وإذا عدوت النظم التي هي وليدة ضرورات الحياة وجدت نظما أخرى نشأت عن المعتقدات التي ظهرت في مختلف أدوار التاريخ، فقد حولت البدهية والإسلام والنصرانية إلخ، نظم بعض الأمم السياسية، ومن ثم مزاجها النفسي.
وقد أثرت الفكرة النصرانية في سني القرون الوسطى الألف في أدق جزئيات الحياة الأوربية، وهنالك كان يوجه السلوك عنصران أساسيان: الفوز بجنة زاخرة بملاذ أبدية، واجتناب عذاب النار. وقد أسفرت هذه المناحي التي دامت طويلا عن نظم بلغت من القوة ما وحدت به الأفكار والمشاعر والعزائم. •••
ومن أعظم مصاعب الحياة الاجتماعية أن تلائم النظم ما ينشأ عن الأحوال الخاصة من ضرورات ملاءمة تدريجية. ومما رأيناه كون النظام الإقطاعي مثلا قد صدر عن ضرورات تاريخية متجبرة، ولا سيما ضرورة الحماية تجاه الوعيد الخارجي، فلما زالت الأحوال التي جعلت ذلك النظام ضروريا لم يبق غير مساوئه.
وهكذا عين وضع الصناعة الخاص بالمدن الإيطالية في القرون الوسطى ظهور النقابية ونشوءها، وقد أسفرت مساوئ هذا النظام وصولاته عن فوضى طويلة المدى أدت إلى سقوط مختلف الجمهوريات بالتتابع، ومنها جمهورية فلورنسة التي كانت أكثرها ازدهارا، وقد خضعت هذه الجمهورية لنير آل مديسيس عن ضرورات نفسية مماثلة للتي ساقت بعض الدول الأوربية حديثا إلى معاناة نظم دكتاتورية.
وضرورات الزمن أيضا هي التي أوجبت في القرن الخامس عشر انصهار دويلات في دول عظيمة كإسبانية وفرنسة وإنكلترة، إلخ.
ومتى تصلبت شبكة التقاليد القديمة كثيرا لم يمكن تحقيق الملاءمة قط إلا بثورة عنيفة، وهذه هي الحال التي كانت عليها فرنسة أيام ثورتها الكبرى. فبما أن الملكية التي قامت بضم دويلات مختلفة كبورغونية وبريتانية والبروفنس، إلخ، حائزة كل منها طبائعها وعاداتها ولغتها أحيانا، فإنها لم تتمتع بغير وحدة مفتعلة في الغالب، حتى في ظل نظام لويس الرابع عشر الاستبدادي، فكان على الملوك أن يكافحوا إلحافات البرلمانات والمصالح المحلية، إلخ، بلا انقطاع.
وكان توحيد بلد بالغ هذا المقدار من الانقسام عمل الثورة الفرنسية الأساسي، والمستقبل وحده هو الذي سيحكم في كون نفع هذا التوحيد أكثر من ضره، هذا التوحيد الذي أدى إلى زوال مراكز الثقافة الإقليمية. ويلوح أن المركزية أمر حسن من الناحية العسكرية، ولا مراء في أن تعدد الأوساط الذهنية والفنية والتجارية أفضل من عدمه من ناحية تقدم الحضارة. وكان من عوامل القوة البالغة في ألمانية أن حافظت حتى في زمن السيطرة الإمبراطورية، على مراكز الثقافة المستقل بعضها عن بعض استقلالا تاما. •••
ومتى اكتسبت الضرورات التاريخية المولدة للنظم السياسية بعض القوة أصبحت الحوادث العرضية غير ذات تأثير كبير.
وما كان شارل المقحام ليمنع بورغونية من أن تصير فرنسة، ولو قتل لويس الحادي عشر المعتقل في بيرون؛ فالضرورات العامة كانت تحمل جميع الدول الصغيرة في ذلك الحين على ابتلاعها من قبل جاراتها الأكثر منها قوة.
وإذا كانت الحركة نحو الوحدة لم تحقق في إيطالية وألمانية إلا بعد ثلاثة قرون فقط، فذلك لأنه كان لا يوجد في هذين البلدين المجزأين سلطة بالغة من القوة ما تستطيع أن تصبح معه مركز جذب.
Page inconnue