وفي الحال أدركت خطورة ما ينطوي عليه ذلك الأمر، فتساءلت: والآلهة الأخرى؟
فقال بثبات وعيناه تومضان: سأصدر أمري بإغلاق معابدها ومصادرة أوقافها.
وران علي صمت حتى تساءل: لا تبدين سعيدة يا نفرتيتي؟
فقلت بعجلة: إنك تتحدى كهنة البلاد أجمعين.
فقال ببساطة وثقة: إني على ذلك لقادر.
فقلت بعد تردد: ألا يسوقك ذلك لاستعمال العنف وأنت رجل الحب والسلام؟ - لن ألجأ إلى العنف ما حييت! - وإذا تصدوا لأمرك بالمقاومة؟ - سأوزع الأوقاف على الفقراء، ولن أتعرض لمتمرد بسوء قانعا بدعوة شعبي إلى عبادة الإله الواحد وهجر معابد الشرك.
فانكشف عني الغم، وقبلته وأنا أقول: لن يتخلى عنك إلهك.
وصدر الأمر، وحدث ما لم أتوقعه، فنفذ بهدوء شامل، بفضل الإله، وبقوة العرش المهيمنة على النفوس، وازددنا ثقة بغير حدود. وفي العصاري كنا ننطلق في عربتنا الملكية بلا حرس نجوب شوارع أخت آتون الواسعة، تحف بنا الجماهير المتحمسة والنخيل والصفصاف وأشجار البلخ، محطمين حواجز الوهم بين العرش والناس، نكاد نعرف الناس جميعا بملامحهم وحرفهم والبعض بأسمائهم، وحل الحب حقا محل الخوف القديم، وتغنى الجميع بأعذب الألحان القدسية. وهمس أبي في أذني مرة: أخشى أن تبددوا هيبة الملك.
فقلت له وأنا أضحك: نحن نعيش في الحقيقة يا أبي ...
وغزونا البلاد برحلاتنا المقدسة داعين لعبادة الواحد الأحد، وأذهلنا الخصوم والأصدقاء بانتقالنا الدائم من نصر إلى نصر، ولم نكترث لما أفضى به إلينا محو رئيس الشرطة من أنباء عن نشاط الكهنة السري ومحاولتهم الدائبة لتأليب الناس علينا. ولم يعد سلوك مولاي يدهش أحدا لانغماسه الكلي في عالمه المقدس، أما أنا فأدهشت الكثيرين حتى سلموا بأنني لغز لا يحل؛ إذ كيف أهيم مثله في عالمه القدسي رغم وعيي الكامل بواقع الشئون الإدارية والمالية للبلاد؟! فلعلهم لم يصدقوا أنني كنت صنوه في الإيمان والحماس للرسالة، وكنت أشاركه الحياة في الحقيقة، وأصدق كل كلمة تصدر عن لسانه الصادق الذي لم يكذب قط. وقال لي ونحن ننتشي بذروة الفوز: عندما تتطهر الأنفس من أدرانها ستحظى الآذان جميعا بسماع الصوت الإلهي، ويعيشون في الحقيقة!
Page inconnue