجاء الخادم، وقال صادق: «إذا سمحت يا أستاذ فإنى أفضل أن أشرب قليلا من البيرة».
فقال: «والله إنه لرأى، فإنها فى هذا الحر أوفق، فما قولك يا ميمى؟»
فالتفتت، وقد تنبهت على صوته، وسألته: «إيه؟»
فلم يعد السؤال، وقال للخادم: «زجاجتان من البيرة، وأربعة أقداح يا مولانا بسرعة».
فاعترضت ميمى، فقال: «هذه مناسبة طيبة.. أعنى اجتماعنا بصادق وفتحية فى هذا المكان الجميل».
واغتنم الفرصة، التفت إلى صادق وقال: «سمعت منك أنك تظن أن ميمى تسخر منك.. فاسمح لى أن أقول إنك لا تعرف ميمى إذا كنت تظن هذا.. إنها الوحيدة المعنية بأمرك ومستقبلك والراغبة فى أن تراك - كما تريد أن تكون - شيئا مذكورا. وهى لا ترغب فى هذا فقط بل تثق بك، ولا يخالجها شك فى أن لك مواهب عظيمة تستطيع أن تشق بها طريقك فى الحياة. وإذا كانت تكتمك هذا فلأنها امرأة، أعنى أنها تحبك، وتتعجل صلاحك، وتسخطها الحاجة إلى الصبر فتبدى خلاف ما تضمر. أليس كذلك يا ميمى؟»
فلم تدر ميمى ماذا تقول، واستغربت أن يحرجها على مسمع ومرأى من هذه الفتاة، وشعرت بموجة من الأشمئزاز، وكادت - على خلاف عادتها - تقطب لولا أن أنقذها الخادم، فقالت: «سأصب لكم البيرة، ولكنى أرجو أن تعفونى».
فأصر أن تشرب، وملأ لها كوبها، فأذعنت. وارتفعت الأكواب إلى الشفاه وحسا كل واحد حسوة، إلا ميمى، فقد راحت تعب فى الكوب حتى أتت على ما فيه، ثم حطته فارغا إلا من الرغوة، وتنهدت كأنما انحط عن صدرها حجر.
فقال إبراهيم وهو يضحك: «لم أكن أعرف أنك سكيرة يا ميمى».
وألقى إليه صادق نظرة استفسار فقال: «حقيقة لا أعرفها تشرب شيئا، وأخشى أن أكون قد أخطأت بإثقالى عليها بالإلحاح. ولكن لا بأس، فما فى البيرة ضير».
وكانت ميمى تسمع وكأن الأمر لا يعنيها، ولم يسعها إلا أن تتعجب - فى سرها - له مرة أخرى. لماذا كذب؟ وليست هذه شيمته، فقد شاربته غير مرة، ولم تكثر ولم تفرط، ولكنها شاربته البيرة والنبيذ ليس إلا. وغاظها منه أن بسلوكه هذا يرمى إلى ما لا تعرف أو تتبين، ونفت فيما بينها وبين نفسها أنه يريد أن يصقلها فى عين صادق، فإن صادقا لا يصرفه عنها، بل قد يزيد إقباله عليها وطمعه فيها، أنها تشرب قليلا من البيرة من حين إلى حين.
وخطر لها أن لعله يقول هذا لتسمعه فتحية، على حد قول المثل «وإياك أعنى يا جارة». وودت فى هذه اللحظة لو خلت دقائق - دقائق فقط - بإبراهيم، فتسأله رأيه فى صادق وفتحية. ومن أدراها أنه لا يعرف فتيات أخريات غير فتحية، يخرج معهن فى سيارته الفخمة إلى المتنزهات الخلوية ليدربهن على المشاركة فى إلقاء منولوجاته.. منولوجاته حقا؟ أهذه وسيلته إلى الفتيات؟ لا عجب إذن إذا كان لم يبلغ سؤله منها هى، فما تعبأ شيئا بمونولوجاته السخيفة، وإنها لتحتقرها، وتحتقره أيضا. وهذا هو الفتى الذى يتعقبها، ويطاردها بحبه المزعوم ويطمع أن تجاوبه، وتبادله حبا بحب. منولوجست.. يعوج طربوشه وفمه وساقيه ويروح يتحرك حركات مضحكة وينطق بهراء، أو يلبس جلابية حمراء مخططة، وعلى وسطه حزام من حبل وقدماه حافيتان، لأن المنولوج قد يقتضى هذا المنظر (البلدى) أو يلبس (طرطورا) ويصبغ وجهه ... هذا هو صادق.. فليقنع بفتحية وأمثالها.
ونهضت، وراحت تتمشى على الشاطئ بخطوات بطيئة، وهم صادق أن يتبعها، فرده إبراهيم، ورمى إليه نظرة فهمها صادق فهز رأسه وابتسم، وخف هو إليها، فلما صار إلى جانبها قال: «ليست هذه ميمى التى أعرفها».
قالت وهى تنظر إليه: «نعم ولا أنت الذى أعرفك».
قال: «أسمعينى رأيك الجديد فى العبد لله».
قالت: «لا تمزح ... لماذا كذبت؟»
قال: «لأن ما تفعلينه وأنت معى وحدى، لا أرى من حقى أن أدع لسانى يثرثر ويلغط به».
قالت: «لم يسألك أحد حتى تحتاج إلى الكتمان».
قال: «سؤال الحال أبلغ يا فتاتى.. يراك تشربين البيرة.. بطبيعة الحال وبغير تردد، كأنما تفعلين ذلك منذ نعومة أظفارك فماذا يظن بك وبى؟»
قالت: «وماذا يعنينى من ظنه بى؟ بل ماذا يدعونى إلى كتمان علاقتى بك؟ ماذا يمنعنى أن أصارحه بهذا؟ ما شأنه هو؟ أى حق له على؟ وسأصارحه وأحسم هذا الأمر الذى طال».
قال: «هل ساءك منه أن معه هذه الفتاة؟ كونى أوسع صدرا وأرحب أفقا».
قالت: «ولماذا يسوءنى؟ وما شأنى إذا كان معه ألف فتاة؟ إنه حر وأنا أيضا حرة».
فلم ير أن الموقف يسمح بطول الحديث وقال: «طبعا. طبعا. والآن أرينا هذه الابتسامة التى احتجبت عنا اليوم. أرينيها، وأرى صادقا أيضا، هاتى».
فأدركت مراده، وغالبت نفسها حتى استطاعت أن تبتسم.
فقال: «هذا أحسن.. ولا تبخلى على.. علينا جميعا.. بحلاوتها وفتنتها حين نعود إليهما. أريد أن أرى ميمى - اليوم على الخصوص - كما أعرفها.. تماما».
فهزت له رأسها هزة خفيفة، وألقت إليه نظرة شكر. فقال وهو يعود بها: «والآن. من الان سنكون ضيوفك، فأذيقينا كرمك، واحتقبى شكرنا وشكر العبد لله خاصة، وثقى أنك ستحمدين ما أكلفك».
قالت: «هذا يقينى. وأنت تعرف ثقتى بك».
ورأى صادق بشرها، وتطلق وجهها، فتعجب لسلطان إبراهيم عليها، وود لو كان له مثله، وشعر بالغيرة تدب فى نفسه.
8
وانحدرت الشمس. فخرجت الدنيا من الحر، وطاب الوقت، واعتدل الجو وطالت الجلسة على النهر، وانشرحت الصدور. ولم يعد إبراهيم يلمح ما كاد يعكر الصفو قبل ساعة. وسره من ميمى أنها قدرت على مغالبة نفسها وارتدت إلى السجاحة والبشاشة، وحسن الإيناس. وأعجبه من صادق أنه يتكلم بسهولة، ولا يبدو عليه تكلف، أو تحرز، كأنما لا يعنيه من ميمى شىء. أما فتحية فكانت معظم الوقت صامتة وكان هذا خير ما يمكن أن تصنع فى رأى إبراهيم، فقد كان يشعر، حين تتكلم، أن صوتها يجرح أذنه، أو يصك سمعه بمثل الحجارة.
وآن أن ينصرفوا. وكان صادق يود لو لبثوا ساعة أخرى، ولكن ميمى ألقت إليه نظرة رقيقة فيها من الأسف والتوسل والاعتذار معان، وقالت: «أنت تعرف خالتك»، فهز رأسه وهو مطرق، ثم التفت إلى إبراهيم وقال: «لا داعى لركوب القطار فإن معى السيارة. والطريق جميل».
فقال إبراهيم: «ونرمى فلوسنا؟» وأخرج من جيبه التذكرتين.
ووقفوا أمام السيارة. ودار إبراهيم حولها معجبا بها، متمنيا لو كان له مثلها، فعرض عليه صادق أن يتولى عنه قيادتها فأبى وقال: «لا يا سيدى، فإنى أخشى أن أتلفها، ثم إنى، إذا قدت هذه، لا أحسبنى أرضى بعدها عن سيارتى الحقيرة. فاصنع معروفا ودعنى قانعا بما أملك».
وخيل إلى صادق أنه يبالغ فى إعجابه بالسيارة، والغض من سيارته هو لأمر ما، فقال - لا يدرى لماذا -: «إنها سيارة الوالد المحترم، ولم أشترها أنا بمال لى».
ولم يسر ميمى أن تسمع عبارة (الوالد المحترم)، فقد أذكرتها بما كان من أمره معها فى طريق الإسكندرية، وهى تجربة لا تمحى ذكراها ولا تحمد، لشدة ما يختلط فيها الحلو بالمر، والأمل بالخوف، والوهم بالحقيقة.
وسمعت إبراهيم يقول، وهو يفتح الباب ويشير إليها أن تركب: «أحسب أن بلادنا هى الوحيدة التى يجتمع فيها هذا العدد الضخم من السيارات الفخمة من كل طراز أوروبى وأمريكى. أو لعل الأصح أن أقول بلادنا ونظائرها من البلدان التى لا تصنع السيارات، وإنما تقتنيها. ولا أعد هذا مظهر غنى، أو اية رخاء، وانما هو عندى مظهر غفلة، أوآية تخلف. والمثل العامى يقول (رزق العبط على المجانين) ونحن الأمم المتخلفة فى ركب الحضارة العالمية، المجانين الذين تجد أوروبا وأمريكا رزقهما عندهم».
واتخذ صادق مقعد القيادة، وإلى يمينه تلميذته. واحتل إبراهيم وميمى المقعد الخلفى. ودارت السيارة، ومضت على مهل. وكان القمر فى ليلة السواء، والطريق على جانبيه الشجر، وجله وريق منتشر الأغصان، ملتبس بعضها ببعض فوق الرءوس، والقليل منه أمرد انجرد من الورق، والأرض دنانير رقاصة.
وكان صادق متمهلا، ولكن إبراهيم مع ذلك لا يطمئن. وكان لا ينفك يدفع قدميه كأنما يحاول أن (يربط)، وتلك آفة من يحسنون قيادة السيارات حين يتولى غيرهم قيادها. وأكثر من يفعلون ذلك من ذوى المزاج العصبى. وكانت عين إبراهيم على الطريق لا تتحول عنه. وكان لا يفتأ يحرك رأسه يمنة ويسرة ليستبين فلم يكن باله، من أجل ذلك، إلى جارته. ولا كان يستطيع الكلام أو الإصغاء. بل ما كان ينعم بجمال الطريق وسحره فى هذه الليلة المقمرة الساجية لفرط اشتغاله بالطريق وما يصنع صادق. على أنه على قلقه كان يتقى أن ينبه صادقا أو يحذره، مخافة أن يحدث له اضطرابا، فإن كثيرين يرتبكون إذا صحت بهم فجأة. وكان شر ما يزعجه أن الحقول على يمين الطريق أوطأ وأدنى، فهو يخاف أن تنقلب السيارة، ويود لو توسط صادق ونأى عن الحافة. ولم تكن كثرة الشجر تطمئنه وتنفى ما يحاذر من الانقلاب، فإن المسافة ما بين الشجرة والشجرة غير قصيرة.
ولكنهم بلغوا مصر القديمة فى سلام ومن غير أن يقع لهم حادث. وكان حق إبراهيم أن يتشهد ولكنه لم يفعل. وقال لنفسه إن شوارع المدينة غاصة بالترام والمركبات والسيارات، والناس الذين يسيرون وكأنهم يتنزهون فى حدائق بيوتهم. وهم مرات أن يستأذن ويركب الترام، فإنه آمن فيما كان يحس، غير أنه استحى وطال تردده فضاعت الفرصة.
وصاروا فى ميدان الإسماعيلية. ولم يكن نظام المرور فى ذلك الوقت وافيا بالحاجة بل لم يكن ثم نظام ما، فكان كل سائق يمضى على هواه، إلى حيث يشاء وهو آمن أو مجازف. وكاد إبراهيم، والسيارة تقتحم هذا الميدان المضطرب، يثب من السيارة إلى الأرض من فرط الجزع، ولكن صادقا كان حاذقا فمر كالسهم، بسلام، من بين قطارى ترام، فاضطجع إبراهيم، ومسح العرق المتصبب بكفه، ونظرت إليه ميمى فأدركت ما به وقالت بابتسام: «خائف؟»
قال: «بل ميت من الخوف.. مت مائة مرة وسأموت مائة مرة أخرى إذا لم أنزل».
قالت: «لا تخف وثق بصادق..» وضحكت: «غريب أن أدعوك أنا إلى الثقة به وأنت الذى تلح على بذلك».
قال: «هذا شىء آخر، مختلف جدا».
قالت: «على كل حال قربنا، أعنى أن فى وسعك إذا شئت أن تتركنا عند شارع فؤاد».
قال: «يؤسفنى أن أقول إن هذه ستكون أسعد لحظة».
ولكن صادقا أبى أن يدعه، وأصر على أن يبلغه بيته بعد الفتاتين، - فضحكت ميمى وقالت: «هذا امتحانك، فأرنا إرادتك القوية».
فتنهد وقال: «لا إرادة ولا شبهها.. الأمر لله، ثم لهذا المجنون».
قالت: «ولكنه ليس مجنونا.. إنه متمهل جدا، ومحاذر جدا».
قال: «محاذر؟ ألا ترين كيف يمرق بين السيارات كأنه بسكليت؟»
قالت: «هل تريد أن يقف حتى يخلو له الشارع من كل راكب وراجل؟»
قال: «تركت لك البيعة».
وفى هذه اللحظة، وقبل أن يتم ما كان ينوى أن يقول، وقعت الحادثة! ولا يدرى أحد كيف وقعت، أو كيف تعذر اتقاؤها. وكان صادق فى هذه اللحظة يقطع شارع فؤاد وهو مقبل من شارع سليمان باشا، ويحاول أن ينثنى متجها إلى اليسار فرأى على ما يقول، موتوسيكلا مقبلا بسرعة من اليمين فخشى أن يصطدما فمال ميلا شديدا إلى اليسار ليفسح له، فاصطدم بالترام الواقف فى محطته، ولم يصب أحد بسوء يستحق الذكر، ولكن السيارة تحطم مصباحها الأيسر، وانطبق جناحها على العجلة، فوجب رفعه عنها ليتسنى لها أن تدور، أما الترام فلم ينله أذى.
وأقبل الخلق من كل صوب وتزاحم الرجال والغلمان وعلت الأصوات واختلطت الصيحات وعظمت الضجة، وأقبل شرطى يسأل عن الخبر، وينحى أهل الفضول عن طريقه. وكان صادق قد نزل، وألقى على السيارة نظرة، والترام أخرى ، فلما جاء الشرطى تقدم إليه وقال: «اسمع، لا أستطيع أن أجيئك بالمسئول الحقيقى، ولكنك ترى أن سيارتى هى التى تحطمت، وأن الترام ليس به شىء، ومن حسن الحظ أننا نجونا ولم يحق بنا مكروه، فهل لك أن تتفضل وتصرف هؤلاء الناس وتدعنى أمضى فى سبيلى؟»
قال الشرطى: «لا بد من المعاينة وكتابة المحضر».
قال: «معاينة لماذا؟ ومحضر لأى شىء؟ سيارتى هى التى تلفت، وبفعلى أنا، والترام بخير، وأنا أعلن هذا على مسمع من ألف واحد يستطيعون أن يكونوا شهودا لك وللترام، وعلى، فاصنع معروفا ودعنى، فما بأحد أية حاجة إلى معاينة أو محضر».
وبدا على الشرطى التردد، وانقسم الجمهور فريقين، واحدا يريد التطويل لتطول متعته، وآخر يحمد من صادق أنه لا يكابر، ويعجبه منه إقراره بالحق وأنه يشهد على نفسه. ونظر الشرطى إلى سائق الترام فقال هذا: «إذا كان الأفندى يريد أن يصرف الحكاية، فلا مانع عندى ولكن خذ رقمه واسمه ودون اعترافه، حتى لا يعود فيدعى علينا زورا أننا كسرنا سيارته».
فقال صادق: «هذا عدل». وأخرج بطاقة كتب عليها إقراره، ودون الساعة والدقيقة ورقم السيارة، ومد يده بها إلى الشرطى، فقدمها هذا إلى السائق.
ولم يستغرق هذا كله سوى دقائق عشر، وكانت هذه أعجوبة، ثم عادت السيارة فانطلقت فى طريقها، وإبراهيم معجب بحزم صادق، وما أظهر من رجولة وقدرة على الحسم السريع، وحمد له تعجيله بإخراجهم من هذه «الزفة»، وحدث نفسه أنه لم يخطئ حين قال لميمى إن صادقا ذو مواهب قد تكون معطلة ولكنها موجودة، وإن كانت كامنة، ولو أتيح لها مجال أو فرصة لظهرت.
وخطر له وهو مضطجع أنه لا يستغرب أن يحدث هذا فى اليوم الثالث عشر، وحمد الله على اللطف فى قضائه.
ولاحظ إبراهيم أن صادقا مالك لأعصابه على الرغم من رجة الحادث، وأن عقله حاضر غير غائب، ولم يفته أنه ذهب بفتحية إلى بيتها، قبل غيرها، فنزلت أول من نزل، ثم عاد فعرج على بيت ميمى، وهنا ألح إبراهيم فى الاستئذان إشفاقا على صادق ، وإيثارا لراحته - هكذا زعم - ولكن صادقا ظل على إصراره، ووقف الرجلان أمام البيت يتجادلان، فقالت لهما ميمى: «الأولى أن تدخلا إذن».
فقال إبراهيم: «كلا اصعدى أنت واستريحى، ولا حاجة إلى جدل فإنى ذاهب».
ورأى صادق صحة العزم فى صوته ووجهه فأقصر آسفا.
وكان الذى دعا إبراهيم إلى الإصرار على ترك صادق، أنه خاف عاقبة اصطحابه والتقائه بتحية، فما يستطيع، ولا يليق، أن يكلفه رحلة طويلة ثم يصرفه من الباب بكلمة شكر فارغة. ولا بد أن تساله تحية عما حدثها به زوجها من أنه - أى صادق - يوشك أن يتزوج ميمى، والنساء ثرثارات، وليس أحب إليهن من اللغط بقصص الزواج والشروع فيه. وقد يحدثها صادق عن الحادثة، وعن جلسة المعادى، ولا يبعد أن يروى الأمر على وجهه الصحيح وأن يتحرى الدقة، فيذكر أنه وجدهما معا فماذا عسى أن تظن زوجته إذا علمت أنه يتواعد مع ميمى، ويلقاها ويذهب بها إلى هنا وههنا ولا يخبرها بشىء من ذلك؟ إن هذه تكون صدمة جديدة تردها إلى الوجوم القديم، وتقوى سوء ظنها به، وقد تدفعها إلى اليأس منه، أو من قدرتها على الاحتفاظ به، وليس مما يقوى على احتماله أن يعانى هذه المحنة مرة أخرى، وأن يفقد ثقة تحية وحبها على الأرجح، وسيفقد ميمى يوم تعرف ما تبطن لصادق من الحب، فإذا ترك صادقا يصاحبه فإنه خليق أن يفقد المرأتين جميعا. وهب صادقا لم يقل شيئا، وتحية لم تسأله عن شىء، فإنه حقيق أن يبدو بينهما مرتبكا مضطربا، فيثير الوساوس أو الشكوك فى نفس تحية، فالخير كل الخير، أن يبقى هذا الشاب حيث يشاء إلا معه، وأن يلقى من شاء غير تحية، على الأقل إلى حين.
9
وفى تلك الليلة خلا اثنان بنفسيهما، أستاذ وتلميذته، كل على حدة.
فأما التلميذة فميمى. ذهب بها صادق إلى بيتها، وصعد معها فتركته مع أمها ريثما تغير ثيابها وتصلح من شأنها، ولكنها لم تغيرها ولا كانت بها حاجة إلى ذلك. وإنما قعدت على كرسى بين السرير والمرآة وقالت لنفسها: «لست أستطيع أن أجرد من نفسى شخصا ثانيا - كما يصنع إبراهيم - ولكنى أستطيع أن انظر إلى خيالى فى المرآة».
وأقبلت على الخيال البادى فى صقال المرآة تتأمله، وتميل وجهها يمنة ويسرة وتسوى شعرها ببنانها، وأخرجت (الأحمر) فمرت به مرا خفيفا على شفتها السفلى ثم أطبقت العليا عليها، وتبسمت إذ تذكرت أن إبراهيم كان إذا بلغ بها مأمنا أشار إلى ثغرها، فتخرج منديلا وتبله بريقها، بطرف لسانها، وتمسح هذا الأحمر الذى لا يطيقه إبراهيم، وإن كان يغضى عنه فى الطريق، ولا يأبى عليها زينته وهى غادية أو رائحة. وتساءلت ميمى أتراه يخشى أن يبقى بفمه أثر منه؟ ونفت ذلك. وقالت إن تحية لا تصبغ شفتيها بهذا الأحمر، ولا تمسح وجههابالمساحيق، بل ليس فى بيتها شىء من هذا.
وعكفت على إصلاح هندامها وهى تحدث نفسهما أن إبراهيم ينطوى لتحية على حب عميق متغلغل فى شعاب نفسه، إلا أنه ساكن لا يثور ولا يفور، وأنه لم يرفعها - هى - هذا المقام فبقيت فى منزلة الصديقة ليس إلا. نعم أقطعها من نفسه مكانا كريما، ولكنه أبى أن يجاوز هذا الحد الذى خطه من أول يوم، وأولاها وده وعطفه، وآثرها على غيرها - وكان لها أبا وأخا وصاحبا - غير أنه فى سنوات طويلات المدد لم يجر لسانه - ولا مرة واحدة - بذكر الحب، ولم يقل لها قط إنه يحبها، وزجرها مرارا عن اللغط بهذا اللفظ. حتى فى اللحظات القصار التى يسهل فيها، من فرط النشوة، وطيب المتعة، أن تنتزع العاطفة اللجام وتنطلق به جامحة، كان الزمام لا يفلت من أصابعه، والرشد لا يخرج من كفيه، والعقل لا يفقد سلطانه وسيطرته، واللسان لا يجرى إلا بقدر.
وتذكرت كيف أنه كاد مرة ينسى نفسه، ويعدو ما خط ورسم، فقد رق حتى قارب أن يذوب، ثم هاجه لما به ما لا تدرى، فانتفض وانقض عليها يطوقها، ويعصرها، ويهصرها، كأنما يريد أن يشق بها ضلوعه إلى قلبه وهى تلين له فى العناق، وتئن من طيب ما تجد وألمه، ويلثم فاها ووجنتيها وعينيها، وجبينها ، وشعرها - ويشمه أيضا - ويدفع راحتيه متحسسا، ويملأ قبضته بلحمها كأنما يريد أن يقتطع منه، وهى مدار بها كالمسحورة أو المخمورة من دهشة المفاجأة وسرعة التحول من اللين إلى العنف، وحلاوة الأخذ بقوة، ولسع الرغبة المضطرمة، وتود لو مضى إلى ما يشاء من مدى، وتشفق أن لا يفعل، وترجو أن يطول أمد النشوة. وإذا به يدفعها عنه فجأة، كما جذبها فجأة، وينأى عنها وصدره كالخضم مضطرب، ويقول بجهد واضح: «كلا. ما ينبغى هذا فلست لى، ولا أنا لك، وسنندم - كلانا - إذا لم نرشد».
ومر أمام عينها - كشريط السينما، ولكن كخطف البرق - كل ما كان بينها وبينه، ولم يسعها إلا أن تعترف بأنه أمتعها ولم يحرمها، كما قال لها مرة وهو يضحك: «إلا استيفاءات يتم بها (المحضر)، ولا يعد ناقصا بغيرها على حد تعبير الشرطة».
ونهضت ودارت أمام المرآة، وتأملت قدها من الجانبين، ومن خلف ومن قدام، وحدثت نفسها أنها هى أيضا أمتعته. ولم تقل ذلك على سبيل المن، بل إعجابا بحسنها، فما كان يخفى عليها - ولا كانت فى هذه اللحظة تنكر - أنه كان أسهل شىء على إبراهيم أن ينال منها كل منال. فما كانت تشعر، إذ تكون معه أن لها إرادة غير ما يريد، وكانت ربما اشتهت أن يرخى أصابعه ويدع اللجام يفلت من بينها. ولكن وطأة هذه الرغبة لم تكن تثقل عليها أو تلج بها. وكانت تحس - ويخيل إليها - أنها ما تمنت ذلك أحيانا إلا من أجله، ولتهبه من السعادة كل ما لعله يحلم به. وكان يطيب لها أن تغالط نفسها على هذا النحو، وأن تتصور أنها مصدر سعادة له، وأن عندها ذخائر من الاستمتاع بحسنها فوق ما فاز به ونعم. وكانت ربما تعجبت لزهادته وقناعته، وخشيت أن يكون ذلك مرده إلى نقص فى فتنتها وقوة جذبها عن حد الكفاية. فلولا صراحة إعجابه بها، وخوفه عليها، وضنه بها، لعذبها هذا الشك الذى كانت وساوسه تهجس فى خاطرها كلما أقصر.
وألفت نفسها تكبر منه، وتحمد له، أنه أكرمها، ووقاها ما كان غيره خليقا أن يجرها إليه، وصانها عن الشعور بالابتذال. ولقد قتر عليها، ولم يعاطها الحب إلا بقدر يكفى أن يعفيها من عذاب الالتياح وإن كان لا يبلغ أن يكون ارتواء. ولكنه قتر على نفسه أيضا، وتجشم فى ذلك ما لم تتجشمه هى، فقد كان الزمام فى يديه، والمجهود كله مجهوده، فإن شاء أخب وأوضع وإن شاء تمهل وترفق، فأبى إلا التحرز.
وأحست أن نفسها تفيض بالشكران له على ما توخى من تجنيبها الامتهان، ولو كان أزال ما يجب أن يصان، لما وسعها أن تلقى صادقا بما لقيته وتلقاه به.
صادق ...
وأدارت اسمه على لسانها كأنما تريد لتتذوقه.. فأحست بمثل النار تندلع فى صدرها، وتتقد علوا وسفلا، فرفعت يدها إلى وجهها تتحسسه وتجسه، فوجدت بردا، ولم تجد حرا، وحدثت نفسها ساخرة أن هذا لنعم القريب المحب العاشق.. توليه الثقة التى لا يستحقها، عملا بمشورة إبراهيم وتؤثر معه الحسنى، وتبدى له صفحة الود، لتتألفه وتغريه بأن يكون شيئا، فينقلب وحشا يستدرجها إلى مهمة قفر ليفتك بها زاعما أن هذا من الحب! وهو مع ذلك قريبها، ومن لحمها ودمها، فكان حقه أن يصونها ويعف كما عف عنها إبراهيم وليس من نسبها، فإذا كان يهم بها هذا الهم، ولا تمنعه قرابة الدم أن يحاول اغتصابها، فماذا تراه يصنع باللواتى لا تصله بهن صلة رحم كفتحية مثلا؟ تلميذته التى ترى له عليها حق الأمر.
ومطت شفتيها لما ذكرت فتحية. ولم تنكر أن لها جمالا ولكنها أنكرت أن صوتها يطاق، وشبهته بصوت زمارة ينفخ فيها من لا يحسن الزمر. وليست هذه بالتلميذة الوحيدة ... وكل همه أن يكون مونولوجست.. بففف! وإن أباه لفى سعة، ولكن لا هو ولا أبوه يخطر لهما أن يصنعا شيئا يعالجان به هذه البطالة المزرية. هى فتاة تكسب رزقها بعرق جبينها، وهو فتى لا يستنكف أن يعيش حميلة على ذويه، وهذا هو الذى يطمع فى، ويحلم بأن أكون له زوجة.
ومع ذلك أحست أن قلبها يرق له. وإنه لجدير بكل ما صبت على رأسه من نعوت ولكنها لا تحفل ذلك كثيرا وإن كان يمضها ويرمضها. أليس من رحمها وإن كان عاطلا؟ وإن الفتيات ليحمن ويلبن عليه كالذباب.. أى نعم كالذباب. فما هى بخير منه ولا أطهر.. فلا بد أن له مزية.. فتنة.. جذبا.. وإلا لما قدر على ذلك.
واعترفت أن له جذبا. ولكنه يخيفها ويفزعها. أما لو لا ذلك، لولا خشيته لأمكن أن.. ماذا؟ أترى إبراهيم قد صدق، وصحت فراسته حين قال لها إنها تحبه فى قرارة نفسها وهى لا تدرى؟ نعم تنطوى له على الود والعطف والأسف لما هو فيه. ولكن.. كيف تحبه وهو عاطل؟ وكيف تأمنه وتطمئن إليه وهو لا ينفك يحمل على ذراعه فتحية ونظائرها ولا يشعر بارتباك أو خجل حين تلقاهما معا؟؟
وذهبت تقطع الغرفة جيئة وذهوبا، ثم انحطت على الكرسى وقد أحست أنها تعبت. وتجمعت العبرات فى مدمعها وحلقها، وجاهدت أن تردها، ولكنها ارفضت فتركتها تقطر على خديها، أو تنهمل، ولم يكن يسمع لها بكاء. ولكن صادقا كان قد استبطأها، فدخل عليها - كالثعلب - فالفاها هكذا جالسة، ورأسها مثنى على صدرها، والدموع تتسايل على وجهها، وتقطر على كفيها فى حجرها، فخطا إليها بسرعة وجثا أمامها وراح يلثم راحتيها باطنا وظاهرا، ثم رفع رأسها وجفف لها دموعها بمنديل، ثم ضمها إليه حانيا عليها، مريحا خده على شعرها.
فتنهدت وهمست: «صادق».
قال: «نعم يا ميمى».
قالت: «تعدنى! ...».
قال: «إنما لك الأمر وعلى الطاعة».
قالت: «وتترك المونولوجات ... وفتحية وغيرها؟»
قال: «كل ما لا يرضيك لا أفعله».
قالت: «و.. و.. ولكنك عاطل ...».
قالتها بعد تردد وتلعثم وتشجع، ولم تقذف بها فى وجهه.
فقال: «من الغد أحاول جادا أن أغير هذا».
فاستدارت شفتاها لشفتيه.
وتحاجزا، فقال صادق: «أشكرك يا ميمى».
قالت: «بل اشكر إبراهيم، هو الذى فتح لى عينى.. أو علمنى حبك.. لا أدرى».
قال: «ما أغربه».
ولم يزد.
10
وأما الأستاذ إبراهيم.
دخل كالصاروخ، وكانت تحية تنتظره، وفى يدها كومة من ورق اللعب تلقيه متجاورا على المنضدة فى صفوف متتالية، وتتبين حظها من تقارب ورقات معينة، أو تباعدها، فابتسمت له ابتسامة السرور والترحيب بأوبته وتوقعا لسخره مما هى فيه. ولكنه مضى إلى باب غرفة المكتب وقال وهو يهم بالدخول: «لا تدخلى على حتى أدعوك. وسأدعوك».
ورأت صرامة نظرته وتجهم وجهه، فتحجرت الأبتسامة - لم تغض بل صارت رسما تنقصه الألوان والمعنى - ولم يكن هذا عهدها به إلا حين يكربه هم ثقيل. فقلقت، وارتدت عينها إلى الورقات المتجاورة فنحتها بكلتا يديها، واتكأت بكوعها على المنضدة وأسندت رأسها إلى كفها، وراحت تنتظر قضاء الحظ فيها.
وارتمى إبراهيم على كرسى وهو يقول لنفسه: «إن الأمر جاوز الحد. هذا الجار الذى انشقت عنه الأرض اليوم، وأقبل بتعقبنا، من يدرينى أنه ليس هناك غيره، يرى، ويتتبع، ويستخبر، ويروح يلغط؟ وإذا ألح الرجال على ميمى بالمطاردة فما عسى أن تكون العقبى؟ وتحية؟ تحية التى رددت إلى محياها البشر والتطلق، هل أعود فأعذبها هذا العذاب الغليظ الذى لم أرحها منه إلا بمشقة؟»
وخطر له أن يرجئ البت فى هذه الأمور الإشكال إلى الغد، فإن اليوم هو يوم النحس الثالث عشر.. ثم عاد يقولى: «كلام فارغ.. الأمر أكبر من ذلك وأنا هنا الساعة لأراجع نفسى وأحاسبها وأستقر على رأى لا تردد بعده. وماذا تقول تحية إذا خرجت إليها متحيرا بعد أن وقع فى روعها من كلامى ولهجتى وهيئتى أنى مزمع أمرا له ما بعده؟»
واضطجع وشرع فى الحساب. وخيل إليه، وقد استغرقه ذلك، أن نفسه تتمثل له جالسة قبالته، مضطجعة مثله، وإحدى ساقيها ملتفة بالأخرى. وكبر هذا فى وهمه حتى لقد هم أن يقدم لها سيجارة.
وقال: «إن السؤال الأول - والأولى بالتقديم، والذى يقع على المحز ولا يترك سبيلا إلى المراوغة والهرب - هو: هل أستطيع أن أستغنى عن تحية؟»
فهزت نفسه رأسها بشدة أن: «لا».
قال: «كلا، لا أحسبنى قادرا على ذلك، أو مطيقا له، وما أظن بتحية إلا أنها قد صارت «عادة لى».
فقالت نفسه: «نعم عادة، ولم لا؟ أى ضير فى هذا؟ إن كل إنسان حزمة من عادات تكبر وتضخم، شيئا فشيئا، على الأيام مع ارتفاع السن، ويحسن أن توطن نفسك على هذا، وليست تحية بالعادة المفردة فإن هذا الحساب العقيم الذى لا تزال تؤديه، وتكلفنى أداءه، وتسود به عيشى معك، عادة أخرى. وأقول الحق إنك أتعبتنى وقد مللت صحبتك، ولو كنت تصدر عن رأيي، وتعمل بمشورتى، ولكنك عنيد مكابر».
قال: «وكيف بالله أصنع وأنت تشيرين بالرأى ونقيضه؟»
فأحست نفسه أنها تهورت، فأقصرت وقالت: «مهلا، فليس هذا وقته، لقد كنا نقول إنه لا غنى عن تحية، وإنها عادة لك، انتهينا إذن».
فقال: «كلا لم ننته، فهل أنا أحبها؟»
قالت: «يا أخى ما قيمة هذا؟ ثم إنك تحبها ولا شك حبا هادئا لا فائرا عارما كما كان فى البداية، ولكل فورة سكون، ولكل جديد لذته ثم تبلى الجدة، وتذهب معها اللذة، كالثياب..».
فثار بها مقاطعا: «قبحك الله، تشبهين تحية بثوب يبلى ويطرح، ويخلع على فقير؟»
قالت: «ها، ألم أقل لك إنك تضمر لها حبا وإكبارا؟»
قال: «دعى هذا. المهم أنه لا غنى بنا عنها ولا طيب للحياة بدونها».
قالت: «ولماذا كل هذا النفور، بل الفزع، من ذكر الحب؟ أتراك أصبحت كمصاصة القصب التى ذهب عصيرها؟ فأنت تنفر مما لم تعد قادرا عليه لأنك جففت ونشفت؟»
قال: «أما إنك لثقيلة، ثم إنك لم تصدقى، فما عجزت عن الحب، ولكن».
قالت مقاطعة: «مع غيرها ... اختش يا شيخ، هبها ملتك كما مللتها وذهبت تنشد التسلى كما تنشده..».
فصاح بها «اخرسى..».
قالت: «إذن أنصفها، ولا تكلفها إلا ما تكلف نفسك، وإلا زهقت روحها إذا ظلت على التصبر والتشدد، ولم تذهب تتعزى وتتلهى مثلك، وعلى فكرة ... إن روحها تكاد تزهق الان من القلق والاضطراب. ما أقل ذوقك معها وأسخف رعايتك لها.. ألا ترى أن الأوفق أن تفض الجلسة وتخرج لترد إليها روحها؟»
قال: «صدقت، وإنى لوحش، فلنعجل، إذن لا معدى عن عمل نعمله؟»
قالت: «طبعا، وإنه لسهل».
قال: «سهل؟ تقولين سهل؟؟»
قالت: «نعم. إذا كانت علة الفتور أنها لم تستطع أن تجدد نفسها لك فجددها أنت لنفسك ».
قالى: «يبدو لى أن هذا غير معقول ولكن كيف؟»
قالت: لا تكن بليدا. فكر.. اختر لها ثيابها برأيك.. مثلا.. فصلها على قدها على هواك، فلن يسوءها، بل أخلق أن يسرها أنك معنى بها وبتجميلها فى عينك.. غير لها ولك المناظر التى تحيط بكما.. اذهب بها إلى لبنان، ولا تخش ولا تقبل منها اعتراضا، واذكر أنك حفيد أولئك الأجداد الحكماء العمليين من أهل الكهوف والغيران، وأنها هى أيضا حفيدة أولئك الجدات اللواتى كن يفرحن بقوة الرجل وسطوته ويلتذذن طاعتهن له».
قال: «أظنك على صواب، وهذا يذكرنى بقول أبى تمام:
وطول مقام المرء فى الحى مخلق
لديباجتيه فاغترب تتجدد
فإنى رأيت الشمس زيدت محبة
إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد
بل الحياة نفسها إنما كانت لها هذه المحبة لأنها ليست بسرمد، اتفقنا.. وإلى لبنان إذن».
وهم بالنهوض، فأومات إليه أن مهلا، وقالت: «ميمى؟»
قال: «هى عاقلة، تفهم، وتعذر».
قالت: «خير لك أن تكتب إليها، هذا أسهل».
قال: «الحق معك».
ودعا تحية فأقبلت واجفة القلب فابتدرها بقوله: «سنسافر فاستعدى».
فريعت، وتوهمت أن مكروها حاق بأحد من الأهل، ولمح آية الجزع والفزع فى محياها، ووخزته نفسه وهمست فى أذنه: يا شيخ حرام عليك». فتبسم وقال: «إلى الشام».
فوضعت يدها على صدرها وتنهدت، ثم سألته: «الشام؟»
قال: «نعم بأسرع ما نستطيع». قالت: «ولكن الشام؟ هذا.. كلا. ليس الآن».
قال: «ماذا تعنين؟ الشام قلت، وإلى الشام سنذهب».
فهمست نفسه فى أذنه معجبة به راضية عنه: «هكذا يتكلم الرجل ... برافو ...».
قالت: «ولكنك غير فاهم، ليست المسألة أنى لا أريد السفر فإنى أريده وأشتهيه ولكن.. ولكن..».
وتلعثمت واتقد وجهها كالجمرة، وغضت من بصرها، فدنا منها وأحاطها بذراعه وسألها بحنو: «مالك؟»
قالت وهى مطرقة، وشفتها تختلج: «إنى ... إنى ... أنا حامل».
فقال على البديهة، وبغير تفكير، وذهنه متجه إلى الحجة لا إلى الخبر: «كلام فارغ.. أليس فى لبنان حوامل!». ثم تنبه فصاح بها: «إيه؟ ماذا تقولين؟»
فضحكت ما وسعها أن تضحك، بعد أن أجرت لسانها بما كانت مستحيية كالعذراء من ذكره.
فانحنى عليها وقبلها، وضمها ضما خفيفا. وجلس وأجلسها على حجره، ومسح لها شعرها بكفه وأسندها إلى صدره وقال: «أظن أن أمى يسرها هذا، لو أمكن أن تدرى».
قالت: «فى الصباح نذهب إليها ونخبرها».
قال: «ثم إلى الشام».
قالت: «إذا شئت».
وأغمض عينيه، وذهب يتصور أنه يوشك أن يصبح أبا، وذهل حتى عن تحية على حجره، فغمزته نفسه وهمست: «لا تنس من فرحتك أن تكتب إلى ميمى».
فقال بضجر وصوت عال: «كيف يمكن أن أنسى؟»
فاستغربت تحية وسألته: «تنسى؟ تنسى ماذا؟»
فتنبه، وسخط على «نفسه» التى كادت توقعه فى ورطة، وقال: «لا شىء، أحسبنى كنت أفكر فى هذا.. كل جديد من الأمر يتطلب جديدا من التفكير».
فضحكت ونهضت عن حجره، وقالت وهى تسوى خصل شعرها: «هذا دأبك أبدا.. لا يمكن أن تتغير».
فحدق فى وجهها وقال: «بل أنا أتغير كل ساعة، وقد تغيرت الان منذ لحظة ... فلو أنى..». «ليس فى عينى».
ومالت عليه ولثمته: «ولا فى قلبى».
Page inconnue