ثم أدارت نظرها فيما حولها بين السماء والجبال والبحيرة والأمواج الشفافة في ظل الزورق، وقالت: انظر كيف أن كل شيء حولنا معد لدفن حياتينا، فهذه أجمل شموس أيامنا تغيب عنا ولعلها لا تعود لتشرق علينا، وهذه جبال الساحل حولنا تمد إلينا ظلالها كأنها تقول لنا ادفنا نفسيكما في هذا الكفن الذي أمده لكما، وهذه الأمواج الصافية العميقة تعد لنا مضجعا من الرمل لا يوقظنا منه أحد ليقول لنا: يا أيها القوم، هبوا قد دنا السفر، ولا ترانا عين إنسان ولا يعلم أحد لأي سبب عاد هذا الزورق خاليا من ركبه، ولا يبقى بعدنا أثر يدل على أن جسمي عاشقين غاصا في تلك اللجة وهما متعانقان، أو أن نفسي متحابين صعدتا في أثير ذلك الهواء وهما مسرورتان، بل لا يبقى بعدنا رنة صوت على الأرض إلا صوت التقاء الماء بعد نزولنا فيه ... آه! فلنمت في سكرة هذا السرور، فإن الموت فيها حلو لذيذ، وقد يمر بنا يوم نريد فيه الموت فلا نجده في مثل هذه المسرة والهناء.
إنني أكبرك ببضع سنين، ولكن هذا الفرق الذي لا نشعر به اليوم تزيد فسحته مع الأيام حتى لا تعود ترى في وجهي من آيات الجمال إلا أثر امحائها، ولا يعود لك منه إلا رسم سرور وذكرى غرام زائل، وفوق ذلك فإنك لا تقدر أن تجد بي إلا روحا تناجيها بمساجلات ودادك وأنت في حاجة إلى ما يعقبها من سعادة العشق التي تقدم لك ذكرها. وشهد الله أنني لا أجدك بين يدي فتاة سواي إلا مت من الغيرة، ولا أجدك محروما بسببي إلا مت من الحزن والوجد، فلنمت إذن ولنطفئ شعلة هذا المستقبل الهائل بآخر نسمة تخرج منا.
وفيما هي تكلمني كنت أناجي نفسي بمثل كلامها، وأثرت بي تلك المناجاة المزدوجة بين نفسي وأذني كأن كلا منهما صدى الأخرى، حتى نسيت الدنيا وأجبتها: فلنمت. ثم عمدت إلى حبل السفينة فقرنت به بين خصرينا بربط محكم، ورفعتها بين يدي لأزج بها وبنفسي في قاع ذلك اليم العميق، وإذا بي أجد رأسها قد مال إلى كتفي كما يميل رأس المائت وتراخى جسمها حتى كاد يفلت من وثاقه على قدمي، كأن شدة تأثرها وسرورها من موتنا معا قد سابق فعل الموت فيها، فتهدلت مغشيا عليها بين يدي، فلاح لي عند ذلك أنني إذا اغتنمت فرصة إغمائها فألقيتها في ذلك اللج وقد يكون بالرغم عنها كنت قاتلا على عمد، فجثوت بها وحللت الحبل عني وعنها وألقيتها على مقعد الزورق، وجعلت أنضح ماء البحيرة على وجهها ساعة طويلة حتى استفاقت وقد هبط الليل، فقلت لها: أبى الله أن نموت وإلا أن نحيا، فإن الموت الذي ساغ لنا في شريعة الهوى إنما هو ذنب في ذنبين علينا لذوي قربانا ولله. ورفعت عند ذلك بصري إلى السماء كأنني أنظر إلى جلال الله على عرشه، فقالت لي بصوت منخفض: دع من هذا الشأن ولا تعد إلى ذكره، فقد أردت لي الحياة وأنا أقبلها منك تفاديا من جرم يلحقني إذا قدتك إلى الموت معي لا إذا مت وحدي. فأجبتها وقد لعبت بي أيدي الصبابة: ما أحسب أن في جنة الخلد ساعات كالتي قضيناها، أما الحياة ففيها وفي ذلك كفاية وغنى. ولم آت على آخر كلامي حتى عاودها زهو الصبا وابتسام الشباب، فأخذت بمجذافي الزورق حتى بلغت به إلى حيث كان فسلمته إلى أصحابه وعدت بها إلى المنزل ونحن سكوت والهوى يتكلم.
الفصل الخامس
لوعة الفراق
ثم دخلت حجرتها بعد العشاء فوجدتها جالسة وراء مكتبتها دامعة الطرف وأمامها كتب مفضوضة، فاستقبلتني وهي تقول: يا ليتنا متنا معا! فهذا موت الفراق قد بلغ إلي.
وكان زوجها قد استطال غيابها وخشي عليها برد الشتاء، فأخذ يكاتبها بالحضور وأنه يحس دنو أجله ويريد أن يراها قبله، وكان لديها بين تلك الرسائل كتاب من الطبيب القادم لأخذها يقول لها فيه إنه عرض له عائق في الطريق فأرسل لها رجلا ينوب عنه في صحبتها وهو حامل كتابه إليها، وقد عين لها موعد السفر في الغد. فكان وقع ذلك الخبر علينا على شدة توقعنا له كأنه فاجأنا ولم يكن لنا في حساب، فقضينا سواد ليلتنا لا نتكلم ولا ينظر أحد منا إلى وجه صاحبه خوفا من أن يصادف نظره فتسيل دموعه، ثم قمت وقد عزمت على أن أسافر أيضا.
وكان اليوم التالي آخر يوم للوداع، فتركنا القوم يشتغلون بزم الركائب وقصدنا الجبل لنقضي واجب الوداع، فأخذنا نمر على كل أثر لنا من الآكام والأشجار والصخور والشواطئ حتى انتهينا إلى مكان محجر فجلسنا على أحد صخوره، فأشارت بيدها إلى نكتة سوداء في أقصى الأفق لا تكاد تميزها العين لبعدها، ثم قالت: قد يأتي عليك يوم لا تذكر فيه مواقف حبنا إلا كما تبصر هذا السواد.
وكان صوتها تمازجه رقة حزن ورنة صبابة استنزلت دموعي، فسترت وجهي بيدي لكي لا ترى بكائي، ولكنها رأت مدامعي تنساب بين بناني فعادت وقالت: يا روفائيل، إنك لا تنساني ولكن الغرام قصير والحياة بطيئة، وإنك لا بد عائش بعدي سنين طويلة تستنزف بها ما في الطبيعة من سرور وكدر، ثم تكون رجلا عظيما بما يظهر لي من مخائل آدابك ودلائل نجابتك وذكائك، ولتمتع بما يستلذه الناس من هذه الحياة الدنيا، أما أنا ... ثم وقفت برهة ورفعت عينيها إلى السماء وقالت: أما أنا فقد عشت وقد كفاني حياة بعد الذي وجدته فيك من ضالة حياة كنت أنشدها ألا وهي الغرام الذي أموت به صبية ولكنني أموت غير آسفة، علما بأني أكون حية في ذاكرتك ما بقيت، ثم أنظر إلى هذه السماء والشاطئ والبحيرة والجبال، وأعلم أنها كانت خير أمكنة حياتي في هذه الدنيا، فأقسم لي أنك لا تزال تذكرها وتذكرني معا حتى لا أكون في قلبك وتكون مناظرها في عينيك، إلا شيئا واحدا وأخيرا أنك إذا رجعت يوما فرأيت هذه الطبيعة تذكرني بها كأنني لا أزال حية أمامك وعاشقة لك ... ثم أمسكت عن الكلام وقد خنقتها العبرة، فبكت وبكيت ساعة لا أذكر منها سوى امتزاج زفراتنا بهدير الأمواج ووقع مدامعنا على صفحة الماء، وعلم الله أني أخط هذه الذكرى وقد مر عليها عشرون سنة وأنا لا أتمالك عن البكا.
أيها الناس، لا يشغلنكم أمر وجداناتكم، ولا تخشون أن يذهب بها الزمان، فإن ذاكرة الإنسان ليس لها اليوم ولا الغد بل الأبد، وعندي أن الذاكرة نوعان: الذاكرة الحسية، وهي التي تذهب بذهاب المحسوس، وذاكرة النفس التي تخلد كخلودها ولا تزول.
Page inconnue