ومما يجب على الملك الفاضل: إمعان النظر في أمر الأسرار، وصونها وتحصينها وحراستها من الإفشاء والذّياع، وهذا باب يحتاج فيه إلى التّأني التامّ، فكم من مملكة خربت وكم من نفس تلفت بسبب ظهور سر واحد! وحفظ السرّ وكتمانه من أفضل ما اعتنى به الإنسان، فمما جاء في ذلك في الحديث «من كتم سرّه ملك أمره» وقال علي- ﵇ «الرأي تحصين السرّ» . أسرّ بعض الناس إلى رجل حديثا وأمره بكتمانه، فلما انقضى الحديث قال له: فهمت؟ قال: نسيت. وقال عمرو بن العاص [١]: إذا أفشيت سرّي إلى صديقي فأذاعه كان اللوم لي لا له. قيل له: وكيف ذلك؟ قال: لأنّي أنا كنت أولى بصيانته منه. ومن أناشيد هذا الباب:
إذا ضاق صدر المرء عن سرّ نفسه ... فصدر الّذي يستودع السرّ أضيق
(طويل) قالوا: لا ينبغي أن يكون سرّ الملك إلا عند واحد، فإنه إذا كان عند واحد كان أحرى ألا يظهر، إما رغبة وإما رهبة، لأنه إن ظهر تحقّق الملك أن ظهوره قد كان من جهة ذلك الرجل، ومتى كان السرّ عند جماعة ثم ظهر، أحال كلّ واحد منهم على الآخر، فإن عاقبهم الملك جميعا كان قد ظلمهم إلا واحدا، وإن ترك معاقبتهم طمعوا وتطرّفوا على إفشاء أسراره. قال الشاعر:
وسرّك ما كان عند امرئ ... وسرّ الثلاثة غير الخفي
(متقارب) فإن احتاج الملك إلى إظهار سرّه لجماعة فأصلح ماله أن يفضي به إلى كلّ واحد منهم على سبيل الانفراد، ويوصيه بالكتمان ويوهمه أنّه ما أفضى إلى غيره به، فذلك أجدر لأن ينكتم السر. شاور بعض ملوك الفرس وزراءه في أمر، فقال واحد منهم: لا ينبغي للملك أن يستشير بأحدنا إلا خاليا به، فإنه أكتم للسرّ
_________
[١] عمرو بن العاص: قائد عربي شهير، فتح مصر وبنى فيها مدينة الفسطاط في عهد عمر بن الخطاب. نصر معاوية بدهائه. توفي عام/ ٤٣/ هـ.
1 / 64