فأجابتها بحدة أشد: الأصوب أن تصوني سمعتك!
فهاجت سنية ورمتها بشمعدان صغير لم يصبها. ولما رجع بكر وجد رضوانة شعلة من الكراهية والغضب. وخلا إلى أمه يعاتبها ولكنها قالت له: نصيحتي لك كأم أن تطلقها.
فذهل بكر، فقالت ساخرة: كانت قدم الشر الذي قضى على أخيك وأبيك وأمك.
ثم بصوت حاد متهدج: إبليس نفسه يعجز عن فعل ذلك كله، حتى أنت حفيد الناجي الكبير تؤدي الإتاوة لصعلوك من خدم أبيك وجدك.
وقال بكر لنفسه: إنها اللعنة قد حلت بنا حقا!
ودارت عجلة الأيام بلا توقف كعادتها. ومات السمري الكبير أبو سنية، فورثت عنه مالا لا بأس به، واستوهبها بكر بعض المال ليزيد من رأس ماله فلم تمنعه، ومضى في طريق الثراء بلا حدود. أخذ يتسلى عن همومه بالإغراق في العمل وخوض المغامرات الناجحة والمضاربات الخطيرة، حتى كادت أن تستأثر به شهوة المال لدرجة الجنون. كان يكنز المال كأنما يتحصن به حيال الموت والأحزان والفردوس المفقود، وكان ينطلق نحو الكفاح من مركز منغرس في أرض الأحزان والهموم، متحديا الألم والمجهول. ولم يكن بكر كريما ولكنه أيضا لم يكن بخيلا. لم يكن ينفق في الخارج مليما لغير ما فائدة تعود عليه، أما في داره فكان بحرا؛ أهدى إلى رضوانة جواهر تساويها وزنا، وجدد أثاث الدار ورياشها وتحفها حتى صارت متحفا. وقال والحسرة تقرض قلبه: ليت السعادة بالمال تشترى!
31
وذات يوم أشهر رضوان الشوبكشي - أبو رضوانة - إفلاسه. كان الرجل مسرفا، مولعا باللهو والطرب والليالي الملاح، فأفلت منه توازنه التجاري وهوى. ورحب بكر بالفرصة ليثبت لزوجته المتمردة حبه وكرمه، فلما عرضت دار الشوبكشي للبيع في المزاد اشتراها بثمن فاحش لييسر لحميه تسديد ديونه. وألحق بمحله إبراهيم الشوبكشي شقيق رضوانة الأصغر وجعله وكيله وأمين سره، غير أن رضوان الشوبكشي لم يتحمل الصدمة فمات بالسكتة، وشيعه بكر بما يليق بمقامه، وأقام له مأتما استمر ثلاثة أيام، وتوقع بعد ذلك أن تغير رضوانة من سلوكها أو تهذب من طبعها، ولكنها كانت مثل الصلب لا تلين، وزادتها الأحزان فتورا ونفورا، حتى قال بكر لنفسه: إن قيام القيامة نفسها لن يغيرها.
32
وأطبق الظلام عندما اختفت سنية أمه من الدار والحارة! كارثة لم يستطع لها دفعا. وسرعان ما عرف أنها أخذت مالها وهربت مع شاب سقاء وتزوجت منه. كارثة حقيقية نكست رأسه، فنفض منها يديه، ولم يهتم حتى بمعرفة مقامها الجديد، وتوارى وراء سجلاته ورحلاته.
Page inconnue