قالوا- السّياسات خمسة أنواع- سياسة المنزل، والقرية، والمدينة، والجيش والملك. فمن حسنت سياسته في منزله، حسنت سياسته في قريته. ومن حسنت سياسته في قريته، حسنت سياسته في مدينته، ومن حسنت سياسته في مدينته حسنت سياسته للجيش، ومن حسنت سياسته للجيش، حسنت سياسته للملك. وأنا لا أرى هذا لازما: فكم من عامّي حسن السّياسة لمنزله، ليس له قوة سياسة الأمور الكبار. وكم من ملك حسن السياسة لمملكته، ليس يحسن سياسة منزله والمملكة تحرس بالسيف وتدبّر بالقلم. واختلفوا في السيف والقلم أيهما أفضل وأولى بالتقديم:
فقوم يرون أن يكون القلم غالبا للسيف، واحتجوا على مذهبهم لأن السيف يحفظ القلم فهو يجري معه مجرى الحارس والخادم، وقوم يرون أن يكون السّيف هو الغالب، واحتجّوا بأن القلم يخدم السيف لأنه يحصّل لأصحاب السيوف أرزاقهم فهو كالخادم له. وقوم قالوا: هما سواء ولا غنى لأحدهما عن الآخر. قالوا المملكة تخصب بالسّخاء، وتعمر بالعدل وتثبت بالعقل، وتحرس بالشجاعة، وتساس بالرّياسة. وقالوا: الشّجاعة لصاحب الدولة. ومن وصايا الحكماء: اجعل قتال عدوّك آخر حيلتك، وانتهز الفرصة وقت إمكانها، وكل [١] الأمور إلى أكفائها.
ومن ركب ظهر العجلة لم يأمن الكبوة ومن عادى من لا طاقة له به فالرأي له مداراته وملاطفته، والتضرّع إليه حتّى يخلص من شره ببعض وجوه الخلاص.
قالوا: وينبغي للملك ملاطفة أعدائه وإخوان أعدائه فبدوام الإحسان اليهم تزول عداوتهم. وإن أصرّوا على عدوانه بعد إحسانه، كانوا قد بغوا عليه، ومن بغي عليه فلينصرنّه الله. وعظ بعض الحكماء بعض أفاضل الملوك فقال: الدّنيا دول فما كان فيها لك أتاك على ضعفك، وما كان فيها عليك لم تدفعه بقوّتك. والشرّ مخوف، ولا يخافه إلا العاقل والخير مرجو يطلبه كلّ أحد وطالما تأتّى الخير من ناحية الشرّ، وتأتّى الشرّ من جهة الخير، وهذا مأخوذ من قوله ﷿: وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَالله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ٢: ٢١٦ [٢]
_________
[١] كل: فعل أمر من وكل: بمعنى أسند المنصب أو المسئوليّة.
[٢] سورة البقرة، الآية/ ٢١٦/.
1 / 56