ويا أيها العشاق، اطمئنوا فإن الزمان لا قدرة له إلا على ساعاتكم لا على شعائركم.
ولقد حاولت أن أكلمها فلم أستطع، ولكن كانت زفراتي تنطق ودموعي تتكلم عني بأفصح من لساني. ثم نهضنا وعدنا وقد مالت الشمس إلى المغيب فدخلنا المنزل عشاء، ورافقتها إلى غرفتها فجلست معها إلى نصف الليل، ثم قمت لأفسح لها وقتا تنام فيه فشيعتني إلى الباب، فقلت لها: إلى الغد. وانصرفت حزينا كئيبا وأنا أسمعها تقول: هيهات ليس لي غد! ولما كان الفجر نهضت فأيقظتها ورحلنا من غير أن نوقظ أحدا هربا من وداع صديق أو دموع مودع، وما زلنا نتشاكى النوى ونتذاكر سابق أيامنا وغرامنا حتى بلغنا شامبيري وواديها البهيج، فلم نحب أن نبرحها قبل أن نزور منزل جان جاك روسو، ونذكر أحاديث غرامه وحوادث صباه مع دي وارين وما كان له في ذلك المكان من خطرات الحب ولواعج الصبابة والشباب؛ لأننا لم نكن نعتبر المكان إلا الرجل الذي كان فيه أو المرأة التي نزلته، وإلا فما عسى أن تكون فوكلوز لولا بترارك، ولورات لولا الشاعر ليتاس، وسيسيليا لولا تيوكريت، وشامبيري لولا جان جاك روسو إلا أن تكون كلها:
سماء بلا شمس وصوت بلا صدى
وجسم بلا نفس وعود بلا طرب؟
وعندي أن الرجل لا يحرك الرجل فقط بل يحرك الطبيعة بأسرها إذا وجه أفكاره إليها، وأنه إذا وجد الخلود بعد الموت فإنما يترك الخلود أيضا للمكان الذي كان فيه حتى لا تمحى آثاره منه ولا يزول ذكره من كل من وقف عليه.
وقد وجدنا في منزل روسو امرأة عجوزا تسكنه، فسمحت لنا بأن نقيم فيه ساعة نذكر فيها ذلك الرجل وبدء حياته ومكان اشتهاره، فنزلنا إلى الحديقة التي كان يطارح فيها معشوقته الغرام، ورأيت أن هذه الذكرى قد أثرت في فؤاد غصن البان كما أثرت في، فجعلت أتبعها حيث تسير حتى وجدتها قد انزوت عني في مكان وغاصت في لج من الأفكار عميق، فتبعتها وقلت لها بلهجة اللائم: بماذا تفكرين وحدك دوني، أترينني أفكر بشيء دونك؟! قالت: إنني كنت أشتهي أن أكون لك دي وارين أخرى شهرا واحدا ولو تكون نهاية حياتي كنهاية حياتها في الهجر والعار وتكون أنت مثل روسو في العقوق والنميمة.
ثم رفعت عينيها إلى السماء كأنها تناجي صورة تلك المخلوقة التي تغبطها، وقالت: رحمها الله، ما كان أسعدها! فقد قدرت أن تبذل نفسها في سبيل من تهواه. فطوقتها بذراعي وعدت بها إلى المنزل وأنا أقول لها: بالله ما هذا الكفران بالنعمة التي نحن فيها؟! فهل ظهر لك بكلمة من كلماتي أو لحظة من لحظاتي أنني أشكو من نقص سعادتي معك؟! أولا ترين في نفسك أنك دي وارين ثانية لي؟ أنا روسو الثاني ولكنك دي وارين صبية عذراء طاهرة نقية عاشقة وأختا معا، باذلة نفسك الشريفة الزاهرة بدلا من النفس الفانية والجمال الزائل الذي بذلته تلك، معطية كل ذلك لأخ ضال مهتد، شاب شارد، فاتحة له عوضا عن أبواب منزلك وحديقتك أبواب حنوك وغرامك، مطهرة له بشعاع جمالك، غاسلة أدران حياته بماء دموعك، ممهدة له سبل الطهارة والمحبة والعفاف بمحاسن كلامك وعظاتك، مظهرة له الدنيا وزخرفها وفضائلها وفخرها وبهاءها في قلب امرأة شريفة جميلة، وهي سعادة لو قفلت دونه أبوابها في هذه الحياة الدنيا لم يكن يجد مثلها إلا في جنان السماء.
ولم أكد أتم كلامي هذا حتى سقطت على كرسي هناك وقد سترت وجهي بيدي، وبقيت على حالتي تلك ساعة لا أعرف مدتها، إلى أن قالت لي: هلم بنا نعود، فإني أشعر ببرد هنا. فقمت وأعطيت صاحبة البيت ما تيسر وعدنا أدراجنا إلى شامبيري، فقضينا فيها سحابة النهار، ثم سافرت حبيبتي في الغد إلى ليون.
وكان صديقي لويس قد زارني في ذلك اليوم، فعرضت عليه أن يذهب معي فنقضي أياما في بيت أبي على طريق ليون فرضي، ونزلنا فاستأجرنا مركبة صغيرة وسرنا في أثر من أهواها، وكنا عند كل مرحلة ننزل من مركبتنا فنسأل عن صحتها، فنجدها حزينة ذابلة كأن بعدها عن مكان غرامنا قد نزع ما كان فيها من رونق الحياة والشباب، أو كأنها الزهرة تنقل من منبتها لتغرس في مكان آخر فتذبل في الطريق. وكانت كلما قربنا من الموضع الذي سنفترق فيه تزيد حزنا وذبولا، وتظهر آثار ذلك على وجهها بأفصح مما يوحيه كلام أو سطور.
حتى إذا كنا ذات يوم وقد دنونا من ليون دخلت وصاحبي إلى مركبتها، وسألتها أن تغني لنا الصوت الذي غنته ونحن في الزورق، فأخذت في الغناء ولكنها لم تبلغ منه إلى ذكر الفراق حتى انقطع صوتها وخنقتها العبرة فسترت وجهها بيديها وشهقت بالبكاء، ولم تأت على تمام الصوت حتى أغمي عليها، وكنا قد وصلنا إلى ليون فنقلناها إلى فندق هناك وأقمنا نعالجها حتى تعافت، فرحلنا في اليوم التالي إلى ماكون حيث كان لا بد من الفراق فودعناها أمر وداع. وسألت صاحبي أن يذهب فينتظرني في بيت أبي، ووعدته بأني أذهب إليه في الغد، ولكنه لم يكد يغيب عني حتى نسيت الوعد الذي وعدته، ورأيت أنني لا أقدر أن أفارقها وهي في مثل حالها من لوعة الحزن والجوى، فعزمت على أن أتبعها إلى باريز من وراء وراء بحيث لا تشعر بلحاقي وأكون رفيقا لها في سفرها تلافيا لأمر يحدث لها في الطريق؛ لأنني كنت أتصور أنها رحلت وحدها وأصابها مرض أو إغماء وجعلت تناديني وتستغيث بي، فتضيق بها الدنيا ولا أجد صبرا على المقام.
Page inconnue