أرسلت الخادم ثانية إلى السوق لحاجة أخرى، وصفقت لإيفون فحضرت تلبي مطالبنا ورأتني أضم ميراي مرة، وأحاول عناق فانتين أخرى، عند ذلك انقطع وتر صبرها فقالت: «اللهم رحماك»، فتقطع قلبي لتنهدها العميق وشكواها الأليمة، ولكن خمرة الانتصار عليها شددت نفسي فلم أرث لها.
بقينا على هذه الحال حتى الساعة السابعة وإيفون تتقلى على نار الأسى في مقلاة الغيرة، والصبر يغطي قدر غيظها الفائر إلى أن وافى رهط من الشاربين والندامى فخرجنا.
وبعد بضعة أيام مثلنا الدور نفسه، فلم تشأ إيفون أن تحضره، بل هربت من المنزل إلى حيث لا ندري وتركت فانتين معنا، فكانت هذه المسكينة تبالغ في مداراتنا خيفة أن نعقد شجارا، ونثير نقع القتال في البيت، على أننا لم نمكث طويلا؛ لأن إيفون كانت غائبة.
انتبهت إلى أن هذه الزيارة تغيظ إيفون جدا، فعقدت النية على أن أعيدها حتى تذل لي وتلتمس مصالحتي، فبعد بضعة أيام زرناها ثالثة في الميعاد نفسه فقيل لي: إنها مريضة في سريرها فدخلت عليها من غير استئذان.
وا حر قلباه، وجدتها منطرحة في سريرها شاحبة اللون، وقد غشى وجهها قتام الغم والأسى.
فما رأتني حتى تدفق الدمع من عينيها، فتقدمت إليها مسيطرا على عواطفي معتصما بأنفتي وقلت بنزق: ما لك؟ مم تشكين؟
فقالت بصوت خافت: هل أنت آت لكي تجهز علي؟ إن كنت تبغي الانتقام فقد اهتديت إلى شر نقمة، وما فعلته كان فوق احتمالي، فإن شئت أن تعيد الكرة علي فأمهلني ريثما أتقوى قليلا؛ لكي أحتمل سهام انتقامك ...
وعند ذلك تمادت بالبكاء، فلم أعد أفهم كلامها الأخير، فقلت لها: قد زهدت بي يا إيفون، فلماذا يغيظك أن أعبأ بسواك؟ - إنك حر فافعل ما تشاء، ولكن إذا كان في قلبك شفقة تتركني وشأني. - إذن لا تزالين مصرة على مجافاتي. - أرى ابتعادك عني خيرا لك. - حجة غير مقبولة يا إيفون، فقولي: إنك تقصينني من أمام وجهك؛ لأن قلبك نبذني، تقصينني لكيلا أكون عقبة في سبيل من استبدلته بي وفتحت له قلبك. - إني متوقعة كل هذه السهام منك يا موريس، ولكنك سوف تتحقق أني أحببتك أكثر من نفسي حتى ضحيت بقلبي لك.
وعند ذلك استرسلت في البكاء حتى سحقت فؤادي، فقلت لها بعد هنيهة: ألا تزالين تحبينني يا إيفون؟ - موريس، لا تذك الوجد في قلبي حسبي ما أقاسي، إني أحبك مجانا.
فلم أتمالك أن انحنيت فوقها انحناء المرضع على الرضيع، وقبلت ثغرها واستنشقت أنفاسها ومزجت دمعي بدمعها. - ارحميني يا إيفون إن آثامي لك لا تغتفر، إني أعبدك، أجثو لدى سريرك ما دمت حيا. - إذا كنت تحبني يا موريس تفعل ما أريد. - أفعل ما تشائين إلا البعد عنك. - إذن فلا تحبني وإلا فتطيعني مطلق الطاعة. - لا أستطيع البعد عنك يا إيفون، فكيف تستطيعينه إذا كنت تحبينني؟ - أقاسي فيه مر العذاب يا موريس، ولكني أجالد نفسي. - لماذا تقاسين مرارة البعاد، وفي طوقنا أن نجتمع على الدوام؟ لقد حيرتني يا إيفون ما الداعي لهذه المكابرة؟ - قلت لك يا موريس غير مرة: إن صلتك بي ضارة بمستقبلك أنا لا أدوم لك، ولكن عاري يدوم لك إذا لازمتني، إني أحبك أكثر من نفسي؛ ولذلك أبتغي أن أقيك شر إثمي. - هذا التعليل ضعيف جدا يا إيفون لا أقبله، فلا بد أن يكون هناك سبب آخر تموهين عليه بهذا السبب الباطل. - وحياتك هذا هو السبب الحقيقي. - لا أصدق أنك وأنت تنبذينني تحبينني، فإما أن تقبليني في منزلك كل يوم، وإلا فأتأكد أنك لا تحبينني. - تنهدت عند ذلك وسكتت، فاستأنفت الكلام بعد هنيهة قائلا: ماذا تقولين؟ - ماذا؟ - إني سأزورك كل يوم. - إني أتعذب من بعادك يا موريس، ومع ذلك أراني مضطرة أن أتحمله. - إذن لا تريدين أن تقبليني. - أريد ولكني لا أقدر. - لماذا؟ - لا أقدر، لا تسلني لماذا. - إذن أنت مخادعة، حسبي ما لقيته من مجافاتك، وكفاني ما أغالط نفسي فيه، إني أثبت الدناءة على نفسي بهذه المغالطة، فها أنا أتركك.
Page inconnue