وعند ذلك كنت قد نهضت، فخرجت غاضبا لا ألوي، وبعد قليل تبعني رفاقي إذ عرفوا أني خرجت.
في خلال تلك الحوادث المؤلمة كانت خطيبتي قد يئست من استردادي إليها، بعد ما بذلت جهدها في الحرص على قلبي فلم تفلح، كنت أرثي لها لأنها كانت مغبونة معي، ولكن بلغ أمي وعمي حينذاك أنها ابنة بغي، وقد رباها خالها مانعا أمها عنها؛ لكيلا تلتطخ بعارها ثم أنكرها عليها بعدئذ مدعيا أنها ماتت، فكبر عليهما الأمر وأبيا أن تزف إلي فحلا عقد خطبتنا.
قال الطبيب: فلم أتمالك أن قلت: «مسكينة هذه الفتاة، هل كانت سيئة السلوك يا مسيو كاسيه؟» فقال: «بل هي من أطهر الفتيات قلبا، ألا تعرف المسيو جوزف ماتون؟» فقلت: «أعرفه»، قال: «هي ابنة أخته»، فقلت: «إني رأيت في منزله فتاة أليست ابنته؟» فقال: «بل هي ابنة أخته وتدعى ماري مارتال بزعم أنها يتيمة الأبوين، وأن أباها يكنى بمارتال»، فقلت: «ولماذا تعاقب بجريرة أمها إذا كانت طاهرة القلب؟» قال: لم أطاوع عمي وأمي في حل عقد الخطبة استنكافا من الزواج بابنة بغي، ولا أدين الابنة بجريرة أمها جريا على مذهبهما، وإنما تركت تلك الفتاة؛ لأني كنت أبتغي إطلاق حريتي من قيود الزوجية، إذ كنت مشغولا بأمر إيفون ومنصرفا عن كل أمر غير استرضائها.»
منذ بضعة أيام كنت وميراي صباحا في مركبة في طريق الجزيرة، فنظرنا إيفون وفانتين معها في عربة، فهاجني الوجد والشوق إلى زيارتها ولم أدر لماذا، لعلي مللت عشرة ميراي فتذكرت ماضي إيفون، فاستيقظ غرامي الأول، ما صدقت أن حان المساء حتى ودعت ميراي، وذهبت إلى إيفون فاستقبلتني فانتين والدموع تنسكب من عينيها المدرارتين فقلت: «ما الخبر؟ فصفقت ولطمت خديها قائلة: إيفون، إيفون، في خطر الموت. - ويلاه ماذا تقولين؟ - واندفعت إلى الأمام لكي أدخل إلى غرفتها، فأمسكتني بكلتا يديها قائلة: لا تدخل. - لماذا؟ - أمر الطبيب أن تترك هادئة في سريرها؛ لأن أقل حركة تؤثر عليها وتعجل في أجلها. - أنائمة هي الآن؟ - نعم.
فجذبت فانتين إلى قاعة الاستقبال، وجعلت أسألها: ماذا جرى لها؟ - أتعلم أننا رأيناك اليوم مع المدموازيل ميراي في طريق الجيزة؟ - نعم. - فيما نحن راجعتان اعترى إيفون شبه نوبة عصبية، فضاق صدرها وكانت تتشنج، فارتعت لأمرها وأمرت الحوذي أن يعجل إلى البيت، وبالجهد أمكنها أن تصعد متوكئة علي وعلى الخادم، وفي الحال استدعيت لها الدكتور بوشه أقرب الأطباء إلينا، ففحصها باهتمام ووصف لها العلاجات الوقتية المنعشة سألته عن أمرها، فقال: إنه علة قلبية فيخشى عليها من الانفعالات النفسانية، وأمر أن يخلو المكان من كل ضوضاء وحركة، وأن لا يدخل عليها أحد البتة. - هل قال: إنها في خطر؟ - نعم، إني أخاف على حياة إيفون يا موريس، أطلب حياتها منك؛ لأنك أنت سبب غمها وكدرها. - ماذا قالت عني؟ - لم تقل شيئا، ولكنها كانت دائما تتنهد متحسرة، أنت سبب حسرتها، يستحيل أن تدرك كم غممتها وقهرتها فيما فعلته لنكايتها، ولو قدرت فاعليته لأشفقت أن تقدم عليه؛ لأنها لا تزال إلى الآن تحبك منتهى الحب. - آه لا تفكريني بفظاظتي يا فانتين، لعل لي بعض العذر .
عند ذلك كان الحزن قد طمى في فؤادي، والغم تلبد على صدري، والدنيا اسودت في عيني، ومرت في مخيلتي تذكارات إيفون الماضية بأسرع من لمح البرق، وشعرت أن ما عملته لكيدها لا يقدم عليه همجي، فطوق الأسى قلبي وكاد يزهق روحي، فقلت لفانتين: والآن بماذا أكفر عن ذنوبي؟ أود أن أراها. - الطبيب حتم علي أن أتركها مستكنة وهي الآن نائمة. - أبقى هنا إلى أن تصحو فأجثو عند قدميها. - أخاف يا موريس أن تثير شجونها وتجدد انفعالها. - لا، لا، أصغر لديها، أتذلل لها، أقبل قدميها، ولا أدعها إلا راضية.
وبعد هنيهة تفقدتها فانتين، وتأخرت عندها فتبعتها إلى باب المخدع فسمعتهما تتناقشان في أمر دخولي عليها، فدخلت غير مستأذن وفي الحال جثوت أمامها وقلت: - إني نادم على كل آثامي الماضية فاغفري لي يا إيفون، أضحي بكل شيء لأجل سلامتك، فماذا تأمرين؟
فلم تتمالك أن بكت البكاء المر، وفي هنيهة عاودتها النوبة فضاق نفسها، ورأيت أنها تكاد تختنق، فتقطع قلبي عليها فرقا وجعلت فانتين تعالجها بالمنبهات، وتهمس في أذني قائلة: «ليتك لم تدخل، الأفضل أن تخرج»، فخرجت جازعا وجلا ألطم خدي تارة، وأعض أصابعي أخرى، نادما على مقابلتي لها التي هاجت عواطفها في إبان ضعفها.
وبعد هنيهة عادت فانتين تقول: إنها انتعشت قليلا واستكنت، فالأفضل أن تبتعد عنا بتاتا ريثما تشفى إيفون الشفاء التام وحينئذ تسترضيها. - كيف أطيق أن أغفلها في إبان مرضها؟ - إن كنت تحبها فاحترم إرادتها، وهي تريد أن تكون بعيدا عنها، فإغفالك إياها الآن أفضل خدمة لها.
فأنعمت النظر في كلام فانتين وأنا مضطرب جدا، وقلق على صحة إيفون، ثم قلت والدموع تنهمل من عيني لقاء دموع فانتين: إني أخضع لكل حرف من أوامر إيفون، وأقدس كل ما يتجلى من إرادتها، أفعل الآن كل ما فيه فائدة لصحتها، لا آتي إلا متى شفيت تماما وأذنت لي بزيارتها.
Page inconnue