بالفرنسوية) وجيش معه من المسجونين جيشا، فأعادوا اسم الملك إلى سيف بن ذي يزن، فهنأته العرب وأوفدت إليه قريش وفد عبد المطلب المعروف أمره، وبقيت السيادة العملية للفرس (وكانوا يسمون الأذواء بالأبناء) حتى ظهر الإسلام فأجهز عليهم وأدال دولتهم.
ولم يزل اختلاف أهل اليمن الديني والسياسي الذي لا يدخل بلدا حتى يجعل أعزة أهله أذلة ينخر عظامهم إلى أن اضمحلوا وبادوا، ولكن السبب الأقوى في إبادتهم وزوال ملكهم هدم سد مأرب - كما تقدم - فتفرق أهله أيدي سبا، فنزلوا الحيرة وغسان ويثرب وغيرها، هؤلاء هم عرب الجنوب والشرق، وتلك حالهم.
أما عرب الشمال فإن لهم مملكتين صغيرتين: مملكة الحيرة في العراق العربي، وملوكها يسمون المناذرة أو النعامنة، وكانوا يذعنون لسيادة الفرس؛ ومملكة غسان في الشام، وملوكها يسمون الغساسنة نسبة إلى عين ماء نزلوا بها، وكانوا يذعنون لسيادة الروم. وأنشئت هاتان المملكتان في القرن الأول للمسيح، وكان ملوكهما في خصام دائم، لا تضع الحرب أوزارها بينهم إلا إذا نشب القتال بين تينك الدولتين الضخمتين: الفرس والروم، فتنضم مملكة الحيرة إلى الفرس، ومملكة غسان إلى الروم، لا لنصر إحدى الدولتين على الأخرى، ولكن لانتقام بعضهم من بعض، وهم في مثل هذه الحروب لا فضل لهم في النصر؛ لأنهم ذيول وأذناب لغيرهم، هذا أمر الشرق والجنوب والشمال.
أما الغرب والوسط - وهما الحجاز ونجد - فلم يشبهما نقص، وقد أتم الله عليهما نعمته فلم يسلبهما نعمة الحرية والاستقلال، فكانوا كافة أعزاء أباة للضيم، يأبى كلهم إلا أن يكون رئيسا، فهم رؤساء جميعا؛ لذلك لما نشط علماء الصدر الأول لتدوين اللغة العربية لم يأخذوها إلا من كلام قبائل معدودة من نجد والحجاز وما اكتنفهما لسلامة ألسنتهم مما انتاب ألسنة آل سائر البلاد العربية، وتلك القبائل المعدودة هي قيس، وأسد، وتميم في نجد، وهذيل بغزوان - جبل فوقه مدينة الطائف - وبعض كنانة بدومة الجندل بين الشام والمدينة، قرب جبلي طيئ، وبعض بني طيئ بجبلي أجأ وسلمى في شمال نجد.
ومكة وهي قصبة الحجاز لم ينبه لها ذكر قبل الإسلام إلا بالكعبة؛ لذلك حاولت ثقيف في الطائف أن تلفت وجوه الناس عنها، فأنشأت لها بيتا وأقامت فيه صنما اسمه ذو الخلصة، وجعلت فيه مزايا بيت الله الحرام؛ فكان مشبع الجائع، ومروى الظمآن، ومأمن الخائف، ومقضى ذوي الحاجات، ومجار المستجير، ومأوى أبناء السبيل، وكانت العرب تسميه الكعبة اليمانية، وكان يزاحم الكعبة الحجازية. كذلك صنع عبد المسيح بن داوس بن عدي، أحد أمراء اليمن السالفين، فأنشأ في نجران في أول انتشار النصرانية في تلك الجهات قبة سماها كعبة نجران، وجعل لها تلك المزايا نفسها، وكان يؤمها كثير من العرب، فكانت تلك الأمكنة وغيرها ممن حذا حذوها تنازع مكة قديما الرياسة وتنافسها في العظمة.
ومنافسة الطائف لمكة حملت ثقيفا على إرشاد أبرهة الحبشي على الطريق لما أراد هدم الكعبة ليخلو لهم الجو، بل إن الروم كادوا يملكون الكعبة في عصر النبي
صلى الله عليه وسلم
بإغراء وقيادة عثمان بن حويث النصراني.
فلم يكن في بلاد العرب مملكة أو شبه مملكة لها من العز ما يكفي لإعلاء كلمتها ورفع رايتها على سائر بلاد العرب؛ لأن القوم جميعا كانوا في نزاع دائم وشقاق مستمر عاقهم عن تفوق بعضهم على بعض، ولم تبلغ مكة قبل الإسلام يوما ما في بلاد العرب مبلغ أتينا في دولة اليونان، ولا رومية في دولة الرومان، ولا بوزنطية - أي القسطنطينية - في دولة القياصرة من بني الروم، بل كانت ممالك الحيرة وغسان وقبائل نجد وتهامة ذات شأن حقير وأثر ضئيل في تلك الملاحم التي نشأت بين رومية ثم القسطنطينية وبين الفرس، في تلك الملاحم التي كان أبطالها سابور (سابور ذو الأكتاف) ويوليان المرتد، وبليسا، وكسرى أنوشروان، وكسرى أبرويز، وهرقل.
هذه كانت أحوال البلاد العربية قبيل ظهور الإسلام، ولنرجع الآن إلى حال العالم كله قبل الإسلام، فنقول: جاء الإسلام بدين التوحيد وفي الأرض دولتان: دولة الروم،
Page inconnue