وتدل الأمثلة السابقة وما إليها على أن حياة الأمم السياسية تبقى خاضعة لضرورات عامة تسيطر على التاريخ في الحقيقة، وإن كان من الممكن أن تعاني بعض المؤثرات العابرة.
وكذلك يجب أن تذكر مجاري الآراء الجماعية، أي: عزائم العدد بين تلك الضرورات الموجدة للنظم السياسية، واليوم تصبح هذه المجاري قوية شيئا فشيئا، فتقلبات النظام السياسي في فرنسة تنشأ منذ 150 سنة عن تموجات الرأي الكبرى. •••
وتكشف دساتير الأمة المدونة عن شيء قليل من حياتها السياسية الحقيقية على العموم، وتجد لمعظم الجمهوريات الإسبانية الصغيرة بأمريكة نظما سياسية قريبة جدا من نظم الولايات المتحدة، ومع ذلك تفصل هوة بين وضع جزأي العالم الجديد، فترى الفوضى من ناحية، وترى السعادة النامية من الناحية الأخرى.
ويدل هذا المثال وما إليه على أن تطبيق نظم الشعب السياسية، لا هذه النظم، هو الذي يجب أن يعرف.
وتغيب دراسة الحقائق المستترة تحت الظواهر عن المؤرخين في الغالب، وأمس فقط اكتشف رقباء نفاذون في الأمريكتين مثلا فروقا نفسية منكورة تماما، فهنالك أمكن أن يعرف مقدار اختلاف مبادئ الولايات المتحدة السياسية والاجتماعية عن مبادئ الجمهوريات اللاتينية الجنوبية، على الرغم من بعض المشابهات.
وإذا كنا قد اخترنا حال الأمريكتين الخاص فذلك لأن هذا الحال يعد مثلا بارزا على الأغاليط التي يمكن أن تؤتى عند الاقتصار على دراسة النظم السياسية في الكتب بدلا من أن يبحث عن الوجه الذي طبقت به.
ولم تعرف أوربة بعد أن تحقق كالولايات المتحدة جعل النظم القديمة ملائمة للضرورات الحديثة، وذلك لبقائها خاضعة لقوى وراثية ولأوهام النظريين التي تصادم ما يقيد الحياة العصرية من تطور اقتصادي. •••
ومع أن النظم تنشأ عن ضرورات مستقلة عن العقل كثيرا في بعض الأحيان، فإن كثيرا من المفكرين في البلاد اللاتينية يظلون قانعين بأن المنطق العقلي ينطوي على قدرة إصلاحية.
وأمس فقط زلزل هذا الاعتقاد قليلا، ومن ذلك أن أحد رؤساء وزرائنا الذين يعدون من أكثر أقطاب السياسة نفوذا في هذا الزمن، قد أعرب بالعبارة الآتية عما تم في نفسه من تطور حول هذه المسألة الأساسية: «أراني بعد أن عشت في المطلق زمنا طويلا، مضطرا إلى الاعتراف بأن السياسة لم تكن غير ملاءمة لمقتضيات الوقت، وقد انطلقت من المنطق الخالص فانتهيت إلى بصري بأنه خال من كل تأثير في الحياة، وفي الغالب يؤدي المنطق الخالص إلى حبوط جلي، فلا تجري الأمور كما يشير العقل، وتكون نهاية العالم في اليوم الذي يسيطر العقل فيه على العالم على ما يحتمل، وذلك لأننا نسير باندفاعات شهواتنا، وليس العقل إلا وميضا باردا لا يحفز إلى العمل.»
حتى في حقل العلم يعلم هذا الرأي حول شأن العقل من قبل رجال من ذوي الفضل، وإليك ما كتبه إلي هنري بوانكاريه الشهير عن هذا الموضوع: «لا يوجد برهان عقلي يمكن أن ينفذ كنه الأشياء، فترى المنطق صالحا لأساتذة المدرسة.»
Page inconnue