ثم إن المشاكل التي تعرض على رجال السياسة في كل يوم لا تحل بالبراهين العقلية، وكيف تثار مثلا مسألة نشوء الرأي واستعجاله وزواله؟ وكيف يستبدل عنصر عاطفي بآخر؟ وما وسائل التأثير في الإرادة غير الشاعرة للأفراد والأمم؟
وتكون الكتب الكلاسية
1
صفرا تقريبا حول هذه المسائل، ولا تصلح المبادئ التي تعلمها لغير الرسائل المحفلية التي لا تؤثر في الجموع، ويجب أن يقوم فن الحكم على مخاطبة العوامل الوجدية والجماعية والعاطفية التي تقود الناس، وعلى قلة العقل الذي يندر رجوع أعاظم سادة العالم إليه، فهؤلاء السادة كانوا يعلمون بغريزتهم أن العلم وليد العقل، وأن المشاعر والمعتقدات هي التي أوجدت التاريخ.
ولا تشاهد نتائج النظم السياسية حالا؛ وذلك لأنها تصبح عللا بدورها بعد أن كانت معلولات، ومن ذلك أن قرر في عهد هنري الرابع دفع أعضاء البرلمانات ضريبة سنوية إلى الملك تجعلهم أصحابا لمنصبهم، فلم يلبث هذا أن أسفر عن إمكانهم توجيه اعتراضات كثيرة إلى قرارات السلطة الملكية.
والوقائع التي من هذا النوع كثيرة، فلما جعلت النظم الديمقراطية أمر الخدمة العسكرية عاما أدت إلى مذابح أعظم بمراحل من التي سبقتها سفكا للدماء. •••
قد يلوح من مبتذلات التاريخ أن يقال إن النظم السياسية إذ تسيطر على حياة الأمم يجب أن تكون ملائمة لمزاجها النفسي، وعلى العكس تدل الملاحظة على أن هذه الحقيقة الجوهرية كانت مجهولة كثيرا لدى كثير من رجال السياسة الذين عهد إليهم في تدبير شئون الأمم، وجهل مثل هذا أدى إلى اكتواء الأمريكيين بحرب الانفصال الهائلة، وهو يهدد فرنسة بضياع مستعمراتها.
ولم يستطع شيء بعد أن يضعضع الوهم الهائل الذي يسوقنا إلى فرض ما يسميه النظريون: «نعم الحضارة»، على الأمم التي ثبتت طباعها وعاداتها في ماض طويل.
والأمثلة كثيرة منذ زمن على الفعل المخرب الذي يمكن أن تصاب به أمة باعتناقها نظما سيئة الملاءمة لمزاجها النفسي، فإذا عدونا الحرب الأهلية التي ما انفكت تقلب الصين رأسا على عقب منذ سنين كثيرة، هذا البلد الإقطاعي منذ القرن الثاني عشر، هذا البلد الذي يحاول انتحال نظم القرن العشرين، وجدنا مثال جمهورية هايتي الزنجية من أبرز الأمثلة على ذلك، فقد أدى اعتناقها النظم الأوربية إلى تعاقب أعمال النهب والقتل والتخريب فيها، وكاد ذلك يقضي على أمة بلغت درجة كبيرة من اليسر فيما مضى لو لم يتدخل الأمريكيون في الأمر أخيرا ليعيدوا الأمن إلى نصابه بعض الإعادة بين هذا الاضطراب، ويحولوا دون رجوع الجزيرة إلى حالها الوحشي.
حتى إنه إذا ما وقف عند الناحية العملية حصرا يرى مقدار الفائدة في معرفة الأسس النفسية للنظم السياسية التي تستطيع أن تلائم الأمة، وذلك أن المجتمعات أجهزة معقدة كالموجود الحي، وأن من الضلال أن يحاول - كما لا يزال بعض النظريين يحاول - تغييرها بقوة المراسيم، فليست القوانين الإصلاحية التي تصوت لها البرلمانات على عجل غير تبلر الأوهام تبلرا وقتيا خطرا في الغالب.
Page inconnue