فالبيت الذي يجب أن يقدم، قوله: " فهل زال النهار " وهو في صفة ليل طويل. والبيت الآخر مرثية رجل قتيل، وليس واحد من البيتين متعلقًا بالآخر في المعنى.
ومثل هذا الشعر إذا لم تعرف قصته وتمامه؛ لم يتضح معناه البتة. وأنا أقدم الأبيات التي توضح لك معنى البيتين، ثم أذكر لك قصتهما بعدها إن شاء الله.
والأبيات:
أرقت ولم تنم عنك الهموم ... وعاد فؤادك الطرب القديم
تمارس جوز أدهم ذي ظلالٍ ... كما يحتم لليل السقيم
كأن نجومه أجآل عينٌ ... تعرض في السماء وما تريم
فهل زال النهار فكان ليلًا ... وهل تركت مطالعها النجوم
إلى ها هنا تمام صفة طول الليل. ثم أنشأ يرثي من فقد من قومه، ويذكر فقدهم. كما قال عمرو بن معد يكرب:
كم من أخٍ لي صالحٍ ... بوأته بيدي لحدا
ما إن جرعت ولا هلع ... ت ولا يرد بكاي زندا
رجع إلى أبيات الأشهب:
وكم قد فاتني بطل شجاعٌ ... وياسر شتوةٍ سمحٌ هضوم
وأباءٌ إذا ما سيم خسفًا ... ألد إذا تعرضت الخصوم
مضوا لسبيلهم وقعدت وحدي ... تجور بي المنون وتستقيم
كأن حوادث الأيام تأتي ... على خلقاء ليس بها كدوم
إلى هنا تمام معنى البيتين. ثم نذكر باقي الأبيات بعد ذكر القصة إن شاء الله.
وكان من قصة هذا الشعر - وهي حديث رباب بن رميلة - أن رميلة كانت أمةً لخالد بن مالك بن ربعي بن سلمى بن جندل بن نهشل بن دارم، مولدة، يزعمون أنها من سبايا العرب، فابتاعها ثور بن حارثة بن عبد المنذر بن جندل بن نهشل بن دارم، وكان معها في إبله، فتزوجها، فولدت له: ربابًا وحجنًا والأشهب وسويطًا.
فكانوا من أشد إخوةٍ في العرب ألسنًا وأيديًا، وأمنعهم جانبًا، وكثرت أموالهم في الإسلام، وكان ابتاع ثورٌ رميلة في الجاهلية، وكانوا إذا بدا الناس عن مياههم، عمد رباب إلى قطيفةٍ له حمراء، فإذا مطر الناس احتاض في خبار الصمان، فأخذ هدبها فجعل يجعل على الشجر منه - أي قد سبقت إلى هذا - فلا يقربنه أحد، فيأخذ ما له فيه حاجة وما ليس له فيه حاجة.
فمطروا، ففعل ذلك في خبراء الصمان، واحتاض معه فيها ناس من بني قطن بن نهشل. وكانت بنو قطن وبنو زيد بن نهشل وبنو مناف بن دارم - حلفاء، وكانت الأحجار حلفاء عليهم، ومخربة أيضًا كانوا معهم، فورد رجل من بني مناف بن دارم يقال له سمرة بن عودة يكنى أبا كرشاء، وهو الذي يقول له الفرزدق:
وإن أبا كرشاء ليس بسارقٍ ... ولكن متى ما يسرق القوم يأكل
ورد المنافي بعض حياض رباب فأشرع بعيره، فلطم رباب بعيره، فانطلق مغضبًا إلى من كان هناك من بني قطن، وهم بنو أربد بن ضمرة ابن جابر بن قطن بن نهشل، فأخبرهم فغضبوا، فوقع الشر واقتتل القوم، فضرب رباب بن ثور بشر بن صبيح بن أربد بن ضمرة، وهو ابن العبسية، أمه بنت أبي بن حمام بن قراد بن مخزوم - وبشر هو أبو بذال - بعمود فسطاطه، فتطاير الشعر عن هامته ودق ما تحت الجلد من رأسه، ولم يسل دم، ولم يمت مكانه، بقي حيًا. فقال رباب:
قلت له: صبرًا أبا بذال
إني وبيت الله ما أبالي
ألا تؤوب آخر الليالي
ثم تحاجز الحيان، وجمع كل واحد منهما لصاحبه. فقالت بنو قطن: يا بني جندل ويا بني صخر وجرول، قد ضرب صاحبكم صاحبنا هذه الضربة، ولا ندري أيموت منها أم يعيش فأنصفونا، ادفعوا إلينا صاحبكم وخذوا صاحبنا وداووه، فإن صح فسلونا نهب لكم، وإن كانت الأخرى فهو قاتلنا، فإن عفونا عفونا عن حقنا، وإن أخذنا بقودٍ أو ديةٍ أخذنا بحقنا.
فأبى القوم، فاقتتلوا يومهم ذاك إلى الليل، لكن أبي بن أشيم أخا بني جرول - وهو سيدهم - خرج في حاجة، فلقيه بعض بني قطن فأخذه وأتى به أصحابه، فقال نهشل بن حري: يا بني نهشل، أطيعوني اليوم واعصوني أبدًا، قالوا: نعم نطيعك، قال: إن هذا ليس بقاتلكم، وإنه بريء لا يحل لكم دمه، وإن قومه أحد من يقاتلكم، فخلوا سبيله. قالوا: انظر رأيك.
1 / 44