وها هنا موضع حكاية. تقدم نور الدين [١] صاحب الشأم إلى أسد الدين شيركوه [٢] عمّ صلاح الدين يوسف بن أيّوب بالتوجّه إلى مصر لأمر ندبه إليه فقال أسد الدين شيركوه: يا مولانا. ما أتمكن من هذا دون أن يجيء صحبتي يوسف ابن أخي- يعني صلاح الدين- قال فتقدّم نور الدين إلى صلاح الدين بالتوجّه صحبة عمّه أسد الذين شيركوه، فاستعفاه صلاح الدين من التوجّه وقال: ليس لي استعداد. فتقدم نور الدين بإزاحة علله، وجزم عليه في التوجّه قال صلاح الدين فخرجت مع عمّي كارها وأنا كمن يقاد إلى المذبح، فلمّا وصلنا مصر وأقمنا بها مدّة، كان منّي ما كان من تملّك مصر، ثم ملكها صلاح الدين وعرضت مملكتها، وتملّك الشأم [٣] وسيأتيك نبأ هذا مفصّلا مشروحا عند الكلام على الدولة الصلاحيّة إن شاء الله تعالى ووفق ما قالوا: العدوّ عدوّان، عدوّ ظلمك، وعدوّ ظلمته. فأما العدوّ الّذي ظلمته، فلا تثق إليه واحترز منه مهما أمكنك، وأما العدو الّذي ظلمك، فلا تخفه كلّ الخوف، فإنه ربما استحيا من ظلمك وندم، فرجع لك إلى ما تحبّ منه وإن أصرّ على ظلمك انتصف لك منه من إليه يلجأ المظلومون.
وربّما نفع العدوّ وضرّ الصديق! قال الإسكندر [٤]: انتفعت بأعدائي أكثر مما انتفعت بأصدقائي، لأن أعدائي كانوا يعيّرونني ويكشفون لي عيوبي، وينبهونني بذلك على الخطأ فأستدركه. وكان أصدقائي يزيّنون لي الخطأ ويشجّعونني عليه وقال الشاعر:
وما ساءني إلا الذين عرفتهم ... جزى الله خيرا كلّ من لست أعرف
(طويل) وقيل للإسكندر: بم نلت هذه المملكة العظيمة على حداثة السنّ؟ قال:
باستمالة الأعداء وتصييرهم بالبرّ والإحسان أصدقاء. وتعاهد الأصدقاء أعظم الإحسان وأبلغ الإكرام.
_________
[١] نور الدين: هو ابن عماد الدين زنكي. حاكم حلب بعد اغتيال أبيه. ملك الشام ومصر وحارب الصليبيين وانتزع منهم الرّها وبانياس وضمّ إليه الموصل. توفي ودفن في دمشق، سنة/ ٥٦٩/ هـ.
[٢] أسد الدين شيركوه بن شاذي، أضحى وزير العاضد الفاطمي في مصر بعد خدمته لنور الدين توفي/ ٥٦٤/ هـ.
[٣] الشأم: لغة في الشّام، مثل الشام، وهي مشهورة جدّا في البلاد.
[٤] الإسكندر: هو الإسكندر المقدوني أو الكبير، من أشهر الغزاة الفاتحين لقبه ذو القرنين هزم داريوس ملك الفرس واحتلّ مصر وأسّس الإسكندرية. مات في بابل عام/ ٣٢٣/ قبل الميلاد.
1 / 57