أشد من الرئاسة. كما أن سياسة الخدمة أشدّ من الخدمة. وكما أن التوقّي بعد شرب الدواء أشدّ من الدواء. كذلك ربّ الصنيعة، أشدّ من الصنيعة، وعلى الرئيس أن يصبر على مضض الرئاسة. قال بعض حكماء الترك، ينبغي أن يكون في قائد الجيش عشر خصال من أخلاق الحيوان- جرأة الأسد، وحملة الخنزير [١]، وروغان الثعلب، وصبر الكلب على الجراح، وغارة الذّئب، وحراسة الكركي، وسخاء الدّيك وشفقة الدّجاجة على الفراريج، وحذر الغراب، وسمن تعرو، (وهي دابة تكون بخراسان تسمن على السّفر والكمد) . قالوا:
والفاضل من طلاب الرئاسة هو الّذي يكون مطبوعا على المعرفة، مخلوقا فيه صحة التمييز مكتسبا للعلم بما جرى في الدنيا من تصاريف الدهور، وتنقّل الدّول عارفا بمداراة الأعداء كتوما لشرّه، إذا كان قطب السياسة عليه يدور. وأن يستمدّ لعقله من عقول العقلاء، فإنّ العقل الفرد لا يقوم بنفسه. وينبغي أن يكون ذا رويّة عند اشتباه الآراء، وعزيمة عند اختلاف الأهواء، حتى يكشف.
وأما الحزم فهو الأصل الّذي يبني عليه في تحصين المملكة. وقد كان يجب تقديمه وذكره في أوّل الكتاب عند أخواته من الخصال المحمودة، ولكن العقل يشتمل عليه ويستلزمه، فأكتفي بذكره عنه. ولا بأس بذكر نبذة في هذا الموضع منه. قالوا: أحزم الملوك من ملك جدّه هزله، وقهر رأيه هواه، وعبّر عن ضميره فعله، ولم يختدعه رضاه عن حظّه، ولا غضبه عن كيده. وكان يقال:
الحازم من الملوك من يبعث العيون [٢] على نفسه ويتفقدها، حتى لا يكون الناس بعيبه أعلم منه بعيب نفسه. وقالوا: أحزم الملوك من حمل رعيّته على التخلّق بأخلاقه، والتأدب بآدابه، بالرفق والتوصّل الحسن والتأنّي اللطيف. وخطر لي في هذا المعنى سرّ لطيف وهو أنّ الرعيّة إذا تدرّجوا إلى التخلّق بأخلاق الملك والتأدّب بآدابه، صاروا مستحسنين لصادرات أحواله وأفعاله لأنّهم هم يفعلونها ويعتمدونها
_________
[١] الحملة: الهجمة الشرسة.
[٢] العيون: قصد بها الجواسيس.
1 / 62