بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين
قال أبو محمد الأعرابي: تأملت ما فسره أبو محمد يوسف بن الحسن بن عبد الله السيرافي من أبيات كتاب سيبويه، فوجدته فيها مثل ما قال جزء بن ضرار أخو الشماخ:
قضيت أمورًا ثم غادرت بعدها ... بوائج في أكمامها لم تفتق
وذلك أنه قد فسر من أبيات ذلك الكتاب غيضًا من فيض، والقليل الذي فسره فيه خلل كثير وفساد ظاهر. فكان كما قال بشر بن حكيم أخو بني ربيعة بن مالك:
ما كثرت فينا عدي فتتقى ... ولا طاب إذ قلت عدي قليلها
فمن بيت صحف فيه، وشعر نسبه إلى غير قائله، ومعنى حرفه عن جهة الصواب، ولفظ عدل به عن مبانيه. فبنيت مواضع الخطأ من جميع ذلك، وأثبت الصواب تحت كل بيت، وخدمت به مجلس الرئيس أبي سعيد بندار بن جهشتيار، لأنه معدن الأدب، ومعني بعلم العرب، وبالله التوفيق وهو حسبي ونعم الوكيل.
قال ابن السيرافي قال مزاحم العقيلي
ومن ير جدوى مثل ما قد رأيتها ... تشقه وتجهده إليها التكاليف
ووجدي بها وجد المضل بعيره ... بنخلة لم تعطف عليه العواطف
قال س: هذا موضع المثل:
ظلت حفافين على مهشمه ... ذائدها العبد وساقيها الأمه
من فسر هذا الشعر الغريب، ولم يستقر أشعار العرب المجاهيل، ولم يقتلها علمًا، كان كمن يعطو في الحمض.
قدم ابن السيرافي ها هنا ما وجب أن يؤخر، وأخر ما يجب أن يقدم، وبين البيتين أبيات لا يكاد ينتظم نظامها إلا بها. ونظام الأبيات:
ووجدي بها وجد المضل بعيره ... ببكة لم تعطف عليه العواطف
رأى من رفيقيه جفاء وفاته ... ببرقتها المستعجلات الخوانف
فقالا تعرفها المنازل من منى ... وما كل من أوفى منى أنا عارف
ولم أنس منها ليلة الجزع إذ مشت ... إلي وأصحابي منيخ وواقف
فمدت بنانًا للصفاح كأنه ... بنات النقا مالت بهن الأحاقف
تذكرني جدوى على النأي والعدى ... طوال الليالي والحمام الهواتف
وإلفان ريعا بالفراق فمنهما ... مجدٌ ومقصور له القيد راسف
ومن ير جدوى مثل ما قد رأيتها ... تشقه وتجهده إليها التكاليف
فللباكر الغادي مع القوم سائق ... عنيف وللتالي مع القيد واقف
كصعدة مرانٍ جرى تحت ظلها ... خليج أمرته البحور الزغارف
قال س: وهي طويلة، لكن يكفيك من القلادة ما أحاط بالعنق.
باب المصادر
قال ابن السيرافي قال سيبويه في باب المصادر، قال المرار
لقد علمت أولى المغيرة أنني ... كررت فلم أنكل عن الضرب مسمعا
قال ابن السيرافي: " وجدت في هذا الباب البيت منسوبًا إلى المرار، ورأيته في شعر مالك بن زغبة الباهلي، وكان بنو ضبيعة قد أغارت على باهلة، فلحقتهم باهلة وهزمتهم ".
قال س: هذا موضع المثل:
وهل يشفين النفس من سقم بها ... غناءٌ إذا ما فارقت وركوب
لا يكاد يشفي المستفيد ما ذكره ابن السيرافي، سيما والقليل الذي ذكره مختل، والبيت لمالك بن زغبة الباهلي يعني مسمع بن شيبان أحد بني قيس بن ثعلبة، وكان خرج هو وابن كدراء الذهلي، يطلبان بدماء من قتلته باهلة من بكر ابن وائل، يوم قتل أبو الأعشى بن جندل، فبلغ ذلك باهلة، فلقوهم فاقتتلوا قتالًا شديدًا، فانهزمت بنو قيس ومن كان معها من بني ذهل، وضرب مسمع بن شيبان فأفلت جريحًا.
والبيت أول أبيات، نظامها:
لقد علمت أولى المغيرة أنني ... لحقت فلم أنكل عن الضرب مسمعًا
ولو أن سيفي لم يخني صبيه ... لغادرت طيرًا تعتفيه وأضبعا
وفر ابن كدراء السدوسي بعدما ... تناول منه في المكرة منزعا
أجئتم لكيما تستبيحوا حريمنا ... فصادفتم ضربًا وطعنًا مجدعا
فأبتم خزايا صاغرين أذلةً ... شريجة أرماحٍ لأكتافكم معا
قال ابن السيرافي قال الأخوص اليربوعي
سيأتي الذي أحدثتم في أخيكم ... رفاقًا من الآفاق شتى مآبها
1 / 1
مشائيم ليسوا مصلحين عشيرةً ... ولا ناعبٍ إلا ببينٍ غرابها
قال ابن السيرافي: النعب: صوت الغراب، والناعب هو الغراب، وقال الأخوص ذلك في حرب كانت بين بطون بني يربوع قتل فيها أبو بدر الغداني. في كلام يشبه هذا لا طائل فيه.
قال س: هذا موضع المثل:
يا ليت حظي منك ذات البرقع
أن لا تضريني وألا تنفعي
لو سكت ابن السيرافي عن تفسير هذا الشعر الذي لم يعرف قضيته ولا نظام أبياته لكان أجدى على مستفيده، وذلك أنه قال: إن هذا الشعر قيل في حرب كانت بين بطون بني يربوع.
وإنما كان القتال بين بني يربوع وبني دارم، فأراد الشاعر بقوله مشائيم بني دارم بن مالك لا بني يربوع. وكان من قصة هذا الشعر، أن ناسًا من بني يربوع وبني دارم، اجتمعوا على القرعاء، فقتل بينهم رجل من بني غدانة يكنى أبا بدر، فقالت بنو يربوع: والله لا نبرح حتى ندرك ثأرنا، فقالت بنو دارم: إنا لا نعرف قاتله، فأقيموا قسامة نعطكم حقكم، فقالت بنو غدانة: نحن نفعل. فأخرجوا خمسين، فحلفوا كلهم إلا رجلًا أن الذي قتل أبا بدر عبيد بن زرعة، فقال الباقي من الخمسين: أليس تدفعون إلينا عبيدًا إذا أنا كملت الخمسين؟ قالوا: لا ولكنا نديه لأنا لا ندري من قتله. فقال الباقي عند ذلك - وهو أبو بيض الغداني -: والله لا أكملهم أبدًا ولا يفارقنا عبيد حتى نقتله.
فقام ضرار بن القعقاع بن معبد بن زرارة، وشيبان بن حنظلة بن بشر بن عمرو فكفلا بعبيد، فدفعته بنو غدانة إليهما، فلما جنهم الليلي قال ضرار وشيبان لعبيد: انطلق حيث شئت.
وغدت بنو غدانة على بني دارم فقالوا لهم: إن صاحبكم هرب، ولكن هذه الدية فاقبلوها من إخوتكم، ولا تطلبوا غير ذلك فتكونوا كجادع أنفه، ولو علمنا مكان صاحبكم قصدنا إليه. فلما سمعهم الأخوص يذكرون الدية قال: دعوني أتكلم، قالوا: تكلم يا أبا خولة. فقال الأخوص:
ليس بيربوعٍ إلى العقل فاقةٌ ... ولا دنسٌ تسود منه ثيابها
فكيف بنوكي مالكٍ إن غفرتم ... لهم هذه أم كيف بعد سبابها
مشائيم ليسوا مصلحين عشيرةً ... ولا ناعبٍ إلا بشؤمٍ غرابها
فإن أنتم لم تقتلوا بأخيكم ... فكونوا بغايا بالأكف عيابها
ستخبر ما أحدثتم في أخيكم ... رفاقٌ من الآفاق شتى مآبها
وهي أبيات ذكرت منها ما لا غنى عنه في معنى بيت الكتاب.
قال ابن السيرافي قال الجعدي
وكيف تواصل من أصبحت ... خلالته كأبي مرحب
قال: أبو مرحب من بني عمه، وأظنه من بني قشير، يريد أن أبا مرحب قطعه وجفاه في سببٍ كان احتاج إليه فيه.
قال س: هذا موضع المثل:
تنحلت نعت الخيل لا أنت قدتها ... ولا قادها جداك في سالف الدهر
لو اقتصر ابن السيرافي على ذكر الإعراب واللغة، ولم يعرض لذكر الرجال والأنساب، لما استهدف للسان الطاعنين، لكن الشقي بكل كف يصفع.
أبو مرحب هنا، الذي يقول لك إذا لقيك: أهلًا ومرحبًا، وليس غير ذلك. وبيت الجعدي في المعنى مثل بيت الكميت:
يراني في اللمام له صديقًا ... وشادنة العسابر رعبليب
ومثل قول الآخر:
رجلٌ صديقٌ ما بدت لك عينه ... فإذا تغيب فاحترس من دعلج
ومثل قول الآخر:
صديق حضارة وصديق عينٍ ... وليس لمن تغيب بالصديق
وقال ابن السيرافي قال أبو الأسود الدؤلي ﵁
إذا جئت بوابًا له قال مرحبا ... ألا مرحبٌ واديك غير مضيق
يخاطب البواب: ألا واديك يا بواب مرحبٌ غير مضيق.
قال س: هذا موضع المثل:
وكيف يرحل من ليست له إبل
كثيرًا ما يزل في مثل هذا الاسم من لم يمارس علم النسب، وهو قوله: أبو الأسود الدؤلي، وكذا كان يقوله من تقدم من النحويين، وليس من علمهم.
أخبرنا أبو الندى قال: هو أبو الأسود الديلي. قال: واسمه ظالم بن عمرو ابن سفيان بن يعمر بن حلس بن نفاثة بن عدي بن الديل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة.
1 / 2
قال: وفي ربيعة: الدول بن حنيفة بن لجيم. وفي الأزد: الديل بن هداد بن زيد مناة بن الحجر. وفي عنزة: الدول بن صباح بن عتيك بن أسلم بن يذكر بن عنزة. وفي تغلب: الديل بن زيد بن عمرو بن غنم بن تغلب. وفي ضبة: الدول بن ثعلبة بن سعد بن ضبة. وفي الرباب: الدول بن جلى بن عدي بن عبد مناة. وفي عبد القيس: الديل بن عمرو بن وديعة بن لكيز بن أفصى.
وفي الهون: الدئل - مهموز على مثال: الدعل - بن محلم بن غالب بن عائذة ابن يثيع بن مليح بن الهون بن خزيمة. وفي إياد: الديل بن أمية بن حذافة بن زهير بن إياد. وفي الأزد: الدول بن سعد مناة بن غامد. وفي قيس: الديل بن حمار بن ناج بن أبي مالك بن عكرمة.
قال ابن السيرافي قال المرار
صرمت ولم تصرم وأنت صروم ... وكيف تصابي من يقال حليم
وصدت فأطولت الصدود وقلما ... وصال على طول الصدود يدوم
قال: يقول صرمت هذه المرأة من قبل أن تصرمك، يخاطب نفسه. ثم قال: وكيف يتصابى من قد كبر وحلم، وصدت هذه المرأة وأطولت أنت الصدود، ومع طول الصدود لا يبقى من المودة والمحبة شيء.
قال س: هذا موضع المثل:
يا أهل ذي المروة خلوها تمر ... فإنما أنتم نبيطٌ وحمر
هذا من أفضح ما جاء بن ابن السيرافي، وذلك أن هذا الشعر ليس من الغريب الذي يشتبه على أحد. والصواب: صددت فأطولت الصدود ونظام الأبيات:
صرمت ولم تصرم وأنت صروم ... وكيف تصابي من يقال حليم
يقول: صرمت ولم تصرم صرم ثبات ولكن صرم دلال.
صددت فأطولت الصدود ولا أرى ... وصالًا على طول الصدود يدوم
كأنه يخاطب نفسه ويلومها على طول الصدود. أي لا يدوم وصال الغواني إلا لمن يلازمهن ويخضع لهن، وفسر ذلك بالبيتين بعدهما، وهما:
وليس الغواني للجفاء ولا الذي ... له عن تقاضي دينهن هموم
ولكنما يستنجز الوعد تابعٌ ... مناهن حلافٌ لهن أثيم
قال ابن السيرافي قال المرار
أنا ابن التارك البكري بشرٍ ... عليه الطير ترقبه وقوعا
موضع ترقبه نصب على الحال، أي ترقب موته لتأكله.
علاه بضربة بعثت بليلٍ ... نوائحه وأرخصت البضوعا
قال: عنى بشر بن عمرو بن مرثد وقتله رجل من بني أسد، ففخر المرار بقتله. وبشر: هو بكر بن وائل. وأرخصت البضوعا: أي أرخصت الضربة اللحم على الطير. وزعم بعض الرواة أنه يعني بالبضوع بضوع نسائه، أي نكاحهن. يقول: لما قتلوه سبوا نساءه فنكحوهن بلا مهر. والبضوع: النكاح. والتفسير الأول أعجب إلي.
قال س: هذا موضع المثل:
أصبحت من ذكر أرجوانة كال ... مرسل ماءً فأمسك الزبدا
ما أكثر ما يرجح ابن السيرافي الرديء على الجيد، والزائف على الجائز، وذلك أنه مال إلى القول بأن البضوع هنا اللحم، ولعمري إنها لو كانت لحوم المعزى والإبل لجاز أن يقع عليها اسم الرخص والغلاء، وهذه غباوة تامة.
والصواب أنهم لما قتلوه عرضوا نساءه للسباء، لأنه لم يبق لهن من يحميهن ويذود عنهن. ثم إنه لم يذكر قاتل بشر من أي قبائل بني أسد كان، وإذا لم تعرف حقيقة هذا، لم يدر لأي شيء افتخر المرار بذلك.
وقاتله سبع بن الحسحاس الفقعسي، ورئيس الجيش جيش بني أسد ذلك اليوم: خالد بن نضلة الفقعسي وهو جد المرار بن سعيد بن حبيب بن خالد ابن نضلة.
وكان من حديث هذا اليوم - وهو يوم قلاب - أن حيًا من بني الحارث بن ثعلبة بن دودان، غزوا وعليهم خالد بن نضلة بن الأشتر بن جحوان بن فقعس، فقالوا لكاهن لهم: انظر هل يخبرك صاحبك عن الماء، فتسجى بثوبه، فأتاه شيطانه، فقال: اركبوا شنخوبا وطبلالا، فاقتاسوا الأرض أميالًا، فإنكم سترون قارات طوالا، وإن بينهن بلالا.
فحملوا رجلًا منهم على أحد الفرسين، فأجراه فوجد قارات بينهن غدير من ماء السماء، فاستقى القوم وسقوا وأكلوا تمرًا من زادهم. فاعترض بشر بن عمرو لآثارهم فقال: هذه آثار بني أسد، فلما وردوا الماء قال: انظروا ما يصنعون بالنوى، إن كان بني أسد فإنهم يطرحون النوى من خلفهم، وإن كانت تميم فإنهم يرمون النوى من بين أيديهم.
1 / 3
فلما وجدوا مطرح نواهم قال: هذه بنو الحارث بن ثعلبة، يأسر أحدهم عقاص المرأة، ويفدي بالمئة، عليكم القوم. قال له ابنه: إن في بني الحارث بن ثعلبة بن فقعس، وإن تلقهم تلق القتال. فقال اسكت، فإن وجهك شبيه بوجه أمك عند البناء. فنفذ القوم.
فلما التقوا هزم جيش بشر، فأتبعته الخيل وهو مجيد - أي صاحب أفراس جياد - حتى توالى في أثره ثلاثة فوارس وما بينهم قريب. فكان أولهم سبع بن الحسحاس الفقعسي، وأوسطهم عميلة بن المقتبس الوالبي، وآخرهم خالد بن نضلة. فأدركت نبل الوالبي الأوسط فرس بشر بن عمرو برمية رماه بها فعقرته، ولحقه سبع فاعتنقه، وجاء خالد وقال: يا سبع لا تقتله فإنا لا نطلبه بدم، وعنده مال كثير، وهو سيد من هو منه.
فأجلساه بينهما واعتزل الوالبي، وأتتهم الخيل، فإذا مر به رجل أمرهم بقتله، حتى جعل بعض القوم يوعده فيزجر عنه خالد، ثم إن رجلًا هم أن يوجه إليه السنان، فنشز خالد على ركبتيه وقال: اجتنب إليك أسيري. فغضب سبع أن يدعيه خالد، فدفع سبع في نحر بشر فوقع مستلقيًا فأخذ برجله ثم أتبع السيف فرج الدرع حتى خاض به كبده. فقال بشر: أجيروا سراويلي فإني لم أستعن. ثم أرسله، وعمد إلى فرسه فاقتاده. فقال حين قتله وهو غضبان: أسيرك وأسير أبيك.
فقالت الخرنق تعير عبد عمرو بن بشر حين حضض على طرفة والمتلمس:
هلا ابن حسحاسٍ قتلت وخالدًا ... هنالك لم تقتل هناك ولم تشر
هم طعنوا أباك في فرج درعه ... ووليت لا تلوي على مجحر تجري
قال ابن السيرافي قال مسكين الدارمي
وإن ابن عم المرء فاعلم جناحهوهل ينهض البازي بغير جناح
أخاك أخاك إن من لا أخا له ... كساعٍ إلى الهيجا بغير سلاح
قال س: هذا موضع المثل:
يعسجني بالخوتله ... يبصرني لا أحسبه
قدم ابن السيرافي من البيتين ما يجب أن يؤخر، وأخر ما يجب أن يقدم. والصواب:
أخاك أخاك إن من لا أخا له ... كساعٍ إلى الهيجا بغير سلاح
وإن ابن عم المرء فاعلم جناحهوهل ينهض البازي بغير جناح
قال ابن السيرافي قال الأعشى
أرى رجلًا منهم أسيفًا كأنما ... يضم إلى كشحيه كفًا مخضبا
وما عنده مجد تليد ولا له ... من الريح فضلٌ لا الجنوب ولا الصبا
قال: كأنه من شدة غضبه قد قطعت كفه، فضم يده إلى جنبيه وهي مقطوعة. يقول: هذا الرجل ينظر إلي نظر غضبان كأني قد قطعت يده، وما له من مجد تليد - أي ليس له مجد قديم - ولا له من الريح فضل - أي ليست له مقدرة على جهة من الجهات -. كذا رأيته فسر. يهجو بذلك عمرو بن المنذر وقومه، وهو من بني عم الأعشى.
قال س: هذا موضع المثل:
وإن الذي يرعى هذيمٌ شياهه ... لمعترفٌ للذيب والحرب القسر
كل من عول على هذا القدر الذي ذكره ابن السيرافي، لم يستفد كبير طائل، وذلك أنه لم يذكر القصة التي جرت هذا العتاب والهجاء.
وكان سبب ذلك، أن رجلًا من قيس عيلان كان جارًا لعمرو بن المنذر بن عبدان بن حذاقة بن حبيب بن ثعلبة بن قيس بن ثعلبة، فسرقت راحلة له، فوجد بعض لحمها في بيت هداج قائد الأعشى، فضرب والأعشى جالس، فقال يعاتبهم بالقصيدة التي منها هذه الأبيات.
قال ابن السيرافي وقال الأعشى
نحن الفوارس يوم الحنو ضاحيةً ... جنبي فطيمة لا ميلٌ ولا عزل
قال: فطيمة هذه، هي فطيمة بنت شراحيل بن عوسجة من بني قيس بن ثعلبة قوم الأعشى، فكان لها ابنان من رجل من غير قومها يقال له أصرم، فأراد أصرم أن ينزع ابنيها ويرهنهما من يزيد بن مسهر الشيباني، فاستغاثت بقومها، فاجتمعوا وهزموا بني شيبان، ففخر بذلك الأعشى. والحنو: منعطف الوادي.
قال س: هذا موضع المثل:
قلت لما نصلا من قنةٍ ... كذب العير وإن كان برح
يعني الفرس والبعير.
هذا محال، لأن فطيمة هي بنت حبيب بن ثعلبة بن سعد بن قيس بن ثعلبة، والحنو ها هنا مكان بعينه وهو حنو قراقر الذي ذكره الأعشى بقوله:
فدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي ... وراكبها يوم اللقاء وقلت
هم ضربوا بالحنو حنو قراقرٍ ... مقدمة الهامرز حتى تولت
وقراقر: من مياه بكر بن وائل.
1 / 4
قال ابن السيرافي قال حميد الأرقط - وكان يهجو الضيف إذا نزل به
ومرملين على الأقتاب بزهم ... مدارعٌ وعباءٌ فيه تفنين
باتوا وجلتنا الشهريز بينهم ... كأن أظفارهم فيها السكاكين
فأصبحوا والنوى عالي معرسهم ... وليس كل النوى يلقي المساكين
قال، قوله: ليس كل النوى يلقي المساكين، يريد أن من كان شديد الجوع محتاجًا إلى الطعام وليس معه ما ينفقه، فينبغي له أن يأكل التمر مع النوى ليشبع عن قرب، ولا يأكل تمرًا كثيرًا، أراد حميد أن يأكل أضيافه التمر بنواه ولا يلقوا منه شيئا.
قال س: هذا موضع المثل:
وهل يعلم الأدواء إلا طبيبها
لم يعرف ابن السيرافي نظائر هذه الأبيات، ولم يحسن تفسير البيت الذي فسره في النوى والمساكين ومثل هذا من الشعر لا يعرفه إلا من نضج في استقراء الشعر وعني به. ونظام الأبيات:
ومرملين على الأقتاب بزهم ... حقائبٌ وعباءٌ فيه تفنين
مقدمين أنوفًا في عصائبهم ... حجنًا، ألا جدعت تلك العرانين
أعطوا التنقب في نفرٍ إذا اندفعوا ... وكل خير عليهم بعد مخزون
لا مرحبًا بوجوه القوم إذ رحلوا ... كأنهم إذ أنا خوابي الشياطين
يسطرون لنا الأخبار إذ نزلوا ... وكل ما سطروا للقم تمكين
ولو تحرزت حيث العصم عاقلةٌ ... أو حيث تلحس عن أولادها العين
ظننت لا تنتهي عنا ضيافتهم ... حتى نكون ومبدانا البساتين
أرضٌ تحم بها العقبان نابتةً ... من حيث ينبت في الصيف العراجين
باتوا وجلتنا الشهريز بينهم ... كأن أظفارهم فيها السكاكين
فأصبحوا والنوى عالي معرسهم ... وليس كل النوى يلقي المساكين
ومعنى هذا البيت الأخير أنهم قد أكلوا أكثر التمر بنواه حرصًا وشرهًا، ومع ذلك فقد كوموا معرسهم بالنوى الذي ألقوه. ويعني بالمساكين هؤلاء الضيفان، كأنهم كوموا: أي اتخذوا لأنفسهم كومة.
أشار إليهم فقال: وليس كل النوى يلقي المساكين. وهذا في الإشارة مثل قول الآخر:
سما البرق من نحو الحجاز فشاقني ... وكل حجازي له البرق شائق
أي هذا البرق بعينه.
وأخبرنا أبو الندى قال: نزل بحميد الأرقط بريد من قبل الحجاج، فقراه وأكرمه، فلما أتى بالطعام أقبل أعرابي فسلم وجلس، وجعل يسأل عن الحجاج وحاله، فقال له حميد الأرقط: كل ودع الرجل يطعم، فإنك تسأل عما ليس من بالك. وقال حميد.
إذا ما قرينا وارد المصر منهم ... تأوب ناري أصفر القعب قافل
تراءت له ناري بأروقة الحمى ... ووادي الصليب دوننا والأفاكل
قال: وأخبرنا ﵀ قال: بخلاء مضر: الحطيئة واللعين المنقري وحميد الأرقط وأبو الأسود الديلي.
قال ابن السيرافي وقال طفيل الغنوي
وكان هريمٌ من سنانٍ خليفةً ... وحصنٍ ومن أسماء لما تغيبوا
ومن قيسٍ الثاوي برمان بيته ... ويوم حقيلٍ فاد آخر معجب
وبالسهب ميمون النقيبة قوله ... لملتمس المعروف أهلٌ ومرحب
قال: هؤلاء جماعة من قوم طفيل هلكوا فرثاهم. ورمان موضع بعينه، وأراد ببيته قبره، وحقيل موضع معروف، وفاد: مات، والسهب: الفضاء من الأرض. مع هذيان شبيه بهذا.
قال س: هذا موضع المثل:
غناءٌ قليلٌ عن عجائز جوعٍ ... قراطيس في أجوافهن خطوط
هذا الذي ذكره ابن السيرافي لا يغني فتيلًا، فمعروف أن هؤلاء رجال لا جمال، وهذه مواضع لا براذع، ولكن إذا لم تعرف قصة هؤلاء الرجال وأيامهم، وأسماء هذه المنازل بأعيانها وما جرى فيها، لم يكمل معناه.
وفي البيت الأول غلط، وفي الثالث تصحيف. والصواب:
وكان سنان بن هريمٍ خليفةً
1 / 5
بتقديم سنان على هريم، لأن هريمًا هو الميت، وسنان هو سنان بن عمرو ابن يربوع بن طريف بن خرشبة بن عبيد بن سعد بن كعب بن حلان بن غنم بن غني، وكان فارسًا حسيبًا وقد كان قاد ورأس، وهو صاحب ابن هدم العبسي طريد الملك، قال له الملك: كيف قتلته؟ قال: حملت عليه في الكبه - يعني معظم الجيش - فطعنته في السبه، حتى خرج الرمح من اللبه.
وهريم عم سنان، وقد قاد ورأس. وأسماء بن واقد من بني رياح بن يربوع ابن ثعلبة بن سعد بن عوف بن كعب بن حلان بن غنم بن غني، وهو من النجوم. وحصن بن يربوع بن طريف، وأمه جيدع بنت عمرو بن الأعرج بن مالك ابن سعد بن عوف. وقيس هو ابن يربوع بن طريف.
وكان قيس هذا قدم على بعض الملوك، فقال الملك: لأضعن تاجي على أكرم العرب، فوضعه على رأس قيس، وأعطاه ما شاء، ثم خلى سبيله إلى بلده. فلقيته طيء برمان وهو راجع إلى أهله فقتلوه، ثم عرفوه بعد ذلك، وذكروا أيادي كانت له عندهم فندموا، فدفنوه وبنوا عليه بيتًا.
وهو قيس بن جيدع وهي أمه، وإخوته هريم وعمرو وحصن والأعرج، أمهم جيدع بنت عمرو، وأبوهم يربوع بن طريف. وحقيل في بلاد بني أسد، قتلت فيه بنو أسد الحارث بن مويلك الغنوي، وفي بلاد عكل له حقيل وهو غير هذا الموضع، وهو الذي ذكره الراعي:
من ذي الأبارق إذ رعين حقيلا
وقوله وبالسهب هو تصحيف، والصواب: وبالشهد، يعني بديل ابن واقد. وكان أسماء وبديل ابنا واقد صاحبي الوقائع في طيئ، وأصابا عشرة كلهم يأخذ لواء قومه يقال لهم بنو حمل، فقالت أخت لهم ترثيهم:
يا عين إلا ما بكيت بني حمل ... فوارس أبطالًا على شدة الوهل
لعمري وما عمري علي بهينٍ ... لقد ذهبت منا غنيٌّ على مهل
فإن تقد الأيام غنم بن واقد ... وأسماء تثقفه الرماح على علل
ثم إن طيئًا لقيت غنيًا فأصابت بديلًا، وكان سيدًا ورئيسًا، فخاف أن تمثل به طيئ لما أوقع بهم، وكان مرداس بن مويلك يسعى في أمره ليفتديه فأبوا، فقتل نفسه، وقتلوا أسماء. فقال مرداس بن مويلك يرثي بديلًا:
تشكى إلي الأين والسام خلتي ... وتنسين ما يلقى أسير الملاقط
قال ابن السيرافي قال شقيق بن جزء الباهلي، يرد على جحل بن نضلة الباهلي
أتوعدني بقومك يا بن جحلٍ ... أشاباتٍ يخالون العبادا
بما جمعت من حضنٍ وعمروٍ ... وما حضنٌ وعمروٌ والجيادا
إذا خطرت بنو سعد ورائي ... وذادوا بالقنا عني ذيادا
قال: يخالون: يظنون أنهم عبيد، وحضن وعمرو والجياد: قبائل.
قال س: هذا موضع المثل:
كري إلى أهلك يا عجوز ... إن بياع الليل لا يجوز
هذا أفضح ما جاء به ابن السيرافي، وذلك أنه ذكر أن الجياد قبيلة، وهذا يدل على غباوة تامة وجهل ظاهر. إن الجياد ها هنا عتاق الخيل، يقول: ما هؤلاء وعتاق الخيل، أي ليسوا فرسان الخيل العتاق.
وقوله: وعنى بالعباد ها هنا العبيد، خطأ أيضًا. فإنما عنى بالعباد قومًا كانوا يجتمعون على باب النعمان خولًا من كل قبيلة. شبه هؤلاء بأولئك، أي أنهم أخلاط.
والبيت الأول فيه خبط أيضًا، وذلك أنه قال: أتوعدني بقومك يا بن جحل، وإنما الخطاب لجحل نفسه لا لابنه، فكيف يقول يا بن جحل، والصواب:
أتوعدني برهطك يا جحيلًا
وفي الأبيات التي أوردها تقديم وتأخير وخلل كثير، وستأتيك على نظامها بمعونة الله.
قال جحل بن نضلة يجيب شقيق بن جزء الباهلي:
لقد منتك نفسك يا بن جزء ... أحاميقًا سيسر عن النفادا
أردت لكي تشتت أمر قومٍ ... وحاولت القطيعة والفسادا
فمهلًا يا شقيق فإن حربي ... تكون لمن يلقحها فسادا
وكم من معشر قد حاربونا ... عبأت لهم مجلحة نآدا
فلم يك غير أن شاموا سناها ... فكان مبينها خيلًا تعادا
عليها من بني عمرو كهولٌ ... وشبان يهزون الصعادا
فظلوا يخصفونهم بسمرٍ ... كما نظمت في الجلل الجرادا
فآبوا بالرجال محنبيها ... يسوقون الطرائف والتلادا
ونصرك نازحٌ عني بطيءٌ ... كأن بكم إلى خذلي جوادا
فأجابه شقيق بن جزء فقال:
1 / 6
سرحت على بلادكم جيادي ... فأدت منكم كومًا جلادا
بما لم تشكروا المعروف عندي ... وإن شئتم تعاودنا عوادا
أتأمل أن تساوي حي أعيا ... وصحبًا، خاب ما ترجو وزادا
بما جمعت من حضنٍ وعمروٍ ... أشاباتٍ يخالون العبادا
إذا خطرت بنو سعد ورائي ... وذادوا بالقنا عني ذيادا
رأيت الموت دوني فانتهيتم ... ولم تسطع دعائمها الشدادا
أتوعدني برهطك يا جحيلًا ... وما عمرو بن حصنٍ والجيادا
قال ابن السيرافي قال سيبويه قالت درني بنت عبعبة من بني قيس بن ثعلبة، والذي وجدته قالت درنى بنت سيار بن صبرة ابن حطان بن سيار بن عمرو بن ربيعة
وقد زعموا أني جزعت عليهما ... وهل جزعٌ أن قلت وابأباهما
هما أخوا في الحرب من لا أخا له ... إذا خاف يومًا نبوةً فدعاهما
قال س: هذا موضع المثل:
بين المطيع وبين المدبر العاصي
هذا التفسير يحير الإنسان، فلا يدري ما الصواب من الخطأ، ولا يدري بأيهما يتعلق: أبدرنى بنت عبعبة، أم بدرنى بنت سيار وهذا يدل على أنه لم يكن يتصور الغث من السمين منهما.
والصواب: درنى بنت سيار على النسب الثاني، قالت ترثي أخويها، وهي أبيات رائقة، دخل نظامها - على ما أنشدها ابن السيرافي - في خلل. ونظامها وتمامها:
أبى الناس إلا أن يقولوا هما هما ... ولو أننا اسطعنا لكانوا سواهما
هما أخوا في الحرب من لا أخا له ... إذا خاف يومًا نبوة فدعاهما
إذا افتقرا لم يلحما خشية الردى ... ولم يخش رزءًا منهما موليا هما
إذا استغنيا حب الجميع إليهما ... وجاد على الأدنين فضل غناهما
هما يلبسان المجد أحسن لبسةٍ ... شحيحان ما اسطاعا عليه كلاهما
وقد زعموا أني جزعت عليهما ... وهل جزعٌ أن قلت وابأباهما
وأهلي فداء العاصمين كليهما ... ولا عشت إن كان الفؤاد قلاهما
إذا هبطا الأرض المخوف بها الردى ... يسكن من جأشيهما منصلاهما
ولا يلبث العرشان يستل منهما ... عظام الرواسي أن يميل غماهما
قال ابن السيرافي قال جرير
خل الطريق لمن يبني المنار به ... وابرز ببرزة حيث اضطرك القدر
قال: برزة: أم عمر بن لجأ.
قال س: هذا موضع المثل:
ضرط وردان بأرضٍ قي
هذا باطل، أخبرنا أبو الندى ﵀ قال: برزة إحدى جدات عمر بن لجأ المغنيات.
قال ابن السيرافي قال الراجز
أأنت يا بسيطة التي التي
هيبنيك في المقيل صحبتي
لقد علمت أي حين عقبتي
هي التي عند الهجير قالت
إذا النجوم في السماء ولت
قال: البسيطة: الأرض المنبسطة الممتدة.
قال س: هذا موضع المثل: لا يدعى لنجدةٍ إلا أخوها غلط ابن السيرافي ها هنا آنفًا، لأنه لم يكن يعرف منازل العرب ومحالها، ومن فسر أيضًا مثل هذا الشعر ولم يتقن ثلاثة أنواع من العلم: النسب، وأيام العرب، ومحالها ومنازلها - كثرت سقطاته.
والبسيطة ها هنا هي أرض بعينها، وهي بين الكوفة فالحزن، حزن بني يربوع بن عمرو، وفيها يقول عدي بن عمرو الطائي:
لولا توقد ما ينفيه خطوهما ... على البسيطة لم تدركهما الحدق
قال ابن السيرافي قال ثروان بن فزارة بن عبد يغوث
فإنك لا تبالي بعد حول ... أظبيٌ كان أمك أم حمار
فقد لحق الأسافل بالأعالي ... وماج اللؤم واختلط النجار
قال: الذي في الكتاب: أظبي كان أمك أم حمار، والذي في شعره: أظبيٌ كان خالك أم حمار.
قال س: هذا موضع المثل: كان حمارًا فاستأتن كيف يكون الحمار والظبي أمين وهما أذكر الحيوان، حتى إن المثل يضرب بالحمار فيقال: من ينك العير ينك نياكًا.
والصواب ما أنشده أبو الندى ﵀: أظبيٌ ناك أمك أم حمار
1 / 7
وإنما قلبت اللفظة تحرجًا فيما أرى، ثم استشهد به النحويون على ظاهره. وهذه قطعة طريفة، أكتبناها أبو الندى، وذكر أنها لثروان بن فزارة بن عبد يغوث بن زهير بن ربيعة بن عمرو بن عامر. وهي:
وكائن قد رأيت من أهل دارٍ ... دعاهم رائدٌ لهم فساروا
فأصبح عهدهم كمقص قرنٍ ... فلا عينٌ تحس ولا أثار
مقص: موضع تقتص فيه الأرض. أي لا يوجد لهم ولعهدهم أثر، كما لا يوجد أثر من يمشي على صخرة وقرن جبل.
لقد بدلت أهلًا بعد أهلٍ ... فلا عجبٌ بذاك ولا سخار
فإنك لا يضرك بعد عامٍ ... أظبيٌ ناك أمك أم حمار
فقد لحق الأسافل بالأعالي ... وماج القوم واختلط النجار
وعاد الفند مثل أبي قبيسٍ ... وسيق مع المعلهجة العشار
كناية عن الرجل الوضيع، أبو قبيس: الرجل الشريف، المعلهجة: الفاسدة النسب، أي تزوجت هذه المعلهجة ومهرت مهر الشريفة. كذا أنشدناه أبو الندى: وعاد الفند ورواية الناس العبد وذكر أبو الندى أنه تصحيف.
قال ابن السيرافي قال الزرافة الباهلي
هل في القضية أن إذا استغنيتم ... وأمنتم فأنا البعيد الأجنب
وإذا تكون كريهةٌ أدعى لها ... وإذا يحاس الحيس يدعى جندب
هذا لعمركم الصغار بعينه ... لا أم لي إن كان ذاك ولا أب
عجبٌ لتلك قضيةً وإقامتي ... فيكم على تلك القضية أعجب
قال س: هذا موضع المثل:
وأين المحيا من بلاد المسلم
ما بين الصواب وما ذكره ابن السيرافي في هذه الأبيات:
أبعد من رهوة من نساح
ونساح غير منون، ورهوة بنجد، ونساح باليمامة. وذلك أنه زعم أن هذه الأبيات للزرافة الباهلي، ولم يخلق الله في باهلة من اسمه زرافة، بلى في بني أسد شاعر يقال له زرافة، وهو القائل:
ومن لا ينل حتى يسد خلاله ... يجد شهوات النفس غير قليل
وذكر أبو عبيدة في كتاب العققة والبررة أن هذه الأبيات لهني بن أحمر الكناني، فأنكر أبو للندى ذلك وقال: إنها لعمرو بن الغوث بن طيء، وقد كنت ذكرت لك أن من لم يتقن علم النسب والأيام ومنازل العرب، ثم أقدم على تفسير هذا الشعر العتيق افتضح.
أكتبنا أبو الندى ﵀ قال: بينا طيئ ذات يوم جالسًا مع ولده بالجبلين، إذ أقبل رجل من بقايا جديس، ممتد الخلق، عادي الجبلة، كاد يسد الأفق طولًا ويفرعهم باعًا، وإذا هو الأسود بن عفار بن الصبور الجديسي، الذي نجا من حسان تبع يوم اليمامة، فلحق بالجبلين فقال لطيئ: من أدخلكم بلادي وإرثي من آبائي، اخرجوا عنها وإلا فعلت وفعلت. فقال طيئ: البلاد بلادنا وملكنا في أيدينا، وإنما ادعيتها حين وجدتها خلاءً. قال الأسود: اضرب بيننا وبينك وقتًا نقتتل فيه، فأينا غلب استحق البلد.
فاتعدا لوقتٍ، فقال طيئ لجندب بن خارجة بن سعد بن فطرة بن طيئ، وأمه جديلة بنت سبيع من حمير وبها يعرفون، فهم جديلة طيئ، وكان طيئ لها مؤثرا. فقال لجندب هذا: قاتل عن مكرمتك. فقالت أمه: الله، لتتركن بنيك، ولتعرضن ابني للقتل، لا يفعل. فقال طيئ: ويحك، إنما خصصته بذلك، فأبت.
فقال طيئ لعمرو بن الغوث بن طيئ: فدونك يا عمرو الرجل فقاتله. فقال عمرو لا أفعل، وأنشأ يقول في ذلك - وهو أول من قال الشعر في طيئ بعد طيئ -:
يا طيء أخبرني فلست بكاذب ... وأخوك صادقك الذي لا يكذب
أمن القضية أن إذا استغنيتم ... وأمنتم فأنا البعيد الأجنب
وإذا الشدائد بالشدائد مرةً ... أجحرنكم فأنا الحبيب الأقرب
عجبًا لتلك قضيةً وإقامتي ... فيكم على تلك القضية أعجب
ولكم معًا طيب المياه ورعيها ... ولي الثماد ورعيهن المجدب
هذا لعمركم الصغار بعينه ... لا أم لي إن كان ذاك ولا أب
وإذا تكون كريهةٌ أدعى لها ... وإذا يحاس الحيس يدعى جندب
1 / 8
فسار البيت الأخير مثلًا. يعني جندب بن خارجة بن سعد بن فطرة بن طيئ. فقال طيئ: يا بني إنها أكرم دار في العرب. قال عمرو: لن أفعل إلا على شرط، أن لا يكون لبني جديلة في الجبلين نصيب. فقال طيئ لعمرو بن الغوث: لك شرطك.
وبنو جديلة: جندب وحور أبناء جديلة بنت سبيع من حمير، وهي أمهما، وأبوهما خارجة بن سعد بن فطرة بن طيئ. فأما حور فدرج لا عقب له، وعدد بني جديلة راجع لابني جندب، فهم جديلة طيئ.
فأقبل الأسود بن عفار الجديسي للميعاد ومعه قوس من حديد ونشاب من حديد، فقال: يا عمرو، إن شئت صارعتك، وإن شئت ناضلتك، وإلا سابقتك. قال عمرو: الصراع أعجب إلي، فاكسر قوسك لأكسرها أيضًا ونصطرع.
وكانت مع عمرو بن الغوث بن طيئ قوس موصولة بزرافين، إذا شاء شدها. فأهوى بها عمرو إلى الجبل فانفتحت الزرافين، واعترض الأسود بقوسه ونشابه الجبل فكسرها، فلما رأى ذلك عمرو أخذ قوسه فركبها وأوترها، وناداه: يا أسود، استعن بقوسك فالرمي أحب إلي فقال الأسود: خدعتني؟ فقال عمرو: الحرب خدعة، فسارت مثلًا، فرماه عمرو ففلق قلبه.
قال ابن السيرافي قال منذر بن درهم الكلبي
وأحدث عهدٍ من أمينة نظرةٌ ... على جانب العلياء إذا أنا واقف
تقول: حنانٌ ما أتى بك ها هنا ... أذو نسب أم أنت بالحي عارف
قال: تقديره أي شيء أتى بك ها هنا، أذو نسب، معناه: أأنت ذو نسب في الحي، أم أنت عارف بهم فتقصد إليهم؟ .
قال س: هذا موضع المثل:
أقول لليلي رجلي لي جمتي ... بقية ما أبقى حسين بن مرجح
ههنا بقية معنى لا يتم إلا بمعرفة البيت الثالث، وهو:
فقلت أنا ذو حاجة ومسلمٌ ... فضم علينا المأزق المتضايف
وهي أبيات طريفة، أنشدها أبو الندى لمنذر بن درهم الكلبي، وأولها:
أمن حب أم الأشيمين وذكرها ... فؤادك معمودٌ له أو مقارف
تمنيتها حتى تمنيت أن أرى ... من الوجد كلبًا للوكيعين آلف
سقى روضة المثري عنا وأهلها ... ركامٌ سرى من آخر الليل رادف
أقول ومالي حاجة في ترددي ... سواها بأهل الروض: هل أنت عاطف
وأحدث عهدٍ من أمينة نظرةٌ ... على جانب العلياء إذ أنا واقف
تقول: حنانٌ ما أتى بك ها هنا ... أذو نسب أم أنت بالحي عارف
فقلت أنا ذو حاجة ومسلمٌ ... فصم علينا المأزق المتضايف
قال ابن السيرافي قال قيس بن ذريح
تبكي على لبنى وأنت تركتها ... وكنت عليها بالملا أنت أقدر
فإن تكن الدنيا بلبنى تقلبت ... فللدهر والدنيا بطون وأظهر
قال: قوله " فللدهر والدنيا بطون وأظهر " يريد أن الدنيا لا يطلع الإنسان فيها إلا على ظواهرها، ولا يعرف ما في عواقبها.
قال س: هذا موضع المثل:
ومارست الأمور بغير حزمٍ ... فما تدري أغثٌ أم سمين
لم يعرف ابن السيرافي ثالث البيتين، وهو جواب قوله: " فإن تكن.. " والصواب في قوله فللدهر: " وللدهر والدنيا بطون وأظهر " بالواو، فظن أن ذلك جواب، وإنما هو تمام المصراع اعتراضٌ بين إن وجوابها. والأبيات:
تبكي على لبنى وأنت تركتها ... وكنت عليها بالملا أنت أقدر
ومعنى قوله: " وأنت عليها أقدر " أنه قد خدع عنها حتى طلقها، فندم على طلاقها.
فإن تكن الدنيا بلبنى تقلبت وللدهر والدنيا بطون وأظهر
ومعنى قوله " بطون وأظهر " شدة ورخاء.
فقد كان فيها للأمانة موضع ... وللكف مرتادٌ وللعين منظر
وللحائم العطشان ريٌ يقوته ... وللمرح الذيال خمر ومسكر
كأني في أرجوحة بين أحبلٍ ... إذا ذكرةٌ منها على الأرض تخطر
قال ابن السيرافي قال عامر بن الطفيل
قالوا لها إنا طردنا خيله ... قلح الكلاب وكنت غير مطرد
فلأبغينكم قنًا وعوارضًا ... ولأقبلن الخيل لابة ضرغد
1 / 9
قال: قوله " قالوا لها " يعني لامرأةٍ كان يهواها من بني فزارة يقال لها أسماء، يعني أن بني فزارة ذكروا لها أنهم هزموه وطردوه، وكان بين بني فزارة وبني عامر وقعة كانت على بني عامر، وقتل فيها جماعة، وضرغد مكان معروف.
قال س: هذا موضع المثل:
لا تدرك الخيل وأنت تذأل ... إلا بمرٍّ مر الأجدل
لا يعرف معنى هذا الشعر إلا بمعرفة ما يتعلق به من الأيام، ثم إذا لم يعرف: ضرغد وقنا وعوارض، حقيقة أنها في أي موضع من المواضع من بلاد الله - لم يعرف المخاطب بقوله.
وإنما قال هذا عامر يوم الرقم، يوم هزمتهم بنو مرة، ففر عامر، واختنق أخوه الحكم بن الطفيل. وفي ذلك اليوم قتل عقبة بن أنيس بن خليس الأشجعي مئة وخمسين رجلًا من بني عامر، أدخلهم شعب الرقم فذبحهم، فسمي عقبة ذلك اليوم مذبحًا.
وقنا وعوارض جبلان من بلاد بني فزارة. وفيها يقول الشماخ بن ضرار:
كأنها وقد بدا عوارض
وأدبيٌّ في السراب غامض
والليل بين قنوين رابض
بجيزة الوادي قطا نواهض
والمخاطب بشعر عامر بنو مرة وفزارة، وأسماء هي أسماء السكينية من بني فزارة، كان يهواها عامر ويشبب بها في شعره، وكان قد فجر بها، وفيها يقول:
أنازلةٌ أسماء أم غير نازله ... أبيني لنا يا أسم ما أنت فاعله
وفيها يقول خراشة العبسي في يوم الرقم:
فمن مبلغٌ عني خليلي عامرًا ... أسليت عن أسماء أم أنت ذاكر
فإن وراء الجزع غزلان أيكةٍ ... مضمخةً آذانها والغفائر
وضرغد من مياه بني مرة.
قال ابن السيرافي قال خفاف بن ندبة، ويقال عباس بن مرداس
فقال لي قول ذي رأي ومقدرةٍ ... مجربٍ عاقلٍ نزهٍ عن الريب
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به ... فقد تركتك ذا مال وذا نشب
قال س: هذا موضع المثل:
كميتٌ ووردٌ إن ذاك من الغلط
ليس البيت لواحد من الرجلين، وإنما هو لأعشى بني طرود، وهم من بني فهم ابن عمرو، وعدادهم من بني سليم، في قصيدة مليحة أولها:
يا دار أسماء بين السهل والرحب
ولم يذكر ابن السيرافي من الذي قال له: أمرتك الخير. وإنما يحكي الشاعر هذا عن أبيه ويفتخر به، وسيأتي ذكره في الشعر.
قال أعشى بني طرود:
يا دار أسماء بين السفح والرحب ... أقوت وعفى عليها ذاهب الحقب
فما تبين منها غير منتضدٍ ... وراسياتٍ ثلاثٍ حول منتصب
وعرصة الدار تستن الرياح بهًا ... تحن فيها حنين الوله السلب
دارٌ لأسماء إذ قلبي بها كلفٌ ... وإذ أقرب منها غير مقترب
إن الحبيب الذي أمسيت أهجره ... عن غير مقليةٍ مني ولا غضب
أصد عنه ارتقابًا أن ألم به ... ومن يخف قالة الواشين يرتقب
إني حويت على الأقوام مكرمةً ... قدمًا، وحذرني ما يتقون أبي
وقال لي قول ذي علم وتجربة ... بسالفات أمور الدهر والحقب
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به ... فقد تركتك ذا مالٍ وذا نشب
قال ابن السيرافي قال تليد العبشمي
شفيت الغليل من سميرٍ وجعونٍ ... وأفلتنا رب الصلاصل عامر
وأيقن أن الخيل إن تلتبس به ... يكن لفسيل النخل بعده آبر
قال: وسبب هذا الشعر: أن طوائف من عبد القيس، أغارت على الأبناء من بني سعد، فهزمتهم الأبناء وقتلوا منهم سميرًا وجعونة. وقال في الشعر وجعون فرخمه في غير النداء.
ورب الصلاصل: يجوز أن يكون أراد به أنه صاحب سلاح وخيل، والصلصلة: صوت الحديد، وكذا وجدته على هذا اللفظ وعلى هذا الهجاء. والله أعلم بالصواب.
قال س: هذا موضع المثل:
إذا اعترضت كاعتراض الهره ... يوشك أن تسقط في أفره
لو سكت ابن السيرافي عن تفسير مثل هذا الشعر من شعر القبيل، الذي يبلح فيه حذاق العلماء والنسابين - لم يجعل نفسه غرضًا لكل رام. وروي عن أبي عثمان المازني قال: حملنا منتخبات المفضل، فقرأناها على الأصمعي، فكل ما كان فيها من أشعار الشعراء المعروفين أجاب فيها، فلما صرنا إلى أشعار القبائل بلح فيها أبو سعيد.
1 / 10
وهذا باب صعب، وكنت قد قلت: إن من لم يتقن علم النسب ومنازل العرب، وخاض في تفسير مثل هذا الشعر زلت قدمه.
والصواب ما أنشدناه أبو الندى ﵀:
شفينا الغليل من سمير وجعونٍ ... وأفلتنا رب الصلاصل عامر
بضم الصاد من الصلاصل، وذكر أنه ماء لعامر هذا، في واد يقال له الجوف، به نخيل كثيرة ومزارع جمة.
ولا يكادون يقولون: فلان رب كذا، إلا أن يكون عظيمًا من عظمائهم، وسيدًا من ساداتهم، كما قالوا: رب مروان، ورب معد، ورب خصاف، وكما قالوا: رب الخورنق والسدير وأشباه ذلك.
قال س: وذكر أن رهطًا من عبد القيس وفدوا على عمر بن الخطاب ﵁، فتحاكموا إليه في هذا الماء، أعني الصلاصل، فأنشده بعض القوم قول تليد العبشمي هذا، فقضى بالماء لولد عامر هذا. وهي أبيات شريفة أنشدناها أبو الندى ﵀.
والقصة ما ذكره ابن السيرافي، إلا أنه لم يذكر أسماءهم وألقابهم، وأنا ذاكر ذلك بعد إيراد الأبيات. وهي:
أتتنا بنو قيس بجمعٍ عرمرم ... وشنٌ وأبناء العمور الأكابر
فباتوا مناخ الضيف حتى إذا زقا ... مع الصبح في الروض المنير العصافر
نشأنا إليهم وانتضينا سلاحنا ... يمانٍ ومأثورٌ من الهند باتر
ونبلٌ من الوادي بأيدي رماتنا ... وجردٌ كأشطان الجرور عواتر
شفينا الغليل من سمير وجعونٍ ... وأفلتنا رب الصلاصل عامر
وأيقن أن الخيل إن يعلقوا به ... يكن لفسيل الجوف بعده آبر
ينادي بصحراء الفروق وقد بدت ... ذرا ضبعٍ: أن افتح الباب جابر
والأبناء هم العقد: عوف وعوافة ومالك وجشم بنو سعد، تحالفوا والعمور من عبد القيس: الديل وعجل ومحارب بنو عمرو بن وديعة بن لكيز بن أفصى بن عبد القيس.
قال ابن السيرافي قال أبو سدرة الأسدي
تحسب هواسٌ وأيقن أنني ... بها مفتدٍ من واحد لا أغامره
فقلت له: فاها لفيك فإنها ... قلوص امرئ قاريك ما أنت حاذره
قال: في الكتاب: أبو سدرة الأسدي، وزعم بعضهم أنه هجيمي من بني الهجيم.
قال س: هذا موضع المثل:
رزقت بالنوك فالزم ما رزقت به ... ما يصنع الأحمق المرزوق بالكيس
لو رزق ابن السيرافي على قدر إصابته لأكل القد جوعًا، وكل من لا يعرف أن أبا سدرة هجيمي أو أسدي فإنه لا يتعرض للكلام على مثل هذا الشعر.
وأبو سدرة، وهو سحيم بن الأعرف، من بني الهجيم بن عمر بن تميم، وله مقطعات مليحة في كتاب بني الهجيم بن عمرو بن تميم. منها قوله:
إلى حسان من أكناف نجدٍ ... رحلنا العيس تنفخ في براها
نعد قرابةً ونعد صهرًا ... ويسعد بالقرابة من رعاها
وأيًا ما فعلت فإن نفسي ... تعد صلاح نفسك من غناها
قال ابن السيرافي قال الراجز
أنعت عيرًا من حمير خنزره
في كل عيرٍ مائتان كمره
قال: خنزرة موضع فيما أرى، والرجز المنسوب إلى الأعور بن براء الكلابي، يهجو أم زاجر وهما من بني كلاب:
أنعت أعيارًا وردن أحمره
وكل عير مبطنٌ بعشره
في كل عير أربعون كمره
لاقين أم زاجر بالمزدره
قال س: هذا موضع المثل:
يا عطشًا والماء مني دان ... والرطب البرني في ثباني
لم يعرف ابن السيرافي من هذا الشعر ما ينقع به غله إلى الصادي، والشعر إذا لم يعرف تمامه وقصته، لم تكن له حلاوة في حنك المستفيد.
وكان من قصة هذا الرجز فيما أملاه علينا أبو الندى ﵀ أنه تهاجت امرأة ورجل من بني عبد الله بن كلاب، فأما الرجل بهو الأعور بن براء، وأما المرأة فهي أم زاجر، وهما عبدان. فقال الأعور بن براء:
أنعت أعيارًا وردن أحمره
وكل عير مبطن بعشره
في كل عيرٍ أربعون كمره
لاقين أم زاجر بالمزدره
فكمنها مقبلة ومدبره
حتى إذا ما لاح ضوء الزهره
جئن بغمرٍ مثل حز الكركره
وقالت أم زاجر:
يا بن التي تضر باللقاح
ثم تغشيها إلى الصباح
ثم تكام في حرٍ قياح
يكومها الأزعر أو فلاح
1 / 11
قال: فالتقت أم زاجر والأعور عند رجل من قريش أرسل ساعيًا على بني كلاب، فبينما القرشي مجتمعٌ عليه الناس وهو يصدق، سمع أم زاجر وقد ثارت وهي تقول: " صه صاقع، صه صاقع، أير أبيكم فاقع، يلقم الضفادع، والرأس والأكارع، وكل ضب خادع ".
قال: وبينهما مقاولات قبيحة.
قال ابن السيرافي قال الشاعر
لعمري لئن أمسيت يا أم جحدرٍ ... نأيت لقد أبليت في طلبٍ عذرا
تفاقد قومي إذ يبيعون مهجتي ... بجاريةٍبهرًا لهم بعدها بهرا
وقال في عقيب هذا: قال الشاعر:
ألا لا تلطي الستر يا أم جحدرٍ ... كفى بذرا الأعلام من دوننا سترا
ألا ليت شعري هل إلى أم جحدرٍ ... سبيلٌ فأما الصبر عنها فلا صبرا
قال س: هذا موضع المثل:
وإن تحملت أمرًا أو عنيت به ... فلا يكونن تقصيرٌ ولا غبن
مثل هذا الشعر إذا لم يعرف قائله، ولم يذكر السبب الذي جره كان كما قيل:
وبعض القول ليس له عياجٌ ... كمخض الماء ليس له إتاء
وسبب هذا الشعر أن ابن ميادة كان ينسب بأم جحدر بنت حسان المرية، فحلف أبوها ليخرجنها إلى رجل من غير عشيرته ولا يزوجها بنجد، فقدم عليه رجل من الشام فزوجه إياها، فاهتداها وخرج بها إلى الشام، فتبعها ابن ميادة حتى أدركه أهل بيته، فردوه مصمتًا لا يتكلم من الوجد. وقد أثبت لك كل الأبيات لأنها من قلائد الشعر:
ألا حييا ربعًا بذي العش دارسًا ... وربعًا على الممدور مستعجمًا قفرا
أضربه حتى تنكر عهده ... حراجف يسفرن الرغام به سفرا
فذا العش أسقيت الغمام ولا يزل ... ترود بك الآجال مغلولبًا نضرا
خليلي من غيظ بن مرة بلغا ... رسائل منا لا تزيد كما وقرا
ومرا على تيماء نسأل يهودها ... فإن على تيماء من ركبها ذكرا
وبالغمر قد جازت وجار مطيها ... فأسقى الغوادي بطن نيان فالغمرا
ولما رأت أن قد قربن أبايرًا ... عواسف سهبٍ تاركاتٍ بها ثجرا
أثار لها شحط الديار وجمجمت ... أمورًا وحاجاتٍ تضيق بها صدرا
إذا جاوزت بصرى تقطع وصلها ... وأغلق بوابان من دونها قصرا
فلا وصل إلا أن تقارب بيننا ... قلائص يجسرن الفلاة بنا جسرا
غريرية الأنساب أوا ماطليةٌ ... تنازع أيدي القوم ملويةً سمرا
إذا الشمس دارت من مدار ووضعت ... طنافسها ولينها الأعين الخزرا
ألا ليت شعري هل إلى أم جحدرٍ ... سبيلٌ فأما الصبر عنها فلا صبرا
ولو كان نذرٌ مدنيًا أم جحدر ... إلي لقد أوجبت في عنقي نذرا
ألا لا تلطي الستر يا أم جحدرٍ ... كفى بذرا الأعلام من دوننا سترا
لعمري لئن أمسيت يا أم جحدرٍ ... نأيت لقد أبليت من طلبٍ عذرا
ألا ليت شعري هل يحلن أهلنا ... وأهلك روضاتٍ ببطن اللوى خضرا
وهل تطرقن الريح تدرج موهنًا ... برياك تعروري بها الجرع العفرا
قال ابن السيرافي قالت الخنساء
تبكي لحزنٍ هي العبرى وقد عبرت ... ودونه من جديد الأرض أستار
حنين والهةٍ ضلت أليفتها ... لها حنينان إصغارٌ وإكبار
ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت ... فإنما هي إقبال وإدبار
قال: الوالهة يجوز أن تكون بقرة أو ظبية أو ناقة.
قال س: هذا موضع المثل:
إحدى خزاعة أو مزينة أو ... إحدى فزارة أو بني عبس
قول ابن السيرافي: يجوز أن تكون الوالهة كذا أو كذا أو كذا يزيد المستفيد حيرة، وبدعه في لبس، ولا يدري بأيها يأخذ، ويدل هذا القول أيضًا على بلادة ابن السيرافي، فإن العرب لا تضرب المثل في شدة الحنين والوله بالظباء والبقر، ولا يقولون: أحن من بقرة ولا أحن من ظبية، وقد قالوا: أحن من شارف. قال متمم بن نويرة:
وما وجد أظآرٍ ثلاثٍ روائمٍ ... وجدن مجرًا من حوارٍ ومصرعا
1 / 12
يذكرن ذا البث الحزين ببثه ... إذا حنت الأولى سجعن لها معا
بأوجد مني يوم فارقت مالكًا ... وقام به الناعي السميع فأسمعا
وقال آخر - أنشدناه أبو الندى ﵀:
وتفرقوا بعد الجميع لنيةٍ ... لا بد أن يتفرق الجيران
لا تصبر الإبل الجلاد تفرقت ... حتى تحن، ويصبر الإنسان
وقال أعرابي من بني كلاب:
من يك لم يغرض فإني وناقتي ... بحجرٍ إلى أهل الحمى غرضان
تحن وتبدي ما بها من صبابةٍ ... وأخفي الذي لولا الأسى القضاني
قال ابن السيرافي قال حبر بن عبد الرحمن
تربعت بلوى إلى رهائها
حتى إذا ما طار من عفائها
وصار كالريط على أقرائها
تتبع صات الهدر من أثنائها
جابت عليه الحبر من ردائها
تذكرت تقتد برد مائها
وعتك البول على أنسائها
قال س: هذا موضع المثل:
والله للنوم بجرعاء الحفر ... أهون من عكم الجلود بالسحر
لو اشتغل ابن السيرافي بالإعراب، وقليلٍ من اللغة، ولم يعرض مثل هذا الرجز الذي لم يعرف قائله ولا نظام أبياته - لكان أهون عليه، وأقل لاجتذاب الطعن عليه. ونسق الأبيات على ما أثبته لك ها هنا على ما أكتبناه أبو الندى ﵀، وذكر أنها لأبي وجزة السعدي.
ظلت بذاك القهر من سوائها
بين أقيبين إلى رنقائها
فيما أقر العين من أكلائها
من عشب الأرض ومن ثمرائها
حتى إذا ما تم من أظمائها
وعتك البول على أنسائها
وحازها الأضعف من رعائها
حوز الكعاب الثني من ردائها
تذكرت تقتد برد مائها
والقصب العادي من أطوائها
فبذت العاجز من رعائها
وصبحت أشعث من إبلائها
يبارك النزع على ظمائها
طلحًا يبيت الليل في ذرائها
كأنها إذ حضرت لمائها
كتيبة فاءت إلى لوائها
قد هزها الأعداء من لقائها
تكاد في الزحم وفي اعتدائها
تقطر الجلعد من أثنائها
إذا عوى الصيفي من غذائها
ألح مثل الرعد من غنائها
قال أبو الندى: تقتد: قرية بالحجاز، بينها وبين قلهى جبل يقال له أديمة، وبأعلى هذا الوادي رياض تسمى الفلاج بالجيم معجمة، جامعة للناس أيام الربيع، وبها مساك كثير لماء السماء، يكتفون به صيفهم وربيعهم إذا مطروا.
قال ابن السيرافي قال جرير
أثعلبة الفوارس أو رياحا ... عدلت بهم طهية والخشابا
قال: ثعلبة ورياح قبيلتان من بني يربوع وهم قوم جرير، وطهية من بني مالك ابن حنظلة بن مالك وهم أقرب إلى الفرزدق منهم إلى جرير.
يخاطب الفرزدق بذلك، وينكر عليه أن يسوي طهية والخشاب بني ثعلبة وبني رياح.
قال س: هذا موضع المثل:
نصيبان من قلبي: نصيب أطاعني ... وبان بوصل الغانيات نصيب
ذكر ابن السيرافي بعض ما في البيت غير مستوٍ، وهو نسب طهية من بني مالك ابن حنظلة، وإنما هي: أم عون وأبي سود ابني مالك بن حنظلة، وطهية هي بنت عبد شمس بن سعد بن زيد مناة بن تميم، والخشاب - وهو ما لم يعرفه - ربيعة ورزام ابنا مالك بن حنظلة، ويقال لهما الأخشبان، وإذا جمعوا قالوا: الخشاب.
وقوله: ثعلبة ورياح قبيلتان من بني يربوع، من عمى قلبه في النسب، لأنه يقال فلان وفلان قبيلتان من بني فلان، إذا كان بينهما وبين القبيل الأعظم أجداد وآباء، فأما إذا كان من صلبه فإنما يقال: هما ابناه، وثعلبة ورياح هما ابنا يربوع بن حنظلة.
قال ابن السيرافي قال عمرو بن معد يكرب
أريد حباءه ويريد قتلي ... عذيرك من خليلك من مراد
فلو لاقيتني للقيت قرنًا ... وصرح شحم قلبك عن سواد
قال: وسبب هذا الشعر أن عمرو بن معد يكرب، غزا هو ورجل من مراد يقال له أبي، فلما أرادا أن يقتسما الغنيمة، التمس من عمرو أن يعطيه مثل ما يأخذ، فأبى عمرو أن يفعل ذلك، فتوعده أبي، وبلغ عمرًا أنه يتوعده فقال هذا الشعر.
قال س: هذا موضع المثل:
فإن بهذا الغور غور تهامةٍ ... هوى النفس لا بالجلس من مستوى نجد
1 / 13
مراد الشاعر بهذا البيت ليس بأبي الذي ذكره ابن السيرافي، وكيف يكون ذلك، وأبي هو أبي بن معاوية بن صبح، من بني مسلية بن عامر بن عمرو بن علة بن جلد بن مالك بن أدد، وليس هو من مراد، فكيف يقول: من خليلك من مراد؟ وإنما المراد بهذا البيت: قيس بن هبيرة بن عبد يغوث المرادي، وهو ابن أخت عمرو بن معد يكرب، وهبيرة هو المكشوح، فأما أبي - وهو من بني مسلية - فهو الذي يقول فيه عمرو في كلمة له أخرى:
تمناني ليلقاني أبيٌ ... نعامة قفرة بغت المبيضا
وفيه يقول أيضًا:
وابن صبح سادرًا يوعدني
وسبب هذا الشعر أن قيس بن المكشوح قال يخاطب عمرًا في كلمة له طويلة:
ألا أبلغ أبا ثورٍ رسولًا ... فما بيني وبينك من وداد
تمنى أن تلاقيك المنايا ... أبا ثورٍ فهل لك في الجلاد
فإن كنت الغداة تريد قرنًا ... فأدن إذن سوادك من سوادي
بخيلٍ تلتقي منا ومنكم ... وإلا فالأحاد إلى الأحاد
فأجابه عمرو في كلمة له طويلة:
أريد حباءه ويريد قتلي ... عذيرك من خليلك من مراد
ومن يشرب بماء الجوف يعذر ... على ما كان من حمق الفؤاد
قال ابن السيرافي قال شقيق بن جزء بن رياح الباهلي
وعاد عليه أن الخيل كانت ... طرائق بين منقيةٍ ورار
كأن عذيرهم بجنوب سلى ... نعامٌ فاق في بلدٍ قفار
قال: سلى موضع بعينه. وكانت بنو ضبة غزت باهلة، وعليهم حكيم بن قبيصة بن ضرار الضبي، فهزمتهم باهلة، وجرحوا حكيمًا، وقتلوا عبيدة الضبي.
قال س: هذا موضع المثل:
آب الكرام بالسبايا غنيمةً ... وآب بنو نهد بأيرين في سفط
جاء ابن السيرافي بغلطين فاحشين في تفسير هذا الشعر، لأنه ذكر أن بني ضبة أغارت على بني باهلة، فهزمتهم باهلة. وهذا بجهله بسلى أنها في بلاد باهلة أو ببلاد ضبة، وجاء بالأبيات أيضًا متفرقة لا متوالية، وفيها أيضًا تقديم وتأخير.
والصواب ما أملاه علينا أبو الندى ﵀ قال: أغار شقيق بن جزء الباهلي على بني ضبة بسلى وساجر، وهما روضتان لعكل، وإياهما عنى سويد ابن كراع بقوله:
أشت فؤادي من هواه بساجرٍ ... وآخر كوفي هوىً متباعد
وضبة وعكل وعدي وتيم حلفاء متج ... اورن، وفيهم يقول لقيط بن زرارة:
ألا من رأى العبدين إذ ذكرا له ... عدي وتيمٌ تبتغي من تحالف
فحالف فلا والله تهبط تلعةً ... من الأرض إلا أنت للذل عارف
وضبة عبدٌ ثالث لا أخا له ... كما زيف النمي بالكف صارف
رجع إلى الحديث - فهزمهم، وأفلت عوف بن ضرار في ذلك اليوم، وحكيم بن قبيصة بن ضرار بعد أن جرح، وقتلوا عبيدة بن قضيب الضبي.
وقال شقيق بن جزء في إفلات عوف بن ضرار:
أفلتنا لدى الأسلات عوفٌ ... لدى الورهاء تطعن في اللجام
وكان هو الشفاء فأحرزته ... صنيع المتن رابية الحزام
كأن حمامة ورقاء يرمى ... بها الرجوان من ورق الحمام
أهان لها الطعام فلم تضعه ... غداة الروع إذ أزمت أزام
وقال شقيق في يوم سلى:
لقد قرت لهم عيني بسلى ... وروضة ساجرٍ ذات العرار
جزيت الملحبين بما أزلت ... من البوسى رماح بني ضرار
نكسر في متونهم العوالي ... وتمضي السمهرية في انئطار
وأفلت من أسنتنا حكيمٌ ... جريضًا مثل إفلات الحمار
وعاد إليه أن الخيل كانت ... طرائق بين منقيةٍ ورار
كأن عذيرهم بجنوب سلى ... نعامٌ فاق في بلد قفار
ولما أن رأيت أبا حديرٍ ... صريع القوم حق به حذاري
ولم أك نافسًا شيئًا عليه ... ولم يك نافعي إلا اتياري
تركت الطير عاكفةً عليهم ... كما عكف النساء على دوار
ولولا الليل عاد لهم بنحسٍ ... بأشأم طائرٍ راقٍ وجار
1 / 14
فإما تقتلن أبا حديرٍ ... فإني قد شفى نفسي انتصاري
تركن عبيدة الضبي يكبو ... على الكفين مرتمل الإزار
قال ابن السيرافي قال العجير السلولي
فباتت هموم الصدر شتى يعدنه ... كما عيد شلوٌ بالعراء قتيل
فبيناه يشري رحله قال قائلٌ ... لمن جملٌ رخو الملاط طويل
محلى بأطواقٍ عتاقٍ كأنها ... بقايا لجينٍ جرسهن صليل
قال س: هذا موضع المثل:
مالك من بثينة إلا ما ترى
شوقٌ يعنيك وغربات النوى
ليس للمستفيد مما أورد ابن السيرافي في هذه الأبيات إلا هناتٌ وهنابث وتخاليط، لا يحلى الإنسان منها بطائل.
وما هذا الشعر للعجير السلولي، ولا الأبيات مستوية النظام. بل الصواب أنها للمخلب الهلالي كما أنشدناه أبو الندى ﵀، وقال لنا: ليس في الأرض بدوي إلا وهو يحفظ هذه القصيدة:
وجدت بها وجد الذي ضل نضوه ... بمكة يومًا والرفاق نزول
بغى ما بغى حتى أتى الليل دونهم ... وريحٌ تعلي بالتراب جفول
أتى صاحبيه بعد ما ضل سعيه ... بحيث تلاقت عامرٌ وسلول
فقال احملا رحلي ورحليكما معا ... فقالا له كل السفاه تقول
فقال احملني واتركا الرحل إنه ... بمنزلةٍ والعاقبات تدول
فقالا معاذ الله. فاستر بعتهما ... ورحليهما مهريةٌ وذمول
شكا من رفيقيه الجفاء ونقده ... إذا قام يستام الركاب قليل
فبيناه يشري رحله قال قائل ... لمن جملٌ رخو الملاط ذلول
محلى بأطواقٍ عتاقٍ ترشه ... أهلة جنٍّ بينهن فصول
فهلل حينًا تم راح بنضوه ... وقد حان من شمس النهار أفول
فما تم قرن الشمس حتى أناخه ... بقرنٍ وللمستعجلات زليل
فلما طوى الشخصين وازور منهما ... ووطنه بالنقر وهو ذلول
فقاما يجران الثياب كلاهما ... لما قد أسرا بالخليل قبيل
فقال ارفعا رحليكما وترفعا ... فماء الأداوى بالفلاة قليل
قال: وللمخلب هذا مقطعات طريفة، فمنها قوله:
بدهنا الملاح الأدم بالصرم بعدما ... جرى بيننا مستطرفات الوسائل
أبى القلب إلا حبه غير معجلٍ ... ذوات الثنايا والفروع الموائل
عريضات أقطانٍ مريضات أعينٍ ... مليحات ما تبدي ثنايا الجدائل
كأن جليًا من أباريق فضةٍ ... إذا قمن يبدو من خلال الغلائل
أولئك يسبين الفتى الغر نفسه ... ويوثقن من نازعنه في الحبائل
وهو القائل أيضًا:
أما وجلال الله لو كان يشترى ... وصالٌ لأغلينا إذًا بوصالك
ولو يشترى قرب النوى لاشتريته ... بسوم غلاءٍ أو بحكم رجالك
ولو يقتدي من غربة الدار واحدٌ ... بشيءٍ لأغليت الفدا من زيالك
ولو ذبحوا بالسيف أوجد واجدٍ ... بكم، أيقنت نفسي بأني ذلك
فجني قلوص المالكي على الوجا ... إلى أرض حبى في حرود نعالك
فلله إن بلغت رحلي لأهلها ... بهضب الصفا أن تطلقي من حبالك
وألا تخطي سبسبًا بعد سبسبٍ ... وألا تبيتي ليلةً في عقالك
وأن تهبطي ذات السليم فتسمعي ... بها صوت قرقار الشبا من جمالك
قال ابن السيرافي قال عامر بن جوين الطائي
ألم تركم بالجزع من ملكات ... وكم بالصعيد من هجانٍ مؤبله
ولم أر مثلها خباسة واحدٍ ... ونهنهت نفسي بعد ما كدت أفعله
قال: الجزع: منعطف الوادي، وملكات جمع ملكة، والصعيد: وجه الأرض.
قال س: هذا موضع المثل:
رويد يأتين على سواج
هناك يبدو خبر الأعلاج
والقين والكربج والنساج
1 / 15
هذا أرقع ما جاء به ابن السيرافي، ولو كان له حياء لما استحسن لنفسه أن يدخلها في مثل هذا التصحيف الشنيع، ولكن لا دواء لمن لا حياء له.
والصواب: ما بالجزع من ملكان، وملكان: جبل من بلاد بني طيئ، وكان يقال له: ملكان الروم، لأن الروم كانت تسكنه في الجاهلية مرة.
وأنشد أبو الندى ﵀:
أبى ملكان الروم أن يشكروا لنا ... ويومٌ بنعف القور لم يتصرم
قال: ونظير ملكان في الوزن ورقان، وهو الذي يقول فيه الخضري - وهو من بني خضر بن محارب بن خصفة -:
لو أن الشم من ورقان زالت ... وجدت مودتي بك لا تزول
فقل لحمامة الخرجاء سقيًا ... لظلك حيث يدركك المقيل
ونظيره أيضًا بدلان، وهو الذي ذكره امرؤ القيس:
ليالينا بالنعف من بدلان
ونظير ذلك كثير.
وهذه الأبيات قالها عامر بن جوين الطائي في هند أخت امرئ القيس بن حجر، لما هرب من النعمان بن المنذر، ونزل عليه، فأراد عامر الغدر به، فتحول عنه. وهي:
أأظعان هندٍ تلكم المتحمله ... لتحزنني أم خلتي متدلله
فما بيضةٌ بات الظليم يحفها ... ويفرشها زفًا من الريش مخمله
ويجعلها بين الجناح ودفه ... إلى جؤجؤ جاف بميثاء حومله
بأحسن منها يوم قالت: ألا ترى ... تبدل خليلًا إنني متبدله
ألم تر ما بالجزع من ملكان ... وما بالصعيد من هجان مؤبله
فلم أر مثلها خباسة واحد ... ونهنهت نفسي بعد ما كدت أفعله
قال ابن السيرافي قال الشماخ
وواعدتني ما لا أحاول نفعه ... مواعيد عرقوبٍ أخاه بيترب
يترب: موضع على مثال يرمع وهو غير يثرب.
قال س: هذا موضع المثل:
يحيي البيض ويقتل الفراخ
كثيرًا ما يلهج ابن السيرافي بالتصحيف الفاحش، ويدع الصريح الصر نقح جانبًا.
يترب ها هنا في وزن يرمع كما ذكره ابن السيرافي - تصحيف فاحش، والصواب في هذا البيت يثرب وهي مدينة النبي ﷺ، كانت تسمى في الجاهلية يثرب، وثم جرت قصة عرقوب. فأما يترب وبلاد فهما بلدان قريبان من حجر اليمامة، تجود سهمانها. والبيت من أبيات الشماخ وهي:
أواعدتني ما لا أحاول نفعه ... مواعيد عرقوبٍ أخاه بيثرب
وواعدتني عاديةً بين جولها ... وبين رجاها نصف شأوٍ مغرب
تميل كما مالت على أخواتها ... خرود عذارى في خباء مطنب
وأنشدنا أبو الندى ﵀ في مواعيد عرقوب - وهو بيت مثل -:
كأن مواعيد القضاعي جاره ... مواعيد عرقوب أخاه بيثرب
قال ابن السيرافي قالت ليلى الأخيلية
إن الخليع ورهطه من عامرٍ ... كالقلب ألبس جؤجؤًا وحزيما
لا تقربن الدهر آل مطرفٍ ... إن ظالمًا فيهم وإن مظلوما
قال: تمدح بذلك همام بن مطرف، وهو من ولد الخليع.
قال س: هذا موضع المثل:
إن المحامين عن المجد قلل
معرفة مثل هذا الشعر وما فيه من النسب - عزيز، ليس البيت لليلى الأخيلية، بل هو لحميد بن ثور الهلالي في كلمته التي أولها:
لما تخايلت الحمول حسبتها ... دومًا بأيلة ناعمًا مكموما
وهي أبيات.
ولم يذكر ابن السيرافي الخليع، أنه من أي الناس. وهو من بني عقيل، والخلعاء: عمرو وعامر وعويمر من بني ربيعة بن عقيل، وإياهم عنى الخطيم اللص بقوله:
فلو كنت من رهط الأصم بن مالكٍ ... أو الخلعاء أو زهير بني عبس
إذًا لرمت قيسٌ ورائي بالحصى ... وما أسلم الجاني لما جر بالأمس
قال ابن السيرافي قال حميد بن ثور
وما هي إلا في إزار وعلقةٍ ... مغار ابن همامٍ على حي خثعما
قال: هو عمرو بن همام بن مطرف من الخلعاء، كانت خثعم قتلت أباه همام بن مطرف، فأتى نجدة بن عامر الحروري فأظهر له أنه على رأيه، وسأله أن يبعث معه ناسًا من أصحابه، فأرسل معه نجدة خيلًا، فأغار على خثعم فأصاب منهم فأدرك بثأر أبيه، وصار رأسًا في الخوارج. ولما قضى حاجته رجع إلى قومه فنزل فيهم، ثم وضع السيف في النجدية.
قال س: هذا موضع المثل:
1 / 16
قد غرني برداك من خدافلي ... يا ليت من خدافلي على حري
غر ابن السيرافي قصيدة حميد الميمية، التي أولها:
سل الربع أنى يممت أم سالم ... وهل عادةٌ للربع أن يتكلما
فتوهم أن هذا البيت منها، والكمر أشباه الكمر والبيت للطماح بن عامر ابن الأعلم بن خويلد العقيلي، وهو شاعر مجيد، وله مقطعات حسان، وهو القائل في كلمة له يفتخر فها:
وسارا من الملحين ملحي صعايدٍ ... وتثليث سيرًا يمتطي فقر البزل
فما قصرا في السير حتى تناولا ... بني أسدٍ في دراهم وبني عجل
يقودون جردًا من بنات مخالسٍ ... وأعوج تقفى بالأجلة والرسل
قال الطماح العقيلي:
عرفت لسلمى رسم دارٍ تخالها ... ملاعب جنٍ أو كتابًا منمنما
وعهدي بسلمى والشباب كأنه ... عسيبٌ نما في ريةٍ فتقوما
وما هي إلا ذات وثرٍ وشوذرٍ ... مغار ابن همامٍ على حي خثعما
جويريةٌ ما أخلفت من لفافة ... ولا الثدي منها ما عدا أن تحلما
تعلقتها وسط الجواري غريرةً ... وما حليت إلا الجمان المنظما
إلى أن دعت بالدرع قبل لداتها ... وعادت ترى منهن أبهى وأفخما
وغص سواراها فما يألوانها ... إذا بلغا الكفين أن يتقوما
وعادت كهيلٍ من نقًا متلبدٍ ... وأفعمت الحجلين حتى تفصما
قال ابن السيرافي قال حريث بن جبلة العذري
حتى كأن لم يكن إلا تذكره ... والدهر أيتما حالٍ دهارير
قال س: هذا موضع المثل:
اختلط الليل بألوان الحصى
خلط ابن السيرافي في هذا الاسم، إنما هو جبلة بن الحويرث العذري، وقد أورد ابن السيرافي تمام الأبيات.
قال ابن السيرافي قال عمرو بن قميئة
قد ساءلتني بنت عمروٍ عن ال ... أرضين إذ تنكر أعلامها
لما رأت ساتيد ما استعبرتلله در اليوم من لامها
تذكرت أرضًا بها أهلها ... أخوالها فيها وأعمامها
قال: ساتيد ما جبل، واستعبرت بكت.
قال س: هذا موضع المثل:
من لم يسمن جوادًا كان يركبه ... في الخصب قام به في الجدب مهزولا
كنت قد أعلمتك أن من لم بمارس علم المنازل لم يفلح في مثل هذا من الشعر، وذلك أن المستفيد إذا لم يعرف ساتيدما أي بلاد الله، لم يتصور معنى هذا البيت، وسبب بكائها، ومعنى أنها لما فارقت بلاد قومها، ووقعت إلى بلاد الروم بكت وندمت على ذلك.
وإنما أراد عمرو بهذه الأبيات نفسه لا بنته، وإنما كنى عن نفسه بها. وساتيد ما: جبل ما بين ميا فارقين وسعرت. كذا أخبرناه أبو الندى.
وقال عمرو هذا الشعر، حين خرج مع امرئ القيس إلى الروم، وقصتهما معروفة.
قال ابن السيرافي قال ضابئ بن الحارث البرجمي
من يك أمسى بالمدينة رحله ... فإني وقيارٌ بها لغريب
وما عاجلات الطير تدني من الفتى ... نجاحا ولا عن ريثهن يخيب
قال: قيار اسم جمله.
قال س: هذا موضع المثل:
بدلٌ من البازي غرابٌ أبقع
جعل ابن السيرافي في مكان فرسٍ جواد جملًا ثفالًا، وقيار اسم فرسه لا اسم جمله، وهو الفرس الذي أوطأه ضابئٌ بعض صبيان أهل المدينة حتى أخذه عثمان وحبسه.
قال ابن السيرافي قال شاعر من همدان
يمرون بالدهنا خفافًا عيابهم ... ويخرجن من دارين بجر الحقائب
على حين ألهى الناس جل أمورهم ... فندلًا زريق المال ندل الثعالب
قال: زريق نداء، وهي قبيلة، كأنه قال: اندلي يا زريق المال. والدهناء: موضع، ودارين موضع أيضًا، وقوله: على حين ألهى الناس جل أمورهم: يريد حين اشتغل الناس بالفتن والحروب. وقيل: إنه يصف قومًا تجارًا، يحملون المتاع من دارين ويبيعونه، ويمرون بالدهناء بعدما باعوا متاعهم. وقيل: إنه يصف لصوصًا، يأتون إلى دارين فيسرقون ويملأون حقائبهم، ثم يفرغونها ويعودون إلى دارين.
قال س: هذا موضع المثل:
يسقيه من كل يدٍ بكاس ... فالقلب بين طمعٍ وياس
1 / 17
تكلم ابن السيرافي بكل ما عنده من الكلام في هذا الشعر، إلا أنه لم يفلح ولم ينجح، وذلك لما قلت لك: إن من لم يرض نفسه في علم الأنساب والأيام، فاعترض على مثل هذا الشعر بكلامه، أهدف نفسه لألسنة الطاعنين. وإذا لم يعرف المتأدب القائل لهذا الشعر، ولا من قيل فيه، ولا القبيل المخاطب به: من هم، وممن هم - لم يتحقق معاني هذه الأبيات.
وكان من قصتها أن النعمان بن العجلان بن النعمان بن عامر الزرقي وزريق هو ابن عامر بن زريق بن عبد حارثة بن مالك بن غضب بن جشم بن الخزرج - ولاه علي ﵇ البحرين، فقال رجل من الأنصار:
أرى فتنةً قد ألهت الناس عنكم ... فندلًا زريق المال ندل الثعالب
فإن ابن عجلان الذي قد علمتم ... يبدد مال الله فعل المناهب
يمرون بالدهنا خفافًا عيابهم ... ويخرجن من دارين بجر الحقائب
فإذا عرفت القصة ونظام الأبيات، لاح لك المعنى بحقيقته، ونادى على نفسه.
قال ابن السيرافي قال الشاعر
وأنت مكانك من وائلٍ ... مكان القراد من است الجمل
يعني أنه أخس قبائل بكر بن وائل وأوضعها، فإنه في خسة المنزلة وسقوطه لا يلتفت إليه، مثل القراد يتعلق باست الجمل.
قال س: هذا موضع المثل:
فلو كان يكفي واحدًا لكفيته ... ولكن بريشٍ ما يطيرن طائر
كيف يكون هذا المهجو أخس بكر بن وائل وهو رجل من بني تغلب، وهذا أيضًا لجهل ابن السيرافي بالنسب الذي لا بد منه في معرفة مثل هذا من الشعر.
وقائل البيت عتبة بن الوغل التغلبي، يهجو كعب بن جعيل التغلبي، فهو إذًا أخس بني تغلب لا أخس بني بكر بن وائل. وهي قصيدة مليحة، أولها:
عسى أن تريع بسلمى النوى ... ويجمع ربي شتيت الأمل
سبتني بأشنب شتى النبا ... ت عذب المقبل صافٍ رتل
وفيها يقول:
وسميت كعبًا بشر العظام ... وكان أبوك يسمى الجعل
وأنت مكانك من وائلٍ ... مكان القراد من است الجمل
أي كمكان القراد، أي أنت في مآخير القوم.
قال ابن السيرافي قال الراجز
إذا أكلت سمكًا وفرضا
ذهبت طولًا وذهبت عرضا
قال: كأنه قال: ذهبت في جهة طويلًا، وذهبت في جهة عريضًا، وأراد أن أكله السمك وهذا الضرب من التمر قد أطاله وأعرضه وأسمنه.
قال س: وهذا موضع المثل:
قد أدبر الأمر حتى ظل محتبيًا ... أبو حبيرة يفتي وابن شداد
الذي يدل على جهل ابن السيرافي بهذا الرجز، وإقدامه على ما لم يكن يعرفه وتصديه لطلب التصدر بغير كفاية - أنه جاء بهذين البيتين متفرقين لا متوالين، ثم تفسيره له: أن هذا الضرب من السمك والتمر قد أطاله وأعرضه وأسمنه. وما أجود ما قال القائل:
من كل داء طبيب يستطب به ... إلا الحماقة ما يشفي مداويها
نظام الأبيات على ما أملاه علينا أبو الندى - وزعم أنها من مداعبات الأعراب -:
لو اصطبحت قارصًا ومحضا
ثم أكلت رابيًا وفرضا
والزبد يعلو بعض ذاك بعضا
ثم شربت بعده المرضا
سمقت طولًا وذهبت عرضا
كأنما آكل مالًا قرضا
قال أبو الندى: هذا مثل قولهم:
إذا تغديت وطابت نفسي
فليس في الحي غلام مثلي
إلا غلامٌ قد تغدى قبلي
وقوله: سمقت طولًا وذهبت عرضا، يعني من الخيلاء.
قال ابن السيرافي قال رجل من خثعم
عزمت على إقامة ذي صباحٍ ... لأمرٍ ما يسود من يسود
قال: يريد عزمت على الإقامة إلى وقت الصباح، لأني رأيت الرأي والحزم يوجبان ذلك.
قال س: هذا موضع المثل:
كل فضل من أبي كعبٍ درك
القدر الذي ذكره ابن السيرافي في تفسير هذا البيت كثير منه، وذلك أنه لم يعرف قائل البيت، ولا السبب الذي أوجب قوله:
عزمت على إقامة ذي صباح
وهذا البيت هو لأنس بن مدرك الخثعمي، وذلك أنه غزا هو ورئيس آخر من قومه بعض قبائل العرب متساندين، فلما قربا من القوم أمسيا، فباتا حتى جن عليهم الليل، فقام صاحبه فانصرف ولم يغنم، وأقام أنس حتى أصبح، فشن عليهم الخيل، فأصاب وغنم وغنم أصحابه. فهذا معنى قوله:
عزمت على إقامة ذي صباح
وهو آخر الأبيات.
1 / 18
قال أبو الندى: كان أنس مجاورًا لبني الحارث بن كعب، فوجد أصحابه منهم جفاءً، فأرادوا أن يفارقوهم، فقال لهم: أقيموا إلى الصباح. فلما ظفر بنو الحارث ببني عامر يوم فيف الريح، قال عند ذلك ما قال. وأول الأبيات:
دعوت بني قحافة فاستجابوا ... فقلت ردوا فقد طاب الورود
دعوت إلى المصاع فجاوبوني ... بوردٍ ما ينهنهه المزيد
كأن غمامةً برقت عليهم ... من الأصياف ترجسها الرعود
عزمت على إقامة ذي صباحٍ ... لأمرٍ ما يسود من يسود
قال ابن السيرافي قال جرير
أبا لأراجيز يا بن اللؤم توعدنيوفي الأراجيز خلت اللؤم والخور
قال: أراد بهذا الكلام عمر بن لجأ، يقول: أتهددني بالأراجيز، وفي الأراجيز خلت لؤم الشعراء وخورهم.
قال س: هذا موضع المثل:
لا در در ابني قريعة بعدها ... في بدء وافدةٍ ولا تعقيب
لم يوفق ابن السيرافي للصواب في هذا البيت، بل أخطأ فيه من جهتين: الأولى أنه نسب البيت إلى جرير، وإنما هو للعين المنقري.
والثانية أنه غير القافية من الفشل إلى الخور.
وأخطأ من جهة ثالثة أيضًا، وهو أنه جعل هذا البيت هجاء لعمر بن لجأ التيمي، وهو هجاء لرؤبة بن العجاج.
والأبيات للعين المنقري يهجو رؤبة، وهي:
إني أنا ابن جلا إن كنت تعرفني ... يا روب والحية الصماء في الجبل
أبا الأراجيز يا بن الوقب توعدني ... وفي الأراجيز بيت اللؤم والفشل
ما في الدوابر في رجلي من عقلٍ ... عند الرهان ولا أكوى من العفل
وكانت أم مالك بنت سعد من كلب، وكانت ضرائرها تسميها عفيل، ورؤبة من بني مالك بن سعد، وبنو مالك بن سعد هؤلاء يسمون بني العفيل.
قال ابن السيرافي قال الشاعر
كونوا أنتم وبني أبيكم ... مكان الكليتين من الطحال
قال: يقول: اقربوا من بني أبيكم وعاضدوهم، وليكن مكانكم منهم كمكان الكليتين من الطحال.
قال س: لا أعرف هذا البيت على هذا الإنشاد، وأعرف " مكان الكليتين من الطحال " في أبيات لشعبة بن قمير المازني، ولعل هذا ذاك فغير. وأبيات شعبة:
فأبلغ مالكًا عني رسولًا ... وما يغني الرسول إليك مال
تخادعنا عنا وتوعدنا رويدًا ... كدأب الذئب يأدو للغزال
فلا تفعل فإن أخاك جلدٌ ... على العزاء فيها ذو احتيال
وأنا سوف نجعل موليينا ... مكان الكليتين من الطحال
ونغنى في الحوادث عن أخينا ... كما تغنى اليمين عن الشمال
قال ابن السيرافي قال الشماخ
أقب كأن منخره إذا ما ... أرن على تواليهن كير
له زجلٌ كأنه صوت حادٍ ... إذا طلب الوسيقة أو زمير
قال س: هذا موضع المثل:
ضرط البلقاء جالت في الرسن
هذا باطل، وليس البيت للشماخ، إنما هو لربيع بن قعنب الفزاري.
قال ابن السيرافي قال مضرس الأسدي
كلابيةٌ وبريةٌ حبتريةٌ ... نأتك وخانت بالمواعيد والذمم
قال: في الكتاب حبترية بباء وتاء معجمة بنقطتين. وفي شعره حنثرية بنون وثاء منقوطة بثلاث نقط، ونأتك يعني نأت عنك.
قال س: هذا موضع المثل:
حقرته حتى إذا ظهري عرق ... خليت عنه وهو ناجٍ منطلق
حام ابن السيرافي على الصواب ولم يرد، وذاك أنه ذكر أن في الكتاب حبترية بباء وتاء معجمة بنقطتين، ثم قال: وفي شعره حنثرية بنون وثاء منقوطة بثلاث نقط، ثم سكت ولم يرجح الصواب على الخطأ، حتى لا يدري المستفيد أيًا يأخذ وأيًا يدع، وهذه رقاعة تامة.
والصواب في بيت الكتاب حنثرية بالنون والثاء المعجمة ثلاثًا من فوق، وهو حنثر بن وهب بن وبر بن الأضبط بن كلاب.
وفي تميم أيضًا - وليس هذا موضعه - حنثر بن غوي بن سلامة بن غوي ابن جروة بن أسيد. وفي أسد أيضًا حنثر بن كاهل بن أسد.
فأما حبتر بالباء والتاء المعجمة بثنتين من فوق، فهو حبتر بن عدي بن سلول من خزاعة. ومثل قول مضرس في الترتيب، قول سنجاع بن ركاض السلمي، أنشدناه أبو الندى:
1 / 19
أبى القلب إلا حبها عامريةً ... نأت دارها عني ولست أنالها
ضبابيةً حصينةً أرطويةً ... كثيرًا بأكناف الأراك احتلالها
وما هي إلا أن توائم غارةٌ ... ترى الخيل فيها مستقرًا رعالها
قال ابن السيرافي قال رؤبة
يا دار عفراء ودار البخدن
بك المهامن مطفلٍ ومشدن
قال: البخدن يروى على وجهين: بخدن على وزن جعفر، وبخدن على وزن زبرج.
قال س: هذا موضع المثل: الذليل من تأكله النعامه، وتأكله الرخمة والهامه الأحمق من يغره هذا القول من ابن السيرافي، كيف يجوز: البخدن والبخدن وهو اسم علم، والأسامي لا تزال عن قواعدها، وكما لا يجوز أن تقول كلثم بكسر الكاف والثاء مكان كلثم، فكذلك لا يجوز البخدن بكسر الباء والدال.
قال ابن السيرافي قال امرؤ القيس
لنعم الفتى تعشو إلى ضوء ناره ... طريف بن مالٍ ليلة الجوع والخضر
قال: الشاهد فيه على ترخيم مالك في غير النداء.
قال س: هذا موضع المثل: ذروا الغزو إلا أن تبيعوا وتمعسوا لم يكن ابن السيرافي من رجال الأنساب، فغلط في قول طريف بن مالك غلطًا لا يلتقي طرفاه، كيف يكون مال ترخيم مالك كما زعم، وإنما اسم الرجل مل، وهو طريف بن مل بن عميرة بن تيم بن عوف بن مالك بن ثعلبة من طيئ.
قال ابن السيرافي قال الفرزدق
ورثت أبي أخلاقه عاجل القرى ... وضرب عراقيب المتالي شبوبها
قال: الشبوب: السيف.
قال س: هذا موضع المثل:
تبجحي بجاحه ... فليس منك راحه
فلما يجيء ابن السيرافي بشيء فيه خير، متى سمي السيف شبوبًا، وإنما هو تصحيف.
والصواب: سبوبها بالسين غير المعجمة، يعني أنه يعرقب الإبل، والسب: القطع. ومنه قول ذي الخرق:
فما كان ذنب بني مالكٍ ... بأن سب منهم غلام فسب
بأبيض ذي شطبٍ باترٍ ... يتر العظام ويبري العصب
ويعني ب سبوبها نفس الممدوح.
قال ابن السيرافي قال لبيد
نحن بني أم البنين الأربعه
ونحن خير عامر بن صعصعه
قال: أم البنين هي امرأة مالك بن جعفر بن كلاب، ولدت له خمسة بنين: معاوية بن مالك، ويقال له معود الحكماء، وعامر بن مالك ملاعب الأسنة، وسلمى بن مالك نزال المضيق، وربيعة بن مالك ربيع المقترين وهو أبو لبيد، والطفيل بن مالك فارس قرزل. فاحتاج لبيد لأجل الشعر فقال: أم البنين الأربعة، وهم خمسة.
قال س: هذا موضع المثل: حوابة بلقاء تروي صادرا الحوابة: الدلو. مثل هذا من النسب يكد ابن السيرافي وأمثاله ممن لم يعمل في علم النسب، ولم يجهد نفسه فيه.
أخطأ ابن السيرافي في قوله: إن سلمى بن مالك هو من ولد أم البنين، لأن ولد أم البنين خمسة: عبيدة وطفيل ومعاوية معود الحكماء، وعامر ملاعب الأسنة، وربيعة أبو لبيد الشاعر - بنو مالك بن جعفر، وأمهم أم البنين بنت عمرو بن عامر بن صعصعة.
فأما سلمى وعتبة ابنا مالك فأمهما هند، امرأةٌ من بني سليم. ولم يكن عبيدة بن مالك مثل إخوته في الشهرة والنباهة، إلا أنه صدق وبر. وإنما ذكر لبيد الأربعة الأعيان.
قال ابن السيرافي قال قيس بن ذريح
تكنفني الوشاة فأزعجوني ... فيا للناس للواشي المطاع
قوله: " فيا للناس للواشي المطاع " أراد أنها تطيعهم إذا حملوها على هجره والبعد عنه.
قال س: هذا موضع المثل: اقلب قلاب قلب ابن السيرافي معنى هذا البيت من الصواب إلى الخطأ، وإنما المطيع الواشي ههنا قيسٌ لا لبنى، وذلك أنه اجتمع عليه أبوه وجماعةٌ من قومه حتى طلق لبنى، فندم، فأنشأ يقول في كلمة له طويلة:
واحزنا وعاودني رداعي ... وكان فراق لبنى كالخداع
تكنفني الوشاة فأزعجوني ... فيا للناس للواشي المطاع
فأصبحت الغداة ألوم نفسي ... على شيء وليس بمستطاع
كمغبونٍ يعض على يديه ... تبين غبنه بعد البياع
قال ابن السيرافي قال العجير السلولي
لا تجعلي ضيفي ضيفٌ مقربٌ ... وآخر معزولٌ عن البيت جانب
ولا تجعلي لي خادمًا لا أحبه ... فتأخذني من ذاك حمى وصالب
1 / 20