وأحزم في الرأي، وأجدر بالسلامة، وأعفى لبعضنا من غائلة [١] بعض.
وما اعتنت دولة بتحصين الأسرار والمبالغة في حفظها كالدولة العبّاسيّة، فإنّ لها من هذا الباب عجائب، وكم من نعمة أزالوها عن أربابها، ونفس أزهقوها بسبب كلمة منقولة، أو حكاية مقولة. جرى في أيام الناصر [٢] قضية ظريفة لا بأس بذكرها ها هنا.
كان للناصر ولدان هما ولدا ولده، وكان قد أقطعهما بلاد خوزستان [٣] وتوجّها إليها وأقاما بها ففي بعض الليالي أفكر الناصر في أمرهما واشتاقهما، وخاف عليهما من حادث يحدث بتلك الناحية، فأرسل في الحال إلى وزيره القمّي [٤] وقال له: أرسل في هذه الساعة إليهما من يأمرهما بالوصول إلى بغداد، ولا تشعر بهذا مخلوقا. فأحضر الوزير نجّابا في ذلك الحال. وكان جماعة من النّجابين يبيتون في كلّ ليلة بباب الديوان، يبيت أحدهم وتحت رأسه راحلته وزاده ونفقته، وقد ودّع أهله، فإن عرض في الليل مهمّ توجّه فيه فلما حضر النّجاب بين يديّ الوزير شافهه بالمراسلة، وقال له تخرج في هذه الساعة، وإياك أن يعلم هذا أحد فيكون عوضه نفسك. ثم تقدّم الوزير يحمل مفتاح باب من أبواب السّور له، فلما مضى ليخرج اجتاز ببعض الدروب وامرأتان في منظرتين متقابلتين تتحدثان، فقالت إحداهما للأخرى: ترى هذا النّجاب إلى أين يمشي في هذا الوقت؟ فقالت لها الأخرى يمشي إلى دستر لإحضار أولاد الخليفة فإنه قد خاف عليهما وقد اشتاقهما لأن جدتهما هناك قد طالت. فلما سمع النّجاب ذلك ترجّع من ساعته إلى الديوان، واستأذن على الوزير. فلما علم الوزير برجوعه انزعج لذلك وأحضره، وسأله عن سبب عوده، فقال له: يا مولانا جرى الساعة في الدرب الفلاني كيت وكيت، وخفت أن أتوجّه
_________
[١] الغائلة: الشرّ والبطش.
[٢] الناصر: هو الخليفة العباسي الرابع والثلاثون ولي الخلافة/ ٥٧٥/ هـ وتوفي/ ٦٢٢/ هـ.
واسمه أحمد بن المستضيء بأمر الله، وسبقت ترجمته.
[٣] خوزستان: إقليم في غربي إيران من مدنه: عبادان وتستر وخرّم شهر.
[٤] القمّي: هو محمّد بن عبد الكريم أصله من قم ونشأته في بغداد. استوزره الخليفة العباسيّ الناصر. توفي/ ٦٢٩/ هـ.
1 / 65