الناصر [١] فاستنطقوه فلم ينطق، فأحضروا له الطعام فلم يأكل والماء فلم يشرب، فاجتهدوا معه بكل ممكن على أن يتكلّم، وهو صامت لا ينطق ببنت شفة. فقال له بعض الحاضرين: فأيّ شيء تريد؟ فلم يتكلّم. فقال له: تريد نطلقك؟ فحرّك رأسه يعني نعم. قال: فتقدّم الناصر بإطلاقه. فلما أطلق عدا أشدّ من عدو الغزال ثم دخل البريّة. سئل بزرجمهر [٢] عن أردشير [٣] فقال: أحيا الليل للحكمة، وفرّغ النهار للسّياسة وقيل له: لأيّ حال عمّ كسرى بمعروفه جميع رعيّته قال: خوفا أن يفوته المستحقّ قيل له: فكيف يمكن أن يعمّ بمعروفه جميع رعيّته؟
قال: نعم كان ينوي لهم الخير، فإذا نوى لهم الخير فقد عمّهم بمعروفه. روي عن عمر بن الخطّاب- ﵁ أنه قال: يزع الله بالسلطان أكثر مما يزع بالقرآن. قالوا: لأن الناس يخافون من عواجل العقوبة أشدّ مما يخافون من آجلها.
ومما لا يليق بالملك الكامل- الإفاضة في مجلسه في وصف الطّعام والنّساء لئلا يشارك بذلك العامّة. لأن العامّة قد قنعوا من عيشهم باليسير واقتصروا عليه، وتركوا الأمور الكبار. فإذا أرادوا أن يفيضوا في حديث، لم يكن لهم إلا وصف أنواع الأطعمة ووصف أصناف النّساء. وقال الأحنف بن قيس [٤]: جنّبوا مجالسنا ذكر الطّعام والنساء. قال أبرويز لابنه: لا توسّعنّ جندك فيستغنوا عنك، ولا تضيّق عليهم فيضجروا منك، وأعطهم عطاء قصدا، وأمنعهم منعا جميلا، ووسّع عليهم في الرّجاء ولا توسّع عليهم في العطاء. ولما سمع المنصور هذا الكلام صادف منه موضعا قابلا للشّحّ الغالب عليه، فقال: هذا هو رأي. وهذا معنى قول القائل: أجع كلبك يتبعك. فقام إليه بعض القوّاد وقال: يا أمير المؤمنين أخاف أن يلوح له غيرك برغيف فيدعك ويتبعه! قالوا: سياسة الرّئاسة،
_________
[١] الناصر: هو الخليفة أبو العبّاس أحمد بن المستضيء بأمر الله. امتدّ حكمه/ ٥٧٥- ٦٢٢/
[٢] بزرجمهر: ابن البختكان، وزير وحكيم فارسي. روى قصة انتساخ كليلة ودمنة.
[٣] أردشير: مؤسس المملكة الساسانية الفارسية، اشتهر بحكمته.
[٤] الأحنف بن قيس: سيّد بني تميم في البصرة، ضرب المثل بحلمه وحكمته. توفي/ ٧٤/ هـ
1 / 61