وبالجملة فقد كنت أرى كل شيء وأشعر بكل شيء وأعبد كل شيء من خلال ذلك الجمال الباهر حتى الله جل جلاله! وأقسم لو استمرت حياتنا على مثل تلك الحال ووقفت لها الطبيعة وسكن الدم عن مجراه وانقطع القلب عن خفقانه ولم تعد حركة ولا صوت ولا موت ولا حياة فينا، لما اشتغلت نفسانا برهة عن شرود كل منهما في صاحبتها، وما عساني أقول عنها أو أصف حبي لها بسوى أنها جعلتني أعبد الله فيها عبادة من يشكره على أنه أبدعها له ... •••
وكانت كأن سعادة الحب ووحدة المكان واكتشافها كل يوم على فكر من أفكاري وهواء الخريف ونزهتنا في الجبال أو على الماء بين الركائب والزوارق وأول نفحات الغرام التي تحمل قلب العاشق إلى سماء السرور على جناح السعادة؛ قد حسنت في صحتها بعض التحسين فكانت تتقدم في مدارج العافية، وتزول شحوب المرض عن وجهها كأنها آثار الموت تمسحها يد الحياة، ويتورد خداها وتعاودها نضارتها ويصفو أديمها وتلمع مقلتاها وتراجعها قواها ونشاطها وخفة جسمها وحدة صباها، حتى كان طبيبها يعجب من آثار التعافي عليها بين ذهابها إلى النزهة وعودتها منها.
وعلى الجملة فقد كانت السعادة تفيض منها كأنها شعاع يكتنفها حتى يكتنف من يراها، وعندي أن بهاء الجمال وورود الصبابة والغرام ليست بتصورات شاعر كما يقال، وإنما هي حقيقة خفية يراها الشاعر البصير وإن خفيت عن أعين الجهلاء، وإذا تغزل شاعر بفتاة فقال إنها تنير الظلام فأنا أقول إن غصن البان كانت تنير ما حولها، بحيث كنت أسير وأحيا في نور ذلك الجمال وإن لم يدركه سواي إلا كمر الخيال.
وكنت عندما أخلو في حجرتي مدة فراقها أشعر بنفسي وأنا بالظهيرة كأنني في سجن مظلم لا هواء فيه ولا نور، وأجد أن الشمس لا تكاد تنيرني إلا إذا قارنتها بوجهها عند النظر إليها، بل كنت كلما زدتها نظرا تزيدني حسنا وعجبا حتى أرى اعتقادي يضعف في أنها مخلوقة من الناس مثلي، وحتى انتهى بي إجلال حبها عن طبقة الحب إلى إجلال شخصها عن رتبة الناس، فكنت أجهد في أن أجد لها اسما يوافقها أو يطابق معناها فلا أجد.
ثم تمادى بي الأمر فدعوتها سرا من أسرار الطبيعة أجد به حنو الإنسانية وزهوة السرور وحقيقة الوجود وسماء العبادة، ثم طال غرامها بي حتى دعاني إلى نظم الشعر أحيانا، فكنت أنظم القطعة والقطعتين ثم لا أعرضهما عليها لأنني وجدتها قليلة الرغبة فيما تخالطه الكلفة والتعمل من صناعة اللسان، وأنها أميل إلى البساطة في التعبير والتنزه عن التعمق في بيان الشعائر والوجدانات مما هو من أساليب الشعر ومقتضيات أوضاعه، وما عساني أنظم فيها وهي الشعر المطلق مجردا كالقلب وبسيطا كأول لفظة وهادئا كالليل ومنيرا كالنهار وسريعا كالبرق ومتناهيا كالفضاء؟ بحيث إنني لو طال مقامي معها لما احتجت إلى قراءة الشعر أو نظمه؛ لأنني كنت أجد فيها قصيدة الطبيعة ونفسي، أرى شعائري في قلبها وصورتي في نظراتها وأنفاسي في صوتها.
ولقد كانت تحاول مرارا أن تقرأ لي مما لديها من دواوين الشعراء فتجد أن ليس في أحدها ما يبلغ إلى وصف حالنا، فتطرحها كمن فرغ صبره حتى أشبهها بأوتار أعواد مقطعة لا ترن لنقر الضارب، وفوق ذلك فإني لم أكن لديها إلا بمنزلة الشقيق، بحيث لم يكن يهمها كوني شاعرا بل لا يهمها مني سواي.
وكان صديقي لويس قد زارنا ليصرف معنا بعض أيام، فكنا نقضي ليالينا إلى أنصافها بين محادثات وقراءة ومذاكرة علم أو سكوت طويل حول مكتبتها ونحن كأننا أصنام لا حراك بنا، إلى أن أثر أمرنا ذات ليلة في صديقي الذي كان شاعرا، فطلب قلما وكتب بعض مقطعات خلتها صادرة من صميم فؤاده فهاجت الشعر في نفسي، فأخذت منه القلم وخلوت إلى جانب من الحجرة فخططت أول أبيات خرجت من قلبي لا من أفكاري، ثم أنشدتها إياها وأنا لا أجسر أن أرفع طرفي إليها وهي هذه ...
ولكن لا فقد محوتها الآن؛ لأن كل قريحتي كانت في غرامي، وقد خمد الغرام اليوم فجمدت القريحة. ولما فرغت من قراءة تلك الأبيات نظرت إليها وإذا بي أجد على وجهها آثار اندهاش وسمات جمال لا يقوى على وصفها يراع ولا لسان، وكان منظرها هذا قد أثر بي وبصديقي على السواء فركعنا لدى مقعدها وقبلنا أطراف الرداء المتهدلة على قدميها، أما هي فوجدت أن ما قلته في وصفها لم يكن إلا صورة ما أكنه من هواها فأثنت عليه، ثم لم تعد تفاتحني في شأنه كأنها كانت تفضل مغازلتنا الطبيعية وسكوت كل منا إلى جانب صاحبه على تلك الأبيات التي تزخرف شعائر النفس ولا تظهرها، وخير المحاسن ما كان مجردا. أما صديقي لويس فقد برحنا إلى موطنه بعد أيام.
وكان الفصل قد تجاوز الخريف إلى شتاء لطيف البرد تمازجه بعض الحرارة من شمس تلوح أحيانا من خلل السحاب، ونحن لا نزال نخدع أنفسنا بأنه فصل الخريف؛ إذ كنا نخاف من ذكر فصل الشتاء لأنه كان فصل الفراق، وكان الصقيع يحلي الأرض بنكت بيضاء في صباح أكثر الأيام ثم لا يلبث أن تذيبه حرارة الشمس عند زوالها، فيدفأ الهواء على البحيرة في بعض الأحيان ثم يبرد سريعا لقصر الأيام. وكنا نقضي أغلب تلك الأوقات في البحيرة وحولنا من شعاع الشمس واخضرار الصخور وتغريد الأطيار وخرير الماء وزبد الأمواج ووقع المجاذيف وتجعيد المياه ومناظر الطبيعة وخلوتنا في عزلة عن الناس، ما يستفزنا سرورا ويزيدنا صبابة ولذة غرام لا يمكن أن يكون لها مزيد لولا ما كان يكدرها من خوف انقضائها، حتى كنا نخال أن وقع كل مجذاف خفق قدم تخطوها بنا الأيام إلى ساعة الفراق، فنتنهد لهذا الأمر خوفا من وصوله ونحن لا نجسر أن نذكره تجافيا عن شدة ذكراه.
وبينما نحن يوما جالسان في زورق تحت شعاع الشمس بين لسانين من الأرض على خرير شلال بعيد، نزل نوتيتنا إلى الشاطئ لإصلاح شباك لهم، فبقينا وحدنا والزورق مربوط إلى جذع تينة، ثم حركته الأمواج فانقطع الحبل وسار بنا الزورق تدفعه حركة الماء حتى توسطنا ذلك الخليج، وكان ماء البحيرة صافيا شفافا كأنه مرآة صقيلة، وكنت أقدر أن أحرك المجذاف فأرجع بالزورق إلى حيث كان، ولكني وجدت في تلك العزلة والوحدة لذة وهناء، حتى صرت أود لو يستمر الزورق سائرا بنا على ذلك المجرى لا على بحر له ساحل بل في فضاء لا نهاية له، ثم تقدمنا حتى لم نعد نسمع صوت النوتية وقد حجبتهم عنا الصخور، بل لم نعد نسمع إلا وقع الشلال وأنين بعض الأمواج تلطم جانب الزورق وقد خف بنا حتى صار يحركه رجع أنفاسنا، وكانت الشمس وظل الجبل يتنازعانه وهو بينهما وأنا جالس عند قدمي غصن البان كجلستي يوم قابلتها بعد إغمائها، وهي متكئة على مقعد الزورق ويدها مدلاة في الماء تعبث به بأناملها واليد الأخرى على رأسي تلعب بحلقات شعري، وكنت رافعا بصري إليها حتى لا ترى عيني من الأفق إلا السماء ووجهها، وقد عطفت بمحياها إلي وهي تتأملني كأنها ترى شمسها في جبهتي وحياتها في عيني، والحب يورد خديها والسرور يطفح على محياها فيزيده جمالا حتى خلته صورة جديرة بأن يحيطها ذلك الإطار من زرقة السماء، وإذا بها قد اصفرت فجاءة وجذبت يديها واستوت جالسة ثم غطت وجهها بكفيها واستمرت برهة لا حراك بها، ثم جلت يديها عن مقلتيها وقد بلت أناملها بعض المدامع وقالت بصوت المسرور الباسم: آه، فلنمت! ثم سكتت ساعة وعادت فقالت: نعم، فلنمت، فلم يعد في الأرض مزيد على ما نحن فيه ولا في السماء وعد لأكثر منه.
Page inconnue