مقدمة
المحاضرة الأولى: أحوال الأمة العربية بعد ظهور الإسلام
المحاضرة الثانية: أحوال البلاد العربية قبيل ظهور الإسلام
المحاضرة الثالثة: شرح النتيجة الثانية
المحاضرة الرابعة: انتشار الإسلام والحروب الإسلامية
المحاضرة الخامسة: قاعدة ملك الأمويين
المحاضرة السادسة: تتمة المحاضرة الماضية
المحاضرة السابعة: ثلاثة أجوبة
المحاضرة الثامنة: الكتابة والخط، والحفظ والتدوين
المحاضرة التاسعة: تتمة الكلام على الخط: النقط والإعجام
Page inconnue
تتمة المحاضرة التاسعة: الحفظ والتدوين
مقدمة
المحاضرة الأولى: أحوال الأمة العربية بعد ظهور الإسلام
المحاضرة الثانية: أحوال البلاد العربية قبيل ظهور الإسلام
المحاضرة الثالثة: شرح النتيجة الثانية
المحاضرة الرابعة: انتشار الإسلام والحروب الإسلامية
المحاضرة الخامسة: قاعدة ملك الأمويين
المحاضرة السادسة: تتمة المحاضرة الماضية
المحاضرة السابعة: ثلاثة أجوبة
المحاضرة الثامنة: الكتابة والخط، والحفظ والتدوين
Page inconnue
المحاضرة التاسعة: تتمة الكلام على الخط: النقط والإعجام
تتمة المحاضرة التاسعة: الحفظ والتدوين
الحضارة الإسلامية
الحضارة الإسلامية
تأليف
أحمد زكي
مقدمة
هذا هو الكتاب الثالث الذي تقدمه إدارة مجلة الجامعة المصرية بين يدي حضرات القراء الكرام، راجية أن تكون قد قامت ببعض الواجب عليها لأبناء هذا الوطن العزيز.
وقد سبق هذا الكتاب كتابان جليلان في موضوعين جديدين لم ينسج على منوالهما أحد من قبل، ولم يسبق أن وضع لهما في العربية سفر يرجع إليه ويعول عليه؛ أولهما كتاب «محاضرات أدبيات الجغرافيا والتاريخ واللغة عند العرب» للعلامة السنيور جويدي، وثانيهما كتاب «الحضارة القديمة» للأثري القديم عزلتو أحمد كمال بك وكيل الآثار، وكلاهما يتضمن المحاضرات التي ألقاها هذان الأستاذان الجليلان في دار الجامعة، ونشرت تلك المحاضرات تباعا في مجلة الجامعة المصرية.
أما هذا الكتاب فهو من إملاء العلامة عزلتو أحمد زكي بك سكرتير ثاني مجلس النظار وأستاذ الحضارة الإسلامية في الجامعة المصرية، وهو يتفق مع سابقيه من حيث افتقار الناس وشدة حاجتهم إليه، ولكنه يمتاز بكثرة تطلع القوم إليه وتشوفهم له وترقبهم إياه؛ ذلك لأن موضوع الحضارة الإسلامية من أعظم المواضيع شأنا وأكبرها أهمية. وأي حاجة أشد من كتاب يجمع بين دفتيه حضارة الأمة الإسلامية قديما وحديثا، ويضم في تضاعيفه مدنية دول الإسلام وما كان عليه المسلمون من المجد والسؤدد ومنعة الجانب ووفرة الحضارة وكثرة العمران!
Page inconnue
وهذا الموضوع على نفاسته لم يخض فيه إلا نفر قليل نظرا لما يلاقيه المشتغل به من المصاعب، وما يتجشمه من المتاعب؛ إذ كان لا يتسنى لأحد أن يلم بأطرافه إلا إذا جمع شتات الكتب بين مطبوعة ومخطوطة، وتصفحها تصفحا تاما ليستخلص منها زبدة الموضوع ولباب الكلام.
كل من عرف ذلك وعانى هذه المشاق يدرك لأول وهلة قيمة الكتاب ويقدره قدره، ويأسف معنا أشد الأسف على أنه لم يجمع سائر المحاضرات، بل اقتصر على بعضها دون البعض لعذر طرأ على الأستاذ فأخره عن إتمام ذلك العمل الكبير.
ونحن لا نتعزى كغيرنا بقول من قال: «ما لا يدرك كله، لا يترك جله.» وإنما تعزيتنا أن يقوم من بيننا نفر فيأخذوا على عاتقهم أن يعاونوا الأستاذ على إخراج باقي المحاضرات للناس ليكون الكتاب تاما كاملا.
وها نحن أولاء نتطوع فيمن يتطوعون لأداء هذا الواجب، ولسنا نعدم نصراء للأدب يسدون النقص ويملئون هذا الفراغ، ولنا من حرص سعادة زكي بك على فائدة الأمة الإسلامية ما يكفل لهم النجاح ويسهل عليهم كل أمر عسير.
أصحاب مجلة الجامعة المصرية
محمود شاهين، محمد كامل فيضي، عبد الله أمين
المحاضرة الأولى: أحوال الأمة العربية بعد ظهور الإسلام
أيها السادة، أحييكم بتحية الإسلام فأقول: «السلام عليكم»، ثم أقفي على آثارها بأن أقول لكم إن محاضراتنا، التي نبدؤها اليوم، هي من أشق الأعمال وأمنعها إلا عن الجماعات الباحثين المدققين؛ فمقدرة عاجز مثلي تضمحل دون استيفاء هذه المحاضرات، ودون وقوفي موقف معلم يعلمكم ما لم تكونوا تعلمون، لا سيما أن فيكم من هو أولى مني بهذا الموقف الخطير الجليل، فجل ما يصيبكم مما أحمله إليكم من العلم بهذه المحاضرات، هو ضوء مصباح يضيء لكم مواضع أقدامكم؛ فتبصرون الطريق التي تسلكونها للوصول إلى الغاية المطلوبة من اجتماعنا هذا، وما المعلمون إلا مرشدون وهادون، فعليكم بالبحث والتنقيب والدرس، ومسألة أهل الذكر؛ فإن النبوغ في الفنون لا يكون إلا بهذا، فالمدارس مهما علا شأنها وسمت منزلتها، لا يمكنها أن تعلم الناس النبوغ في الفنون، وإنما منتهى ما تصل إليه الجامعات التي هي أرقى مدارس الهيئة الاجتماعية؛ إنما هو هداية الطلاب إلى طرق النبوغ وأساليبها، فلا تتواكلوا ولا تفتر عزائمكم؛ ليكون لنا منكم في المستقبل رجال يفضلوننا، ويفضلون من هم أفضل منا من حاضري مجلسنا هذا الذين أشرت إليهم بادئ الأمر.
ما زال العرب يعيشون منذ برأهم الله عاكفين حول الشعاب والجبال، قانعين في خمولهم وضلالهم بنعمة الحرية والاستقلال، حتى كان القرن السابع للميلاد، وحينئذ جاء دورهم الطبيعي، فظهروا في مظهرهم الحقيقي، وبهروا العالم بما كان كامنا في نفوسهم من المواهب وأسباب الاستعداد؛ فإن الحرية والاستقلال أكمنتا في نفوسهم العزيمة الصادقة وقوة الإرادة، وهاتان الخلتان هما نبعتا الفضائل ومصدرا النجاح والرقي في معترك الحياة، والأمم المغلوبة على أمرها لا تحيا فيها خلة من هاتين الخلتين الجليلتين.
بعث الله فيهم ومنهم «محمدا» - عليه الصلاة والسلام - بدين جديد: هو دين التوحيد، وبملة سمحة: هي الحنيفية البيضاء، فجعل لهم بذلك نظاما جميلا، ومقاما جليلا، بعد أن عاشوا همجا زمانا طويلا، وعاثوا في الأرض مفسدين.
Page inconnue
بزغت أنوار الإسلام وانتشرت تعاليمه في ربى الحجاز وفي ربوع اليمن، فأدخلت هذه الأمة في طور جديد، كان فاتحة لعصر من عصور الحضارة التي أبهرت العالم أجمعه في تلك الأيام، ولا تزال موضع الإعجاب إلى هذا الزمان، تلك الحضارة التي وضعت للناس أول أساس للحرية والإخاء والمساواة، وكانت مقدمة لما نشاهده من آثار العمران، وارتقاء المدارك وتقرير حقوق الإنسان.
إن المبادئ التي جاء بها الإسلام هي التي جمعت كلمة العرب وألفت بين قلوبهم؛ فتكونت منهم أمة واحدة متجانسة متماسكة، كانت قبل ذلك أشتاتا بعضها لبعض عدو، وهي في مجموعها بمعزل عن سائر الأمم والشعوب، كأنها في غير هذا الوجود تنبهت الأمة العربية من غفلتها، وأفاقت من غفوتها، وقامت من رقدتها، حينما أخذت بأوامر دينها الجديد، ودخلت في معترك الحياة، عملا بأوامر ربها ونبيها والنابغين من رجالاتها؛ فسادت العالم القديم في أقل من القليل؛ لأنها بلغت في مدة ثمانين سنة من عزة الملك، وضخامة السلطان، ورجحان الكلمة، واتساع دائرة النفوذ ما لم تبلغه أكبر الأمم القديمة حتى الرومان في عشرة أمثال هذه المدة من الزمان.
وبيان ذلك أن الخلفاء
1
الراشدين بعثوا سراياهم وكتائبهم فغزوا البلاد ودوخوا الأمم، ودانت لهم الممالك في قلب آسيا وشمال أفريقيا وغرب أوروبا، وبثوا أنوار دينهم، ووضعوا أساس المدنية العربية والعمران الإسلامي؛ فكان لهم في التاريخ العام مظهر جليل، دهشت له الأبصار وحارت فيه الأفكار، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
وبعد الخلفاء الراشدين انتقلت الخلافة إلى الأمويين، فكان لهم الفضل الأكبر في تأثيل الملك، وتوطيد دعائم الخلافة، ونشر الآداب واللغة العربية، وتمهيد الوسائل لإقامة معالم الحضارة الإسلامية على أساس متين، وأكبر مميز لعصرهم هو احترام الحرية التي جاء بها الإسلام؛ فأمتعوا الناس باستقلال الفكر، فكانت ديار الأمراء ومعاهد العلم ملأى بالعلماء والشعراء، والكتاب الكتابيين وغيرهم، وكانوا أحرارا في عقائدهم وأعمالهم، وأمر الأخطل الشاعر النصراني ومجاهرته بعقيدته في الإسلام أشهر من أن يذكر، وكانت المرأة الكتابية زوج المسلم متمتعة بعقيدتها وذهابها إلى كنيستها أو بيعتها.
فقد تمتع الناس في عصر الأمويين بتمام الحرية في أشخاصهم وفي مجموعهم وأفكارهم، وفي عقائدهم لدرجة لا يتصورها إنسان في مثل ذلك الزمان، غير أنهم شطوا في هذا الميدان حتى انقلبت الحرية إباحة، والناس على دين ملوكهم، فإن الخلفاء في أواخر الأمر بالغوا في السكر والكفر لدرجة استباح معها أحدهم - وهو الوليد - ألا يبرح مجلس السكر إلى عرش الملك (حينما جاءته البشرى بالخلافة، وأتاه القضيب والخاتم مع البردة، وقدم له ندمانه فروض الإجلال والاحترام، ووقفوا في حضرته خاشعين خاضعين) حتى يغنوه بأبيات ارتجلها يهنئ بها نفسه، وهي:
طاب يومي ولذ شرب السلافه
وأتانا نعي من بالرصافه
وأتانا البريد ينعى هشاما
Page inconnue
وأتانا بخاتم للخلافه
فاصطبحنا بخمر عانة صرفا
ولهونا بقينة عزافه
والوليد هو الذي فتح المصحف ذات يوم، فكانت أول آية فتحت عليها عينه قوله تعالى:
واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد ، فبلغ منه الحنق منتهاه، فنصب المصحف ناحية هدفا له، وجعل يرشقه بالسهام وهو يقول:
أتوعد كل جبار عنيد
فها أنا ذاك جبار عنيد
إذا ما جئت ربك يوم حشر
فقل يا رب مزقني الوليد
واستمر الخلفاء على قبح السيرة والانهماك في الملاهي، حتى ذهب ملكهم على أسوأ حال، وضربت به الأمثال، فقيل ذهب ملك بني أمية ببولة، وانتقلت الدولة عنهم إلى بني العباس في خطب يطول، وكانت دمشق دارا لملك بني أمية، وشعارهم البياض في راياتهم ولباسهم.
Page inconnue
فلما جاء بنو العباس، اتخذوا بغداد مقرا لكرسيهم، والسواد شعارا لهم، وكانت جنودهم تسمى المسودة؛ لأن راياتهم سود، والأصل في اتخاذ العباسيين الأسود شعارا لهم مخالفة الأمويين، وتلك سنة إخلاف الملوك لأسلافهم، وأمثال ذلك كثيرة معروفة، منها: أن المأمون الخليفة العباسي لبس الأخضر؛ لأنه من العلويين، فكاد يختل أمر الملك؛ فرجع بعد أسبوع إلى الأسود.
وصارت بغداد في عهد الرشيد وابنه المأمون منبعا للحضارة، ومشرقا للمعارف، ولا نزيد عصر العباسيين وصفا، ولا حضارتهم تعريفا، بغير قولنا إن أوروبا كانت على عهدهم تتخبط كلها في غيابة الغواية والضلالة، وتهيم في فيافي التوحش والجهالة، ثم غير القوم ما بأنفسهم؛ فغير الله ما بهم، وتمزق هذا الملك الإسلامي الفخيم، وتشتت شمل هذه الدولة الهائلة، وأصبحت الخلافة الإسلامية مثلثة، على حين أن دين التوحيد يدعو إلى توحيدها، فكانت أولاهن في العراق في آسيا، وهي «العباسية»، ومركزها بغداد، والثانية في مصر في أفريقيا، وهي «الفاطمية»، ومقرها القاهرة، والثالثة في الأندلس في أوروبا، وهي «الأموية» وعاصمتها قرطبة، من أعمال إسبانيا الآن.
أما الخلافة العراقية، وهي «العباسية»؛ فقد أسرعت إليها عوامل الانحطاط والانحلال لسببين: أحدهما ديني، والآخر سياسي، فأما الديني فلأنها تشبثت بالخلافيات والجدليات، وفتحت الباب لظهور النحل المتعددة، والمحن السيئة، وأكبر محنة في الإسلام القول بخلق القرآن، الذي نصره وأيده بعض خلفاء بني العباس، ومنهم المأمون بن هارون الرشيد، ومناظرات العلماء في تلك المسألة وفي حضرة المأمون سودت بها صحف كثيرة. وأما الثاني فلأن الأتراك والغلمان قد استحوذوا منذ زمان طويل - أي من أيام المعتصم - على مقاليد التدبير فيها، وانتهى إليهم الحل والعقد في كل أمر، حتى في اختيار الخليفة ومبايعته، ولم يتركوا لصاحب التاج سوى اسم الخلافة، حتى كان أبو القاسم أحمد المعتمد على الله بن المتوكل يطلب الشيء الحقير فلا يناله، وضاق به الحال واشتد عليه الأمر يوما، فقال في ذلك متوجعا:
أليس من العجائب أن مثلي
يرى ما هان ممتنعا عليه
وتؤخذ باسمه الدنيا جميعا
وما من ذاك شيء في يديه
واستمروا في هذا التدلي والانحطاط حتى انتقلت الدولة والملك في آخر أيام المتقي وأول أيام المستكفي إلى آل بويه، والذي بقي في أيدي العباسيين إنما هو أثر ديني اعتقادي، لا ملك دنيوي سياسي، وأصبح القائم من ولد العباس إنما هو رئيس الإسلام، لا ملك الإسلام.
وما زالت دولتهم تتأخر وأمرهم يتقهقر، حتى دهمتهم جنود التتر، فلم يكن لهم من أمر الله مفر، وحينئذ تصدعت أركان هذه الدولة المجيدة، وتقوضت دعائمها، وطمست معالمها، وذهبت مع أمس الدابر، ودخلت في خبر كان.
هذا ولا عبرة بالظل الذي ظهر لها فيما بعد بديار مصر، فإن تلك الخلافة العباسية الثانية كان القائم بها إنما يؤدي وظيفة دينية، كأنه شيخ طريقة من طرق الصوفية، بل لم يكن لصاحبها سوى تثبيت السلطان في المركز الذي يرشحه له عصبته من المماليك، على أن هذا الظل لم يبق له أدنى أثر في الوجود عندما ظهر آل عثمان على مصر، ولا غرابة؛ فكل ظل معرض للزوال.
Page inconnue
وأما الخلافة الأندلسية، وهي «الأموية»، فقد تجلت على أوروبا بمظهر رائع، ونشرت رايات الحضارة، وساعدت على ترقية المعارف، وأخذ عنها الفرنج مبادئ العلوم وأساليب الفنون والفلسفة، التي كانت السبب الحقيقي لما هم فيه الآن من حضارة أذلت لإرادتهم العناصر، وأخضعت لهم الطبيعة، وسخرت لهم كل ما في هذا الكون، وحسبها ذلك فخرا، ولا تزال آثارها بديار الأندلس ناطقة بما بلغته من علو الكعب في كل مضمار، غير أنها قد انتهى أمرها مثل غيرها من الدول الفخيمة، التي وصلت إلى نهاية الغايات ؛ فأدركها الهرم قبل الأوان، وأفل نجمها؛ إذ تسللت إليها جراثيم الفساد، وتداخلت فيها الأطماع الشخصية، حتى انقسمت على نفسها، بينما كان أهل إسبانيا وملوك الفرنجة لها بالمرصاد، يتحينون لها الفرص للإيقاع بها والقضاء عليها، فانفرط عقد الخلافة وانتثرت، واستقل الولاة والعمال بهذه الأجزاء المتفرقة، ثم لم يكتفوا بتسمية أنفسهم بملوك الطوائف، بل تنافسوا في التشبه بالخلفاء في أبهة الملك وفخامة الألقاب، حتى قال شاعرهم:
مما يزهدني في أرض أندلس
ألقاب معتضد فيها ومعتمد
ألقاب مملكة في غير موضعها
كالهر يحكي انتفاخا صورة الأسد
فما عتموا أن تطرقت إليهم أسباب الضعف والسقوط بعد هذا التفرق، فكان بعضهم يحارب بعضا، ويتناصرون على أنفسهم بعدوهم، ويتقربون إليه بالقلاع والحصون لتشفي بعضهم من بعض، وتمادوا في ذلك الضلال إلى أن آل الأمر بهم إلى خروج الأمر من أيديهم، ودخلوا جميعا في قبضة عدوهم؛ فانزوت بقية الأمة الأندلسية المجيدة في غرناطة، وأفرادها مع ذلك في شقاق مستديم، فكانوا لعدوهم خير معاون على انتزاع ملك الصمامة الباقية لهم، ولكنهم، والحق يقال، قد دافعوا بما بقي فيهم من بأس قديم، وما تولاهم من يأس مقيم إلى أن أبى القدر المحتوم، فوقعت هذه الأمة في مخالب عدوها فريسة كريمة، بعد أن أخذت عليه العهود التي رأتها ضامنة لبقائها، ولكنه نكث بالعهد، ولم يف بالشرط، فصبر الباقون على الخسف والهوان تعلقا بأذيال الوطن العزيز، بيد أن السيف والنار أفنيا معظمهم، وطرد الإسبانيون القليل الباقي منهم إلى الخارج، فذهب بعضهم إلى جنوب فرنسا وإلى سويسرا، وبعض آخر إلى إيتاليا، ودخل في غمار أهلها على طول الزمان، وتناسى أصله العربي ودينه الإسلامي، ولكنه حفظ رغم أنفه عادات وأخلاقا شرقية، وبقيت فيه بقية من الملامح العربية التي تتجلى فيه للناظرين، وذهب آخرون إلى مراكش، والجزائر، وتونس، وكان لهم فيها شأن مذكور، وأثر في الحضارة محمود، وجاء فريق منهم إلى مصر في دولة المماليك، فغمروهم بالإحسان، وجعلوا لهم الرواتب، وأرصدوا عليهم بعض الأوقاف، وذهب نزر يسير ومعهم جمهور من اليهود إلى القسطنطينية، وسلانيك ، وأزمير، وغيرها من مدائن الدولة العلية، التي كانت قد ظهرت في ذلك الزمان، فنشر الأندلسيون بانتشارهم هذه الحضارة في ربوع أوروبا، وشمال أفريقيا.
وبهذا أصبحت إسبانيا ليس فيها منهم إلا من تنصر، وأبناؤهم فيها إلى اليوم، ولا تزال أسماء بعضهم عربية شابتها العجمة أو تطرق إليها التحريف، ومنهم من يفتخر بانتسابه إلى العنصر العربي الكريم، ولم يبق في الأندلس من هذه الخلافة التي كانت صاحبة القول الفصل في الشئون العمومية السياسية، وفي الأمور الداخلية لبعض الممالك الإفرنجية، سوى آثارها الفخيمة ومآثرها الخالدة التي تدل على ما كان لها من التأثير الكبير في ارتقاء الحضارة ونشر العلوم، والله وارث الأرض ومن عليها.
وحينما اضمحلت أركان الخلافة، كانت بالمغرب الأقصى
2 (مراكش) دول بلغت درجة عظيمة من القوة والبأس، فتسمى أصحابها في أول الأمر بأمراء المسلمين احتراما لمقام الخلافة بالمشرق،
3
Page inconnue
ثم انتزعوا لأنفسهم لقب الخلافة، حينما علموا بما حاق بالعباسيين من الوهن والضعف، ولا تزال أهل مراكش (المغرب الأقصى) إلى الآن لا يعترفون بالخلافة إلا لسلاطينهم دون آل عثمان.
وأما الخلافة المصرية، وهي «الفاطمية»، فقد كانت مصر في أيامها محط العز والسعادة، ومستقر المعارف والفضائل، وكان اللون الأخضر شعارها،
4
ولا يزال شعارا للأشراف من عهدها إلى الآن. أصبحت مصر في حكم الفواطم غرة في جبين الأمصار، وارتفع للحضارة فيها أعلى منار، ووصل العلم في عهدها إلى أقصى الغايات، واستبحر العمران لدرجة تتضاءل دونها أكبر دولة في العالم، ولكنها ما لبثت أن تولاها الضعف وأسرع إليها الفناء؛ لأنها غلت في الترف والفجور والملاهي، فأشبهت دولة الرومان أو دولة الروم؛ فأصابها ما حل بها من الزوال.
5
بله ما امتازت به في أخريات حياتها من أساليب الختل والخداع، وتهالكها أكثر من غيرها على استباحة الحرمات، فقد كانت تصادر الرعية وأرباب الدولة بغير حق ولأوهى سبب حتى أصبح الخليفة «النهاب الوهاب»، هذا عدا إفحاشهم في سفك الدماء، فقد بلغ القتل درجة لا يتصورها عقل، ومن ذلك أن ولي العهد حسن بن الحافظ لدين الله ذبح في ليلة واحدة أربعين رجلا من أمراء مصر، إلى غير ذلك مما ارتكبه من الموبقات التي أشار إليها المعتمد بن الأنصاري، صاحب الترسل، بقوله:
لم تأت يا حسن بين الورى حسنا
ولم تر الحق في دنيا ولا دين
قتل النفوس بلا جرم ولا سبب
والجور في أخذ أموال المساكين
Page inconnue
لقد جمعت بلا علم ولا أدب
تيه الملوك وأخلاق المجانين
فلذا حقت عليها كلمة الله فدمرها تدميرا، وقامت على أثرها الدولة «الأيوبية»، ولها على الإسلام اليد البيضاء؛ لأنها حفظت كيانه، وصانت بيضته، وردت غارات الصليبيين عن دياره، وقد كانت أوروبا تألبت وتمالأت عليه، بينما كان أهلوه متقطعين متدابرين متخاذلين. ثم دال أمر الأيوبيين وأعقبتهم دولة المماليك، فجاء مصر رجلان أحدهما تلو الآخر، وقد أثبت الثاني كما أثبت الأول أنه البقية الباقية من سلالة بني العباس، فقلد المماليك أولهما الخلافة اسما؛ أي كما كانت لأجداده في بغداد، وأرسلوه في جيش جرار لاستردادها فهلك.
وأما الثاني فتقلد بمصر هذه الخلافة الاسمية الوهمية، وبقيت الأحكام كلها في أيدي السلاطين من المماليك، حتى كان الفتح العثماني في أيام السلطان سليم الأول، فبايعه الخليفة العباسي المصري الذي كان في ذلك الوقت، وتنازل له عن الخلافة طوعا أو كرها.
ثم مات أو قتل بعد ذلك بقليل؛ فانحصرت الخلافة في آل عثمان، وهم عمدها وعقادو ألويتها إلى الآن، أدام الله دولتهم، وخلد شوكتهم، ورفع كلمتهم، وأيد خلافتهم، إنه سميع مجيب.
نرجع الآن إلى الأمة العربية الأصلية، ونقول إن شبه جزيرة العرب التي صدرت عنها هذه الحركة العجيبة قد رجعت منذ أجيال إلى حالتها السابقة من البداوة والخمول، حتى ظهر فيها «محمد» بن عبد الوهاب، فحاول إرجاعها إلى نشأتها الأولى ومجدها الداثر، وبث تعاليمه التي ذهب إلى أنها تعيد إلى الإسلام شبابه وفخاره، فاتبعه خلق كثير، ولكنهم دفعوا إلى ارتكاب كثير من المحارم؛ فتجرد لهم محمد علي والي مصر، وجرد عليهم «سيف الله في الأعصار المتأخرة»، وهو ابنه البطل المغوار، والفارس الكرار إبراهيم باشا، فأباد سطوتهم، وقضى على آمالهم، ولكنهم لا يزالون كثيري العدد في تلك الأقطار.
هذه الأمة العربية التي نشرت لغتها الواسعة، وفنونها الرائعة، وآدابها الجليلة، ومعارفها الغزيرة، في قسم عظيم من آسيا وأفريقيا وبعض أوروبا، وابتكرت علوم «الجبر والمقابلة»، والكيمياء «الكاذبة والصادقة»، واخترعت أرقام الحساب والصفر، وكانت لها اليد الطولى في علم «التنجيم والنجوم»، وغير ذلك من المعارف التي أخذتها عنها أوروبا.
هذه الأمة قد أصبحت اليوم بحيث تكاد ألا يكون لها شان في الوجود، بل ولا يأتي ذكرها إلا بما ترتكبه من السلب والنهب فيما بينها، والسطو على القوافل والتجار التي تسير في أرضها، فسبحان محول الأحوال!
أحمد زكي
المحاضرة الثانية: أحوال البلاد العربية قبيل ظهور الإسلام
Page inconnue
أيها السادة، لا بد لمن يعنى بمحاضرات على الحضارة الإسلامية من أن يشدو بذكر الإسلام، وإذ قد نيطت بي تلك المحاضرات، اضطررت إلى أن أشدو بذكره، ولو كلفت بمحاضرات على الحضارة الوثنية، لكنت مضطرا إلى أن أشدو بذكرها كذلك، وأنا إن ذكرت الإسلام فإنما أذكره من حيث هو نظام عمراني لا ديني؛ ولذلك في المحاضرة الفائتة اجتزت عصر النبوة، وبدأت بعصر الخلفاء الراشدين؛ لأن عصر النبوة كان دينيا محضا. وإذ كانت محاضرة اليوم في معرفة أحوال بلاد العرب قبيل ظهور الإسلام، وجب أن نعرف تلك البلاد، ثم نعرف أحوالها.
بلاد العرب هي تلك الأرض الواسعة التي في جنوب آسيا، يحدها شمالا الشام والجزيرة والعراق، وغربا قناة السويس والبحر الأحمر، وجنوبا خليج عدن وبحر عمان، وشرقا بحر عمان والخليج الفارسي والعراق؛ فهي شبه جزيرة عظيم، وقد تسمى جزيرة تسامحا، أما تسميتها «بحيث جزيرة» فمن الخطأ الفاضح، وهي ثمانية أجزاء كبيرة: الحجاز واليمن في الغرب، وحضرموت ومهرة وعمان في الجنوب، والبحرين والحسا في الشرق، ونجد والأحقاف أو الدهناء
1 - على قول - في الوسط.
فأما بلاد عمان والبحرين في الشرق فكانت مفصولة عن سائر بلاد الجزيرة بأمرين: أحدهما طبيعي، والآخر سياسي، فأما الطبيعي فتلك المفاوز والبراري الواسعة والصحاري الجدبة القفرة التي حالت بينها وبين سائر البلاد، وأما السياسي فإذعانها لسيادة الأكاسرة.
وأما بلاد اليمن وحضرموت في الجنوب فكانت ميدانا للحروب الداخلية والفتن الأهلية؛ فهوت من قمة مجدها الباذخ، وفنيت منها سلالة التبابعة الذين بنوا مأربا وقصور غمدان وظفار، وأقاموا سد مأرب الذي يشبه خزان أسوان في مصرنا الآن. وكان هدم ذلك السد في أوائل القرن الأول للميلاد سببا لخراب هذه البلاد، التي سماها اليونان والفرنج على أثرهم البلاد العربية السعيدة، واسمها دليل على ذلك؛ فإن اليمن واليمن واليمين من مادة واحدة، فهي من أخصب بلاد العرب، ولخصبها وحسن موقعها كانت الدول القديمة تحاول امتلاكها، وتتحين الفرص لذلك، وكان في بلاد اليمن أمم من أضخم الأمم، بلغت أعلى منازل العظمة والأبهة وضخامة الملك، فكان فيها مملكة الحميريين، ومنهم الملوك التبابعة - واحدهم تبع - وكان التبع بمنزلة إمبراطور ألمانيا الآن، وشاهنشاه الفرس؛ أي ملك الملوك لسيادته على عدة ملوك مستقلة استقلالا داخليا، يسمون الأذواء أو الأقيال. وكانت عدن من المدن المستقلة، فكانت كمدينة همبرج في ألمانيا الآن، وهي التي تسمى المدينة الحرة لمجلسها النيابي (السناتو) الذي يدير شأنها، وكلا البلدين - عدن وهمبرج - فرصة كبيرة لمملكتها.
خريطة إجمالية عن شبه جزيرة العرب.
وكان في تلك البلاد السعيدة أديان شتى، ولكل دين أنصار يحملون لواءه، ويحمون ذماره، فكانت فيهم اليهودية، وكانت فيهم النصرانية، انتشرت في نجران كلها، وكانت فيهم الوثنية، وكان آل كل دين يطمعون في الغلب والرياسة، ويحاولون إعلاء دينهم بخفض سائر الأديان، فإذا عجزت فئة دون بلوغ مأمولها، استنجدت الأمم الأجنبية من الحبشة والروم والفرس؛ فساعد ذلك العداء وهذا الخلاف وتلك المنافسة وتعدد الملوك في هذه البلاد، ساعد كل ذلك الأمم الأجنبية الطموحة إلى امتلاكها؛ لخصبها وحسن موقعها على الامتلاك، فهجمت الحبشة عليها ثلاث مرات، وقد سعى سيف بن ذي يزن في دفعهم، فاستغاث بالروم (الأغارقة) فلم يغث، كما أخفق امرؤ القيس في استنجاده قيصر - وأمره معروف - فالتجأ إلى فارس فأغاثه كسرى بمرزبان (وهو يشبه البطريق،
2
والمرزبان اسمه
Satrape
Page inconnue
بالفرنسوية) وجيش معه من المسجونين جيشا، فأعادوا اسم الملك إلى سيف بن ذي يزن، فهنأته العرب وأوفدت إليه قريش وفد عبد المطلب المعروف أمره، وبقيت السيادة العملية للفرس (وكانوا يسمون الأذواء بالأبناء) حتى ظهر الإسلام فأجهز عليهم وأدال دولتهم.
ولم يزل اختلاف أهل اليمن الديني والسياسي الذي لا يدخل بلدا حتى يجعل أعزة أهله أذلة ينخر عظامهم إلى أن اضمحلوا وبادوا، ولكن السبب الأقوى في إبادتهم وزوال ملكهم هدم سد مأرب - كما تقدم - فتفرق أهله أيدي سبا، فنزلوا الحيرة وغسان ويثرب وغيرها، هؤلاء هم عرب الجنوب والشرق، وتلك حالهم.
أما عرب الشمال فإن لهم مملكتين صغيرتين: مملكة الحيرة في العراق العربي، وملوكها يسمون المناذرة أو النعامنة، وكانوا يذعنون لسيادة الفرس؛ ومملكة غسان في الشام، وملوكها يسمون الغساسنة نسبة إلى عين ماء نزلوا بها، وكانوا يذعنون لسيادة الروم. وأنشئت هاتان المملكتان في القرن الأول للمسيح، وكان ملوكهما في خصام دائم، لا تضع الحرب أوزارها بينهم إلا إذا نشب القتال بين تينك الدولتين الضخمتين: الفرس والروم، فتنضم مملكة الحيرة إلى الفرس، ومملكة غسان إلى الروم، لا لنصر إحدى الدولتين على الأخرى، ولكن لانتقام بعضهم من بعض، وهم في مثل هذه الحروب لا فضل لهم في النصر؛ لأنهم ذيول وأذناب لغيرهم، هذا أمر الشرق والجنوب والشمال.
أما الغرب والوسط - وهما الحجاز ونجد - فلم يشبهما نقص، وقد أتم الله عليهما نعمته فلم يسلبهما نعمة الحرية والاستقلال، فكانوا كافة أعزاء أباة للضيم، يأبى كلهم إلا أن يكون رئيسا، فهم رؤساء جميعا؛ لذلك لما نشط علماء الصدر الأول لتدوين اللغة العربية لم يأخذوها إلا من كلام قبائل معدودة من نجد والحجاز وما اكتنفهما لسلامة ألسنتهم مما انتاب ألسنة آل سائر البلاد العربية، وتلك القبائل المعدودة هي قيس، وأسد، وتميم في نجد، وهذيل بغزوان - جبل فوقه مدينة الطائف - وبعض كنانة بدومة الجندل بين الشام والمدينة، قرب جبلي طيئ، وبعض بني طيئ بجبلي أجأ وسلمى في شمال نجد.
ومكة وهي قصبة الحجاز لم ينبه لها ذكر قبل الإسلام إلا بالكعبة؛ لذلك حاولت ثقيف في الطائف أن تلفت وجوه الناس عنها، فأنشأت لها بيتا وأقامت فيه صنما اسمه ذو الخلصة، وجعلت فيه مزايا بيت الله الحرام؛ فكان مشبع الجائع، ومروى الظمآن، ومأمن الخائف، ومقضى ذوي الحاجات، ومجار المستجير، ومأوى أبناء السبيل، وكانت العرب تسميه الكعبة اليمانية، وكان يزاحم الكعبة الحجازية. كذلك صنع عبد المسيح بن داوس بن عدي، أحد أمراء اليمن السالفين، فأنشأ في نجران في أول انتشار النصرانية في تلك الجهات قبة سماها كعبة نجران، وجعل لها تلك المزايا نفسها، وكان يؤمها كثير من العرب، فكانت تلك الأمكنة وغيرها ممن حذا حذوها تنازع مكة قديما الرياسة وتنافسها في العظمة.
ومنافسة الطائف لمكة حملت ثقيفا على إرشاد أبرهة الحبشي على الطريق لما أراد هدم الكعبة ليخلو لهم الجو، بل إن الروم كادوا يملكون الكعبة في عصر النبي
صلى الله عليه وسلم
بإغراء وقيادة عثمان بن حويث النصراني.
فلم يكن في بلاد العرب مملكة أو شبه مملكة لها من العز ما يكفي لإعلاء كلمتها ورفع رايتها على سائر بلاد العرب؛ لأن القوم جميعا كانوا في نزاع دائم وشقاق مستمر عاقهم عن تفوق بعضهم على بعض، ولم تبلغ مكة قبل الإسلام يوما ما في بلاد العرب مبلغ أتينا في دولة اليونان، ولا رومية في دولة الرومان، ولا بوزنطية - أي القسطنطينية - في دولة القياصرة من بني الروم، بل كانت ممالك الحيرة وغسان وقبائل نجد وتهامة ذات شأن حقير وأثر ضئيل في تلك الملاحم التي نشأت بين رومية ثم القسطنطينية وبين الفرس، في تلك الملاحم التي كان أبطالها سابور (سابور ذو الأكتاف) ويوليان المرتد، وبليسا، وكسرى أنوشروان، وكسرى أبرويز، وهرقل.
هذه كانت أحوال البلاد العربية قبيل ظهور الإسلام، ولنرجع الآن إلى حال العالم كله قبل الإسلام، فنقول: جاء الإسلام بدين التوحيد وفي الأرض دولتان: دولة الروم،
Page inconnue
3
وهي نصرانية تقول بالتثليث، ودولة الفرس، وهي مجوسية تقول بالتثنية.
فأما الروم فقد كانوا منقسمين على أنفسهم بسبب اختلافهم في الأقاويل الدينية وفي العقائد المذهبية، فكانت بين رجالاتهم وبيوتاتهم خطوب وأهوال أنستهم تدابير الملك وسياسة البلاد؛ حتى فسدت الأحوال، واختلت الأعمال، واضطربت شئون الولايات، وعمت الفوضى جميع أطراف الإمبراطورية.
هذا المرض الطبيعي الذي أصاب دولة الروم عند أول بداية الإسلام في عهد محمد عليه الصلاة والسلام؛ تجددت أعراضه بعينها فيما بينهم أيضا حينما أشرف محمد الثاني على فتح القسطنطينية، فكان انقسام الروم على أنفسهم واختلافهم في شئون بسيطة سببا في ظهور الإسلام وانتزاع تسعة أعشار أملاكهم منهم، كما كان سببا لاستيلائه على دار مملكتهم ومحو أثرهم.
ومما تجب الإشارة إليه في هذا المقام أنه قد حدثت أمور سياسية دعت قياصرة الروم للمساعدة على مزج المسيحية بالوثنية، فتيسر لهم بهذه الوسيلة تعميم هذه العقيدة الجديدة على جميع الأهالي الوثنيين الخاضعين لصولجانهم؛ فنتج عن ذلك اختلاف كبير في المشيئة والطبيعة والناسوت واللاهوت، أوجب زيادة الارتباك بين رجال الكهنوت.
هذا فضلا عن اشتداد النزاع والخصام بين أساقفة القسطنطينية والإسكندرية ورومية؛ إذ كان كل منهم يريد لنفسه الزعامة على الملة النصرانية، فالأول يؤيد دعواه بأن مدينته هي كرسي الملك، فلا بد أن تكون مقرا للدين؛ لأن الملك هو الحارس للدين. وأما أسقف الإسكندرية فكان يقول إن السيادة الدينية لا تصح لغيره؛ نظرا لموقع مدينته التجاري ومركزها العلمي، وإن الدين إنما يستند على المال ولا قوام له بغير العرفان. بقي صاحب رومية وقد طبق الآفاق بقوله إن رومية هي المدينة الخالدة ذات المآثر الباقية، وقد كانت لها السيادة الدائمة من حيث الديانة والسياسة، فصاحب الكرسي فيها هو الأحق بالرياسة.
فكان هذا التخاصم مثيرا لثورة دينية اضطربت لها الدنيا بأسرها، ولا تزال آثارها باقية بين المسيحيين إلى الآن.
وقد ترتب على هذه الثورة نتيجتان: (1)
تداخل الفرس وهدمهم لكيان النصرانية في آسيا. (2)
تمهيد السبيل للإصلاح النهائي الذي قام به العرب وأعقبه تولد الحضارة الإسلامية.
Page inconnue
شرح النتيجة الأولى
إن الفرس وثبوا على هرمز (أو هرمزد) ملكهم ففقئوا عينيه وخلعوه، ولم يقتلوه بحرجا، وولوا عليهم مرزبانا - من غير بيت الملك - اسمه بهرام، وكان ذلك في السنة الثامنة لموريق
Maurice
قيصر الروم، وهي سنة 590 للمسيح، وكان لهرمز ابن حدث اسمه كسرى، وهو الثاني المعروف بأبرويز، وعند الفرنج
، فخرج من أرض الفرس متنكرا في زي سائل حتى وصل إلى أرض الروم، وكتب من أنطاكية
4
كتابا إلى موريق قيصر الروم يستنجده، فرد عليه بكتاب،
5
وكلاهما من أبلغ ما كتب ملك إلى ملك، وأرسل إليه ابنه وجيش معه جيشا وأمده بمال، فاسترد ملكه وبايعه الناس كلهم، وتولى وزارته برمك جد البرامكة الذين ازدانت بهم الدنيا في دولة الرشيد، فلما رأى ذلك قيصر الروم أراد أن يغتنم الفرصة لرغبته في بلاد فارس فزوجه من ابنته مريم، ثم أهداه حلة عليها صليب فلبسها واستعرض بها جنده. فأما الفرس فوجدوا على ملكهم للبسه حلة عليها الصليب، وأما الروم فلم ينظروا إلى شهامة قيصرهم مع عدوهم بعين الرضا لا سيما تزويجه إياه من ابنته، فشغبوا عليه وقلبوا تماثيله، وكان القائم بهذه الحركة بطريقا ليس من بيت الملك، اسمه فوقاس
phocas ، كما كان القائم بالثورة على هرمز الفارسي مرزبانا من غير آل ساسان.
Page inconnue
وكان بطريرك القسطنطينية قد غضب على القيصر لهذا السبب ولأسباب أخرى؛ فكرس فوقاس وبارك له، وجعله إمبراطورا، ولكن بعد أن تحقق من أرثوذكسيته، ثم قتل الروم موريقا وأبناءه وزوجته وبناتها، ومال القوم على أشياعه وأوليائه، ففقئوا عيون بعضهم، وسلوا ألسنة بعض آخر، ووثبوا على جماعة منهم فقطعوا أيديهم وأرجلهم، وانهالوا على جماعة آخرين جلدا فقتلا.
وصلت أخبار هذه الحوادث إلى رومية وإلى فارس، فكان لها فيهما صدى متخالف متعاكس، فأما رومية فقد ابتهج فيها البابا غريغوريوس، وطلب من الله أن يأخذ بنصر فوقاس، وأن يشد أزره على عدوه، فكانت مكافأته على ذلك أن اعترف له قيصر الروم باللقب الذي طالما منى به نفسه، وهو «الأسقف العام».
وأما فارس فلم يكد يبلغها خبر هذا الانقلاب، حتى امتعض له أبرويز، وأخذته الحفيظة لصداقته مع موريق الذي كانت له عليه اليد البيضاء في إعادة ملك أجداده إليه، وقد التجأ إليه ابن موريق فآواه وأكرم مثواه ووعده برد الأمر إليه.
كذلك كان الحال في إفريقية، فإن هرقل الإكسرخس
Exarque
6 - أي الوالي أو العامل - بلغ منه الحزن منتهاه لتلويث الأرجوان الإمبراطوري بوضعه على جسم ذلك الدخيل فوقاس، فرفض دفع الجزية إليه وامتنع عن الاعتراف به، ومنع عنه الحبوب والغلال التي كانت ترسلها أفريقية إلى القسطنطينية؛ فسجن الإمبراطور في أحد الأديرة زوجة هرقل، واسمها إبيفانيا
Epiphanie ، وعروس ابنه، واسمها أودسيا
Eudossie ، فأراد هرقل أن يحاربه، ولكنه نظرا لشيخوخته ولعاهاته عهد بذلك إلى ابنه هرقل، فاتفق مع نقيطا
Nicétas
ابن عمه غريغور المستبد بأعمال سبيطلة في الحوز الجنوبي لتونس على غزو الإمبراطور وانتزاع الملك منه، على أن هرقل يذهب إليه بحرا وأن نقيطا يسير إليه برا عن طريق لوبيا
Page inconnue
7
ومصر والشام وآسيا الصغرى، واتفقا على أن الملك للسابق إلى القسطنطينية إذا قتل فوقاس، فكان السابق بالطبع هرقل، وذهب موفقا مظفرا منصورا إلى القسطنطينية، فانضمت إليه الأمة ومجلس أعيانها، بل ورجال كهنوتها الذين لم يكن لهم مبدأ ثابت في الأحوال السياسية نظرا لكثرة تزعزعهم في الأصول الدينية؛ فسرت إليهم عدوى الاختلاف في السياسة من جراء الانشقاق في المذاهب والاعتقادات، لا سيما أن القيصر أعطى بطريرك رومية لقب الأسقف العام؛ فأغضب بطريرك القسطنطينية.
تملك هرقل بن هرقل، وقتل فوقاس واستخلص عروسه ولبس رداء الأرجوان، وهو شعار الإمبراطور، على يد البطريرك سرجيوس (سرجس أو سركيس)، غير أن الثورة في القسطنطينية لم يرتضها شاهنشاه الفرس وكسرى أبرويز، فسرح المرزبان المعروف بشهربراز في جيش كثيف إلى الروم للطلب بثأر موريق صاحبه وصهره، وللإيقاع بالملك الجديد، فعبر الفرات وهاجم بلاد الإمبراطورية، وقوبلت جنوده بالترحيب من المنشقين بسبب الدين، واستحوذ على أنطاكية فقيسارية فدمشق ثم أورشليم، وأحرق كنيسة القيامة (أو القمامة) وكنيستي قسطنطين وهيلانة، ثم استولى على مصر، وهرب منه يوحنا الرحوم بطريرك الإسكندرية إلى قبرص ومات بها، وأنفذ جيشا لمحاصرة قسطنطينية وهي سرة الدولة ودار الملك، فخاف القيصر أن تفتح واستعد للهرب، وجمع خزائنه وذخائره وفي جملتها خشبة الصليب المقدس وأرسلها في سفن له إلى أفريقية، فعصفت بها الرياح وسيرتها للإسكندرية، فظفر بها شهربراز، وقبض عليها كلها وبعثها إلى أبرويز، فحمد الله الذي سخر له الريح حتى جاءته بخشبة الصليب ، وأفرد لها خزانة سماها كنز الريح، وهي بالفارسية كنج باذاورد، ثم استحوذ شهربراز على ساحل بحر الروم لغاية طرابلس الغرب، وامتلك آسيا الصغرى، ولبثت جنود الفرس معسكرة مدة عشرة أعوام على أبواب القسطنطينية، وفي أثناء ذلك ماتت زوجة القيصر؛ فتزوج مارتينا بنت أخته، خلافا لما تقضي به أوامر الكنسية؛ فغضبت عليه الأمة كما غضبت عليه الكنسية، وأوقعته بين نارين: نار الثورة الداخلية، ونار العدو الفارسي الواقف له بالمرصاد، فضلا عن هجمات خاقان المغول الوافدين من سواحل بحر قزوين. فلما ضاق الحال على هرقل، وبلغ منه اليأس منتهاه، وأعيته الحيل، راسل كسرى في الصلح فأجابه: «لا أرضى بمصالحة إمبراطور بوزنطية إلا إذا كفر بإلهه المصلوب فتمجس وعبد الشمس.»
فاستبسل الإمبراطور هرقل وجمع كل قواه (لا سيما أن أهل النصرانية غاظهم هذا الجواب من الملك المجوسي؛ فكان سببا في التفافهم حول قيصرهم) حتى تيسر له إرضاء كسرى بعد زمان طويل بالرجوع عن الإمبراطورية في نظير فدية قدرها ألف قنطار من الذهب، وألف قنطار من الفضة، وألف ثوب من الخز، وألف فرس، وألف عذراء.
وكان النبي العربي قد ظهر في أثناء هذه الوقائع، ونزل عليه القرآن وأشار إليها بقوله تعالى:
غلبت الروم * في أدنى الأرض ، ثم تنبأ بقرب فوزهم فقال:
وهم من بعد غلبهم سيغلبون ، فكانت هذه النبوة المتقدمة على وقتها المحدد معجزة لأحمد. وذلك أن هرقل لم يخضع إلا أمام القوة، ولم تسكن نفسه للاستكانة حيال هذه المذلة، فتربص حتى جمع شمله الرث، وعاد إلى مهاجمة الفرس حينما ساعدته الفرص، فظهر عليهم في كل مكان، وقارنه السعد والظفر في جميع الوقائع، وخدمت جنوده الأيام؛ فكانت انتصاراته أبهى وأجل مما أحرزته رومية في أيام مجدها القديم، حتى شبهوه بالإسكندر وقسطنطين الأكبر، وهذا سر قوله تعالى:
وهم من بعد غلبهم سيغلبون ، وقد راهن على ذلك أبو بكر الصديق وفاز بكسب الرهان.
فاسترد هرقل من العدو كل ما أخذه من بلاده وأملاكه، ولكنه لم يتمكن من إعادة الدين إلى سابق نصابه؛ لأن المجوسية أنزلت بالنصرانية أمام العالم كله مسبة ليس بعدها مسبة؛ إذ أهانت القبر، وأحرقت الكنائس، وأخذت الخشبة؛ فتحارب الدينان الكبيران وتفانيا في تلك الأيام، ومهدا السبيل لظهور الإسلام.
المحاضرة الثالثة: شرح النتيجة الثانية
Page inconnue
إن فوز الفرس كان مقدمة لأمر أكبر خطرا وأعظم شأنا، وأعني به ثورة البلاد الجنوبية على الديانة النصرانية، وهي ثورة أضاعت على الروم تسعة أعشار أملاكهم الجغرافية في آسيا وأفريقيا وجزء من أوروبا كما قلنا.
فقد كان النزاع الديني بلغ منتهاه بين القسطنطينية ورومية من جهة، وبين صفرونيوس بطريرك أورشليم من جهة أخرى، وصفرونيوس هذا هو الذي سلم بيت المقدس إلى عمر بن الخطاب فيما بعد، وفي ذلك الوقت كان قد ظهر النبي الأمي ودعا العرب إلى توحيد الله، وجاءهم بالإسلام والقرآن، فدانوا له واتبعوا ملته، ثم ذهب إلى الرفيق الأعلى بعد أن أكمل الله للمسلمين دينهم، وأتم عليهم نعمته، ورضي لهم الإسلام دينا، ذلك هو الدين الذي يدين به ثلث أهل الأرض.
ولسنا في مقام شرح الإسلام وأصوله الحكمية وقواعده الفلسفية؛ فإن ذلك مما لا يدخل ضمن دائرة البحث في هذا الدرس، وإنما نقول إن الوسائل قد تمهدت لقيامه للأسباب التي أشرنا إلى بعضها، وهي دينية، ولأسباب تدعونا الحاجة إلى الإلمام بها بطريق الإيجاز.
دولة الروم
إن هذه الدولة قد اضطربت أمورها قبيل ظهور الإسلام، وظهرت فيها أمراض اجتماعية بسبب الاختلاف الذي بلغ منتهاه بين ذوي السلطة فيها، سواء كان من جهة الدين، أو من جهة السياسية والعمران، وقد شاعت عند ظهور الإسلام نبوة غريبة تداولتها الألسن في كل مكان، وهي أن دولة الروم ستسقط على يد الأمم المختونة؛ فاضطهد هرقل اليهود اضطهادا شديدا وأبادهم جميعا، حتى لم يبق في ممالك الروم بمصر والشام منهم إلا من فر واختفى، وقد نجا جماعة منهم بالهرب إلى بلاد العرب؛ لأنهم كانوا ساعدوا الفرس على النكاية بالنصارى.
ولقد أشرنا في تضاعيف هذا البيان إلى ما وصلت إليه الشامات والعراق وآسيا الصغرى في عهد الدولة الرومية عند ظهور الإسلام من الفوضى بسبب الاختلافات الدينية والاضطرابات السياسية، وأما شمال أفريقيا فقد نازلها القوط
Goths
بعد أن جازوا بحر الزقاق، المعروف الآن ببوغاز جبل طارق، في سنة 620 للميلاد؛ أي قبل الهجرة النبوية بثلاث سنين، وتملك القومس (الكونت) يليان
Julien
بلاد سبتا، وهو الذي مهد للمسلمين فتح الأندلس، وبعد ذلك بقليل استقل بملك سبيطلة من أعمال تونس الآن - واسمها الإفرنكي القديم
Page inconnue
Suffetula ، والآن
Sbitla - البطريق غريغوريوس، وهو أخو هرقل صاحب أفريقية الذي تولى ابنه هرقل إمبراطورية الروم، وكاتبه صاحب الشريعة الإسلامية، فلم يبق للإمبراطورية الرومية في أفريقية سوى قرطاجة ومدائن قليلة، وكانت كلها مضمحلة الأركان، بحيث إذا هاجمها عدو من الخارج بشيء من الشدة والعزيمة سقطت في يده، وذهبت معها بقايا الدولة الرومية أدراج الرياح، وذلك هو الذي وقع عندما ظهر الإسلام في ذلك الوقت.
أما مصر فقد كانت بأجمعها مشحونة بالنصارى، وهم على قسمين متباينين في أجناسهم وعقائدهم: أحدهما أهل الدولة، وكلهم روم من جند صاحب القسطنطينية، وهم ملكيون أو ملكائيون، يزيدون على 300000 نفس، والقسم الآخر عامة أهل مصر بأسرها، ويقال لهم القبط، وأنسابهم مختلطة لا يكاد يتميز منهم القبطي من الحبشي من الغربي من الإسرائيلي الأصل من غيره، وكلهم يعاقبة، فمنهم كتاب المملكة، ومنهم التجار والباعة، ومنهم الأساقفة والقسوس ونحوهم، ومنهم أهل الفلاحة والزرع، ومنهم أهل الخدمة والمهنة، وبينهم وبين الملكية - أهل الدولة - من العداوة ما يمنع مناكحتهم ويوجب قتل بعضهم بعضا،
1
وكانت الأمة المصرية حيال سادتها الروم في منتهى الذل والعبودية، قد أثقلتها الضرائب والمظالم، وحاقت بها أسباب الخسف والهوان، وأبناؤها يسومهم الروم سوء العذاب، ويمتصون ينابيع ثروتهم، ويغتصبون ثمرة أتعابهم، وولاة الروم لا هم لهم إلا تطلب المال وجمعه من هنا وهناك، دون أن يعبئوا بشيء من مصالح البلاد الاقتصادية والزراعية أو من أمور الرعية، وكثرت الفتن الدينية بدسائس الروم؛ حتى افتتنت العائلات (الأسر) وحقد الأب على ولده، والزوجة على زوجها، والأخ على أخيه، والابنة على أمها، مع اختلاف المذاهب وتشعب المشارب التي كان القائمون بها يقوم بسببها بعضهم على بعض، فيريقون الدماء هدرا في الشوارع والأزقة، فوصل الخلل والاضطراب إلى نهاية ما تتصوره العقول،
2
حتى صارت مصر تترقب الخلاص من نير الروم بأية وسيلة كانت؛ ولذلك استقبلت العرب بفرح شديد، كما كانت استقبلت الرومان الذين أنقذوها من البطالسة، وكما كانت استقبلت البطالسة الذين خلصوها من ظلم الفرس.
وقد روى ابن العبري أن الشمس انكسف نصف جرمها في السنة السابعة عشرة لهرقل، وثبت كسوفها من تشرين الأول إلى حزيران، ولم يكن يظهر من نورها إلا شيء يسير، فكأني بهذا الكسوف الغريب الذي وقع في سنة 627 واستمر نحو خمسة شهور، كان نذيرا بكسوفين آخرين معنويين، وهما كسوف دولة الروم وكسوف دولة الفرس الذين كانوا يعبدون الشمس.
دولة الفرس
إن اضطراب الدين إذا شاركه اختلال السياسة آذن بضياع السلطان وانقراض الدولة، فلقد رأينا الأمم عندما تأخذ في الانحطاط وتبدو على كيانها علامات الانحلال، يتشبث أبناؤها بالاختلاف في الدين، وتتفرق أهواؤهم في المذاهب؛ فيكون ذلك مدعاة للتنافر بين قادتها والتقاطع بين أهل الرأي فيها، فيهدمون أنفسهم وتصبح الأمة بلا رءوس ولا سراة، وهو مرض اجتماعي يصيب الأمم عندما تبلغ الهرم أو يدانيها العدم؛ فيتفرق الشمل وتذهب الريح ويضيع الملك.
Page inconnue
هكذا كان الشأن ولا يزال، وفي التاريخ أكبر عبرة لذوي الألباب، هذه دولة الفرس أيضا كانت تدين بالمجوسية التي أطبق الناس على تعريفها بأنها «الدين الأكبر والملة العظمى»، كان لها من الشأن ما كان، حتى إذا تسللت إليها الاختلافات الدينية تحلل جثمانها، وحل مكانها الإسلام، فلقد قام فيها قبيل ولادة النبي العربي رجل اسمه مزدك (مزدق أو مز دك) فقال بالأصلين؛ أي النور والظلمة، وأدخل عليهما طريقة التثليث التي قال بها الروم، فذهب إلى أن الأصول والأركان ثلاثة: «الماء والنار والأرض»، وأنها اختلطت فحدث عنها إلهان اثنان، وهما مدبر الخير ومدبر الشر، ثم نهى الناس عن المخالفة والمباغضة والقتال، ولما كان أكثر ذلك إنما يقع بسبب النساء والأموال، أحل النساء والأموال وجعل الناس شركة فيها، كاشتراكهم في الماء والنار والكلأ،
3
وأعقبه ويصان ثم «مرقيون»، فمزجا بالمجوسية شيئا من تثليث النصرانية ؛ فاضطرب الدين الكبير في الشرق، كما اضطرب الدين الكبير الآخر في الشمال وفي الغرب، وكان ذلك ممهدا لظهور دين جديد لصلاح العالم، وأعني به دين التوحيد.
لم يقف الاضطراب في فارس عند حد الدين، بل اضمحل أمرها بالحروب الكثيرة التي اشتبكت فيها قبيل ظهور الإسلام، فإنها ما كانت تفرغ من مغير حتى يهاجمها آخر هو أشد وأقوى، وما زالت تتوالى عليها صدمات خاقان الترك الأعظم، ثم قيصر الروم، ثم ملك الخزر، وذلك كله في أيام هرمز أبي كسرى أبرويز، إلى أن اجترأ الأعادي على فارس وسقطت هيبتها من النفوس، حتى إن خلقا من العرب خرجوا عليها، ونزلوا في شاطئ الفرات، وشنوا الغارة الشعواء على أهل السواد، وقد أشرت إلى شيء مما كان بين فارس والروم، فأما خاقان ملك الترك الأعظم فقد سبق معنا القول إنه كان يهاجم الروم بقومه من شمال القسطنطينية، وقد أراد أن يهاجمهم أيضا من جهة الجنوب حينما رأى اختلال دولة الفرس، فأرسل إلى هرمز وإلى عظماء مملكته وأساورة بلاده يؤذنهم بإقباله ويقول: «رموا لي قناطر أنهار وأودية أجتاز عليها إلى بلادكم، واعقدوا القناطر على كل نهر لا قنطرة له، وافعلوا ذلك في الأنهار والأودية التي عليها مسلكي من بلادكم إلى بلاد الروم؛ فإني مجمع على المسير إليها من بلادكم.» فأنكر هرمز ما ورد عليه من ذلك؛ فأرسل رجلا من أنجاده لمحاربته وصده عن بلاده، وهو بهرام (جوبين أو شوبين)، وقد عاد قائده مظفرا منصورا بعد أن قتل خاقان وأسر ابنه، وحمل إليه من الأموال والجواهر والأواني وسائر الأمتعة مما غنمه وقر مائتي وخمسين ألف بعير، ثم دبت عقارب السوء بينه وبين هذا القائد العظيم فتنكر لهرمز وجوه الدولة وأعيان الجيش فخلعوه - كما قلنا - وولوا بهرام، هذا في خطب يطول.
ولكن كسرى أبرويز بن هرمز أسقطه بمساعدة ملك الروم، وجلس على عرش أبيه، وقد أرسل إليه القيصر ثوبين فيهما علامة الصليب فلبسهما، فقال الفرس: «قد تنصر الملك.» وحقدوا عليه بهذا السبب، وفوق ذلك لم يحسن سياسة الجند ؛ فخالفوا عليه وانضم أكابر قواده إلى ملك الروم، ثم فسدت عليه نية ملوك العرب فزاد ذلك في اضطراب الأمر بفارس، وزاد شغب الأمة على كسرى أبرويز، فقتلوه لتجبره واحتقاره العظماء وعتوه، وذاك أنه كان قد جمع من المال ما لم يجمعه أحد من الملوك، وبلغت خيله قسطنطينية وأفريقية، وكان له اثنا عشر ألف امرأة وجارية، وألف فيل إلا فيلا واحدا، وخمسون ألف دابة، ومن الجواهر والآلات والأواني ما يليق بذلك، فعتا واستهان بالناس والأحرار؛ فلذلك اكتسب عداوة أهل مملكته لأمور وقعت منه:
أولا:
أنه أمر بقتل كل مقيد في سجونه، وكان عددهم 36000 رجل، ولكن الموكل بهذا الأمر الفظيع توقف في تنفيذه.
ثانيا:
أنه احتقر الأمة واستخف بعظمائها.
ثالثا:
Page inconnue
أنه سلط عليها علجا يقال له فرخان، ضغط على الأمة وشدد في استخراج بقايا الخراج بعنف وعذاب، وكان ضمن من ذلك مالا عظيما.
رابعا:
أن كسرى أجمع أمره على قتل فل الذين انصرفوا إليه من قبل هرقل؛ فتذمر الناس وائتمروا عليه، واجتمعوا على ابنه شيرويه
Siroés
الذي كان مسجونا مع بقية إخوته في بابل، وخلوا عن المسجونين في السجون، واجتمعوا على الجنود العائدة من قتال الروم، ثم أقبل شيرويه في جموعه على كسرى فانحاز إلى باغ له بالقرب من قصره يدعى باغ الهندوان، فحبسه ثم قتله بعد حديث طويل.
وفي أيامه كانت الهجرة النبوية لمضي 32 سنة وخمسة أشهر وخمسة عشر يوما من ملكه، وقد هلك بعد أن ملك 32 سنة. ولم يكتف شيرويه بقتل أبيه، بل قتل سبعة عشر أخا له ذوي آداب وشجاعة بمشورة وزرائه؛ فابتلي بالأسقام وجزع جزعا شديدا، وكان يبكي إلى أن رمى بالتاج عن رأسه، وعاش مهموما حزينا مدنفا، ومات بعد أن ملك ثمانية أشهر، فملك بعده ابنه أزدشير ولم يبلغ أكثر من سبع سنين؛ فاحتقره القائد المرابط على ثغور الروم، وانكفأ بجنده إلى فارس وملك عليها ولم يكن من بيت الملك؛ فتخالف الناس عليه وقتلوه بعد أربعين يوما وملكوا بوران دخت،
4
وهي بنت كسرى أبرويز، فأحسنت السيرة وبسطت العدل ، وأمرت برم القناطر وإعادة العمارات، ووضعت بقايا الخراج وكتبت إلى الناس عامة تعلمهم ما هي عليه من الإحسان، وأنها ترجو أن يريهم الله الرفاهة والاستقامة بمكانها، ومن العدل وحفظ الثغور ما يعلمون به أنه ليس ببطش الرجال تدوخ البلاد، ولا بيأسهم تستباح العساكر، ولا بمكايدهم ينال الظفر، ولكن ذلك كله يكون بالله عز وجل، وحسن النية واستقامة التدبير. ولكي تستجلب مودة الروم وتذهب حفيظتهم عن بلادها ردت خشبة الصليب على ملك الروم، ومضت لربها بعد سنة وأربعة أشهر، فتولى الملك رجل من بني عم أبرويز، وهلك بعد شهر، فآل الملك إلى أذرمي دخت أخت بوران دخت، وكانت من أجمل نساء دهرها، وكانت ملكة بحقها وصدقها لو ساعدها الدهر والعمر، ولكنها ملكت والدولة مدبرة بإقبال دولة الإسلام، فكثرت في أيامها الأحداث، وتبسطت الأيدي، ومرضت السياسة، ولقد طمع فيها أحد القواد وأراد أن يتزوجها فأرسلت إليه: «إن التزويج للملكة غير جائز، وقد علمت أن أريك فيما ذهبت إليه قضاء حاجتك منى، فصر إلي في ليلة كذا وكذا.» وتقدمت إلى صاحب حرسها ليرصده، فلما أقبل قتله. وكان للرجل ابن عظيم البأس، قوي النفس، وهو رستم شجاع الفرس، وفارس القادسية المشهور، فأقبل وقتل الملكة بعد أن سمل عينيها. ثم توالت الفتن والاضطرابات على من ولي أمر الفرس ممن تداول الملك بعدها من النسوان والصبيان، حتى جاء يزدجرد، وهو غلام مراهق، فكان ملكه عند ملك آبائه وأجداده كالخيال، وكانت العظماء والوزراء يدبرون ملكه لحداثة سنه، ولم يبق من دولة العجم إلا رمق، والأهواء مختلفة والجماعات متفرقة، والأمور منحلة، والسياسة مختلة، والأحوال مضمحلة؛ فضعف أمر المملكة واجترأ عليها الأعادي من كل وجه، وطرقوا البلاد وخربوها، وغزت العرب مملكته؛ فهرب يزدجرد أمامهم ومعه ألف طباخ، وألف مطرب، وألف فهاد، وألف بازيار، وعنده أنه في خف، وانتهى أمره بسقوط ملك فارس في الشرق على أيدي المسلمين الذين أورثهم الله ملك الروم في الشمال وفي الغرب.
المحاضرة الرابعة: انتشار الإسلام والحروب الإسلامية
جاء محمد بدين الإسلام، فوضع الأصول الأولى لهذه الحضارة التي كان لها شأن كبير في ارتقاء بني الإنسان، ونحن إذا أنعمنا النظر في الصورة التي كان عليها العالم وقتئذ - وقد رسمناها بغاية السرعة - رأينا أن هذا الاختباط كان يؤذن بظهور حادث جديد، وأن الناس كانوا يتوقعون حدوث هذا الأمر الجليل للتخلص مما هم فيه من الارتباك الديني والدنيوي، وقد قيل لنا إنه ظهر قبيل محمد نفر كثير تطالت أعناقهم إلى هذه المرتبة الكبيرة في الهيئة الاجتماعية، وكأنما أحس العرب بأن هذا الأمر مقبل عليهم، وأن الدور آتيهم، فكان الأب يسمي ابنه محمدا استمطارا لهذه الأمنية، حتى بلغ من سموا بهذا الاسم في الجاهلية سبعة على ما قيل، وكثيرا ما اجتهد رجالات العرب في ترشيح أنفسهم لهذه الدرجة، وأخصهم أمية بن أبي الصلت الثقفي، وقس بن ساعدة الإيادي، وغيرهما.
Page inconnue