أصل الحكاية
كاهن آمون
آي
حور محب
بك
تادوخيبا
توتو
تي
موت نجمت
مري رع
ماي
محو
ناخت
بنتو
نفرتيتي
أصل الحكاية
كاهن آمون
آي
حور محب
بك
تادوخيبا
توتو
تي
موت نجمت
مري رع
ماي
محو
ناخت
بنتو
نفرتيتي
العائش في الحقيقة
العائش في الحقيقة
تأليف
نجيب محفوظ
أصل الحكاية
ولدت الرغبة في أعقاب نظرة مفعمة بالإثارة، والسفينة تشق طريقها ضد التيار الهادئ القوي في أواخر فصل الفيضان. بدأت الرحلة من مدينتنا سايس ماضية جنوبا إلى بانوبوليس لزيارة أختي التي استقر بها الزواج هناك. وذات أصيل مررنا بمدينة غريبة، مدينة تطل من أركانها عظمة غابرة، ويزحف الفناء بنهم على جنباتها وأشيائها، مترامية بين النيل غربا ومحراب الجبل شرقا، متعرية الأشجار، خالية الطرقات، مغلقة الأبواب والنوافذ كالجفون المسدلة، لا تنبض بها حياة ولا تند عنها حركة، يجثم فوقها الصمت، وتخيم عليها الكآبة، وتلوح في قسماتها أمارات الموت. أجلت فيها البصر فانقبض صدري، وهرعت إلى أبي حيث يسترخي على أريكة فوق المنصة مجللا بشيخوخته، وسألته: ما شأن هذه المدينة يا أبي؟
فأجاب دون تأثر: مدينة المارق، المدينة الكافرة الملعونة، يا مري مون ...
فرجع البصر إليها بانفعال مضاعف وذكريات منثالة، ثم سألت: ألا يوجد بها حي؟
فأجاب أبي باقتضاب: ما زالت المرأة المارقة تتنفس في قصرها، أو سجنها، وهو الأصح، كما يوجد بعض الحراس بلا ريب ...
فغمغمت متذكرا: نفرتيتي!
ترى كيف تعاني وحدتها وذكرياتها؟! وسرعان ما استعدت ذكريات صباي في قصر أبي بسايس، وحوار الكبار المحموم حول الإعصار الذي أطاح بأرض مصر، والإمبراطورية، وما سموه بحرب الآلهة، وفرعون الشاب الذي مزق التراث والتقاليد، وتحدى الكهنة والقدر. أجل، تذكرت تلك الأيام المنسية، وما قيل عن دين جديد، وتمزق الناس بين الإيمان والولاء، والجدل حول الحقائق الغامضة، والهزائم المريرة، والنصر المقترن بالحزن. ها هي مدينة العجائب مستسلمة للموت، ها هي سيدتها سجينة تتجرع الألم في وحدة، ها هو قلبي الشاب يدق بعنف طامحا لمعرفة كل شيء. وقلت لأبي: لن ترميني بحب الدعة بعد اليوم يا أبي، إن رغبة مقدسة تغزوني مثل ريح الشمال كي أعرف الحقيقة وأسجلها كما كنت تفعل في صدر شبابك يا أبي ...
فرمقني أبي بعينيه الكليلتين وتساءل: ماذا تريد يا مري مون؟ - أريد أن أعرف كل شيء عن هذه المدينة وصاحبها، عن المأساة التي مزقت الوطن وضيعت الإمبراطورية ...
فقال بجدية: ولكنك سمعت كل شيء في المعبد.
فقلت بحماس: قال الحكيم قاقمنا: «لا تحكم على قضية حتى تسمع الطرفين!» - الحقيقة هنا واضحة، فضلا عن أن الطرف الآخر، المارق، قد مات ... فقلت بحماس متصاعد: أكثر الذين عاصروه ما زالوا أحياء يا أبي، وجميعهم أقران لك وأصدقاء؛ فأي توصية منك لهم خليقة بأن تفتح لي مغاليق الأبواب ومكنون الأسرار؛ بذلك أحيط بجوانب الحقيقة قبل أن يأتي عليها الزمن كما أتى على المدينة ...
وواصلت إلحاحي عليه حتى استجاب لرغبتي، بل لعله تحمس لها في باطنه لسابق ولعه بتسجيل الحقائق، ولرسوخه في العلم الذي جعل من قصرنا منتدى لرجال الدين والدنيا؛ حتى عرف بين صحبه ب «صاحب الأرض الطيبة والحكمة النادرة»، كما عرف قصره بالندوات تروى بها الحكايات، وتردد الأشعار، وتمتد بها موائد البط والنبيذ.
وحرر لي رسائل توصية للكبار الذين عاصروا الأحداث، من شارك فيها من قريب أو بعيد، من ذاق حلوها ثم مرها، ومن ذاق مرها ثم حلوها. وقال لي: اخترت سبيلك بنفسك يا مري مون، فاذهب في رعاية الآلهة، أجدادك ذهبوا للحرب أو السياسة أو التجارة، أما أنت فتريد الحقيقة، وكل على قدر همته، ولكن احذر أن تستفز صاحب سلطان أو تشمت بساقط في النسيان، كن كالتاريخ يفتح أذنيه لكل قائل ولا ينحاز لأحد، ثم يسلم الحقيقة ناصعة هبة للمتأملين ...
وسعدت جدا بالخلاص من الخمول، والتوجه إلى تيار التاريخ الذي لا تعرف له بداية، ولن يتوقف عند نهاية، ويضيف كل ذي شأن إلى مجراه موجة مستمدة من حب الحقيقة الأبدية ...
كاهن آمون
رجعت طيبة إلى عهدها الزاهر بعد أن ذاقت مرارة الهجران والانطواء على عهد «المارق». أصحبت العاصمة من جديد، يزين عرشها فرعون الشاب توت عنخ آمون، وعاد إليها رجال السلم والحرب، واستقر الكهنة في معابدهم، وعمرت القصور، وغنت الحدائق، وشمخ معبد آمون بأعمدته العملاقة وحديقته الزهراء، وماجت الأسواق بالباعة والناس والسلع. كل شيء يتألق بالعزة والاستقرار، وتيار السابلة لا ينقطع. وكنت أزورها لأول مرة في حياتي، فبهرني جلالها وأبنيتها وناسها الذين لا يحيط بهم حصر، واقتحمتني أصواتها ونداءاتها وعجلاتها ومحفاتها، فتبدت لي بلدتي سايس بالمقارنة قرية خاملة خرساء. وقصدت في الموعد المضروب معبد آمون، فاخترقت بهو الأعمدة في إثر خادم، ثم ملت إلى دهليز جانبي أوصلني إلى الحجرة التي انتظرني بها الكائن الأكبر. رأيته يجلس في الصدر على كرسي من الآبنوس ذي مقبضين من الذهب، شيخا هرما حليق الرأس، داخل نقبة طويلة واسعة، يلف أعلاه بوشاح أبيض. وضح لي أنه رغم شيخوخته يتمتع بحيوية فائقة وقلب مطمئن. حيا أبي ونوه بإخلاصه قائلا: عرفتنا المحنة بالمخلصين من الرجال.
وأثنى على مشروعي متمتما: لقد حطمنا الجدران بما سجلت من أكاذيب، ولكن الحقيقة يجب أن تسجل.
وحنى رأسه كالممتن وهو يقول: اليوم يتربع آمون على عرشه، ويقف في سفينته المقدسة بقدس الأقداس سيدا للآلهة، حاميا لمصر، رادعا لأعدائها، ويسترد كهنته سيادتهم الشاملة، هو الإله الذي حرر وادينا بيد أحمس، ومد حدودنا شمالا وجنوبا وشرقا وغربا بيد تحتمس الثالث، هو الإله الذي ينصر، ويذل من يخونه.
فركعت إجلالا حتى أذن لي، فجلست على مقعد منخفض بين يديه، واستجمعت حواسي للإصغاء، على حين راح الكاهن الأكبر يقول: إنها قصة حزينة يا مري مون بدأت فيما يشبه الهمس البريء، وجاءت البداية على يد الملكة العظمى أم المارق وزوجة فرعون العظيم أمنحتب الثالث. امرأة من الشعب لا يجري في عروقها دم ملكي، من أسرة نوبية، وكانت قوية وداهية كأن في رأسها أربع أعين ترى الجهات جميعا في وقت واحد، وكانت في الظاهر تحرص على إرضائنا ومودتنا، ولن أنسى قولها لي يوم احتفال بعيد النيل: أنتم الخير والبركة يا كهنة آمون!
وكان من عادتها أن تحدق في الرجال الأقوياء بعينيها النجلاوين حتى يحنوا الرءوس متعثرين في ارتباكهم. ولم نتوجس منها خيفة، ولا ننسى حب فراعين الأسرة المجيدة لكهنة آمون، حتى وجدنا الملكة تهتم بتوسيع مجال الدراسات الدينية لتشمل ديانات الآلهة الأخرى، وخاصة الإله آتون. ولم يعد الأمر في ظاهره أن يكون زيادة في المعرفة بديانات نحترمها جميعا ونقدسها؛ فلم نجد ثمة وجها للاعتراض، ولكن ساءنا أن تحظى الآلهة بذلك الامتياز في طيبة موطن آمون. ولم يلطف من مشاعرنا ما رددته تيى من أن آمون سيظل سيد الآلهة إلى الأبد، كما أن كهنته سيظلون على رأس كهنة مصر بلا استثناء. وقال لي توتو الكاهن المرتل: إني أستشف وراء القرار سياسة جديدة لا شأن لها بالدين في ذاته!
فطالبته بمزيد من الإيضاح، فقال: الملكة العظمى تخطب ود كهنة الأقاليم لتقيم توازنا بيننا وبينهم، فتحد من سلطان الكهنة وتقوي سلطة العرش.
فقلت له ولم أكن أخلو من الهواجس: نحن خدام الإله والشعب، نحن المعلمون والأطباء، والمرشدون في الدنيا والعالم الآخر، والملكة العظمى سيدة حكيمة، وهي لا شك تقر لنا بالفضل.
فقال توتو بامتعاض: النزاع على السلطة، والملكة قوية طموح، وهي في رأيي أقوى من الملك نفسه!
فقلت وكأنما أناقش مخاوفي: نحن أبناء الإله الأعظم، ووراءنا تراث أقوى من الدهر.
ولعله من المفيد الآن أن أحدثك عن الملك أمنحتب الثالث. لقد شيد له جده تحتمس الثالث إمبراطورية لم تسبق بمثيل في اتساعها وتعدد أجناسها. وكان ملكا قويا، يثب للدفاع عن أملاكه عند أول نذير يخطر، وحقق انتصارات حاسمة حتى دانت له الإمبراطورية بالطاعة الكاملة، غير أن عهده الطويل غلب عليه السلام والرخاء. جنى هو ثمار ما تعب أسلافه في زرعه، فانهمرت عليه المحاصيل والثياب والمعادن والنساء، وبنى القصور والمعابد والتماثيل، وغرق حتى أذنيه في الطعام والشراب والنساء. وعرفت المرأة الداهية نقاط القوة والضعف في زوجها فاستثمرتها على خير ما يكون الاستثمار. شجعته على الحرب حين الحرب، وتسامحت معه في شهواته مضحية بقلبها كامرأة لتشاركه سلطانه بكل جدارة، ولتمارس طموحها غير المحدود. ولا أنكر أنها كانت ملمة بكل صغيرة وكبيرة من شئون مصر أو الإمبراطورية، ولا أنكر إخلاصها وبعد نظرها وحرصها على المجد والعظمة، ولكني آخذ عليها نهمها للسلطة؛ ذلك النهم الذي سول لها أن تستغل الدين بنعومة ودهاء لتستأثر بالقوة للعرش دون الكهنة أجمعين. ثم تبين لي أن ثمة أفكارا أخرى تدور برأسها؛ فقد زارت المعبد يوما لتقديم القرابين، وتقدمتني بعد ذلك إلى مثوى الراحة بقامتها القوية المتوسطة، فلما استقر بنا المجلس سألتني: ماذا يحزنك؟
وجعلت أفكر في اختيار رد مناسب، ولكنها عاجلتني قائلة: إني أقرأ أسرار القلوب مثل الكهنة، إنك تظن أني أرفع من شأن الكهنة الآخرين على حساب كهنة آمون؟
فقلت مسلما: كهنة آمون هم أمناء أسرتكم المجيدة ...
فقالت وعيناها تبرقان: إليك ما أفكر فيه أيها الكائن الأكبر، آمون سيد آلهة مصر، وهو يقوم أمام رعايانا في الإمبراطورية رمزا للسلطة وربما للهزيمة، أما آتون إله الشمس فإنه يشرق في كل مكان، وبوسع أي مخلوق أن ينتمي إليه دون غضاضة!
ترى أهذا حقا ما تفكر فيه أم إنه حجة جديدة تداري بها رغبتها الحقيقية في تقليم أظافرنا؟ على أن الفكرة نفسها لم تفز بإقناعي، وقلت: مولاتي، أولئك المتوحشون يحكمون بالقوة لا بالمودة!
فقالت باسمة: وبالمودة أيضا، ما يصلح لمعاملة الوحوش لا يصلح لمعاملة الحيوان المستأنس ...
وآمنت بأنها رؤية أنثوية عقيمة، وقد تثمر عواقب وخيمة، وهذا ما أثبتته الأحداث الأليمة فيما بعد.
وسكت الكاهن الأكبر كأنما ليتأمل أو ليتذكر، ثم واصل حديثه: ومما يذكر أنه صادفتها في مطلع حياتها الزوجية متاعب، فلبثت مدة غير قصيرة لا تنجب، تعاني المخاوف من شبح العقم، ويضاعف من مخاوفها أصلها الشعبي. وبفضل آمون وكهنته، وبفضل الدعوات الصالحات والسحر القوي، حملت الملكة، ولكنها أنجبت بنتا! وكلما التقينا في القصر أو المعبد رمقتني بنظرة حذرة مترعة بسوء الظن كأنني المسئول عن سوء حظها. وما كنا نفكر في تعكير صفو العرش أبدا، ولكنها كانت قليلة الثقة في الناس لفساد طويتها.
وسكت مرة أخرى كالمتردد ثم قال: وبطريقة غامضة أنجبت ذكرين!
وتريث الرجل حتى اشتعلت تساؤلاتي الخفية، ثم قال: مات أكبرهما وأصلحهما، وبقي الآخر ليمارس شذوذه في تخريب مصر.
وقرأ الكاهن تساؤلاتي المحرقة، فقال: نحن نعرف كيف نصيد الحقيقة وإن امتنعت عن الكثيرين، لنا من السحر قوة، ولنا من العيون قوة ... فالمارق مجهول الأب، فاقد الرجولة، مؤنث الصورة، متنافر القسمات ... وعلى مثال أبيه تزوج من فتاة من الشعب، جمعت في شخصها مثل أمه بين الأصل الشعبي والطموح الجنوني والفسق، جميلة عنيدة متحدية؛ فاندفعت معه في سياسته المدمرة، وأنجبت له ست بنات من رجال آخرين. ورغم حبه الظاهر لها فلعله لم يحب في الواقع إلا أمه، أعطته الحياة والأفكار. ولشدة التصاقه بها شعر بوحدتها وآلامها، فحنق على أبيه حنقا دعاه إلى الانتقام منه بعد موته، فمحا اسمه من الآثار بحجة اقترانه باسم آمون، أما الحقيقة فهي أنه أعدمه بعد موته بعد أن عجز عن قتله في حياته. وقد لقنته أمه دين آتون الذي آمنت به لأهداف سياسية، ولكنه آمن به إيمانا حقيقيا نابذا السياسة التي لم توافق طبيعته الأنثوية، ومنه مرق إلى الكفر، وهو ما لم تتوقعه أمه نفسها. ما زلت للأسف أتذكر صورته الكريهة ... ما كان رجلا وما كان امرأة، وكان ضعيفا لحد الحقد على الأقوياء جميعا من رجال وكهنة وآلهة. وقد اخترع إلها على مثاله في الضعف والأنوثة، تصوره أبا وأما في وقت واحد، وتصور له وظيفة وحيدة هي الحب! فكانت عبادته رقصا وغناء وشرابا، وغرق في مستنقع الحماقة معرضا عن واجباته الملكية، على حين كان رجالنا المخلصون في الإمبراطورية وأحلافنا الأوفياء يتساقطون تحت ضربات العدو، يستغيثون ولا يغاثون، حتى ضاعت الإمبراطورية، وخربت مصر، وخوت المعابد، وجاع الناس. هذا هو المارق الذي سمى نفسه إخناتون!
وصمت الكاهن الأكبر تحت وطأة الانفعال وحدة الذكريات، ثم شبك أصابع يديه في قبضة واحدة، وراح يقول: ومنذ نشأته الأولى جاءتني الأخبار عنه بلسان رجال لي في القصر ممن نذروا أنفسهم لآمون والوطن، وعنهم عرفت أن ولي العهد ينجذب نحو آتون ويهمل آمون، وأنه رغم حداثة سنه يلوذ بخلوة على شاطئ النيل يستقبل فيها الشروق بالأغاني. أدركت لتوي أنه صبي غريب ينذر بالمتاعب. وسعيت إلى مقابلة العرش، وأفضيت هناك للملك والملكة بمخاوفي. وابتسم أمنحتب الثالث وقال: ما زال ابني طفلا.
فقلت: ولكن الطفل يكبر ويحتفظ في أعماقه بأفكار طفولته.
فقالت تيى: إنه ينشد الحكمة في كافة مظانها بقلب بريء.
قال فرعون: عما قريب يبدأ تدريباته العسكرية، ويعرف أهدافه الحقيقية.
فقالت تيى: لا حاجة بنا إلى المزيد من البلدان، ولكننا في حاجة إلى الحكمة للمحافظة عليها ...
فقلت بوضوح: لا سبيل إلى المحافظة عليها إلا بالاعتماد على آمون وممارسة القوة.
فقالت المرأة الداهية: ما رأيت حكيما يستهين بالحكمة مثلك يا كاهن آمون!
فقلت بإصرار: إني لا أستهين بالحكمة، ولكني أراها لغوا بغير سند من القوة.
فقال أمنحتب: لا خلاف في هذا القصر على أن آمون هو سيد الآلهة.
فقلت بقلق: إنه انقطع عن زيارة المعبد.
فقال الملك: صبرا، عما قليل سيؤدي كافة واجباته كولي للعهد ...
لم أرجع من اللقاء بما يسكن الخواطر، بل لعل مخاوفنا - نحن الكهنة - وجدت ما يسوغها ويقويها. وجاءتنا أنباء جديدة عن حوار دار بينه وبين والديه، أدركنا منه أن ذلك الجسد المهزول ينطوي على سراديب قوة وعناد شريرة تنذر بأوخم العواقب. وذات يوم قابلني أحد أتباعي وقال لي: الشمس نفسها لم تعد إلها!
فسألته عما يعني، فقال: إنهم يتهامسون هناك عن إله جديد لم يعرف من قبل تجلى لروح ولي العهد، وطالبه بأن يعبده باعتباره الإله الوحيد الحقيقي في الوجود، هو وحده لا شريك له، وكل معبود سواه باطل.
صعقني الخبر صعقا، وأيقنت أن الموت الذي خطف الأخ الأكبر أهون وأرحم من الجنون الذي حل بالأصغر، وتجسدت أمام عيني الكارثة في أبشع صورة. - أأنت واثق مما تقول؟ - إنما أنقل إليكم ما يتهامس به الجميع. - وكيف تجسد له ذلك الإله المزعوم؟ - سمع صوته فقط ... - لا شمس ولا نجم ولا تمثال؟ - لا شيء البتة. - وكيف يعبد ما لا يرى؟ - إنه يؤمن بأنه القوة الوحيدة الخالقة. - لقد أذاب المجنون ذاته في اللاشيء!
وقال الكاهن المرتل توتو: لقد جن وفقد الأهلية لتولي العرش.
فقلت برجاء: اهدأ يا توتو؛ فمهما كفر فستظل الآلهة باقية معبودة للملايين ...
فتساءل بحدة: ولكن كيف يتولى العرش كافر مارق؟
فقلت بكآبة: فلننتظر حتى تعلن الحقيقة، ثم نقدم على طرح الموضوع للمناقشة مع الملك، وسوف تكون المناقشة الأولى من نوعها في تاريخنا الطويل ...
وحدث أن تزوج ولي العهد من نفرتيتي الابنة الكبرى للحكيم الصديق آي. كانت أيضا مثل الملكة العظمى تيى من أصل شعبي، ولكني تعلقت بأمل واحد رآه، وهو أن يرده الزواج إلى شيء من التوازن. ودعوت آي إلى مقابلتي فوجدته حذرا في حديثه، فقدرت حرج مركزه، ولم أشر من جانبي إلى أنباء الكفر، ولكني اتفقت معه على أن يرتب لتدبير زيارة سرية تتم بيني وبين ابنته. وتأملتها بعين فراستي المستمدة من روح آمون، فتكشف لي جمالها عن قوة ذكرتني بالملكة العظمى تيى، فرجوت أن تكون هذه القوة لنا لا علينا. وقلت لها: تقبلي بركاتي يا ابنتي وابنة صديقي آي.
فشكرتني بعذوبة، فقلت: أرى من واجبي أن أذكرك، ولست في حاجة إلى تذكير، بأن العرش يقوم على ثلاثة؛ آمون سيد الآلهة، وفرعون، والملكة.
فقالت: سعيد من يصغي إلى حكمتك.
فقلت: والملكة الحكيمة تشارك الملك في المحافظة على الوطن والإمبراطورية.
فقالت بثبات: أيها الكاهن المقدس، قلبي مليء بالحب والإخلاص.
فقلت بوضوح: مصر مثوى التقاليد الخالدة، والمرأة هي الوعاء المقدس للتقاليد.
فقالت بالثبات نفسه: وقلبي مليء بالواجب أيضا.
يا لها من حذرة متحفظة كتمثال بلا نقوش تفسره. لقد تكلمت ولم تقل شيئا، ولم يكن بوسعي أن أكاشفها بأكثر من ذلك. غير أنها في الحقيقة قد قالت أكثر من المتوقع. إن تحفظها يعني أنها تعرف كل شيء، وأنها لن تكون معنا. إنها مرشحة للعرش بضربة حظ خليقة أن تدير أكبر رأس، وسيكون همها الأول في الحياة المحافظة على العرش، لا آمون ولا الآلهة. وأقمت مع الكهنة صلاة للحزن في قدس الأقداس، ثم وافيتهم بفحوى الحوار بيني وبين نفرتيتي، فقال توتو معلقا: سينكشف الغد عن ليل طويل.
ثم خلا إلي متسائلا: ألا تستطيع أن تناقش المستقبل مع القائد ماي؟
فلمحت ما يرمي إليه وقلت بصراحة: لا نستطيع أن نتحدى أمنحتب الثالث والملكة العظمة تيى.
بدا أن الأمور لا تسير يسيرة في القصر بين المجنون ووالديه؛ من أجل ذلك صدر أمر ملكي لولي العهد ليقوم برحلة تعارف في أرجاء الإمبراطورية. ولم أشك في أن الملك أراد أن يعرف ابنه رعاياه، وأن يعيش الواقع لعله يفيق من ضلاله. وحمدت له ذلك في نفسي، غير أن كآبتي ظلت راسخة. وفي أثناء الرحلة حدثت أمور على جانب كبير من الأهمية؛ فقد أنجبت تيى توءمين هما سمنخ رع وتوت عنخ آمون. بعد فترة تدهورت صحة الملك العجوز ومات، ورحل مبعوثون إلى ولي العهد بالأخبار ليرجع فيتولى سلطته. وتشاورنا نحن الكهنة حول مستقبل البلاد فاتفقنا على رأي. وسعيت إلى مقابلة الملكة تيى رغم الحداد وانشغالها بتحنيط زوجها. وجدتها في حزنها قوية ثابتة واعية بأهدافها، وكان علي أن أصارحها بما جئت من أجله مهما كلفني ذلك. قلت: جئت يا مولاتي لأفضي برأيي إلى الأم الشرعية للإمبراطورية.
وأصغت إلي ومنظرها يوحي بأنها تحدس بفطنة ما سيقال. - مولاتي، أصبح معروفا أن ولي العهد قد كفر بجميع الآلهة.
فتجهم وجهها وقالت: لا تصدق كل ما تسمع.
فقلت بلهفة: إني على استعداد لتصديق ما تقولين يا مولاتي.
فقالت باقتضاب: إنه شاعر أيها الكائن الأكبر.
ولذت بالصمت بغير اقتناع، فقالت بثقة: سوف يعرف واجبه تماما.
فقلت مستجمعا شجاعتي: مولاتي تعرف عواقب الكفر بالآلهة على العرش!
فقالت بضيق: لا خوف على عبادة الآلهة!
فقلت مستزيدا من شجاعتي: أمامنا حل إذا مست الضرورة إليه، وهو أن نولي أحد ابنيك الصغيرين وتكوني الوصية على العرش!
فقالت بحزم: سيحكم أمنحتب الرابع؛ لأنه ولي العهد.
هكذا غلبت الأم العاشقة الملكة الحكيمة، وضيعت فرصة النجاة، وأتاحت للقدر أن يضرب ضربته القاتلة.
ورجع ولي العهد المؤنث المجنون. ودفن الملك الأب في موعده. وسرعان ما طلبت لمقابلته بصفته الرسمية. لأول مرة أراه عن قرب وأمعن فيه النظر. كان ذا سمرة غامقة، وجسم طويل نحيل، وعينين حالمتين، وتكوين أنثوي لا يخفى على أحد، أما ملامحه فمتنافرة مثيرة للقلق. إنه كائن هزيل حقير لا يليق بعرش، ولا يتصور أن يتحدى بعوضة لا آمون سيد الآلهة. وداريت تقززي وعزيته مقتبسا من حكم الحكماء وشعر الشعراء، وهو يرمقني بنظرات محيرة، لا كراهية فيها ولا تحد ولا ود. وشتت منظره فكري لدرجة أن غلبني الصمت، فبادرني هو قائلا: طالما تسببت لي في مناقشات مرهقة مع والدي!
فاسترددت قدرتي على الكلام فقلت: لا هم لي في الحياة إلا آمون والعرش ومصر والإمبراطورية ...
فقال بهدوء: لديك ما تقوله ولا شك.
فقلت وأنا أتأهب لخوض المعركة: سمعت أنباء مقلقة، ولكني لم أصدقها.
فقال بلا مبالاة: إنها حقيقية!
فذهلت وانعقد لساني، فواصل حديثه: إني المؤمن الوحيد في بلد من الضالين. - لا أصدق أذني. - بل صدقهما، لا إله إلا الإله الواحد.
واقتحمني الغضب لعقيدتي؛ فلم أعد أبالي بالعواقب دفاعا عن آمون وسائر الآلهة.
وقلت بصراحة مخيفة: هذا تجديف لن يغفره آمون لبشر ...
فقال بهدوء باسم: لا يملك منح المغفرة إلا الإله الواحد.
فقلت وأنا أنتفض من شدة الانفعال: إنه لا شيء.
فبسط ذراعيه بحنان وقال: هو كل شيء؛ الخالق ... القوة ... الحب ... السلام ... السرور.
ثم ثقبني بنظرة نافذة تتناقض تماما مع هيكله الواهن: إني أدعوك للإيمان به.
فقلت محذرا محتدا: احذر غضب آمون، إنه قادر على المنع قدرته على العطاء، قادر على العون قدرته على الخذلان، قادر على التأمين قدرته على التدمير، خف على رزقك وذريتك وعرشك وإمبراطوريتك.
فقال متماديا في الهدوء: إني طفل يحبو في رحاب الواحد، وبرعمة تتفتح في حديقته. إني راض بقدره، خادم لأمره. وقد تعطف فتجلى لروحي حتى أترعت بالأنوار، وسالت بالأنغام. ولن أبالي بعد ذلك بشيء!
فقلت بغضب: إن ولي العهد لا يصير فرعون حتى يتوج بين يدي آمون!
فقال باستهانة: بل يتوج تحت نور الشمس في رعاية الخالق الوحيد ...
وافترقنا على أسوأ حال . معي آمون والمؤمنون، ومعه تراث أسرته المجيدة، ومنزلته المقدسة عند رعاياه، وجنونه الذي لا يبالي بشيء. وتوثبت للحرب المقدسة موطنا نفسي على التضحية فداء لإلهي ووطني، ولم أتوان عن العمل لحظة. وقلت لأبنائي الكهنة: فرعون الجديد كافر، عليكم أن تعلموا بذلك، وأن تعلموا الناس به ...
ورغم حماسي وجدتني مسوقا إلى كبح جماح توتو الكاهن المرتل، فاقترحت عليه الانضمام في الظاهر إلى المارق ليكون عينا لنا عليه، ومن ناحية أخرى فلم يتوان الملك أيضا عن العمل، فتم التتويج في رحاب الإله المزعوم، وأصر بتشييد معبد له في طيبة؛ مدينة آمون المقدسة، وراح يعرض دينه على الرجال ليختار معاونيه؛ فأعلن صفوة مصر إيمانهم بدوافع شتى ولهدف واحد، وهو تحقيق طموحهم على حساب عقيدتهم. ولو جاهر الرجال بالعصيان لتغير المصير، ولكنهم سقطوا كالنساء الداعرات. هذا الحكيم آي اعتبر نفسه ضمن الأسرة، فأسكره الجاه وأعماه، وحور محب الجندي الشجاع لم يكن صاحب عقيدة صادقة؛ فكان الأمر بالنسبة إليه مجرد تغيير اسم لا معنى له، أما الآخرون فلم يكونوا سوى منافقين لا هم لهم إلا الجاه والمال. ولولا ارتدادهم عن غيهم في اللحظة الحرجة لاستحقوا القتل. وقد فازوا بالحياة، ولكنني لا أكن احتراما لأي منهم. واشتد التوتر في طيبة، وانقسم الناس بين الولاء لآمون والولاء للمجنون سليل أعظم أسرة في تاريخنا المجيد. وجزعت الملكة الوالدة تيى وهي ترى غرس يديها وهو يتحول إلى نبات سام، وهو ينحدر نحو الهاوية جارا معه أسرته إلى الفناء. وواظبت على زيارة معبد آمون وتقديم القرابين، محاولة تلطيف موجة التمرد العارمة التي تهدد باقتلاع العرش. وجعلت تقول لي: بالولاء تكسبون، وبالتمرد تخسرون ...
وكنت أقول لها: كيف تطالبيننا بالولاء لكافر؟! ليتكم آمنتم بنصائحي!
فتقول لي: علينا أن نطرد اليأس من أفقنا!
لقد ثبت عجزها أمام ابنها المؤنث المدلل، وانهارت قوتها التقليدية حيال قوة جنونه الخفية، ولم يكن مفر من أن نواصل القتال حتى النهاية. من أجل ذلك ضاق المجنون بطيبة، وترامت إلى مسمعه هتافات عدائية في عيد آمون، فادعى أن إلهه أمره بالهجرة إلى مدينة جديدة تشيد من أجله. هكذا أجبرناه على الهجرة مصحوبا بثمانين ألفا من المارقين ليقيموا لأنفسهم سجنا تحل به اللعنة. وخلا لنا الجو لإدارة معركتنا المقدسة، وخلا له الجو للإمعان في الكفر والضلال حتى انقلبت العاصمة الجديدة مدينة للملاهي والسكر والعربدة والفسق التي يبشر بها إله مجهول الهوية، شعاره الحب والسرور! وكلما ألح على المجنون ضعفه الطبيعي غالى في إظهار قوته؛ فأمر بإغلاق المعابد، ومصادرة الآلهة وأوقافها، وتشريد الكهنة. وقلت لأبنائي الكهنة: لا قيمة للحياة بعد إغلاق المعابد؛ فأحبوا الموت.
وقد وجدنا في بيوت المؤمنين مأوى، وفي قلوبهم جيوشا، فواصلنا الجهاد بهمة متصاعدة، وأمل يقترب من الشروق يوما بعد يوم. وتمادى المارق، فقام بزيارات إلى الأقاليم داعيا شعبه إلى الكفر. وشد ما عانى الشعب في تلك الأيام السود من تمزق بين ولائه لآلهته وولائه لملكه الذي أذهلهم بجسمه المتهافت، وطابعه الأنثوي، ووجهه المنفر، وزوجته الجميلة الفاسقة.
تلك كانت أيام الأحزان والعذاب والنفاق والندم والدموع المنهمرة والرعب من غضب الآلهة. وأحدثت رسالة الحب المؤنث آثارها، فاستهتر الموظفون بواجباتهم، واستغلوا الناس أبشع استغلال، وسرى التمرد في أنحاء الإمبراطورية، واستهان بحدودها الأعداء، واستغاث بنا الأمراء المخلصون، فأرسلت إليهم الأشعار بدلا من الجيوش، فقتلوا دفاعا عن إمبراطوريتنا وهم يلعنون الخائن المارق المجنون. وتوقف الخير المتدفق على أرض مصر من جميع البلدان حتى خلت الأسواق، وأفلس التجار، وجاع العباد. وصحت بأعلى صوتي: ها هي لعنة آمون الغاضب تحل بنا؛ فإما القضاء على المارق، وإما الحرب الأهلية.
ولم أدع فرصة للخير لم أجربها لتجنيب البلاد ويلات الحرب، فقابلت الملكة الأم تيى، وقالت لي بحرارة: إني حزينة أيها الكاهن الأكبر.
فقلت بمرارة: لم أعد كاهنا أكبر، لست إلا شريدا مطاردا ...
فقالت ملعثمة: إني أسأل الآلهة أن تمدنا برحمتها.
فقلت لها: لا بد من العمل، إنه ابنك، وهو يحبك، وإنك تتحملين تبعة لا يستهان بها فيما انتهت إليه الأمور، فبادريه بنصحك قبل أن تنشب حرب أهلية لن تبقي على شيء ...
فقالت بامتعاض لتذكيري لها بمسئولياتها فيما حدث: لقد قررت السفر إلى العاصمة الجديدة أخت آتون ...
ولا أنكر أنها بذلت جهدا، ولكنها لم تستطع أن تصلح ما أفسدت. ولم أستسلم لليأس، فسافرت بنفسي مجازفا إلى أخت آتون، واجتمعت بالرجال وقلت لهم: إني الآن أتكلم من موقع القوة، وورائي رجال ينتظرون إشارة للانقضاض عليكم، ولكني آثرت أن أحاول محاولة أخيرة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه دون سفك دماء أو خراب، وسأترك لكم مهلة لتؤدوا واجبكم وترجعوا إلى ضمائركم ...
وقرأت في وجوههم الاقتناع بما قلت، وبصرف النظر عن دوافعهم الحقيقية فقد أدوا ما طالبتهم به، وجنبوا البلاد شر ويلات كثيرة. قابلوا المارق المجنون، وطالبوه بأمرين عاجلين؛ إعلان الحرية الدينية، وإرسال جيش للدفاع عن الإمبراطورية. ولكنه رفض معلنا بذلك جنونه على الملأ. وعند ذاك طالبوه بالتنازل عن العرش، وله أن يحتفظ بعقيدته، بل وأن يدعو إليها كيفما شاء، ولكنه رفض أيضا. غير أنه عين أخاه سمنخ رع شريكا له في العرش، فتجاهلنا أمره، واخترنا توت عنخ آمون ليجلس على العرش مختارا منا. وبإزاء عناد المجنون قرر الرجال هجره وهجر مدينته، وإعلان ولائهم لفرعون الجديد؛ بذلك تغيرت الدولة بلا حرب ولا خراب، وفي نظير ذلك عدلنا عن الانتقام من المجنون وزوجته، ومن أبقى على الوفاء له من رجاله.
وفتحت المعابد أبوابها، وهرع إليها المؤمنون بعد حرمان طويل، وانقشع الكابوس، ومضى كل شيء يعود إلى أصله على قدر الإمكان. أما المارق فبعد أن شبع جنونا أدركه المرض، وما لبث أن مات خائب المسعى في الدنيا، وفاقد الأمل في العالم الآخر، مخلفا وراءه زوجته الشريرة تعاني الوحدة والهجر والندم.
وصمت الرجل طويلا وهو يرنو إلي، ثم قال: نحن نضمد جراحنا، يلزمنا عمل كبير وشاق، خسارتنا في الداخل والخارج أكبر من أن يحيط بها حصر. كيف حدث هذا؟! ... كيف أتيح لمجنون مشوه أن يفعل بنا ذلك كله تحت سمع العقلاء وبصرهم؟!
وتريث قليلا ثم خاطبني قائلا: لقد كشفت لك عن الحقيقة خالصة بلا تزويق ولا تشويه، فسجلها في دفترك بأمانة، وأبلغ تحياتي والدك.
آي
هو الحكيم، أبو نفرتيتي وموت نجمت، ومستشار المارق. حفر الكبر أخاديد في وجهه وسكن فيها. استقبلني في قصره المطل على النيل في جنوب طيبة. جرى حديثه في هدوء وبصوت منخفض، ودون أن ينبض وجهه بأي انفعال. وقد أثر في وقاره وعمره المديد وما يطوي في صدره من تاريخ حافل. بدأ حديثه بقوله: ما أعجب الحياة، إنها سماء تمطر تجارب متناقضة.
وتفكر مستغرقا بفيض من الذكريات ثم قال: التحمت بالأحداث في يوم من أيام الصيف، دعيت إلى مقابلة الملك أمنحتب الثالث والملكة العظمى تيى، ولما مثلت بين يديهما قالت لي الملكة: يا آي، أنت رجل حكيم، تعرف أجمل ما في الدنيا والدين، قررنا أن نعهد إليك بتربية ابنينا تحتمس وأمنحتب ...
فحنيت رأسي الحليق وقلت: سعيد من يحظى بخدمة مولاه ومولاته.
وكان تحتمس في السابعة، وأمنحتب في السادسة. وكانا جد مختلفين لحد التضاد؛ فتحتمس قوي وسيم قصير القامة، وأمنحتب ضعيف البنية، غامق السمرة، طويل القامة، أنثوي القسمات، وذو نظرة رقيقة وغازية معا، تلتصق بالنفس بعمق. وما لبث أن مات الصبي الجميل، وبقي الضعيف الغريب. وهز الموت الصبي الحي هزة عنيفة جدا. بكى طويلا، وكلما خطرت ذكرى بكى من جديد. وقال لي: كان يزور معبد آمون، ويتلقى الرقى والتعاويذ، ولكنه مات ...
وقال لي أيضا: وأنت الحكيم المعلم، فلم لا ترد إليه الحياة؟
وقلت له: إن الروح تقول للميت: «ألق عنك هذا الحزن أيها الأخ، إنني باقية.»
وجرنا ذلك إلى حديث عن الحياة والموت، وشد ما أدهشني بإدراكه ووجدانه! كان يفوق سنه بأجيال. وساءلت نفسي: أي صبي هذا؟! أجاء معه من المجهول بأقباس من حكمة الغيب؟ وقد أتقن مبادئ القراءة والكتابة والحساب بسرعة مذهلة، حتى قلت مرة للملكة تيى: إن تفوقه ليخيف معلمه.
وكنت أهرع إلى درسه بشغف وشوق وسرور، وأتخيل ما يصدر عن عقله من عجائب إذا ما اعتلى يوما عرش أجداده. سوف يتفوق على والديه رغم عظمتهما.
أجل، كان أمنحتب الثالث ملكا عظيما، بدارا لتأديب العصاة، مقبلا وقت السلم على الطعام والشراب والنساء في عصر عرف بالرخاء، وقد أنهكه ذلك قبل الأوان فوقع في أسر العلل، وفسدت أسنانه، فكدرت صفو أيامه الأخيرة. أما تيى فكانت من أسرة نوبية كريمة، وشهدت لها الأيام بالقوة والحكمة حتى بزت حتشبسوت نفسها. وبسبب من غرام زوجها بالنساء، ولموت بكرها تحتمس ولعت بالصبي الضعيف المعجزة ولعا خرق المألوف؛ فكانت له الأم والحبيبة والأستاذ. وكانت تحب الحكم أكثر من الحب؛ فضحت بقلبها في سبيل السلطة. وقد اتهمها الكهنة ظلما بأنها المسئول الأول عن انحراف ابنها الديني، ولكن الحق أنها أرادت أن يلم ابنها بديانات آلهة بلاده جميعا، وكانت تحلم بأن يحل آتون محل آلهة الإمبراطورية باعتباره الشمس التي تنفث الحياة في كل مكان، فتؤلف بين رعاياها برابطة الدين القوية، لا بدافع القوة وحدها. كانت ترمي إلى وضع الدين في خدمة السياسة من أجل مصر، ولكن ابنها آمن بالدين دون السياسة بخلاف ما قصدت، وأبت طبيعته أن يجعل الدين في خدمة أي شيء، وأن يجعل كل شيء في خدمة الدين. الأم طرحت سياستها عن وعي وتدبير، ولكن الابن صدق وآمن وكرس حياته لرسالته حتى ضحى بوطنه وإمبراطوريته وعرشه.
وسكت آي قليلا، فحبك وشاحه الأزرق حول صدره وقد بدا وجهه صغيرا مضغوطا تحت شعره المستعار، ثم واصل حديثه: كان فذا منذ صباه كأنما ولد بعقل كاهن ناضج، كان معجزة حتى وجدتني في كثير من الأحايين أناقشه مناقشة الند للند وهو في العاشرة. وكان الحماس يتدفق من منطقه كأنه ينابيع ساخنة، وبرزت في الهيكل الضعيف إرادة قوية لا تتوافق بحال مع ضعفه، فأقنعني ذلك بأن روح الإنسان أقوى من عضلاته المشدودة المدربة آلاف المرات. وهام بالدروس الدينية هياما فاق كل توقع، وأضر بالإعداد اللازم له للجلوس على العرش. ولم يكن يسلم بفكرة دون مناقشة قوية، ولم يخف ارتيابه في كثير من الحقائق والتعاليم الموروثة. وإذا به يقول لي ذات يوم: طيبة! تقولون إنها المدينة المقدسة! إنها وكر التجار الجشعين والفسق والعهر. ومن هم هؤلاء الكهنة الكبار يا معلمي؟ ألا إنهم من يضلون البسطاء بالخرافات، ويشاركون الفقراء في أرزاقهم المحدودة، ويغوون الفتيات باسم البركة، فجعلوا من معبدهم مرتادا للدعارة والعربدة، عليك اللعنة يا طيبة!
وأقلقني قوله، وتخايلت لعيني أصابع الاتهام وهي تشير إلي بوصفي معلمه، فقلت له: إنهم الأساس المتين الذي يقوم عليه العرش.
فهتف غاضبا: لا كرامة لعرش يقوم على الكذب والفجور.
فقلت كالمحذر: إنهم قوة لا يستهان بها مثل الجيش ...
فهتف ساخرا: وقطاع الطرق أيضا قوة لا يستهان بها.
من بادئ الأمر لم ينشرح صدره لآمون الثاوي في قدس الأقداس، فتطلع إلى آتون الذي يضيء نوره العالمين، وقال في ذلك: آمون إله الكهنة، آتون إله السماء والأرض.
فقلت بحرارة: إنك مطالب بالإخلاص لجميع الآلهة.
فتساءل مقطبا: أليس لنا قلوب نميز بها بين الحق والباطل؟
فقلت بإغراء: سوف تتوج ذات يوم بين أحضان آمون.
فبسط ذراعيه النحيلتين متسائلا: ولم لا أتوج تحت نور الشمس في الهواء الطلق؟! - آمون هو الذي ساند جدك حتى قيض له النصر.
فتفكر مليا ثم تساءل: لا أدري كيف يعين إله على ذبح مخلوقاته.
فقلت بقلق: له حكمته المضنون بها على البشر. - الشمس لا يفرق نورها بين مخلوق وآخر.
فقلت بإصرار: الحياة ميدان صراع، لا تنس ذلك.
فقال بأسى: يا معلمي لا تحدثني عن الصراع، ألم تشهد الشمس عند شروقها فوق الحقول والنيل؟! ألم تر الشفق عند المغيب؟ ألم تسمع تغريد البلابل، وهديل الحمام؟ ... ألم تقتنص أبدا الفرحة المقدسة الغائبة في أعماق حياتنا؟!
شعرت بأن الزمام يفلت من يدي، وأن الشجرة تنمو على هواها، وأنني أجر إلى مأزق، فأفضيت بمخاوفي إلى الملكة تيى، ولكنها لم تشاركني قلقي، وقالت لي: يا آي، ما زال طفلا بريئا، سوف يخبر الدنيا، وعما قليل سيتلقى تدريبه العسكري.
ودعي الكاهن الصغير إلى الجندية الخاصة ضمن أبناء السادة النبلاء مثل حور محب، ولكنه لم يتناغم معها، أو لم يجد القوة اللازمة لها، فكرهها، وسجل على نفسه فشلا لا يليق بأبناء الملوك. وقال بمرارة: لا أود أن أتعلم مبادئ القتل.
وحزن لذلك أبوه حزنا شديدا، وقال لي: إن الملك الذي لا يحسن القتال يقع تحت رحمة قواده.
وحدثني الفتى عن مشاحنات نشبت بينه وبين أبيه، ولعله منذ ذلك الوقت ترسبت في أعماقه مشاعر غير طيبة عن أبيه العظيم، وهي التي غالى الكهنة فيما بعد في تفسيرها متهمين إياه بقتل أبيه بعد موته بمحو اسمه من الآثار، والحق أنه لم يمح اسم أبيه إلا لاقترانه بآمون، وآي ذلك أنه أعدم اسمه القديم واتخذ اسما جديدا هو «إخناتون»، ثم بلغ ذروة غربته مقتلعا نفسه من كافة جذوره في ليلة غريبة لم يطلع عليها سواه. تم ذلك في الخلوة التي كان ينتظر فيها الشروق بحديقة القصر المطلة على النيل. وعلمت بما كان عندما لقيته في الحديقة في الصباح. أغلب الظن أننا كنا في الربيع في يوم بريء من الرطوبة والخماسين.
رنا إلي بوجه شاحب وعينين مسحورتين، وقال لي دون أن يرد تحيتي: يا معلمي، قد تجلى الحق!
عجبت لمنظره وسألته عما يعني، فقال: كنت في الخلوة قبيل الشروق، رفيق الليل يودعني والصمت يباركني، وخف وزني؛ فخيل إلي أنني سأمضي مع ذيول الليل، وتجسدت الظلمة كائنا حيا يومئ بالتحية، وأشرق في داخلي نور طيب الرائحة، فرأيت الكائنات كلها مجتمعة في مجال تحيط به العين، تتهامس متبادلة التهاني تهزها سعادة الترحيب، وتستقبل الحقيقة المقبلة، وقلت لنفسي: أخيرا انتصرت على الموت والألم، وانهلت فوقي فيوضات السرور، وتسلل الوجود إلى صدري فملأه برحيقه العذب. وسمعت بكل وضوح صوته وهو يقول لي: «أنا الإله الواحد، لا إله غيري، أنا الحق، اقذف بروحك في رحابي، اعبدني وحدي، وهبني ذاتك فقد وهبتك حبي.»
تبادلنا النظر طويلا. غلبني الصمت، واليأس. قال: ألا تصدقني يا معلمي؟
فقلت صادقا: إنك لا تكذب أبدا.
فقال بنشوة عجيبة: إذن فعليك أن تصدقني.
فسألته بلهفة: وماذا رأيت؟ - سمعت الصوت في مهرجان الفجر ...
فقلت بعد تردد: هذا يعني أنه لا شيء.
فقال بيقين: هكذا يتراءى الكل إذا تجلى! - لعله آتون. - كلا، لا آتون ولا الشمس، إنه ما وراء ذلك، وما فوق ذلك، إنه الإله الواحد.
فتساءلت في حيرة: وأين تعبده؟ - في أي مكان، في أي زمان، وسوف يمدني بالقوة والحب ... ولاذ آي بالصمت. وددت أن أسأله إن كان آمن بإله إخناتون، ولكني تذكرت وصية أبي فأمسكت. لقد ارتد في اللحظة الحرجة مع المرتدين، وربما ظل إيمانه سرا إلى الأبد. واستأنف آي حديثه قائلا: لم أجد بدا من إبلاغ الملك والملكة بما كان. وبعد أيام وجدت الأمير ينتظرني في الحديقة التي يفضل البقاء فيها ما أمكنه ذلك، فقال لي معاتبا وباسما: وشيت بي كعادتك يا معلمي.
فقلت بهدوء: إنه واجبي أيها الأمير.
وضحك قائلا: استدعاني أبي لمقابلة مثيرة، فرويت له تجربتي فعبس قائلا: لا مفر من عرضك على الطبيب بنتو.
فقلت له بأدب: إني في تمام الصحة والعافية.
فقال بخشونة: لا أعرف مجنونا اعترف بجنونه أبدا.
ثم بنبرة وعيد: مصر بلد الآلهة، وعلى صاحب العرش أن يعبد جميع آلهة شعبه، وهذا الإله الذي تحدثني عنه لا شيء؛ فهو لا يستحق أن ينضم إلى مجمع الآلهة.
فقلت بهدوء: إنه الإله الوحيد ولا إله غيره.
فصاح بي: هذا كفر وجنون.
فكررت قولي حتى قال بنبرة غاضبة منذرة بالشر: إني آمرك بأن تتخلى عن أفكارك وأن ترجع إلى تراث أجدادك. وانقطعت عن المناقشة احتراما لأمره. وقالت الملكة بنبرة لطيفة: إنك مطالب باحترام واجب مقدس، ولينبض قلبك بما يشاء حتى تثوب إلى الهداية ...
وغادرت مجلسهما حزينا يا معلمي، ولكن أشد إصرارا ...
فقلت له بإخلاص: فرعون نسيج محكم من التقاليد المقدسة، لا تنس هذا أبدا.
وحدثني قلبي بأن مصر ستشهد متاعب لم تخطر ببال، وأن هذه الأسرة المجيدة التي حررت الوطن وأنشأت له إمبراطورية إنما تقف على حافة هاوية. وفي ذلك الوقت، وربما قبل ذلك، فلست متأكدا من ترتيب التواريخ، استدعاني كاهن آمون إلى مقابلة خاصة. قال لي: بيننا عهد قديم يا آي، ما هذا الذي يقال؟
قلت لك إنني لا أذكر اليوم إن كانت تلك المقابلة قد تمت عقب ما ذاع عن ميل الأمير لآتون أم عقب إيمانه بالإله الواحد. على أي حال قلت له: الأمير يمر بالفترة الحرجة من العمر، إنه إنسان ممتاز، ومثله قد يدفعه الخيال شرقا وغربا، ولكن سرعان ما يرجعه النضج إلى الحق ...
فتساءل بمرارة: وكيف تمرد على حكمتك وأنت خير المعلمين؟
فقلت مدافعا عن نفسي: ما أصعب ترويض النهر في إبان الفيضان!
فقال بصوت قوي: على أي رجل من صفوة هذه الأرض ألا يغفل لحظة عن مصير العقيدة والوطن والإمبراطورية!
وجعلت أناجي حيرتي ليل نهار منفردا ومع أسرتي المكونة من تي زوجتي ونفرتيتي وموت نجمت ابنتي. وعلى حين اتهمت تي وموت نجمت الأمير بالضلال إذا بنفرتيتي تنجذب إلى آرائه بتلقائية مثيرة، وتهمس في أذني: إنه الحق يا أبي!
ولا بد من كلمة هنا عن نفرتيتي. كانت تقارب إخناتون من سنه، ومثله حازت عقلا يفوق سنها. وقد تلقت البنتان تربية عامة ومنزلية ممتازة، ولكن موت نجمت قنعت بتجويد القراءة والكتابة والحساب وشيء من اللاهوت، إلى الحياكة والتطريز والطهي والرسم والرياضة والرقص الديني، أما نفرتيتي فمع إتقانها ذلك كله تبحرت بدافع شخصي في الدين والأفكار، ثم كان ميلها إلى آتون، والأعجب من ذلك كله أنها آمنت بإله إخناتون، وقالت بصراحة: هذا هو الإله الذي انتشلني من حيرتي المعذبة.
وأثارت بذلك سخط تي مربيتها وأختها غير الشقيقة موت نجمت التي اتهمتها بالضلال.
وحدث في ذلك الوقت أن احتفل الملك بمرور ثلاثين عاما على جلوسه على العرش، فذهبنا إلى القصر واصطحبنا البنتين معنا لأول مرة. وشاء القدر أن تستحوذ نفرتيتي على قلب الأمير، وهكذا تزوجت من إخناتون، ونحن نتابع الأحداث بذهول ولا نصدق ما يقع. واستدعاني كاهن آمون مرة أخرى وقال لي بنبرة ذات مغزى: أصبحت عضوا في الأسرة المالكة يا آي.
وشعرت بأنه يوشك أن يعدني من الخصوم، فدافعت عن الأمير ما وسعني ذلك، وقلت له: إني رجل لم يحد طيلة عمره عن الواجب.
فقال بهدوء: لندع الأيام تكشف لنا عن معدن الرجال!
وطلب مني أن أعد مقابلة بينه وبين نفرتيتي، ففعلت بعد أن زودت ابنتي بالوصايا. ولكنها، والحق يقال، لم تكن في حاجة إلى وصاياي، فأسمعته كلاما جميلا دون أن تكشف عن سر أو تلتزم بعهد. وأعتقد أن عداء الكهنة لابنتي بدأ مع تلك المقابلة.
وقالت لي نفرتيتي: لم تكن مقابلة يا أبي، ولكنها كانت مبارزة غير معلنة؛ الداهية يدافع عن الإمبراطورية على حين أنه يدافع في الواقع عن نصيب معبده من الأغذية والكساء والخمور.
وتراكمت في الأفق سحب الكآبة، واشتد النزاع بين الملك وولي العهد. وأخيرا استدعاني الملك وقال: أرى أن يقوم الأمير برحلة في أرجاء الإمبراطورية ليخبر بنفسه الحياة والناس ...
فقلت باقتناع: فكرة طيبة يا مولاي!
كان الملك يقضي في ذلك الوقت أسعد أيامه الأخيرة مع عروس في سن أحفاده هي تادوخيبا بنت توشراتا ملك ميتاني، وإن كانت وبالا على صحته! أما إخناتون فقد غادر طيبة مصحوبا ببعثة من صفوة الرجال. كانت رحلة عجيبة حافلة بالإثارة. سعى إلى عبيده في الميادين والحقول ملقيا عليهم مودة وبشاشة أذهلتهم، وكانوا ولا شك يتوقعون أن يمثلوا بين يدي إله جبار ينظر إليهم من عل، أو لا ينظر إليهم على الإطلاق. ودعا إلى لقائه رجال الدين في الولايات المختلفة، ولم ين عن تسفيه عقائدهم وإدانة الطقوس التي تبيح تقديم قرابين من البشر. وبشر بإلهه الواحد؛ القوة الكائنة في قلب الوجود، الخالقة للجميع على سواء، والتي لا تفرق بين رعاتهم ونبلاء مصر. كما دعا إلى الحب والسلام والسرور مؤكدا أن الحب هو قانون الحياة، وأن السلام هو الهدف، وأن السرور هو شكر المخلوق لخالقه.
في كل مكان أثار الذهول والانفعالات الجنونية. وبلغ مني الذعر مداه، فقلت له: أيها الأمير، إنك تقتلع الإمبراطورية من جذورها، وتنثرها في الهواء.
فتساءل ضاحكا: متى يدخل الإيمان قلبك يا معلمي؟
فقلت بمرارة: لقد هاجمت الديانات التي جرى أجدادي على احترامها، وأعلنت المساواة والحب والسلام، ولن يعني هذا بالنسبة للرعايا إلا فتح باب التمرد وشق عصا الطاعة ...
وتفكر مليا ثم تساءل: لماذا يؤمن العقلاء بالشر بكل هذه القوة؟!
فقلت بتسليم: نحن نؤمن بالواقع.
فقال باسما: يا معلمي، سأعيش في الحق إلى الأبد ...
وإذا برسول يلحق بنا وينعى إلينا الملك العظيم أمنحتب الثالث. •••
وهنا سرد علي أنباء العودة، والجنازة، وجلوس الأمير على عرش أجداده باسم أمنحتب الرابع، ونفرتيتي شريكته بوصفها الملكة العظمى، وكيف دعاهم الملك الجديد فعرض عليهم دينه، وكيف أعلنوا إيمانهم به، وكيف عين نتيجة لذلك ماي قائدا لجيش الحدود، وحور محب قائدا للحرس، وهو - آي - مستشارا للعرش. وقد ورث الملك حريم أبيه كالمتبع فأحاطه بالرعايا والزهد! كما أمر بتخفيف الضرائب، وبإحلال الحب محل العقاب. وكيف توتر الجو بينه وبين كهنة آمون حتى أمره إلهه ببناء عاصمة جديدة له؟ وقد وقف آي عند إعلان الرجال إيمانهم بالإله الجديد وقفة تأمل، فقال لي: ستسمع عن ذلك أقوالا متضاربة، ولكن لا علم لأحد بأسرار القلوب!
وبدا أنه شعر بأنه مطالب بالكشف عن سر قلبه هو، فقال: عن نفسي آمنت بالإله باعتباره إلها يمكن ضمه إلى بقية الآلهة، وكنت أرى أنه لا يجوز التعرض إلى حرية العقيدة!
وقال معلقا على سياسة الحب إنه قال لمولاه: عندما يأمن الموظف من العقاب سيقع في الفساد، ويسوم الفقراء سوء العذاب.
ولكن الملك قال له بيقين: ما زلت ضعيف الإيمان، وسوف ترى بنفسك ما يفعله الحب، ولن يخذلني إلهي أبدا. •••
وقال آي مواصلا حديثه: انتقلنا إلى أخت آتون العاصمة الجديدة، لم ولن ترى العين أجمل منها، وأقيمت أول صلاة بالمعبد القائم في وسط المدينة، وأمسكت نفرتيتي بالطنبور متألقة الشباب والجمال، وراحت تغني بصوت رخيم:
يا حي يا مبدئ الحياة،
ملأت الأرض كلها بجمالك،
وقد قيدتنا بحبك!
واستقبلنا أياما أعذب من الأحلام، حافلة بالهناء والسرور والحب والرخاء. وتفتحت القلوب حقا للإيمان الجديد، ولكن الملك لم ينس رسالته، وباسم الحب والسلام والسرور خاض أشرس حرب ابتليت بها مصر؛ فما لبث أن أمر بإغلاق المعابد ومصادرة الآلهة ومحو أسمائها من الآثار، حتى اسمه غيره، وقام برحلاته المشهورة في أنحاء البلاد داعيا إلى دينه؛ دين الواحد والحب والسلام والسرور. وعجبت لاستقبال الناس له في كل مكان بالحماس والحب، وانطبعت صورته وصورة نفرتيتي في القلوب كما لم تنطبع صورة فرعون آخر من الفراعين الذين سمع الناس عنهم ولم يروهم.
ثم أخذت الأحزان تزحف، مترددة أول الأمر، ثم انهلت كالشلال. مدت قبضتها أول ما مدت إلى أحب بناته إلى قلبه، ابنته الثانية، ميكيتاتون الجميلة، فجزع لموتها جزعا شديدا، وبكاها بدموع عزيزة أشد مما بكى أخاه تحتمس في صباه، وجعل يصرخ من قلب مكلوم: لماذا يا إلهي ... لماذا يا إلهي؟!
حتى توهمت أنه على وشك الكفر به. ثم ذاعت أنباء الفساد في دواوين الحكومة والأسواق، وترامى إلى الأسماع أنين الفقراء، ثم جاءتنا أخبار الإمبراطورية بتمرد الولايات وتحرش الأعداء بالحدود، حتى قتل صديقنا توشراتا ملك ميتاني ... والد تادوخيبا. وقدمت نصيحتي قائلا بإلحاح: لا بد من التطهير في الداخل، وإرسال جيش الحدود للدفاع عن الإمبراطورية ...
ولكني وجدته صامدا ثابتا لا يتغير ولا ييئس. قال لي: سلاحي الحب يا آي، اصبر وانتظر ...
كيف أفسر هذه الظاهرة الغريبة؟
الكهنة يتهمونه بالجنون، وبعض رجاله شاركوهم في هذا الاتهام في الأيام الأخيرة من الأزمة. ولقد حرت في أمره، ولكنني رفضت وما زلت أرفض ذلك الاتهام. لم يكن مجنونا، ولكنه لم يكن أيضا مثل سائر العقلاء، كان شيئا بين هذا وذاك لم أعرف كنهه. وزارتنا الملكة الوالدة تيى، وسر الملك بالزيارة سرورا فاق كل تصور، واستقبلها استقبالا لم تشهد أخت آتون له مثيلا. ونزلت الملكة في قصر شيد لها خصوصا في جنوب أخت آتون، وظل خاليا في انتظارها. واستدعتني فاجتمعت بها وقد ساءني أن ألاحظ تدهور صحتها، وغلبة الكبر عليها أضعاف ما تقتضيه سنها الحقيقية. قالت: جئت لحديث طويل معه، ولكني رأيت أن أمهد لذلك بحديث مع رجاله.
فقلت: لم أقصر في واجبي كمستشار أمين.
فقالت: أصدقك يا آي، ولكن تراثنا لا يمكن أن يضيع هدرا، ولكني أريد أن تصارحني بأمانة، هل تظل وفيا لابني مهما حدث؟
فقلت بصدق: لا يداخلك شك في ذلك. - هل يمكن أن تفترق عنه عند نقطة معينة ترى أنها تعفيك من الولاء؟
فقلت بإخلاص: إني عضو في أسرته؛ فلا أتخلى عنه أبدا.
فقالت متنهدة: شكرا لك يا آي، الحال خطيرة جدا، هل تثق في إخلاص الآخرين بنفس القوة؟!
فتفكرت قليلا ثم قلت: بعضهم على الأقل لا يرتقي إليهم شك.
فقالت بتوجس: يهمني أن أسمع رأيك في حور محب خاصة؟
فقلت دون تردد: قائد مخلص وزميل صبا الملك ...
فقالت بكآبة: هو من يقلقني يا آي ... - ربما لأنه صاحب القوة، ولكنه لا يقل إخلاصا للملك عن مري رع.
وحصل اللقاء بين تيى وبين الملك، ولكنها فشلت مثلنا، ورجعت إلى طيبة خائبة الرجاء، ثم ساءت حالتها الصحية، وماتت تاركة وراءها تاريخا ملكيا بالغ الروعة.
ومضت الأحوال من سيئ إلى أسوأ حتى نفضت جميع الأقاليم عنها الولاء للملك، وبتنا محاصرين في سجن اسمه أخت آتون نحن وإلهنا الواحد! وشعر كل واحد بدنو الكارثة إلا إخناتون الذي جعل يقول بكل ثقة: لن يخذلني إلهي!
وإذا بكاهن آمون الأكبر يقتحم المدينة معتمدا على قوة لا قبل لنا بها. وكنت أنا أول من تسلل إلى قصر الكاهن. ودهشت وأنا أتفرس في وجهه وهو متنكر في زي تاجر. وقلت له: لماذا تتخفى وأنت تعلم أن الملك لا يؤذي أحدا؟
فتجاهل قولي وقال لي بلهجة حازمة: دبر لي لقاء مع رءوس الرجال ...
واجتمع بنا في حديقة قصر الملكة الراحلة تيى، ولم يخف عنا أنه يتكلم من موقع القوة، وأنه يطالبنا بأن نتعاون معه على حقن الدماء، وتركنا بعد أن ألقى إنذاره الأخير كأنه حية تسعى تحت أرجلنا. وقد حرت في تفسير سلوك الرجل؛ لأنني لم أكن أحسن به الظن. واستشففت وراءه حقيقة لم يبح بها، وهي أنه لم يكن واثقا من ولاء كل جيوش الأقاليم، ومشفقا من مغبة فوضى عسكرية ضارية تنتهي بهزيمة له أو بنصر فادح الثمن. غير أنني اقتنعت بأن الخطر الذي يتهدده لا يقل عن الخطر الذي يتهددنا، وأن مصر هي الخاسرة في الحالين. ولم يتقوض الاجتماع بذهابه. شعرنا جميعا بأننا مطالبون باتخاذ قرار .
ورغما عني وجدتني أسأله مقاطعا لأول مرة: من شهد ذلك الاجتماع من رجال الملك؟
فضيق عينيه الباهتتين، ثم قال: لم أعد أتذكر، مضت أعوام وأعوام، ولكن كان بينهم حور محب وناخت، وربما توتو وزير الرسائل أيضا، على أي حال كان حور محب أول المتكلمين، فقال: إني صديقه وقائد حرسه!
وقلب عينيه البنيتين في وجوهنا، وقال بهدوء وتصميم: لا مفر من حسم الموقف لإنقاذ البلاد.
ولم ينبس أحد باعتراض. وطلبنا مقابلة رسمية، وأدينا فروض التحية التقليدية أمام العرش. وكان إخناتون يبتسم، أما نفرتيتي فتبدت جامدة عاطلة من تألقها المألوف. وابتدرنا إخناتون: ليس وراءكم خير!
فقال حور محب: جئنا من أجل خير مصر يا مولاي.
فقال بهدوء ويقين: إني أعمل لخير مصر ولخير العالم كله.
فقال حور محب: البلاد على شفا حرب مهلكة، ولا بد من قرار حازم لتجنيبها ويلات الخراب.
فسأله الملك: هل لديكم اقتراح؟
فقال: لا مفر من إعلان الحرية للأديان، وإصدار أمر لجيش الحدود بالدفاع عن الإمبراطورية ...
فهز الملك رأسه المتوج بتاج القطرين وقال: هذا يعني الارتداد إلى الكفر، وما يحق لي أن أصدر قرارا إلا تنفيذا لإرادة إلهي الخالق الواحد.
فقال حور محب بجرأة: من حقك يا مولاي أن تحتفظ بعقيدتك، ولكن عليك في تلك الحال أن تتنازل عن العرش ...
فقال بإصرار وعيناه تتوهجان كضوء الشمس: هيهات أن أرتكب خيانة في حق إلهي المعبود بالتخلي عن عرشه!
وحول إخناتون عينيه إلي فشعرت بأنني أغوص في أعماق الجحيم، ولكنني قلت: إنه السبيل الوحيد للدفاع عنك وعن عقيدتك.
فقال الملك بأسى: اذهبوا بسلام.
ولكن حور محب قال: بل نترك لك مهلة للتأمل.
وغادرت قاعة العرش مع من غادرها وأنا أعاني من وخز قلق لعله لم يفارقني حتى اليوم. وفي أيام متقاربة تلاحقت أحداث خطيرة. هجرت نفرتيتي القصر الفرعوني، واعتزلت في قصرها شمالي أخت آتون. وقابلتها مستطلعا، ولكنها قالت لي بإيجاز غامض: لن أغادر قصري حتى الموت.
وأبت أن تضيف كلمة إلى ذلك. أما إخناتون فقد أعلن جلوس أخيه سمنخ رع شريكا له على عرشه، غير أن كهنة طيبة بايعوا توت عنخ آمون الأخ الثاني ملكا، معلنين بذلك عزلهم لسمنخ رع وإخناتون نفسه. وبدا أنه لا خيار؛ فإما التسليم بالأمر الواقع وإما الحرب. وقابل حور محب الملك فوجده مصرا على موقفه، وقال له: لن أخون إلهي، وهو لن يخذلني، سأصمد في مكاني ولو وحدي ...
فقال له حور محب: نستأذنك يا مولاي في هجر أخت آتون والرجوع إلى طيبة؛ بذلك تعود الوحدة للبلاد ويختفي شبح الخراب، وأتعهد لك بأنه لن يمسك الأذى حيا أو ميتا، وما دفعنا إلى ذلك إلا الرغبة في إنقاذ البلاد وإنقاذك.
فقال إخناتون وهو يشتعل بالإصرار والحماس: افعلوا ما بدا لكم، لن ألومكم على ضعف إيمانكم، ولست في حاجة إلى حماية أحد؛ فإلهي معي، وهو لن يخذلني ...
ونفذنا قرارنا في وجوم وحزن، وسرعان ما اقتدى بنا أهل المدينة حتى خلت من الأحياء، إلا إخناتون في قصره، ونفرتيتي في قصرها، ونفرا من الحراس والعبيد. وما لبث أن غزا المرض الجسد الذي لم يعرف الراحة مذ شب على قدميه، فمات وحيدا، وكان يغمغم وهو يحتضر:
يا خالق الجرثومة في المرأة،
وصانع النطفة في الرجل،
ومعطي الحياة للوليد في بطن أمه،
لا يعرف الوحدة من يذكرك.
وإذا غاب عنك الوعي
صارت الأرض في ظلمة
كأنها موات.
وسكت آي ليسترد ذاته من تيار الذكريات، ثم نظر نحوي بعطف وقال: هذه هي قصة إخناتون الذي يدعى اليوم، إذا ذكر، بالمارق وتصب عليه اللعنات. ولا أستطيع أن أهون من الخسائر التي حاقت بالبلاد بسببه؛ فقد خسرت إمبراطوريتها ومزقتها الخلافات، ولكني أعترف لك بأنني لا أستطيع أيضا أن أنزع من قلبي حبي له وإعجابي به، فلندع الحكم النهائي عليه للميزان أمام عرش أوزوريس حاكم العالم الأبدي. •••
وغادرت قصر الحكيم آي وأنا أعتقد أن الحكم النهائي عليه هو أيضا لن يعرف إلا حين يوضع قلبه فوق كفة الميزان أمام عرش أوزوريس.
حور محب
متوسط القامة، متين البنيان، ذو مظهر يوحي بالقوة وصدق العزيمة، سليل أسرة كهنوتية متوسطة، بمنف، غنية بمن عرف من رجالها من أطباء وكهنة وضباط، وكان أبوه أول من ارتفع من الأسرة إلى مستوى السادة لشغله وظيفة «رئيس الجياد» في بلاط أمنحتب الثالث. وهو الرجل الوحيد من رجال إخناتون الذي احتفظ بوظيفته كقائد للحرس في العهد الجديد، ووكل إليه بمهمة القضاء على الفساد في داخل البلاد وإعادة الأمن إلى ربوعها، فأحرز في ذلك نجاحا مرموقا. وقد شهد له كاهن آمون الأكبر، وصدق على ذلك الحكيم آي، بأنه كان بطل اللحظة الحرجة في مأساة العهد البائد. استقبلني في قاعة استقباله المتصلة بحديقة القصر، وأنشأ يحدثني عن «المارق» قائلا: كان رفيق صباي، وصديقي، قبل أن يصير مليكي، ومذ عرفته وحتى الساعة التي ودعته فيها إلى الأبد لم يكن له ما يشغله في هذه الدنيا سوى الدين.
راح يستجمع أفكاره مليا، ثم استمر قائلا: أوليته الاحترام الذي يستحقه مذ عرفته؛ ذلك أني ربيت على تقديس الواجب، وعلى وضع الشيء في موضعه بصرف النظر عن عواطفي الشخصية، وكان هو ولي العهد، وكنت أنا أحد رعاياه، فلزمني احترامه، أما باطني فقد احتقره؛ احتقرته لضعفه والأنوثة الضاربة في وجهه وجسده، ولم أتصور أن أكون له صديقا حقيقيا، غير أن الواقع أنني صرت صديقه بكل معنى الكلمة. وإني لأتساءل: كيف كان ما كان؟! ربما لأنني عجزت عن مقاومة عواطفه الرقيقة المهذبة ذات السحر النافذ. كان ذا مقدرة عجيبة على اصطياد القلوب وأسر النفوس. ألم يهتف له الشعب وهو يدعوه إلى الكفر بآلهة الآباء والأجداد؟! وكنا - هو وأنا - على طرفي نقيض، فلم يمنع ذلك عواطفنا من أن تتجسد في صورة صداقة متينة، صمدت للأعاصير حتى ارتطمت آخر الأمر بصخرة لا تقهر. إني أسمعه وهو يقول لي باسما: حور محب، أيها الوحش المتعطش للدماء، إني أحبك.
وعبثا حاولت أن أعثر على شيء مشترك بيننا. دعوته كثيرا إلى الصيد، وهو رياضتي المفضلة، فكان يقول لي: لا تدنس الحب الذي ينبض به قلب الوجود.
لم يكن يعجب بالزي العسكري، فكان يرمق سروالي القصير وقلنسوتي وسيفي ، ويتساءل متهكما: أليس عجيبا أن يدرب أناس مهذبون على القتل ليحترفوه بعد ذلك؟
حتى قلت له مرة: ترى ما رأي جدك العظيم تحتمس الثالث فيما تقول؟
فهتف: جدي العظيم! أقام عظمته على هرم من جثث المساكين. انظر إلى صورته المنقوشة في جدار المعبد وهو يقدم القرابين من الأسرى إلى آمون، فأي جد عظيم، وأي إله دموي ...
وقلت لنفسي إنه يقبل كصديق رغم شذوذ آرائه، ولكن كيف يجلس بها على العرش؟! لم أستطع أبدا أن أهضمه كفرعون من فراعين مصر، ولم أتحول عن رأيي هذا في أي وقت من الأوقات، ولا أستثني من ذلك أهنأ الأوقات وأحفلها بالسرور، بل لعله تبدى لعيني في تلك الأيام السعيدة أوغل في البعد من هيبة الفراعنة ومجدهم الخالد. وحدث أن انتدبت لتأديب بعض العصاة، في طرف من أطراف الإمبراطورية، قائدا لأول مرة لحملة عسكرية. وهناك أحرزت نصرا حاسما، فرجعت بالغنائم والأسرى، ونلت الجزاء تكريما نبيلا من مولاي أمنحتب الثالث. وهنأني الأمير بسلامة العودة، فدعوته لمشاهدة الأسرى. استعرضهم وهم وقوف شبه عرايا يرسفون في الأغلال. رنا إليهم طويلا، فنظروا نحوه مستعطفين كأنما لمسوا الضعف في أعماق نظرته. وأظلت وجهه غمامة كآبة، وقال لهم برقة: اطمئنوا؛ فلن يمسكم أذى!
وهاج خاطري؛ لأنني كنت على يقين من أنهم سيلقون ألوانا من التأديب حتى يتعودوا على النظام والعمل. ولما رجعنا معا سألني باسما: أأنت فخور بما صنعت يا حور محب؟
فقلت بصراحة: إني أستحق ذلك أيها الأمير.
فتمتم في غموض: يا لها من مشكلة!
ثم ضحك قائلا في دعابة: ما أنت إلا قاطع طريق يا حور محب!
ذلك كان ولي العهد المرشح للجلوس على العرش. على ذلك فقد شدني إلى صداقته وحبه، وأغراني دائما بمتابعة أفكاره التي لم أتأثر بها قط، كمن يتابع صوتا غريبا لا ينتمي للبشر. وما زلت حتى الساعة أتساءل في حيرة: كيف صادقته، وكيف أحببته؟! وبهذه المناسبة أذكر مناقشة دينية جرت بيننا أيام خلوته بحديقة القصر الملكي. سألني: لماذا تصلي يا حور محب في معبد آمون؟
فأخذت للسؤال، خاصة وأنني لم أملك إجابة ترضيه أو ترضيني. ولما وجدني صامتا سألني: هل تؤمن حقا بآمون وما يقال عنه؟
فتفكرت قليلا ثم قلت: لا كما يؤمن الناس به!
فقال بجدية: إيمان أو لا إيمان، ولا ثالث بينهما.
فقلت بصراحة: لا أهتم بالدين إلا باعتباره من تقاليد مصر الراسخة.
فقال بثقة مثيرة: إنك تعبد ذاتك يا حور محب.
فقلت بتحد: قل إني أعبد مصر. - ألم يساورك إغراء لمعرفة سر الوجود؟
فقلت بمرارة: إني أعرف كيف أمحق هذا الإغراء. - يا للخسارة! وماذا فعلت من أجل روحك؟
فقلت متبرما بالمطاردة: إني أقدس الواجب، وقد شيدت لي مقبرة!
فقال متنهدا: أتمنى يوما أن تذوق سرور القرب.
فتساءلت في دهشة: القرب؟! - القرب من خالق الوجود الواحد.
فتساءلت في شيء من الاستهانة: ولم يكون واحدا؟
فقال بهدوء: إنه أقوى وأجل من أن يوجد شريك له.
ذلك الشاب المهزول الذي يتجنب القصر ويهيم بالحديقة، المولع بالأزهار والغناء والطيور مثل فتاة مهذبة، لم لم يخلق أنثى؟ لقد همت الطبيعة بأن تفعل ذلك، ولكنها عدلت عنه في اللحظة الأخيرة لسوء حظ مصر.
وسكت حور محب وقتا ثم واصل الحديث: وتوكد مصيره بزواجه من نفرتيتي. ظهرت لأول مرة في القصر الفرعوني في الاحتفال بمرور ثلاثين عاما على جلوس الملك على العرش، فبهرت الأعين بجمالها وشخصيتها، واشتركت في الرقص مع بنات السادة، وغنت بصوت رخيم:
أخي ما أحلى الذهاب إلى البحيرة،
والاغتسال على مرأى منك؛
لترى جمالي في ثوبي الكتاني الرقيق
حينما يبتل ويلتصق بجسدي!
تعال وانظر إلي.
ولا أشك في أن آي وتي زوجته أحسنا تقديم كريمتهما، ومهدا لها الطريق إلى العرش. ولا تنس أن آي كان معلم الأمير ومرشده، فلاحت له، ولا شك، الفرص للتأثير في شخصية ضعيفة متهالكة وإيقاعها في الشرك. على أي حال فازت نفرتيتي في الحفل بإعجاب الأمير وأمه الملكة تيى معا. وسرعان ما زفت نفرتيتي إلى الأمير. وأذكر أن كاهن آمون قال لي في حفل الزفاف: لعل الزواج يصلح ما أفسده تهور الشباب.
فقلت له ببرود: إنها كما ترى من أصل شعبي، وما كانت تحلم بالعرش، ولن تجازف أبدا بإغضاب زوجها الملك!
وقد ساءلت نفسي: ترى أكانت نفرتيتي ترضى بالأمير زوجا لو لم يكن وليا للعهد؟! الحق أنه لا يمكن أن يكون فارس أحلام أي فتاة ولو كانت فلاحة ساذجة. وقد ازداد الأمير بعد الزواج تحديا للتقاليد. وعلمت متأخرا بعض الوقت بادعاءاته الغريبة عن تجلي إلهه له وسماع صوته، ورأيت المستقبل يتسربل بليل بهيم. وبازدياد التوتر غضب الملك أمنحتب الثالث وأمر بإرساله لزيارة الإمبراطورية. •••
هنا حدثني بإسهاب عن مناقشاته الدينية، واتصاله بالرعايا، وتبشيره بالمساواة والحب والدين الجديد دون إضافة جديدة إلى ما حدثني به الحكيم آي. •••
وقال معلقا على الأحداث: ولأول مرة، ورغم الصداقة والولاء، تمنيت أن أقتله بسيفي قبل أن يجلب علينا الخراب. والحق أني تمنيت قتله دون أن أضمر له أي شعور بالكراهية. ومات أمنحتب الثالث، واستدعي الأمير للجلوس على عرش تحتمس الثالث. وتولى العرش، ودعا الرجال واحدا في إثر واحد ليعرض عليهم دينه. ولما جاء دوري قال لي: لا بد من إعلان الإيمان بالإله الواحد لمن شاء أن يتعاون معي يا حور محب.
وبصراحتي المعهودة قلت له: مولاي، موقفي من الآلهة معروف لديكم، ولكني رجل الواجب وخادم العرش، وإني أعلن إيماني بالإله الواحد إخلاصا لعرشك وخدمة لوطني ...
فقال باسما: حسبي ذلك الآن، لا أحب أن يخلو قصري منك يا حور محب، وسوف تتلقى رحمة الإيمان ذات يوم.
وبدأت حياة جديدة في خدمة ملك جديد وإله جديد، وبإخلاص كامل غريب؛ لأنه استند إلى الإيمان بالواجب وحده دون غيره. ولكن لا مفر من الاعتراف بأن الملك تكشف عن قوى خفية لم أعرفها فيه من قبل. رغم الضعف الجسدي والأنوثة الخلقية، انطلقت منه عزيمة متحدية مثل ألسنة اللهب لا تدري من أي مجهول استعارها، ناضل بها أقوى الرجال وهم الكهنة، وحطم بها التقاليد العريقة الراسخة والسحر والتعاويذ. وتكشفت نفرتيتي عن ملكة كأنما لم تخلق إلا كي تكون ملكة عظمى مثل تيى وحتشبسوت ، فكانت هي المدبرة لشئون الملك على حين تفرغ هو لرسالته. بيد أنها بدت لي - وللجميع - مؤمنة بالدين الجديد إيمانا فاق للأسف كل تصور. والحق لقد قيل عن هذه المرأة كل ما يمكن أن يقال، وأنا أكره شخصيا ترديد ما يقال عن الأمور الشخصية، ومع ذلك فإن إيمانها يبقى لغزا يطلب حلا. أحيانا لم أشك في صدقها، وأحيانا أخرى ساورتني شكوك. هل تتظاهر بالإيمان محافظة على مركزها الرفيع؟ هل تشجعه عليه لتستأثر وحدها بشئون الأرض والرعايا؟ أكان لأبيها في ذلك دور خفي لعبه بيد ابنته؟ وقد حاول الكهنة أن يبصروها بالعواقب، ولكنها خيبت رجاءهم، فصبوا عليها مقتهم حتى هذه الساعة. إنهم آمنوا بضعف إخناتون، ولم يتصوروا به قدرة على التحدي أو النضال أو الابتكار؛ من أجل ذلك اتهموا أمه تيى بأنها خالقة أفكاره، كما اتهموا نفرتيتي بأنها سر عناده وصلابته، وهي صورة خاطئة. لك أن تدين الجميع، ولكن لا شك أن جميع الخزعبلات قد خرجت من رأس إخناتون نفسه. وبالانتقال إلى العاصمة الجديدة أخت آتون أعلن الملك حربه على جميع الآلهة، وانغمس في التبشير لدينه في جميع الأقاليم. وهادنتنا أيام نصر وسعادة ورخاء حتى خيل إلي أن هذا الشاب المتهافت قد قيض له أن يقوض بنيان الدنيا، وأنه يعيد بناءه من جديد على مثال من صنعه وتخطيطه. تابعت غزواته للأقاليم، واستقبال الجموع له بانبهار. آنست في الجو قوة من نوع جديد تمارس بجدارة مذهلة، ولكنني لم أخل أبدا من شك في العالم الجديد الذي يتخلق فيما يشبه الاكتساح. أيصمد هذا العالم للزمن؟ هل يمكن أن تتوازن الأمور على سنة الحب والسلام والسرور؟! وأين تذهب حقائق الحياة وتجاربها؟ وقالت لي نفرتيتي مرة وهي قارئة للأفكار: إنه ملهم، ولن يخذله إلهه الذي أغدق عليه حبه، وسيكون النصر لنا ...
وانفردت يوما بالوزير ناخت في مجلس صفو وشراب، وكنت وما زلت مؤمنا بمقدرته السياسية، فسألته: أتؤمن حقا بالإله الواحد؛ إله الحب والسلام؟
فقال بهدوء: نعم، ولكني لست مع مصادرة الآلهة الأخرى.
فقلت بارتياح: حل وسط ، ألم تشر عليه به؟ - بلى، ولكنه يعتبره كفرا. - ونفرتيتي؟
فقال بأسف: إنها تتكلم بلغته ... •••
ومضى يحكي لي في إسهاب كيف انقلبت الأمور في الداخل والخارج دون إضافة جديدة لما قاله الكاهن الأكبر لآمون أو الحكيم آي. •••
ثم قال: وعند ذاك نصحته قائلا: «علينا أن نغير من سياستنا.» ولكنه كان يتصدى لأي خطوة توحي بالتراجع، وينتشي بالحماس، فقال لي: يجب المضي في المعركة الإلهية حتى نهايتها، ولن يكون لها إلا نهاية واحدة هي النصر!
وربت على منكبي بعطف، ثم واصل: لا تشارك التعساء إصرارهم على حب التعاسة!
ولما ازدادت الحال سوءا تمنيت مرة أخرى أن أقتله بسيفي وأنقذ البلاد من جنونه، وتمنيت أن أقتله باسم الحب والولاء. وتبين لي أن ما حسبته قوة جبارة تنطلق من أعماق هيكله الضعيف ما هي إلا جنون أهوج يجب حصره وشكمه. وعند ذروة الأزمة زارتنا الملكة الوالدة تيى، واستدعتني إلى لقاء بقصرها جنوب أخت آتون، وقالت لي: سيكون لي حديث طويل مع الملك.
فقلت لها بكل إخلاص: لعلك توفقين فيما فشلنا فيه.
فرمقتني بنظرة كنت خبيرا بعمقها، وسألتني: هل دفعتك الأحداث إلى مصارحته برأي جديد في الموقف؟
فأجبتها من فوري لسابق علمي بتأويلاتها للتردد الذي قد يسبق الإجابة: اقترحت يا مولاتي تغيير السياسة في الداخل والخارج.
فقالت بارتياح: هذا ما ينتظر من المخلصين أمثالك. - إنه مليكي وصديقي كما تعلمين يا مولاتي ...
فواجهتني بنظرة صريحة وسألتني: هل تعدني يا حور محب بالمحافظة على الولاء له في جميع الظروف والأحوال؟
فقلت وعقلي يعمل بسرعة فائقة: أعدك بالولاء له مهما تكن الظروف والأحوال.
فقالت بارتياح غير خاف: إنهم يطالبون برأسه، وإنك رجل القوة التي تحافظ عليه، وربما سعوا إلى استقطابك عاجلا أو آجلا.
فكررت وعدي بالصدق والإخلاص. وقد حافظت على عهدي عندما اقتنعت بأن خير وسيلة للدفاع عنه هي التخلي عنه. وفشلت تيى في مسعاها رغم ما عرف عنها من سيطرة كاملة عليه، وغادرت أخت آتون لتموت في حسرة أبدية. وضيق الخناق علينا في مدينة الإله الجديد، وتوكد لدي أن الإله الجديد عاجز عن الدفاع عن نفسه فضلا عن محبوبه المختار. وذقنا الحرمان، وتهددنا الموت من الشمال والجنوب، ولم يضعف ذلك من مقاومته، بل لعله زاده إصرارا وعنادا، ولم تنطفئ نشوته الدينية، فكان يقول لمحدثه: لن يخذلني إلهي يا ضعيف الإيمان.
وكلما رأيت وجهه المتألق بالنشوة والثقة، أيقنت أكثر وأكثر من جنونه. لم تكن معركة دينية كما تجري في الظاهر، ولكنها كانت فوضى جنونية تحتدم في رأس رجل ولد في هالة من الشذوذ. ثم كانت زيارة كاهن آمون لنا وتوجيه إنذاره الأخير إلينا، وقد قبض على يدي بقوة وقال لي: إنك رجل الواجب والقوة يا حور محب، فأنقذ ضميرك بفعل ما يرجى منك.
والحق أني أكبرت في الرجل ارتفاعه عن التشفي والانتقام، وسعيه إلى تجنيب البلاد ويلات المزيد من الخراب. وطلبنا المقابلة. كانت عسيرة وأليمة وحزينة. كنا ننفض عنا الولاء نحو الرجل الذي لم يكن لشيء سوى الحب الذي صور له جنونه حلما عجيبا أراد لنا أن نشاركه في سعادته الوهمية. واقترحت عليه إعلان حرية الأديان، والدفاع الفوري عن الإمبراطورية. ولما رفض اقترحت عليه أن يتخلى عن العرش ويتفرغ لنشر دينه. وغادرناه ليعيد النظر في الموقف كله، وقد أشرك سمنخ رع في عرشه على حين هجرته نفرتيتي، ولكنه لم يتراجع خطوة عن إصراره. وقررنا التخلي عنه والانضمام إلى الجانب الآخر لتعود الوحدة للوطن، بعد الاتفاق على ألا يتعرض له أحد - ولا لزوجه - بأذى. وأقسمت يمين الولاء للملك الجديد توت عنخ آمون، فأسدل الظلام على أكبر مأساة تقطع لها قلب مصر، فانظر إلى ما صنع الجنون بمجد أرض مجيدة عريقة!
وشملنا صمت الختام، فأخذت أنسق أوراقي تأهبا للذهاب. غير أنني سألته: وكيف تفسر هجر نفرتيتي له؟
فأجاب دون تردد: لقد أدركت ولا شك أن جنونه جاوز خط الأمان، فهجرت قصره محافظة على حياتها! - ولم لم تهجر المدينة معكم؟
فقال بازدراء: كانت على يقين من أن الكهنة يعتبرونها الفاعل الأصلي في الجريمة الكبرى!
فسألته وأنا أحييه مودعا: وكيف مات؟ - عجز ضعفه عن احتمال الهزيمة، واهتز إيمانه ولا شك بتخلي إلهه عنه، فمرض أياما قليلة ثم مات.
فسألته بعد شيء من التردد: كيف تلقيت خبر موته يا سيدي القائد؟
فأجابني متجهما: لقد قلت كل شيء!
بك
يعيش المثال بك في جزيرة نيلية على مبعدة ميلين جنوب طيبة، في بيت أنيق صغير يقع في وسط مزرعته الصغيرة، وفي شبه عزلة. ورغم ما يشهد له به من تفوق في فنه إلا أنه لم يدع للمشاركة في بناء الدولة الجديدة لما عرف عنه من ولائه لسيده السابق، بل ولما يتهم به أحيانا من الكفر بالآلهة القديمة. وهو اليوم يشارف الأربعين من عمره، طويل القامة نحيلها مع قوة ونشاط، ذو سمرة داكنة ونظرة ساخنة تغشاها كآبة. تبسم وهو يقرأ رسالة أبي، ثم نظر إلي قائلا: انطفأت روح الجمال بذهابه، وغاض السرور من الألوان والنغم!
وقد عرفته وأنا صبي أتلقى أصول الصنعة في مدرسة أبي «من» المثال الأكبر للملك أمنحتب الثالث؛ فذات يوم زارنا صبي محمولا على محفة، فهمس أبي في أذني: ولي العهد!
رأيت صبيا يماثلني في العمر، نحيلا ضعيفا، ذا نظرة شديدة التأثير، بسيطا بشوشا، مغرما بلغة الأحجار المعجزة. جاء ليشاهد ويتعلم، ويحاور في ألفة محببة سرعان ما تنسيك أنك تحادث ابنا من سلالة الآلهة. واظب على زيارتنا في أيام معينة، فنشأت بينه وبيني صداقة، باركها أبي فخورا، وسعدت بها أنا غاية السعادة. وجعل أبي يقول لي عنه: إنه رجل ناضج ذو سن صغيرة يا بك!
أجل كان كذلك، حتى كاهن آمون الأكبر اعترف لي بنضجه المبكر، وإن فسره على هواه بأنه قوة شريرة حلت فيه. كلا يا سيدي، القوة الشريرة معششة في قلوب الكهنة، أما سيدي ومولاي فلم يعرف الشر قلبه، وربما كان ذلك سر مأساته. ولما تقدم به العمر سنوات أخذ يناقش أبي وهو مكب على صنع تمثال لأمنحتب الثالث. قال له وهو يتابع العمل بين أبي ومعاونيه: لكم تقاليد يا معلم تخنق الأنفاس ...
فقال أبي بفخار: بالتقاليد نقهر الزمن أيها الأمير .
فهتف مولاي بنشوة: مع مولد كل شمس يولد جمال جديد ...
واقترب مني وهمس: يا بك، لن يكون هذا تمثالا أمينا لأبي، أين الحقيقة؟!
الحقيقة التي عاش من أجلها ومات في سبيلها. منذ وقت مبكر انثالت على روحه إلهامات الغيب، كأنما خرجت معه إلى الوجود ساعة وجد دفقة من أنوارها.
ويوما ما قال لي: إني أحبك يا بك، أتقن درسك لتكون رجلي في حقل الإبداع.
الحق يا سيدي أنني مدين لمولاي وسيدي بكل شيء؛ بالدين والفن معا. إنه الذي وجه مداركي لدين آتون، وفتح قلبي بعد ذلك للإله الخالق الواحد الذي تجلى له صوته بالإيمان والحب:
تضيء الأرض بنورك،
فتتجلى عنها الظلمات،
يا خالق الأرض والسماء،
والإنسان والأنعام.
وغمرني السلام، فقلت له ونحن وحيدان بين المحجر والمدرسة: أشهد يا أميري أنني مؤمن بإلهك ...
فقال بحبور: إنك ثاني المؤمنين بعد مري رع، ولكن ما أكثر الأعداء يا بك!
وعلمت فيما بعد أن نفرتيتي آمنت معنا في وقت واحد وهي في قصر أبيها آي. وكان يحدثني في أوقات متباعدة عما يلقى من عناء بسبب رسالته، فكنت ألم بشذرات من الأحداث رغم عزلتي في المحجر خارج طيبة. وهداني إلى الفن الحقيقي أيضا؛ فإن كان أبي هو الذي علمني الأصول فمولاي هو الذي وهبني الروح. لقد وهب ذاته للحقيقة في الوجود والفن؛ من أجل ذلك أنكره الرجال الذين يعيشون للدنيا ولا يحسنون إلا لغتها المبتذلة، ويقبلون معها ويدبرون معها، ويهرعون إلى أي مائدة مثل الصقور والغربان. مولاي نوع آخر، اسمع إليه وهو يناجي إلهه قائلا: يا خالق الحي والجماد، خص بصري بنورك، وصدري بسرورك، وقلبي بنبضك الكوني العذب.
وأصغ إليه وهو يقول لي: احذر تعاليم الفن التي يريد أن يكبلنا بها الأموات، اجعل حجرك مثوى للحقيقة!
ويقول لي أيضا: لقد خلق الإله الأشياء فلا تعبث بها، انقلها بأمانة، أبرزها بتقوى، لا تسلط عليها الخوف أو الشهوة أو الأماني الكاذبة، اعكس كل ما بي من نقص في الوجه والجسد ليتجلى جمالك في الحقيقة!
ذلك هو مولاي وأستاذي الذي لا يعيد نغمة قديمة، الذي يبهر بالجديد الحي، محطم الأوثان، مقتلع التقاليد البالية من جذورها، السابح في بحر المجهول، المنغمس في نشوة الحقيقة. ويوم اعتلى العرش أعلنت إيماني مرة أخرى بين يديه، وتقلدت وظيفة «المثال الأكبر للملك». ويوم أمره الإله بالهجرة إلى المدينة الجديدة، ذهبت على رأس ثمانين ألفا من العمال وأهل الصنعة لنشيد أجمل مدينة عرفتها الأرض؛ مدينة النور والإيمان، أخت آتون، ذات الشوارع العريضة، والقصور السامقة، والحدائق الغناء، والبحيرات المترعة، آية آيات الفن والجمال التي انقض الحقد عليها فوقعت فريسة الكهنة والزمن.
وسكت مرغما ليجتر حزنه المقيم على رائعة حياته التي تتهاوى ساعة بعد أخرى، وتتفتت لتضيع في زحمة تراب الأرض. واحترمت سكوته حتى خرج منه قائلا: وكان لمولاي إنجازه في الفن أيضا فأبدع شعرا ورسما، وجرب أصابعه الطويلة الرشيقة في مناجاة الحجر. وإليك سرا لا يعرفه إلا الأقلون؛ فقد نحت لنفرتيتي تمثالا نصفيا آية في الحقيقة والجمال، لعله يوجد الآن في القصر المهجور أو في قصر نفرتيتي، إن لم تكن انتقمت منه يد التخريب. وعندما هجرته الملكة بغتة مخلفة في قلبه طعنة لا تندمل، طمس عين التمثال اليسرى، معربا عن خيبة أمله مع الإبقاء على بقية التمثال رمزا لحب خالد، وإيمان راسخ لم يتزعزع إلا في لحظة يأس أخيرة. لقد كانا معا الرمز الحي للإله الذي هو أب وأم معا، وكان اتحادهما عن حب جليل ثبت أمام عواصف الزمن والأحداث، فكيف دهمتنا بهجر الرجل في اللحظة الأخيرة؟! لم لم تبق إلى جانبه حتى النهاية؟ لقد اتهمها أعداؤها بأنها هربت من السفينة الغارقة لتجد مكانا مناسبا في الدولة الجديدة، ولكنها لم تخطب مودة أحد، ولزمت قصرها بمحض مشيئتها قبل أن يتحول إلى سجن. كلا، لا تنتمي مولاتي إلى الانتهازيين، ولكني أعتقد أن إيمانها اهتز لموقف الإله اللامبالي من الأحداث، فهجرت العرش والعقيدة في ساعة يأس سوداء. أما مولاي فلم يتزحزح عن إصراره قيد حبة رمل. كيف لا وهو الذي تجلى الإله لروحه، وأسمعه صوته، ودعاه بابنه الحبيب؟! لم يعد وجدانه يتسع لسماع صوت آخر، ولم يعد يكترث لرأي أو نصيحة كما ينبغي لمنغمس في الحقيقة. وهو لم ينهزم، ولكننا نحن الذين انهزمنا؛ فحتى أنا خامرتني شكوك، خاصة بعد مطالبته بالتنازل عن العرش، وأكثر عندما قرر الجميع التخلي عنه، وجدته واقفا في خلوته يرقب ما يحدث بعينين طافحتين بالهدوء والصمت. ولما رآني قال: سوف تذهب معهم يا بك.
فقلت بغضب: لم يجرؤ أحد على مخاطبتي في ذلك يا مولاي.
فقال باسما: ولكنك ستذهب يا بك.
فقلت بحماس: سأبقى إلى جانب مولاي إلى الأبد.
فقال برقة: تذهب مختارا أو مكرها ...
ولذت بالصمت، فخامرني الشك من جديد، فسألته: مولاي، أيمكن أن ينتصر الشر؟
فرأيته يغيب ثم يرجع ليقول لي: الخير لا ينهزم، والشر لا ينتصر، ولكننا لا نشهد من الزمان إلا اللحظة العابرة، والعجز والموت يحولان بيننا وبين رؤية الحقيقة.
وراح يترنم بصوت عذب:
إنك في قلبي،
وليس هناك من يعرفك غير ابنك؛
فأنت الذي علمته،
والأرض في قبضة يدك.
وكما أنه لم يتخل عن إيمانه لحظة فلم يفرط أبدا في ناموسه الأسمى وهو الحب؛ فحتى في تلك الساعة التي رأى فيها الهرم الذي شيده يتهاوى حجرا في إثر حجر، ورجاله ينضمون إلى أعدائه، وزوجته المحبوبة تهجره دون كلمة وداع، حتى في تلك الساعة المنحوسة لم يعرف قلبه الكراهية أو الحقد، ذلك الرجل الذي ترفع حتى عن العقاب المشروع الذي هام بالإنسان والحيوان والجماد. انظر يا سيدي، لقد تولى الملك في عصر الرخاء، دانت له إمبراطورية مترامية وشعب محب مطيع، ولو شاء أن ينعم بالسعادة والجلال والنساء والراحة لما عزت عليه، ولكنه أعرض عن ذلك كله، واهبا ذاته للحقيقة، متحديا قوى الشر والأنانية والطمع، فضحى بكل شيء وهو يبتسم. وقد سألته يوما بعد أن ذرت قرون الشر والهمجية: مولاي، لم لا تلجأ إلى القوة دفاعا عن الحب والسلام؟
فقال لي باسما: لا يتردد المجرمون عن انتحال الأعذار لإشباع الرغبة الآثمة في البطش وسفك الدماء، ولست منهم يا بك.
ولن أنسى عطفه على شخصي حينما آنس مني ميلا إلى «موت نجمت» أخت زوجته، فسعى إلى تزويجي منها، وكيف واساني عندما أبت الزواج مني قائلا: إنها مثل الحدأة تنتظر فرصتها!
واستفسرت عما يعنيه قوله، ولكنه لم يزد. وقد صممت على البقاء بجانبه رغم فزع المدينة كلها للهجرة، ووجدت رفيقا مصمما في كاهن الإله الواحد مري رع، ولكن الحكيم آي قابلني وقال لي: إننا نهاجر لصد هجوم لا قبل لنا به دفاعا عن حياته، ولو جاز لإنسان أن يبقى إلى جانبه لكنت ذلك الإنسان؛ فإني حموه ومعلمه!
فقلت: أيها الحكيم، إن بقائي لن يغير من الأمر شيئا.
فقال: ينص الاتفاق بيننا وبين الكهنة على ألا يمس الملك بأذى تحت شرط ألا يبقى أحد من أتباعه في المدينة سوى نفر من الخدم.
هكذا اضطررت إلى الانضمام إلى القافلة وقلبي يتمزق، وما زال يتمزق حتى الساعة. وما زال الشك ينخر في إيماني رغم قول مولاي الحكيم، فأحيانا أصلي للإله وأحيانا أضرب عن الصلاة. ولما بلغني نبأ وفاته تجددت أحزاني، وبكيت حتى صفيت ماء عيني. وقد حدثني قلبي بأنه لم يمت، ولكنهم قتلوه بالسحر أو بوسيلة غادرة. وها أنا أعيش بلا هدف أو سرور في انتظار الموت مثل مدينتي الرائعة الواقعة تحت رحمة الكهنة والزمن.
تادوخيبا
هي في الأصل ابنة توشراتا ملك ميتاني أصدق صديق للعرش المصري. تزوج منها أمنحتب الثالث في أيامه الأخيرة، وهو في الستين وهي في الخامسة عشرة، ثم ورثها إخناتون ضمن حريم أبيه عند اعتلائه العرش. وهي تعيش اليوم في قصر بشمال طيبة مع ثلاثمائة من العبيد. وقد استقبلتني بناء على توصية من حور محب. في الحلقة الرابعة ذات جمال مثير وكبرياء وعظمة، ولقيتها في حجرة فاخرة وهي تجلس على كرسي من الأبنوس المطعم بالذهب. شجعتني بابتسامة وراحت تروي قصتها قائلة: عاشرت الملك أمنحتب الثالث فترة قصيرة، في جو مشحون بالغيرة والحقد. وعجبت للملكة العظمى تيى، كيف تبوأت مركزها الرفيع، على حين يوجد عشرات مثلها ممن يقمن بالخدمة في حريم أبي الملك العظيم توشراتا. وعجبت أكثر لمنظر ولي العهد الذي كنت أراه في الحديقة، أي مخلوق هزيل قبيح يثير الاحتقار أكثر مما يثير العطف. وساءت صحة الملك الأب، فاتهمني الحاقدون بأنني المسئولة عن ذلك، والحق أني قرأت النهاية القريبة في صفحة وجهه المتغضن منذ الليلة الأولى، ورحت أفكر؛ هل يرثني قريبا ذاك الصبي الحقير؟! وقلت لنفسي إن الحياة مع أبيه العجوز أفضل؛ فهو عظيم ومرح وذو حيوية تناقض سنه وصحته. وكثيرا ما كان الحديث يدور حول ولي العهد في الحريم، فنتندر بولعه بالفنون النسائية كالرسم والغناء، وعدم لياقته الواضحة للعرش، وزهده المريب في النساء. ووافتنا أخباره عن هوسه الديني وما يحدثه ذلك من متاعب لوالديه، وما أثاره بين الكهنة من قلق ومخاوف. وكانت الأخبار تطوف بنا دون أن تنغرز في وجداننا؛ فهموم النساء اليومية تغطي على شئون الدولة، إلا موت الملك الذي هز الأعماق، وفرض علينا طقوسا لا طاقة لنا بها. واعتلى المخلوق الحقير العرش هو ونفرتيتي التي تزوجها في حياة أبيه، وآل إليه حريم أبيه. وأسبغ علينا رعايته كأننا حيوانات مستأنسة، ولكنه لم يقترب منا حتى شاع بين النساء الآتيات من شتى الأمم الانحلال والشذوذ. وتساءلت امرأة: لماذا لا يهتم بنا ويكف عن معاركه الدينية الوبيلة؟
فأجابتها أخرى: لو كان يستطيع ما شغل نفسه بذاك الهراء ...
ومع ذلك فقد دبت الغيرة في قلب نفرتيتي، فقررت أن تزور الحريم للتحية والتعارف. وخمنت كل امرأة الباعث الحقيقي وراء الزيارة، وهو أن تراني أنا عن قرب؛ وذلك لما ذاع في القصر عن جمالي وشبابي. كنت الوحيدة التي تماثلها في العمر، وتنافسها في الجمال، وتتفوق عليها في الأصل؛ إذ إنني كريمة ملك على حين أنها ابنة رجل من الشعب يدعى آي، كان أول من أعلن إيمانه بالدين الجديد أمام الملك، وأول من بادر إلى الانضمام إلى أعدائه عندما آذنت شمسه بالغروب. جاءتنا الملكة الجديدة بين صفين من الجواري، وحيتنا امرأة امرأة تبعا لأقدميتنا في الحريم، وعندما جاء دوري - وكان الأخير - ثقبتني بنظرة مستطلعة، فمثلت أمامها في أدب وتحد معا، حتى تجلى الركود في ماء وجهها؛ من أجل ذلك حنقت على الملكة الوالدة تيى عندما نبهت ابنها الملك الهزيل إلى «واجبه» نحو حريمه، وخاصة تادوخيبا ابنة الملك الصديق توشراتا.
لم تغفر لها تدخلها، واشتعلت غضبا حينما أذعن الملك لإرادة أمه المحبوبة فقرر زيارتي. وكما تقضي التقاليد انتظرته في حجرتي فوق سريري المطعم بالذهب، عارية تماما، غير مخفية حسنا من محاسني. وأقبل شبه عار إلا من وزرة قصيرة تطوق وسطه، فجلس على طرف السرير باسما في رقة مجللا بهدوء غير طبيعي، وهمس متسائلا: أيسعدك أن تنجبي لي وليدا؟
فقلت وأنا أغالب تقززي: إنه الواجب يا مولاي!
فحارت في عينيه نظرة بائسة وهمس: إني أبحث عن الحب؛ فهو واجبي الأول والأخير.
فسألته بجرأة: وهل ترغب في عن حب يا مولاي؟
فربت ظهر يدي بعطف وقال: لا عليك!
ولثم جبيني ثم غادر الغرفة كما جاء. ولم أبح بسر الليلة لأحد، فظن النساء أن نفرتيتي قد خسرت نصف قلب الملك على الأقل. وكرت الأيام فلفحتنا نيران الأفئدة المضطرمة في الخارج حتى صدر القرار ببناء مدينة جديدة. وبعد سنوات انتقلنا إلى أخت آتون، وسعد جميع من حولنا، ونبذنا في جناح لممارسة حياة غير محتملة مهينة، دافعة للشذوذ، ولما عرف أن الملك الأبله يعالج الخطايا بالحب لا العقاب، انتشر الفسق بين الجنود والنساء، وأهدرت جميع القيم. وراح الملك ينشر دينه الجديد في الأقاليم، واستبقت النساء إلى الصلاة للإله الواحد بغير إيمان حقيقي، حتى خيل إلي أنه دين بلا مؤمنين، وأنه كون أمة من المنافقين والطموحين إلى المناصب والجاه والمال. ولم أتصور أن يكون لهذا الكون الكبير إله واحد! إن كل مدينة في حاجة إلى إله يعنى بشئونها، وكل نشاط إنساني في حاجة إلى إله متمرس فيه. وكيف تقوم المعاملة بين الناس على الحب؟ إنه هذيان طفل لم تحسن تربيته، وأفسده ولع أمه به. وكان يلقي على الجموع شعره، ثم تترنم زوجته بإنشادها، فحل محل العرش المعبود فرقة جوالة من الشعراء والمطربين ، وتلاشت هيبة الفراعنة. وكان لا بد أن يقع ما وقع، فجاءت الأحزان مثل ليل طويل لا يؤذن بفجر، وتتابعت المصائب في داخل البلاد كما في الإمبراطورية، وصمد أبي الشجاع المخلص وحده وهو يبعث الرسل في طلب النجدة حتى سقط مضرجا بدمه في الميدان دفاعا عن ملك أبله. وأحسن أناس الظن به فحسبوه شاعرا نبيلا أخطأ القدر بإجلاسه فوق العرش. أما الحقيقة فهي أنه كان مخلوقا غريبا، لا هو ذكر ولا هو أنثى، يؤرقه الشعور بالنقص والهوان، فجر الناس إلى الهوان، وأعلن شعار الحب، ولكنه أشعل في القلوب البغضاء والحقد والفساد، فمزق وطنه وضيع إمبراطوريته. وجارته في جنونه المرأة الداهية نفرتيتي لتستأثر بالسلطة، ولتشبع غريزتها الفاجرة بين أحضان الرجال. وقد أقنعت الجميع بأنها وزوجها يشكلان أجمل صورة للحب والوفاء، كانا يتبادلان القبل أمام الجموع في شوارع أخت آتون وفي لقاءات الأقاليم. والحق الذي يؤمن به نساء القصر كافة أنه لم تقم بينهما علاقة زوجية على الإطلاق، وما كان بوسعه أن يقيمها، ومارست حبها متعدد النزوات مع المثال بك والقائد حور محب والقائد ماي وغيرهم، ومنهم أنجبت بناتها الست، بل قد تهامس بعض الجواري بأنه لم يمارس علاقة جنسية إلا مع أمه الملكة تيى! ...
ولاذت بالصمت وهي تلاحظ ما ارتسم في وجهي من آي الذهول، ثم واصلت: وعرف بيننا ذلك كحقيقة لا شك فيها، وعرف أيضا أنه أنجب منها بنتا، إنه لم يستطع الجنس مع غيرها، وشهدت أكثر من جارية بأنها رأت الفعل رؤية العين، ولم يغب ذلك عن نفرتيتي، وبسببه تبادلت المرأتان كراهية مريرة على مدى العمر. المشكلة أن كثيرين لا يتصورون أن الرجل الذي زلزل الدنيا يمكن أن يتمخض عن كائن هزيل تافه لا وزن له، لكنها الحقيقة التي يجب أن تعرف وأن تسجل. ولولا أنه كان الوريث لأعظم أسرة في التاريخ لمضى فردا حقيرا في أزقة طيبة يتدفق ريق العته من فيه، وتعبث به الصبيان، ولا غرابة أن يستطيع معتوه - إذا جلس على العرش - أن يخرب إمبراطورية! ولولا أن نفرتيتي راقت في عينيه لما كانت إلا عاهرة من عاهرات طيبة المحترفات.
وقبيل النهاية بقليل زارت الملكة الأم أخت آتون لإنقاذ السفينة الموشكة على الغرق، ولكن النقاش احتد بينها وبين نفرتيتي، ولم تتورع الملكة الشابة عن اتهام العجوز بأنها متواطئة مع أعداء العرش، ولكن إخناتون حزن لذلك الاتهام، ودافع عن أمه وعشيقته دفاعا حارا، فغضبت نفرتيتي وأسرتها له في أعماقها، وانتقمت في اللحظة الحرجة، فهجرته فجأة قبل أن يقرر رجاله التخلي عنه، وحاولت استرضاء الكهنة لتجد لها موضعا في الدولة الجديدة، وربما طمحت أن تكون زوجة لتوت عنخ آمون، ولكنهم وطئوا مسعاها بالنعال، ولولا نفوذ عشيقها القديم حور محب لمزقوها إربا.
صمتت تادوخيبا وهي تبتسم بازدراء، ثم ختمت حديثها قائلة: هذه هي قصة المعتوه وديانته الخرقاء!
توتو
لم أكفر بإلهي آمون قط، ولم أنضم إلى قافلة المنافقين والانتهازيين، ولكنني خدمت المارق بالاتفاق مع كاهن آمون الأكبر لأكون عينه اليقظة في القصر، ويده الضاربة عند الضرورة.
هكذا بادرني توتو وزير الرسائل في عهد إخناتون دافعا عن نفسه تهمة النفاق التي تحلق فوق رجال إخناتون. وقد قابلته في مقصورته بالمعبد حيث يشغل وظيفة الكاهن المرتل في عهد توت عنخ آمون كما شغلها في عهد أمنحتب الثالث. وهو رجل دين ريان الوجه، جاحظ العينين، عنيف الأعصاب. ودون تردد راح يعطيني تصوره عن المأساة. قال: امتازت هذه الأسرة العريقة بملوكها العظام، فلم يتسلل إليها الخور إلا حين اختار أمنحتب الثالث شريكته في العرش من أسرة شعبية، فاستعارت له ذلك الوريث الأرعن المخبول. وقد اتبع الملوك العظام معنا - نحن كهنة آمون - سياسة جديدة. عرفوا لآمون قدره وفضله، وآمنوا به كبيرا لجميع الآلهة، وفي الوقت نفسه أولوا كهنة الآلهة الأخرى رعاياتهم؛ ليضمنوا إخلاص الجميع، وليقيموا بيننا وبين بقية الكهنة توازنا يضاعف من قوة العرش واستقلاله. ولم تصادف تلك السياسة هوى في نفوسنا، ولكنها لم تبلغ بنا حد الاستياء أو الاعتراض، ولم تنل من سمو مركزنا. ولما ولي العرش المارق وجد الطريق أمامه واضحا، وكان من الممكن أن يسير فيه بسلام ملتزما بمنهج آبائه وأجداده، ولكن الخنفساء توهمت أنها أسد فكانت الكارثة. لم يكن كأحد من سابقيه في القوة أو الحكمة، وكان واعيا بضعفه وقبحه وأنوثته، ولكنه أوتي من المكر والخبث ما لا يتاح إلا لمن أذله الضعف وأحرقه الحقد، فقرر أن يتخلص من جميع الكهنة ليخلو له وجه الملك وحده، ثم ينصب نفسه إلها يستأثر بالعبادة دون شريك إلا إلها وهميا يتخذه قناعا لطموحه. ومضت تبلغنا أنباء عن معجزات الصبي الذي تفوق قواه سنه الصغير، حتى عرفنا حكاية الإله الجديد الذي تجلى له ودعاه إلى الكفر بجميع الآلهة. وقلت يومها للكاهن الأكبر: إنها مؤامرة، ويجب أن تقتل في مهدها.
وبدا أنه لا يسلم بأنها مؤامرة، فقلت: إني أتهم الملكة تيى والحكيم آي، أما الغلام فلا مسئولية عليه.
فقال الكاهن الأكبر: لا أعفي الملكة من جانب من المسئولية، ولكنها مسئولية الخطأ في التقدير، أما آي فقد توكد لي أنه لا يقل عنا انزعاجا ...
ولم يسعني إلا تصديقه؛ فهو معصوم من الخطأ، فقلت: إذن فنحن حيال كائن قد حلت فيه روح ست إله الشر، فيجب اغتياله فورا.
فقال الكاهن: الأمر لم يفلت بعد من يدي الملك والملكة ...
وآمنت بأننا سندفع ثمن ترددنا غاليا. وجعلت أدعو إلهي مرددا:
يا آمون أنت سيد الصامتين،
الذي يأتي على صوت الفقير.
عندما ناديتك في محنتي
جئت لتخلصني.
يا آمون يا سيد طيبة إنك أنت
الذي تخلص من في العالم السفلي.
إذا ناداك إنسان
فإنك أنت الذي تحضر من بعيد.
ومضى يسرد لي الحوادث التاريخية كما سمعتها من قبل؛ رحلة الأمير في الإمبراطورية، عودته، اعتلاؤه العرش. •••
وهنا قال معلقا: أعلن الرجال إيمانهم بدينه بين يديه ليتبوءوا مراكزهم في الدولة الجديدة. لقد سقط الجميع بلا كرامة، فأتاحوا للمكر الخبيث أن ينفث سمه ويهلك الأرض، ولا عذر لهم عن خيانتهم؛ فهم مسئولون جميعا عما حل بنا من خراب. قلت للكاهن الأكبر: لا جريمة بلا عقاب، يجب اجتياح أخت آتون وقتل المارق والمارقة وآي وحور محب وناخت وبك ...
فقال: الوطن لا يحتمل مزيدا من الخراب.
فقلت بإصرار: لا بد من دم لنحظى برضا آمون.
فقال: إني أدري بما يرضي إلهي.
فصمت وباطني يغلي بالحنق؛ فإني أومن بأن الجريمة التي تفلت من العقاب تكرس الإثم بين الناس، وتزعزع الثقة في العدالة الإلهية، وتمهد لارتكاب المزيد من الجرائم. وشد ما يسوءني أن أرى أحدهم وهو ينعم بعزلة آمنة، أو يعمل بين الشرفاء كأنه أحدهم، كيف نوفر الأمان لمن شارك في إلحاق الخراب بنا؟! •••
وواصل سرده للأحداث؛ بناء أخت آتون، الانتقال إلى المدينة الجديدة، الانغماس في نشر الدعوة. •••
قال: بت قريبا منه، أعمل في رحابه، وأتلقى كالآخرين هذيانه، فعرفته على حقيقته أكثر من ذي قبل. كان يمكن أن يكون شاعرا أو مطربا، ولكنه جلس على عرش الفراعنة، فكانت الكارثة. قرر منذ البدء أن يتجاوز ضعفه المهين بمكر ودهاء، وأن يستأثر بالسيادة. أراد أن يقول لتحتمس الثالث: «رغم قوتك ومهارتك العسكرية فإنني الأقوى.» لم يكن ملهما كما اعتقد البعض، ولا مجنونا كما ظن البعض الآخر، ولكنه حظي بأكبر قدر من مكر الضعفاء الخبثاء، فأجاد تمثيل دوره. تخيل أنه يستطيع أن يخلق الدنيا على هواه، فعاش في دنيا من خلقه وصنعه لا رابطة تربطها بالواقع، دنيا خلق لها قوانينها وتقاليدها وأناسها، ونصب نفسه إلها عليها معتمدا على سحر العرش وسيطرته على النفوس؛ من أجل ذلك تلاشى سحره لدى أول صدام حقيقي مع الواقع، واجتاحه الفساد والتمرد والعدو وفر عنه الجبناء. وكثر الحديث عن ساعات وحيه وما تثمر من خوارق الأفعال والأقوال. وقد شهدت بعضها وأنا أعرض عليه الرسائل في خلوته. كانت تتلبسه حال من الانفعال المفتعل، فيخرج من حافة الوعي غائصا في المجهول، ويتبادل كلمات غامضة مع أطراف غير مرئية، ثم يعود رويدا إلى وعيه فيحدثنا عن إلهه الذي لن يخذله أبدا. وكنت أختلس نظرات من وجوه الدهاة من أمثال آي وحور محب وناخت، وأتساءل: هل حقا يصدقون المهزلة؟ ... هل حقا جاز عليهم خبثه الأنثوي؟! ... كلا، لقد تظاهروا بتصديقه لينال كل مأربه، وما كشفوا عن أنفسهم إلا حين تهددهم الموت من الشمال والجنوب. •••
وحدثني عن انقلاب الأحداث؛ فساد الموظفين، عذاب الناس، تمرد الإمبراطورية، تحرش الحيثيين بالحدود، مصرع توشراتا. •••
قال: أغرقني فيضان من الخوف على البلاد، ففكرت جادا في اغتياله لأنقذ الدنيا والدين من شره. وعثرت بلا كبير عناء على من تطوع لقتله في خلوته قبل الشروق، ويسرت له مخبأ في الحديقة، وكاد الرجل ينجح في مهمته لولا أن أدركه في اللحظة الأخيرة محو رئيس الشرطة، فعاجله بضربة قاتلة، واستحق بذلك لعنة الآلهة إلى الأبد. واستعنت كثيرا بالسحر، ولكنه لم يصب الهدف من سوء حظ البلاد، ولعل الخبيث كان يلجأ إلى السحر المضاد. •••
وروى ما تلا ذلك من انتشار التمرد في الأقاليم؛ زيارة الملكة تيى لأخت آتون، اللقاء التاريخي بين كاهن آمون ورجال إخناتون. •••
قال: ولما يئس الخبيث الماكر من رجاله، وعلم بتفكير الكهنة في اختيار توت عنخ آمون للعرش، أشرك سمنخ رع معه في عرشه، ولكني نجحت في اغتيال الشاب بوسائلي الخاصة، وإذا بالبناء يتصدع باختفاء نفرتيتي نفسها، فمات الشر، ولكن بعد أن نفث سمه في جميع الأوصال. وقد كان من سوء حظنا جميعا أن ساقه قدره إلى اختيار نفرتيتي زوجة له. حقا إنها امرأة قوية الشخصية، راجحة العقل، فائقة الجمال، ولكنها مثله مريضة بالطموح، فآمنت في الظاهر بدينه، وشاركته في الواقع مكره وخبثه. وعلى اليقين لم تكن تحبه، وما كان في وسعها ذلك، ولكنها هامت بالقوة والسيادة المطلقة. ولعلها دليل آخر على الدور الخفي الذي قام به الداهية آي الذي كان يتلقى في المناسبات هدايا الذهب تنثر عليه وعلى زوجته تي من الشرفة الملكية، فيحملها العبيد في القدور إلى قصره. ولكن كيف تعامت المرأة الذكية عن عواقب سياسة زوجها على البلاد والإمبراطورية؟ وهل آمنت حقا برسالة الحب والسلام؟! الحق أني لا أتصور ذلك ولا أسيغه، ولكن لعلها غالت في تقدير سحر العرش الفرعوني، وتوهمت أنه السحر الذي يغني عن العقاب والسيف وجيش الدفاع. ولعلها أدركت الخطأ في وقت مبكر، ولكنها خافت أن تعلن وساوسها فتفقد ثقة زوجها، فاستسلمت للمقادر. ولما تخلت الحاشية عن الملك تخلت عنه متعلقة بأمل أخير؛ ألا يغدر بها عشاقها. وأعتقد أن حور محب حاول إقناع الكاهن الأكبر بقبولها في طيبة، ولكنه رفض ذلك، وأصر على الرفض. وقد مات المارق وما زالت هي تتنفس في سجنها متجرعة الأحزان والحسرات.
لو أن الذي خلف أمنحتب الثالث على عرشه عدو من الحيثيين، لما استطاع أن يفعل بنا أكثر مما فعل المارق اللعين ...
تي
هي زوجة الحكيم آي، في السبعين من عمرها، صغيرة الجسم، ممتازة في صحتها بالقياس إلى عمرها، حلوة المحضر. وقد تزوج منها آي عقب موت زوجته الأولى أم نفرتيتي، فتلقتها تي وهي بنت عام أو عامين، ثم أنجبت له موت نجمت. ولما رفع الحظ نفرتيتي إلى العرش اختارت تي ضمن حاشيتها، ووهبتها لقب «مربية الملكة». ولولا أنها كانت تحبها ما فعلت ذلك، وهو ما يدل على أن تي أحاطت نفرتيتي برعايتها وحبها، وأنها لم تكن «امرأة أب» بالمعنى المألوف.
وقد سردت لها المعلومات التي حصلتها عن الأحداث التاريخية، ثم قلت: لا داعي للتكرار إن لم يكن لديك إضافة أو تعديل حفظا على وقتك وراحتك.
فقالت تي: لم أخالط الملك رغم قربي من زوجته، ولعله لم يخاطبني إلا مرات معدودة، ولكن عذوبته لا تبرح القلب أبدا. وقد عرفنا عنه الكثير من بعيد عن لسان زوجي آي الذي اختير لتعليمه. وأذهلنا ما سمعنا عن موقفه من آمون، وميله مع آتون، ثم أذهلنا أضعافا ما قيل عن اكتشافه للإله الجديد. الحق أنه أذهلني أنا وابنتي موت نجمت، أما حبيبتي نفرتيتي فكان لها موقف آخر. ولكن علي قبل ذلك أن أعرفك بها، إنها بنت ذكية، وذات روح متوثبة تعشق الجمال وتهيم بالأسرار الدينية، ونضجها يفوق سنها بكثير، حتى قلت يوما لزوجي آي: يخيل إلي أن ابنتك ستكون كاهنة!
وكان ينشب بينها وبين موت نجمت ما ينشب بين الأخوات الصغيرات من نزاع وخصومات عابرة، ولكن الحق كان دائما معها، ولا أذكر أنها تورطت في خطأ مرة، وكانت تصالح أختها كما يصالح الكبير الصغير. وكانت تتفوق في تعليمها لدرجة خشيت معها على ابنتي من ردة فعل يتعذر إصلاحها. وجعلت تتلقى كلمات ولي العهد بإعجاب فتميل معه إلى آتون، ثم تباغتنا بإعلان إيمانها بالإله الواحد. وقالت لها موت نجمت: إنه كافر.
فقالت بيقين: لقد سمع صوت الإله.
فصاحت بها: وأنت أيضا كافرة!
كانت ذات صوت عذب، وشد ما كان يسرنا أن نسمعها وهي تغني:
ماذا عساي أقول لأمي؟
فكل يوم أرجع إليها بالطيور.
أما اليوم فلم أنصب شباكي؛
لأن حبك قد ملكني.
وبعد إيمانها راحت تغني للإله الجديد وحدها في الحديقة، ولا أحد منا يريد أن يطرب لها، ولكني أذكر صوتها الذي اقتحم علي حجرتي ذات صباح وأنا أمشط شعري:
يا حي،
يا جميل، يا عظيم،
بك عم الفرح،
وأترع الكون بالنور.
هكذا كان قصرنا أول بيت يتردد فيه نشيد الإله الجديد. ودعينا لحضور الاحتفال بمرور ثلاثين عاما على جلوس أمنحتب الثالث على العرش، وسمح لنا باصطحاب بنتينا لأول مرة لشهود احتفال بالقصر الفرعوني. وزينت البنتين لعلهما يروقان في أعين صفوة الشباب، فارتدت كل منهما ثوبا طويلا فضفاضا، وطوقت منكبيها بمعطف مزركش قصير، منتعلة صندلا ذا سيور ذهبية. دخلنا قاعة لا تقل مساحتها عن مساحة قصرنا كله، مطوقة بالمشاعل ومقاعد المدعوين، على حين تصدرها العرش بين جناحين من الأمراء والأميرات، وبين هذا وذاك ترامى فراغ للعازفين والراقصات العاريات، وتنقل العبيد بين المدعوين والمدعوات يحملون المباخر والأشربة والأطعمة الفاخرة. وقلبت عيني بين صفوة الشباب فتمنيت لابنتي حور محب الضابط الواعد وبك المثال الموهوب، ورأيت الأعين تسترق النظرات إلى نفرتيتي آتية من نخبة الحاشية، حور محب وبك وناخت وماي، خاصة عندما أتيحت الفرصة لبنات الأشراف ليرقصن ويغنين في رحاب الملكين. وقد رقصت حبيبتي برشاقة آسرة، وغنت بصوت عذب فاقت به المطربات المحترفات. لعلي في تلك الليلة شاركت ابنتي موت نجمت غيرتها الصامتة، غير أنني عزيت نفسي قائلة: «إذا تزوجت نفرتيتي خلا الجو لموت نجمت، وتجلى نورها دون منافس.» وبدافع من حب الاستطلاع اختلست نظرات من نفرتيتي لأكتشف أين تتجه نظراتها، فأدهشني أن أراها منجذبة من أعماقها إلى معلمها الروحي ... ولي العهد! ونظرت نحوه فهالتني غرابة صورته، ورقته الأنثوية المثيرة للدهشة. ولما التقت عيناي بعينيها همست لي: حسبته عملاقا!
ولكن انبهارها غطى على دهشتها، ولم تكن تحلم بما يدخره لها القدر. ورجعنا إلى قصرنا، فقلت لزوجي آي: سيطرق بابنا الخطاب يا آي، فدبر أمرك ...
فقال بهدوئه المألوف: الآلهة ترسم لكل مصيره.
وبعد مرور يوم أو يومين فاجأني آي بقوله: الملكة تيى ترغب في مقابلة نفرتيتي ...
فأذهلنا الخبر، وسألته: ماذا يعني ذلك؟
فتفكر مليا ثم قال: لعلها سترشحها لوظيفة في القصر! - ولكنك تعرف أشياء ولا شك!
فقال: كيف بمعرفة ما يدور في رأس الملكة العظمى!
وأخذ يلقنها أصول الآداب المتبعة في لقاء الملوك، وقلت لها: فليباركك آمون برعايته ...
فقالت بثبات: إني أسأل الإله الواحد رعايته ...
فهتف بها آي بحزم: حذار أن تتفوهي بحماقة في حضرة الملكة.
وذهبت نفرتيتي. ورجعت شديدة الانفعال، فطوقتني بذراعها وأجهشت في البكاء، أما آي فقال: اختارتها الملكة زوجة لولي العهد!
عصف الخبر بأفئدتنا عصفا، سمت به حبيبتي نفرتيتي فوق الغيرة والمنافسة. ها هي تفتح لنا باب الحظ السعيد لننفذ منه إلى الأسرة المالكة. لقد أظلنا حظها بجناحيه العريضين، وحلق بنا فوق الجميع؛ من أجل ذلك هنأتها من أعماق قلبي، وكذلك فعلت موت نجمت. وراحت تحدثنا عما دار بينها وبين الملكة العظمى، ومن شدة تأثري لم أتابعها بالدقة المتوقعة، وليس في ذاكرتي اليوم أثارة منه، وما أهمية الحديث إذا قيس بالنتيجة التي انتهى إليها؟ وتم الزواج في حفل رائع أعاد إلى ذاكرة المخضرمين ذكرى زفاف الملك أمنحتب الثالث. وصرنا جميعا ضمن الأسرة المالكة، واختارتني حبيبتي لوظيفة المربية الخاصة لها، وهو مركز في القصر يلي مركز الأميرات مباشرة! وبالزواج صارت نفرتيتي والأمير وحدة لا تتجزأ، ولا يفرق بين نصفيها إلا الموت. وقد شاركته الأفراح والأحزان إلى ما قبل النهاية بساعات، ودبرت له شئون ملكه بمهارة امرأة خلقت للعرش، وشاركته حمل رسالته الدينية كأنها كاهنة مختارة حقا بعناية الإله الواحد. صدقني لقد كانت ملكة عظيمة بكل معنى الكلمة؛ لذلك صعقت عندما علمت بهجرها المفاجئ لزوجها في ذروة محنته، ولعله أول قرار اتخذته دون علمي، فهرعت إليها في قصرها، وجلست عند قدميها مستسلمة لنوبة من البكاء. ولم يبد عليها أنها تأثرت لحالي، وقالت لي بهدوء: اذهبي بسلام ...
فقلت برجاء: إنهم يذهبون وقاية للملك من أي شر.
فكررت ببرود: اذهبي بسلام.
فتساءلت في حيرة: وأنت يا مولاتي؟
فقالت ببساطة: لن أغادر هذا القصر.
فهممت بالكلام، ولكنها قاطعتني بنبرة آمرة: اذهبي بسلام.
وغادرتها كأتعس امرأة على وجه الأرض. وفكرت طويلا فيما دفعها إلى الاختفاء، فلم أهتد إلا إلى فرض واحد، هو أنها كرهت أن تشهد هزيمة الملك وإلهه، فلاذت بالهرب خلال لحظة يأس طارئة، على أن ترجع إليه بعد ذهاب الجميع. ولا أشك في أنها سعت إلى ذلك، ولكنها منعت بالقوة. ولا تصدق أي تفسير آخر لهجرها القصر. سوف تسمع أقوالا متضاربة، وسيدلي كل رجل بما يؤكد أنه الحق، بينما ينطق عن هواه. لقد علمتني حياتي بألا أثق في أحد ولا أصدق أحدا. وها هو الزمن يمضي وأنا أتساءل دائما: أكان مولاي إخناتون يستحق تلك النهاية المحزنة؟ كان النبل والصدق والحب والرحمة، فلم لم يبادله الناس نبلا بنبل، وصدقا بصدق، وحبا بحب، ورحمة برحمة؟ لماذا انقضوا عليه كالوحوش يمزقونه ويمزقون ملكه كأنه عدو أثيم؟! ولقد رأيته في المنام منذ أعوام مطروحا على الأرض والدم ينزف من جرح غائر في عنقه، فاستحوذ علي شعور قوي بأنهم قتلوه قتلا مدعين كذبا أنه مات ميتة طبيعية.
وسكتت وهي تنظر فيما أمامها بأسى، ثم تمتمت: لقد عاشرنا رجلا لا يتكرر.
موت نجمت
في بدء الحلقة الرابعة، جميلة رشيقة، يشع من عينيها العسليتين ذكاء، شعرت في محضرها بوجود مسافة بيني وبينها لا يمكن أن تعبر. وهي ابنة آي وتي وأخت نفرتيتي، وتقيم في جناح خاص بها في قصر آي. وثمة لغز رابض في حياتها، وهو أنها لم تتزوج رغم كثرة خطابها. وما كدت أجلس بين يديها وأبسط أوراقي حتى أنشأت تقول: قدر لنا أن نشارك في مأساة إخناتون المارق؛ فقد اختير أبي الحكيم آي معلما له، فحمل أبي إلينا أخباره وأفكاره، ومن أول الأمر أسأت به الظن، واتهمت عقله، ثم أثبتت الأيام صدق شعوري وتفكيري. وكان لنفرتيتي موقف آخر دهشت له الأسرة، أما أنا فلم أدهش له. كانت تحب دائما أن تلفت الأنظار بتحديات مفتعلة، وتود أن تثير من حولها عواصف المناقشات. أجل كانت ذكية، ولكنها لم تكن صادقة ولا مخلصة، هذا ما أغراها بعبادة آتون وتفضيله على آمون، وما دعاها أخيرا للكفر بجميع الآلهة والإيمان بإله لم نسمع عنه من قبل. وقد سمعتها مرة وهي تقول لأبي: أبلغ يا أبي ولي العهد أنني مؤمنة بإلهه.
فقال لها أبي متجهما: إنك حمقاء يا نفرتيتي ولا تقدرين العواقب!
وكنت بسبب تجديفها أخاف أن تحل اللعنة بنا جميعا. لقد بقي إيماني بآلهتي حيا في قلبي لا يتزعزع. أجل أعلنت إيماني بالإله الجديد لانتمائي للأسرة الملكية، وبقصد أن أبذل ما أستطيعه في موقعي الجديد دفاعا عن آلهتي المقدسة، ولكن إيماني بآلهتي لم يهن قط. وأتيح لي أن أرى المارق لأول مرة في حفل العيد الثلاثيني للجلوس على العرش، فعجبت للشبه الخارق بين أفكاره المنحرفة وبين صورته المتنافرة الجامعة بين الهزال والقبح؛ لذلك فلا تأخذ مأخذ الجد ما قد تسمع عن الحب النبيل الذي جمع بين قلبي المارق وملكته العظمى نفرتيتي؛ فإني أعرفها حق المعرفة، وأعرف المثال الذي حلمت به كفتى لأشواقها، إنه لا يمت بصلة للفتى الهزيل القبيح العاجز الذي خلق نصف أنثى ونصف ذكر. وكانا يزعمان أنهما يعيشان في الحقيقة، أما هو فكان يعيش في الجنون، وأما هي فعاشت في الكذب والخديعة، ولم تحب سوى العرش والسلطان. وفي الحفل غلبتها طبيعتها الدفينة فأعلنت عن جمالها بلا حياء كأنها امرأة محترفة، ورمت شباكها حول حور محب، ولكنه لم يكن يكترث لذلك النوع من النساء المبتذلات. ولما دعينا نحن بنات الأشراف للرقص والغناء، قمت أنا فرقصت في احتشام، واخترت أغنية موجهة لفرعون:
أنت تجيء كالشبع فينتهي الجوع.
أنت تجيء كالثياب فينتهي العري.
أنت كالسماء الهادئة بعد عاصفة هوجاء.
تعطي الدفء لمن أصابه البرد.
أما نفرتيتي فقد أذهلت الجميع برقصتها الداعرة، ولكنها سرقت استحسان الفاسقين، وما أكثرهم! ثم اختارت أغنية خليعة فغنت:
في صحتك،
اشربي حتى تثملي،
ولا تضيقي ذرعا بالسرور.
لقد حضرت ونصبت الفخ،
لنفتح الفخ سويا
أنا وأنت معا بمفردنا.
ما أجمل أن تكون معي هناك!
ونكس أبي ذقنه وتلعثمت أمي. وتهامست المغنيات المحترفات: «ما أجدر هذه البنت أن تغني معنا!» ورجعنا إلى قصرنا آخر الليل وهي تحلم بأن يطرق بابنا في الصباح حور محب، ولكن الأقدار كانت تعد لنا مفاجأة أخرى؛ إذ كانت تعدها لمصر والإمبراطورية. دعيت الماكرة إلى مقابلة تيى الملكة العظمى، ورجعت زوجة لولي العهد. وقلت لأمي: ألا يدعم فرعون شرعيته عادة بالزواج من أميرة ذات دم ملكي؟ فقالت لي أمي: لا أهمية لذلك إذا كان فرعون صاحب قوة مسيطرة، وقد وافق على اختيار عروس من بنات الشعب لابنه كما سبق أن اختار لنفسه.
وقبلتني هامسة في أذني: كوني عاقلة يا موت نجمت، لا شك أنك أفضل منها، ولكن لا حيلة لنا مع الحظ، فاقنعي بأنك ستصيرين من الأميرات، وبأن الدنيا ستقبل عليك بقدر ما تبدين من إخلاص لأختك!
فقلت لها بصراحة ووضوح: سأتبع الحكمة مع المحافظة على الكرامة والإخلاص.
وهو ما حرصت عليه دائما، ولم أنحرف عن خطه المستقيم. ولما خلوت إلى نفرتيتي سألتها: هل راق لعينيك حقا؟
ومع أنها أدركت من أعني إلا أنها تساءلت متغابية: من تعنين يا موت نجمت؟ - زوجك المقبل!
فقالت بحماس: إنه معجزة بين الرجال!
فسألتها بعناد: أهو كذلك كزوج؟
فأجابت بغموض: لا يمكن الفصل بين الكاهن والزوج!
وقرأت أفكارها كما أقرؤها عادة. سوف تقاسمه العرش ملكة وكاهنة، ولن يعجزها أن تظفر بمن يشبع عواطفها المتعطشة للحب والحياة. وقد مارست ذلك بكل طمأنينة، معتذرة أمام ضميرها بعجزه، لائذة بسياسته المعلنة في الاعتماد على الحب ورفض العقاب والعنف، فلم تخش من جانبه انتقاما كسائر الفاسدين من معاونيه. وقد توكد لي عجزه وشذوذه من خلال اتصالاتي اليومية بحريمه. هناك يعرفون الحقائق التي تخفى عن أقرب المقربين من رجال الدولة. هناك تندروا بعجزه، وهنا فضحوا سر العلاقة الآثمة بينه وبين أمه؛ المرأة الوحيدة التي عبر عجزه في حضنها، والمرأة الوحيدة التي أنجبت له ابنة. وذاك شذوذ لم تعرفه بلادنا على مدى تاريخها؛ من أجل ذلك ثبت لدي أن بلادي تمضي نحو مصير أسود. وعاهدت ضميري أن أقف مع الحق حيث يكون. ومات أمنحتب الثالث، وتبوأت نفرتيتي العرش ملكة عظمى مكان تيى. وعشنا أياما كئيبة في طيبة، ثم انتقلنا إلى أخت آتون؛ أجمل مدينة عرفها الإنسان. واستقبلنا من الزمان أيام سرور ونصر ورخاء، وأمهلت الآلهة للمارق، فتركته يلغي وجودها ويصادر أوقافها، ومهدت له أسباب النجاح والسرور، حتى ظن الجاهل أن الفوز المبين قد تقرر للإله الجديد ولرسالته الخيالية في الحب والسلام. وقلت لأمي وليس معنا ثالث: أين الآلهة؟ ما لها لا تغضب لما حاق بها؟
وإذا بأمي تقول: ذلك شاهد على صدق الإله الجديد يا موت نجمت!
فرمقتها بذهول، وخيل إلي أن دنيا تغرب، وأن دنيا أخرى تشرق لا سبيل إلى الشك فيها، ولكن ليل الحلم أخذ ينقشع ويتلاشى، وزمجرت عواصف الأحزان مكتسحة الداخل والخارج معا. وكلما عضنا الدهر قلت لأبي: ها هو آمون يكشر عن أنيابه.
فيقول لي: لا ترددي أقوال الكهنة الحاقدين!
فأقول له: حدثني يا أبي عن واجبك في هذه الظروف؟
فيقول باستياء: لست في حاجة إلى من يذكرني بواجبي يا موت نجمت!
ومرة سألت نفرتيتي: ألا تفعلين شيئا للدفاع عن عرشك؟
فقالت لي بحماس لم يجز علي: نحن نفنى في خدمة عرش الإله الواحد.
لم تكن مخلصة، ولم تعرف الإخلاص الحقيقي في حياتها. كانت تخشى إذا حذرت زوجها من مغبة عناده أن ينزع الثقة منها فيختار امرأة أخرى ملكة وكاهنة. ومن خلال محاولاتي الحذرة مع الرجال اكتشفت إخلاص توتو وزير الرسائل، فاستمر الحوار بيننا حتى تكاشفنا تماما، ثم كان الوسيط بيني وبين كاهن آمون الأكبر. وكانت تجربة أليمة خضتها بعذاب شديد. كان علي أن أختار بين إخلاصي لأسرتي الجديدة وبين الولاء للبلاد والآلهة، واخترت بعد أن دفعت ثمن اختياري ألما وعذابا. هكذا انضممت إلى المعسكر الآخر، معرضة عن مصلحتي الشخصية وسعادتي الأسرية. وقال لي توتو يوما: الكاهن الأكبر يطالبك بالسعي لضم الملكة إلينا!
فقلت له: لقد سعيت إلى ذلك من قبل أن أكلف به، ولكني وجدتها لا تقل جنونا عن المارق.
وبناء على ذلك أرسل الكاهن الملكة تيى إلى أخت آتون، ثم جاء بنفسه ليلقي على الرجال إنذاره الأخير. وشد ما عارض توتو ذلك! كان يقترح الانقضاض عليهم دون إنذار، ووضعهم جميعا في الأغلال، وإشعال النار في المدينة المارقة. وكنت أود أن أضم حور محب قائد الحرس إلينا؛ فهو صاحب القوة الحقيقية في المدينة، وعرف دائما بالصلابة والاستقامة. ومن خلال الأحاديث التي دارت بيني وبينه آنست منه اتفاقا في الرأي يخفيه الحذر وافتقاد الثقة المتبادلة. ولما لاحت في الأفق نذر الحرب الأهلية قلت له: علينا أن نعيد النظر في مواقفنا.
فرمقني بنظرة متسائلة، فقلت بصراحة: لا يمكن أن نترك مصر تحترق وتصير رمادا.
فسألني بدهاء: ألم تفاتحي أختك الملكة في ذلك؟
فقلت بصراحة أذهلته: إنها لا تقل جنونا عن الملك!
فسألني باهتمام: ماذا تقترحين؟
فقلت بحدة: كل شيء مباح لإنقاذ البلاد ...
ثم كانت النهاية التي عرفتها؛ نهاية مأساة فاقت غزو الهكسوس لبلادنا في الماضي، مأساة خلقها جلوس مجنون على العرش مستغلا قدسية العرش التقليدية في ممارسة نزواته. ولا شك في أن ذنب نفرتيتي أثقل من ذنبه؛ لما خصت به من ذكاء ودهاء، ولكنها لم تهتم إلا بذاتها وطموحها، فلما تولى عنه المجد هجرته في الحال، منضمة في الظاهر إلى أعدائه، مرشحة نفسها ملكة تدعم العرش الجديد، ولكن حيلتها لم تنطل على أحد، فانقبرت في وحدة مظلمة لتجتر العذاب والندم.
مري رع
في الحلقة الرابعة، أسمر خمري، نحيل، ذو نظرة حزينة تصلح عنوانا لمأساة، يعيش في بيت صغير، بلا رفيق أو خادم، ذلك الذي كان يوما الكاهن الأكبر للإله الواحد، في مدينة النور أخت آتون. وقد زرته في بلدته دشاشة على مبعدة من طيبة بمسيرة يومين إلى الشمال. ولما قرأ رسالة أبي سألني باسما: ولم تتجشم هذا التعب؟
فقلت ببساطة: لأعرف الحقيقة.
فقال وهو يهز رأسه في أسى: حسن أن يوجد ولو فرد واحد من طلاب الحقيقة.
ثم مضى يقول: لعلي الشخص الوحيد الذي حمل بالقوة من أخت آتون بعد أن رفض التخلي عن مولاه، وقد سكت الصوت الإلهي وتهدم المعبد، ولكن الدهر لم ينطق بالكلمة الأخيرة بعد.
ورنا إلي طويلا بعينيه البنيتين ومضى يقول: أسعدني حظي في صباي بأن أكون ضمن حاشية الأمير، فملت مثله إلى الأمور الروحية، ودرسنا معا ديانة آمون وديانة آتون. ومثل كثيرين فتنت به وأخذت بحديثه الساحر، وروعت بنضجه السريع الخارق للمألوف. وقد باركني بقوله الذي غزا به قلوب أتباعه، فقال لي: إني أحبك يا مري رع؛ فلا تضن علي بحبك.
فتغلغل حبه في قلبي حيث لم تبلغ عاطفة من قبل، حتى أباح لي خلوته على شاطئ النيل في أي وقت أشاء. وهي خلوة في الطرف الغربي من القصر، تطل على النيل، في هيئة مظلة تقوم على أربعة أعمدة تحدق بها أشجار النبق والنخيل، أرضها من العشب النضير، تتوسطها حصيرة خضراء ووسادة. كان يستيقظ عند الفجر فيمضي إلى الخلوة ينتظر شروق الشمس، ويتغنى لقرصها البازغ من وراء الحقول. وما زال صوته العذب يجيش في صدري، وينتشر في حواسي مثل رائحة البخور المقدس وهو يترنم:
إنك تسطع جميلا في جبل النور في السماء،
يا آتون الحي يا من عاش أولا،
إنك إذا أشرقت في جبل النور الشرقي،
ملأت كل بلد بجمالك.
إنك جميل، إنك عظيم.
إنك تتلألأ عاليا فوق كل بلد،
وأشعتك تضم البلاد،
وكل شيء خلقته.
إنك بعيد، ولكن أشعتك على الأرض.
وكان يذوب من الوجد، وينبثق من وجهه الصبيح الأنوار، ثم نتجول في الحديقة وهو يقول: لا يوجد سرور خالص إلا في العبادة.
ذلك أن حياته لم تخل من منغصات. وذات مرة تشكى لي قائلا: يأبى أبي إلا أن يجعل مني مقاتلا يا مري رع!
لم يمر تدريبه العسكري الفاشل دون أن يترك في نفسه ألما يحز. أو ينظر في المرآة المؤطرة بالذهب الخالص ويقول باسما: لا قوة ولا جمال!
أما موت أخيه الأكبر تحتمس فقد حفر في وجدانه جرحا غائرا لعله لم يبرأ منه إلا حينما أصيب بجرح أشد بموت ابنته المحبوبة ميكيتاتون. شد ما بكى أخاه الذي نصبه موته وجها لوجه مع حقيقة الموت الصلبة الغامضة. وسألني: ما الموت يا مري رع؟
فلذت بالصمت متحاشيا الإجابات التقليدية التي يضيق بها. فعاد يقول: ولا آي نفسه يعرف، قرص الشمس وحده يشرق بعد الغروب، أما تحتمس فلن يرجع إلى هذا الوجود مرة أخرى!
وهكذا أعلن حربا أبدية على الضعف والقبح والحزن. ومضى في طريقه المجهول مثل شعاع الشمس، تنذر بوادره كل يوم بجديد، حتى لقيته ذات صباح مشرق شاحب اللون في خلوته، مستقر النظرة، ثابت الجنان، فقال لي دون أن يرد تحيتي: ليست الشمس شيئا يا مري رع.
فلم أدرك مقصده، فجذبني إلى مجلسه فوق الحصيرة وقال: استمع إلى الحقيقة يا مري رع. ليلة أمس أسكرني الشوق بلا خمر، وتجسد لي الظلام جليسا أنيسا كالعروس المتجلية، وحلقت بي نشوة آسرة في الفضاء، وهناك عبر ألف خيال وخيال بزغت الحقيقة للفؤاد أقوى من أي منظر تراه العين، وترامى إلي صوت أجمل من عبير الأزهار، فقال لي: «املأ وعاء قلبك بأنفاسي، واطرد عنه ما ليس مني، أنا القوة التي تتسلل منها قوى الوجود، أنا النبع الذي تتدفق منه الحياة، أنا الحب والسلام والسرور، املأ وعاء قلبك مني ويسره مشربا للمعذبين في الكون.»
ومن شدة تألقه تراجع رأسي في انبهار، فقال لي: لا تخف يا مري رع، ولا تبتعد عن السعادة!
فغمغمت وأنا ألهث: يا له من نور!
فقال بعذوبة صافية: تعال لتعيش معي في الحقيقة ...
فاعتدلت في جلستي وقلت: إني معك إلى الأبد.
ومنذ تلك الساعة السعيدة صار أول كاهن للإله الواحد الذي لا إله غيره، وغدا معلمي وأستاذي، ورائد من لبوا النداء. وقلت له: آمنت بإلهك.
فقال بحبور: أحسنت، ولتكن أول كاهن في معبده.
وأعلن إيمانه لخاصته، ولكنه لم يتعرض للآلهة إلا فيما بعد، وبالتدرج أيضا، فأعلن كفره بالآلهة الزائفة أولا، ثم ألغاها ووزع أوقافها على الفقراء في خطوة تالية. أما على عهد إمارته فلم يكن بوسعه في حكم والده أن يكون صاحب قرار. وقد تزوج من نفرتيتي وهو ولي للعهد، فوهبه الزواج سعادة كبرى، غير أن أسعد ما أسعده حظي به من إيمانها الصادق بإلهه. وفي أخت آتون تبوأت مركز الكاهن الأكبر للإله الواحد، ولما عزم مولاي على مصادرة المعابد قلت له: إنك تتحدى قوة ذات نفوذ قديم على الناس من النوبة حتى البحر.
فقال لي بثقة: ما الكهنة إلا دجالون، يستعبدون الضعفاء، وينشرون الخرافات، وينهبون الأرزاق. معابدهم مواخير، وقلوبهم ثملة بحب الدنيا ...
فاكتشفت فيه قوة حقيقية أخفاها عن الأعين تهافت بنيانه، وشجاعة لا يحظى بجزء منها حور محب قائد الحرس أو ماي قائد الحدود. وقد حسبه أناس لغزا لا يحل، لكنه وضح بالنسبة لي مثل نور الشمس. لقد فني في حب إلهه، وأحبه الإله، فكرس حياته لخدمته ملقيا بالعواقب جانبا، فلم يلتبس علي قرار من قراراته ولا موقف من مواقفه. لم أدهش لسلوكه في رحلته المشهورة حول عالم إمبراطوريته، ولم أدهش لتمسكه برسالة الحب والسلام حتى في أحرج الظروف، ولم أدهش لموقفه الأخير عندما تخلى عنه أقرب المقربين إليه. كان يعيش في رحاب الإله ويصدع بأمره، ولا يبالي بعد ذلك بما يحيق به؛ إذ كيف يمكن من ينغمس في الحقيقة أن يكترث لمكر الساسة ودهاء العسكريين؟! وقد رموه بالخيال والحلم والجنون، فكان هو العائش في الحقيقة، وكانوا هم الخياليين الحالمين المجانين الغارقين في أوهام الدنيا الفاسدة. ولم يكن العرش يهمه كما يهم الملوك العاديين، بل إنني أذكر أنه عندما دعي من رحلته لتولي العرش بعد وفاة أبيه، تجهم وجهه وتساءل: ترى هل تشغلني الشواغل عن إلهي؟
فقلت له بحماس صادق: بل إنك مدعو يا مولاي لوضع قوة العرش في خدمة الإله، كما التزم أجدادك بخدمة آلهتهم الزائفة.
فسري عنه وتمتم: نطقت بالحق يا مري رع، فكما قدموا لآلهتهم قرابين من البشر المساكين، سأقدم قوى الشر قرابين لإلهي، محطما الأغلال التي يرسف فيها من لا حول لهم.
واعتلى العرش ليخوض أشرس معركة خاضها ملك، ولكن في سبيل الحقيقة والحب والسلام وسعادة البشر، وأثبت في غمارها أنه أقوى عشرات المرات من تحتمس الثالث نفسه، وكان رجاله يمثلون أمام عرشه فتصرف نفرتيتي أمورهم اليومية، أما هو فلا يني عن إعادة خلقهم من جديد ليكونوا جديرين حقا بالنعمة الإلهية والنبل البشري. وتجلى سحره كأقوى ما يكون في نشر دعوته بالأقاليم، وقد فتن الناس به، وسكروا بخمر رسالته، وألقوا عليه محبتهم مع الأزهار والرياحين. وسكت مري رع ليتنهد طويلا، ثم واصل حديثه: ثم جاءت سحب الأحزان يتبع بعضها بعضا مسوقة بأنفاس الحقد في داخل البلاد وخارجها، وتلقاها كل رجل بحسب قوة إيمانه، ولم يعبأ بها مولاي، وراح يردد: لن يخذلني إلهي.
وقال لي يوما في المعبد: الرجال ينصحونني بالاعتدال، وإلهي يأمرني بالإيمان، فأيهما أتبع يا مري رع؟
ولم يكن سؤاله الساخر في حاجة إلى إجابة. ولما مضت الأزمة في الاشتداد جاء حور محب لمقابلتي في المعبد، وقال لي: أيها الكاهن الأكبر، إنك أقرب الرجال إلى الملك.
فأجبته وأنا أحدس ما سيقول: تلك نعمة الإله علي.
فقال بصراحة: الأمور تقتضي تغيير السياسة.
فقلت له بثبات: أستمع لصوت الحقيقة وحدها.
فقطب فيما يشبه الضجر وقال: أتوقع أن أسمع كلاما معقولا.
فقلت بحدة: لا تفاهم إلا بين المؤمنين.
ولما علمت بقرارهم في التخلي عن الملك بحجة الدفاع عن حياته قلت لآي: من ناحيتي لا أقر العودة إلى الكفر.
ورفض مولاي التراجع خطوة واحدة، ولكن كانت له خطته أيضا في تجنب الحرب الأهلية؛ فكان عازما على مواجهة الشعب وحده والجنود المتمردين، وكان كامل الثقة في قدرته على إعادتهم إلى حظيرة الإيمان، ولكن الحاشية آمنت بأنه سيقتل حتما، وأنهم سيلحقون به جزاء بقائهم على الولاء له. وتخلى عنه الجميع، وقد ضموني إلى قافلتهم المرتدة بقوة الجند، وأمروا الحرس بمنعه بالقوة إذا صمم على مواجهة الشعب. وحيل بينه وبين ما يريد بالفعل، ووجد نفسه وحيدا حبيسا في قصره، حتى نفرتيتي ذهبت مع الذاهبين، وعند ذاك غزا الحزن قلبه أمام ضعف الإيمان الذي بذل حياته الغالية في بثه وتثبيته. وقيل لنا عقب ذلك إن المرض تمكن منه وقضى عليه. والحق أني أشك في ذلك، وأرجح أن الأيدي الآثمة امتدت إليه في عزلته وانتزعت منه روحه الطاهرة الخالدة. وقد مات دون أن يعلم بأنني ما تخليت عنه إلا بالقوة، وفي اعتقادي أن نفرتيتي أبعدت عنه بالقوة أيضا، ولا أتصور غير ذلك أبدا.
وصمت مرة أخرى ليتنهد، ثم رنا إلي طويلا وقال: ولكنه لم يمت، ولا يمكن أن يموت، إنه الحقيقة الباقية والأمل المتجدد، ولينتصرن عاجلا أو آجلا، ألم يعد الإله بأنه لن يخذله؟!
ومال إلى خزانة فاستخرج منها لفافة من البردي، فأعطاها لي وهو يقول: إنها تحوي رسالته وأناشيده، اقرأها يا فتى، وليستجيبن لها قلبك المحب للحقيقة، فإنك لم تقم برحلتك لغير ما سبب ...
ماي
سعيت إلى لقائه في رنوكولبورا على الحدود حيث يقيم في خيمة بين جنوده من جيش الحدود. كان على عهد إخناتون قائدا لجيش الحدود، وما زال يشغل مركزه بكل جدارة في العهد الجديد. وقد وجدته كهلا عملاقا جاد الملامح معتزا بنفسه لحد كبير. وبعد إطلاعه على خطاب والدي قال بانفعال مرحبا بالفرصة التي دعته للتنفيس عن صدره: ذلك المارق، مجهول الأب الذي أذل بشذوذه أعناق الرجال! لقد سكتت طبول القتال، ونكست رايات المجد؛ ليرتفع صوت الغناء والطرب من فوق عرش الفراعين من حنجرة امرأة قبيحة الوجه متنكرة في إهاب الرجال. وقد أرغمت - أنا قائد الدفاع عن الإمبراطورية - على التجمد وأوصال الولايات تتمزق وتقع في قبضة المتمردين والأعداء، واستغاثات المخلصين من أصدقائنا تتلاشى في الهواء. أفقدنا ذلك المخبول شرفنا العسكري، وجعلنا هزأة للمعتدين وفريسة سهلة لقطاع الطرق. ومن حسن حظي أنني لم أكن ضمن حاشيته وإن اقتضى واجبي التردد على أخت آتون بين الحين والحين. وفي كل مرة كانت تتملكني الحيرة لخدع رجال مثل آي وحور محب وناخت لغر مشوه، وولائهم المذهل له ما بين القصر والمعبد. وكنت وما زلت مخلصا لآلهة بلادي وتقاليدها المتوارثة، يوم بلغني كفره غضبت غضبا شديدا، وعقدت العزم على الانضمام إلى المؤمنين إذا شقوا عصا طاعته. ويوم صدر الأمر بإغلاق المعابد وتشريد الكهنة أيقنت من أن اللعنة الكبرى ستحيق بنا، وستوجه ضربتها إلى الجميع غير مفرقة بين الخبيث والطيب. ولدى زيارة لي لطيبة، جاءني بليل الكاهن الأكبر لآمون، وسألني: هل تجد حرجا في هذا اللقاء؟
فأجبته بصراحة أدهشته: لي الشرف، وقصري رهن إشارتك.
فشكرني وقال: إنك من جيل الأبرار يا ماي. انظر إلى الناس كيف فقدوا السلوى والعزاء، كان أهل الإقليم يلوذون بآلهة ويقدمون القرابين، ويفزعون إلى كاهنهم في الملمات فيرشدهم في الحياة وحين الموت، ضاع المساكين كالأغنام الضالة ...
فقلت بامتعاض شديد: وما جدوى التشكي؟! ألا ترى أن الواجب يطالبنا بالتخلص منه؟
فتفكر قليلا ثم قال: ولكن ذلك سيجر علينا حربا طاحنة! - ألا يوجد حل؟
فقال بيقين: إقناع رجاله المقربين! - يا له من أمل بعيد.
فقال الرجل بحذر: لن نعمد إلى وسيلة يائسة قبل أن نستنفذ جميع الحيل ...
فعاهدته قائلا: ستجدون جيش الدفاع وراءكم في اللحظة المناسبة.
ولكن نجاح حملة التحريض عليه اقتضت وقتا طويلا، حلت فيه الكارثة بالبلاد، فلم يبق إلا أن ننقذ ما يمكن إنقاذه من تحت الأنقاض. ولقد تساءل كثيرون عن سر المأساة. أقول لك إن سرها يكمن في ضعف المارق؛ ضعف جسده وعقله معا. لقد أفرطت أمه في تدليله فنشأ شديد الحساسية لحد المرض، داعيا بانحطاطه لدى المقارنة بأقرانه المميزين مثل حور محب وناخت وبك، فأخفى شعوره بالهوان وراء ستار رقيق من التواضع الأنثوي والعذوبة المخنثة، على حين بيت الغدر لكل قوي، إلها كان أو كاهنا؛ ليخطر وحده في الساحة، محتكرا لصوت الإله الذي اخترعه، ولقوته غير المحدودة. من ناحية أخرى تصدى ضعفه لكل طامع كإغراء لا يقاوم. أجل لقد هرع إليه الرجال لا خوفا من قوته، ولكن طمعا في ضعفه؛ من أجل ذلك أعلن رجال الإمبراطورية إيمانهم برسالته، فبعث إليهم برسائل الحب حين تمردهم بديلا عن جيش الدفاع؛ ومن أجل ذلك أعلن الإيمان به رجال لا يرتقي الشك إلى عقولهم مثل آي وحور محب وناخت، وامرأة داهية مثل نفرتيتي. كان ضعفه الطعم الذي جذب إليه المنافقون والطماعون واللصوص والفاسقون. ولبثوا يتابعون أناشيده في المعبد ثم ينهبون الأموال ويستغلون العباد، حتى تهددهم الموت فتخلوا عنه، وانضموا إلى أعدائه محملين بغنائمهم؛ لذلك أعلنت رأيي للكاهن الأكبر عند اشتداد الأزمة. قلت له: لا تقم بزيارتك لأخت آتون، لا تنذرهم، دعني أزحف عليهم وأبيدهم ليستقر قلب العدالة ...
وأيدني توتو بحماس أشد، ولكن الكاهن الأكبر مال مع الحلم وحقن الدماء، فقال لي: حسبنا ما أصابنا.
وأدركت ما يجول بخاطره. إنه رجل داهية، وينظر إلى بعيد، فقدر ولا شك أنه إن أذن لي في القتال فقضيت على المارق ورجاله، أحرزت بحق الصدارة والبطولة، وحزت بذلك أقوى الأسباب لاعتلاء العرش. وعند ذاك سيجد على العرش ملكا قويا لا يمكن أن يتجاوز حجمه الطبيعي في رحابه؛ لذلك جنح إلى السلم، واختار للعرش غلاما لا حول له ليكبر ويتضخم على حسابه. وها هم اليوم يحومون حول العرش؛ الكاهن وآي وحور محب، ويتربصون بصاحبه. هكذا تجري الأمور في مصر التي نضب فيها معين الإخلاص.
على أي حال فنحن اليوم خير مما كنا أمس. لقد هجر المارق مع ضعفه فمات غما، وها هي الداعرة تنتظر النهاية وحيدة بين أطلال المدينة الكافرة.
وسكت ماي مضيفا على نبرته نغمة الختام، بيد أني سألته: ونفرتيتي يا سيدي القائد؟!
فقال بلا مبالاة: امرأة جميلة خلقت لاحتراف الدعارة، فشاء حظها أن تمارس هوايتها في عشق الرجال من فوق العرش، ولا تصدق ما يحتمل أن تسمعه عن كفاءتها كملكة؛ فلو كان بعضه حقا لا كله ما سقطت البلاد في عهدها في هوة الفساد والخراب، وقد تخلت عنه في اللحظة التي فقد فيها نفوذه، ولكنها خابت في ركوب السفينة الجديدة!
محو
زرته في قريته جنوب طيبة يعيش من الزراعة بعد أن كان رئيسا لشرطة إخناتون في أخت آتون. وهو في الأربعين من عمره، غليظ القسمات واضحها، قوي البنيان، تطل من عينيه الصغيرتين نظرة حزينة. ولما قرأ رسالتي شبك أصابعه فوق رأسه داعيا بحسرة ذكريات تولت، وأنشأ يقول: جفت ينابيع السرور من بعده، سامحتك الآلهة يا مصر!
بدأت علاقتي به بطريقة لا تتكرر ولا يحلم بمثلها أمثالي. كنت جنديا من حرس القصر الفرعوني، وكنت ألمحه في الحديقة من بعيد. وذات صباح رأيته مقبلا نحوي كأنما اكتشفني لأول مرة، فتحولت إلى تمثال بين يديه. نظر إلي طويلا حتى شعرت بنظرته تجري مع دمي وتتردد مع أنفاسي. وإذا به يسألني: ما اسمك؟ - محو. - من أي مكان أنت؟ - من قرية فينا. - صناعة أهلك؟ - فلاحون. - لماذا اختارك حور محب في الحرس؟ - لا أدري. - إنه يختار الشجعان.
فانتفض قلبي سرورا ولم أنبس، فقال بثقة: إنك شاب صادق يا محو.
فطرت من الفرح ولزمت الصمت، وإذا به يسألني: أتقبل صداقتي؟
فتلاشى عقلي من الذهول وتمتمت: ما أرفع هذا الشرف عن متناولي!
فمضى باسما وهو يقول: سنلتقي كثيرا أيها الصديق.
تلك واقعة حقيقية، فهكذا كان يختار رجاله. وترامت إلينا أنباء عن عبادته لآتون، وتجلي إله جديد له، كما عزفت على كثب منا أناشيده. وتفتح قلبي لكل ما يجيء منه. جذبني إليه سحره النفاث وحبي العميق له. لعلي لم أفهم مما سمعت إلا القليل، ولعلي تحيرت طويلا أمام إلهه الغامض الذي لا يتجسد في تمثال، ويعامل الناس بالحب دون العقاب، ولعلي لم أكفر بآمون، ولكني آمنت حبا في مولاي، خير البشر وأعذبهم وأرحمهم. عاش في الحب للحب، لم يصدر عنه أذى لإنسان أو حيوان، لم يلوث يده بدم، ولم يعاقب مذنبا. ولما اعتلى العرش استدعاني وقال لي: لا ألزمك بشيء تكرهه يا محو، وسيجري رزقك هنا أو هناك، فهل ترغب في إعلان إيمانك بالإله الواحد الذي لا إله غيره؟
فأجبت دون تردد: أعلن إيماني بالإله الواحد يا مولاي، وأعلن استعدادي للموت في سبيله.
فقال بهدوء: ستكون رئيسا للشرطة، ولكن لن يطالبك أحد بالتضحية بحياتك الغالية ...
كنت على استعداد كامل لمقاتلة الكهنة أنفسهم الذين ترعرعت في أحضان كلماتهم، ورضعت حبهم وتقديسهم. ومع ذلك فلم تصدر عن يدي ضربة واحدة نحو أحد مذ عملت رئيسا لشرطته عدا ضربة واحدة انطلقت من يدي بلا إذن منه. ويوم تسلمت الرياسة قال لي: ليكن سلاحك منذ اليوم زينة، أدب الناس بالحب كما علمتك، ومن لم يؤدبه الحب يؤدبه المزيد من الحب ...
وكنا نقبض على اللصوص فنسترد ما سلبوا، ونهيئ لهم عملا في المزارع، ونلقنهم رسالة الحب والسلام. أما القتلة فيرسلون إلى المناجم، وتوفر لهم أسباب الراحة والرزق، ويتلقون في أوقات الفراغ دروسا في الدين الجديد. وكثيرا ما لقينا من ذلك ضروبا من الجحود والغدر، ولكن حرارته لم تفتر أبدا، وكان يقول: سترون قريبا شجرة الأمل مثقلة بالثمار.
كان إيمانه قويا راسخا متحديا لا يتزعزع ولا يهن؛ ذلك الملك العجيب الذي شبع الهواء بالسرور في مدينة النور، وأثملت أناشيده قلوب الرجال والنساء والطير. كان يومه يمضي على غير ما عهد الملوك من آبائه وأجداده؛ فهو يتعبد في الخلوة، يخطب من شرفة قصره، ويلقي أناشيده في المعبد، ويتجول في عربته الملكية في شوارع أخت آتون، بصحبة الملكة، بلا حرس، مخالطا جموع شعبه، محطما الحواجز التقليدية بين العرش والناس، داعيا في كل مكان إلى العبادة والحب، والجميع من الوزراء حتى عمال النظافة يترنمون بنشيد الولاء للإله الواحد.
وذات صباح جاءني أحد معاوني وقال لي: ثمة همس بين الصفوة عن أنباء سوء!
باحت الأسرار بما أضمرت من فساد الموظفين ومعاناة الفلاحين وتفشي العصيان في الإمبراطورية. خرجت الحشرات من جحورها زاحفة، وجرى الغدر مع مياه النيل، وأشفق قلبي مما عسى أن يتسلل إلى مولاي من الكدر، غير أن الأحداث لم تزده إلا صلابة وإيمانا وثقة في النصر. ولم يهن تمسكه بالحب، بل لعله قوي واشتد، وكأن الظلام لم يدلهم إلا ليعده بالنور القريب. وفي تلك الأيام الكالحة تسلل مجرم من صنائع الكهنة إلى خلوته ليغتاله في غبش الظلام، وكاد ينجح لولا أن عاجلته بسهم في صدره. وانتبه مولاي إلى ما أريد به، فجعل يتفرس في وجه المجرم وهو يلفظ أنفاسه، ووجم طويلا ثم نظر نحوي قائلا في فتور: قمت بواجبك يا محو.
فهتفت منفعلا: إني فداء لمولاي.
فسألني بنفس النبرة الفاترة: أما كان في مقدورك أن تقبض عليه حيا؟
فقلت صادقا: كلا يا مولاي ...
فقال بأسى: دبر الأشرار مؤامرة لارتكاب جريمة يبغضها واهب الحياة، فحيل بينهم وبينها ووقعنا نحن في الشرك.
فقلت بحرارة: بعض الشر لا يصلحه إلا السيف!
فقال ساخرا: هكذا يؤكدون ويكررون من قبل أن يوحد مينا القطرين، فهل محقوا الشر؟!
فأخذته نشوة مباغتة فهتف: متى يرى البشر المشرق والمغرب في دفقة نور واحدة؟!
انحدرنا من سيئ إلى أسوأ، وتكشف الرجال عن أشباح خاوية، وجرفتهم رياح الخريف أوراقا صفراء جافة لا إيمان لها ولا وفاء، واعتصموا بالكذب لآخر لحظة، فقرروا التخلي عنه باسم الدفاع عن حياته. وما أدري إلا وحور محب يصدر لي أمرا بمغادرة المدينة على رأس جنودي. ولم يكن في مقدوري مناقشته، وحتى توديع مولاي لم يسمح لي به. وذهبت إلى طيبة وبي غصة ندم لم تفارقني حتى اليوم. وسرحت فيمن سرح من جنوده المخلصين، فرجعت إلى قريتي كاسف البال إلى الأبد. وترامت إلينا نتف من أنباء مولاي السجين في قصره، ثم أعلن خبر وفاته مريضا فلم يداخلني شك في اغتياله. كيف تلاشى الحلم الجميل بهذه السرعة؟! كيف تخلى عنه الإله بعد أن سكب في أذنيه صوته المقدس الواعد؟ وكيف وكيف أيتها الدنيا التي لا معنى لك؟!
وسكت وهو من الحزن في غاية، فاحترمت سكوته هنيهة، ثم سألته: ترى ما تصورك العام عنه؟
فأجاب في حيرة: إنه روح العذوبة والصفاء، ولكني لا أستطيع أن أقول عنه أكثر مما تقول الوقائع التي سردت ... - ونفرتيتي؟ - إنها الجمال والجلال.
فقلت بعد تردد: ما أكثر ما يقال عنها!
فقال بوضوح: أقول لك كرئيس للشرطة إنني لم أسجل عنها حركة سوء واحدة، رغم أنني قرأت في أعين حور محب وناخت وماي نظرات جشعة مضخمة بأخبث الشهوات، وعلى مدى علمي أنها لم تشجع أحدا على تجاوز حدوده ... - لم انفصلت عنه في رأيك؟
فأجاب في حيرة: إنه لغز لم أستطع حله إلى الآن! - يخيل إلي أنك كفرت بإله مولاك؟
فأجاب بعبوس: لم أعد أومن بإله!
ناخت
سليل أسرة عريقة، ربعة، ذو وجه أبيض مشرب بحمرة، رزين أكثر من أي إنسان، في الأربعين أو نحوها، كان وزير إخناتون، وهو يعيش اليوم في مقاطعته بإقليم دكما في وسط الدلتا. لم يشغل وظيفة في الدولة الجديدة، ولكنه يدعى من حين لآخر لاستطلاع رأيه في المشكلات الكبرى. رحب بي منوها بالعلاقات القديمة التي تربط بين أسرتينا، ثم مضى يدلي برأيه - متجاوزا الأحداث التي باتت معروفة لدي - وهو يقول: دعني أخبرك بأنني رجل غير سعيد، لم أستطع أن أضطلع بمسئوليتي كما يجب، فأفلت مني الملك، وتمزقت تحت بصري الإمبراطورية. لقد اعتزلت الحياة العامة، ولكن الهموم لم تعتزل قلبي. وكلما ألح علي الكدر ساءلت نفسي: أي رجل كان مولاي إخناتون الذي وصف اليوم بالمارق؟
كنت من رفقاء صباه مثل حور محب وبك، ورغم كل ما يمكن أن يقال عن ضعفه وأنوثته وغرابة منظره فقد نجح في حملنا على حبه، والإعجاب بقوة إدراكه ونضجه المبكر، ولكن ثمة نقطة ضعف اكتشفتها فيه قبل الآخرين، وهي أن شئون الدنيا الواقعية لم تكن تهمه، وكانت تبعث في نفسه الملالة والسقم. وكان يرمق بعين ساخرة حياة أبيه اليومية التي تكون النواة الصلبة التي ترتكز عليها تقاليد العرش المقدسة، مثل الاستيقاظ في ساعة محددة، والاستحمام، والإفطار، والصلاة، واستقبال المسئولين، وزيارة المعبد. وكان يغمغم: أي عبودية!
كان يعبث بالتقاليد عبث طفل مدلل؛ لذته في التحدي وتحطيم الآنية الثمينة، ومن ناحية أخرى كان يطمح إلى معرفة سر الكون، والسيطرة على الحياة والموت. وتضاعف إصراره على ذلك بعد وفاة أخيه الأكبر تحتمس. لقد انكسر قلبه أمام الموت، ولكنه صمم على أن يرد الضربة بلا هوادة. وكان ذا خيال وثاب، وكان خياله من القوة بحيث وقع في النهاية أسيرا له وهو لا يدري. ونحن أيضا كان لنا خيال، ولكنا كنا على وعي بأنه خيال، أما هو فكان خياله يتجسد له حقيقة واقعة؛ من أجل ذلك ظن به الجنون أو العته. كلا، لم يكن مجنونا ولا معتوها، ولكنه لم يكن طبيعيا أيضا. كان على حداثته مبعث قلق لوالديه وللكهنة، ومصدر حيرة لنا نحن أصدقاءه المقربين. يشك في آمون سيد الآلهة، ويعبد آتون، ثم يسر إلينا باهتدائه إلى الإله الواحد الذي لا إله غيره. لم أشك في صدقه، كما لم أشك في خطئه. كان صادقا؛ لأنه لم يكذب قط، ولكنه لم يسمع صوت إله، وكان المتكلم قلبه هو. وما من بأس في أن يزعم ذلك كاهن من الكهنة، أما أن يكون الزاعم وليا لعهد أمنحتب الثالث فالأمر يختلف. ولم يصمت ذلك الصوت الخفي، ولكنه راح يبدع للناس رسالة في الحب والسلام والسرور، ويضمر للآلهة والمعابد وإمبراطوريتنا الفناء، وإذا بالشاعر يصير ملكا، وإذا بالحلم يتجاهل الحقيقة ويحل محلها، فتختل الموازين وتقع المأساة. ودعانا عقب جلوسه على العرش، وعرض علينا دينه الجديد! كان من رأيي الرفض، وقلت لحور محب: قد يعدل عن غيه إذا وجد نفسه وحيدا.
فقال لي: سيجد غيرنا ممن لا خلاق لهم ولا خبرة، فيجرون البلاد إلى الخراب.
فسألته: أليس من المحتمل أن يقع ذلك بأيدينا؟
فابتسم ساخرا وقال: إنه أضعف من أن يستهين برأينا!
وهز منكبيه وتمتم: إنه يملك الكلمات ونحن نملك القوة ...
من أجل ذلك أعلنت إيماني بدينه بين يديه. واختارني وزيرا، فتلاشت مخاوفي أو كادت. وكنت ألقاه كل يوم سواء في طيبة أو في أخت آتون، فأعرض أمور الإدارة والمال والمياه والأمن، فيلوذ بالصمت تاركا الرأي والتوجيه للملكة التي أثبتت جدارة فاقت كل تصور، أما هو فلم يتحدث إلا عن إلهه ورسالته، وما يتعلق بذلك من توجيهات وقرارات. وواجهت أول تحد عندما أراد أن يعلن موقفه من الآلهة، وحذرته من العواقب، وإذا به يقول لي كالمعاتب: يا ضعيف الإيمان!
ومضى بي إلى الشرفة فأطل على الجموع المحتشدة، وكانت له قوة السحر في نفوسهم، فأعلن قراره بقوة مخيفة، وارتفع هتاف الجماهير إلى السماء، وشعرت بأنني أصبحت لا شيء، وأن ذاك البناء المتهافت يتفجر عن قوة مجهولة لا قبل لنا بها. ورغم حكمة نفرتيتي كانت تسلم له في رسالته، وتتحمس لها كأنها هي صاحبة الرسالة. والحق أن ذلك أدهشني حتى قلت لنفسي: هذه المرأة إما أن تكون شريكته الروحية أو تكون أكبر ماكرة عرفتها البشرية! وفي تقديري أنه مما أكد له النجاح أنه لم يتصد لمعارضته سواي؛ فحور محب لم يتكلم إلا عندما بلغت الأزمة ذروتها، وأما آي المستشار فقد شجعه طيلة الوقت متظاهرا بالحماس والورع والتفاني في حب الإله الجديد. ودعني أصارحك بأنني أتهم ذلك الرجل بالمكر وسوء الطوية، إنه رسم خطة ليثب إلى عرش مصر، وإليك تصوري كاملا. لقد اختير معلما لولي العهد، فوقف على نقاط ضعفه جميعا. هو الذي وجهه إلى ديانة آتون، وهو الذي بث في روحه فكرة الإله الواحد، وأنه صاحب رسالته، وهو الذي دبر زواجه من ابنته رغم علمه بعجزه، وأقنعها بالتظاهر بالإيمان الجديد؛ بذلك صار حما الملك ومستشاره المعروف في مصر بالحكيم. وزين له مصادرة الآلهة ليوقع بينه وبين الكهنة والشعب، فينتهي الصراع بعزله أو قتله إن لم يمت قبل ذلك لضعفه الطبيعي. ولم تكن تخفى عنه الأسباب التي ترشحه للعرش؛ فهو حمو الملك، وهو الحكيم، وهو أيضا طاعن في السن لا ييئس الطامعون في العرش من انتظار أجله ليحلوا محله. ولعله رسم أيضا أن يتزوج من ابنته نفرتيتي فيدعم شرعيته وتستمر هي ملكة لمصر. ورأيي هذا لا يستند إلى تصوري وحده، ولكن لما وافاني به بعض العيون، ولكن أفشل خطته ولاء الشعب للملك أولا، ثم تولية الكهنة لتوت عنخ آمون عند ذروة الأزمة، ولكني أعتقد أنه ما زال يجتر حلمه القديم.
ولم أستطع أن أبوح برأيي لأحد، ولكنني ثابرت على تقديم نصحي للملك. قلت له: لا شك أن إلهك هو الإله الحق، ولكن دع الناس إلى آلهتهم، شيد له في كل إقليم معبدا، وسيكون له النصر الأخير، ولكن جنب البلاد شر الفتن!
ولكن كان أسهل علي أن أزحزح الهرم عن موقعه عن أن أزحزح إخناتون عن قراره، وما زاد عن أن قال لي: يا ضعيف الإيمان!
وقمت بالمحاولة نفسها لإنقاذ البلاد من الفساد، والإمبراطورية من الضياع، قلت له: الدفاع عن النفس حق، ولا يتناقض مع الحب والسلام.
فقال لي بحماسه العجيب: حتى الحيثيون أنفسهم سيخشعون لسحر الحب، الحب أقوى من السيف والكبرياء!
ولما تراكمت سحب الظلام اجتمعت سرا بكاهن آمون وقائد الدفاع ماي، وقلت لهما: لا بد من الإقدام على عمل، وإلا فقدنا الجدارة والشرف.
فنظرا إلي مستطلعين، فقلت: فليكف الكهنة عن إثارة القلاقل في الداخل، وليزحف ماي بجيش الدفاع لإنقاذ الإمبراطورية.
فتساءل ماي: أزحف بلا أمر من فرعون؟
فقلت بهدوء: بلى ...
فتساءل الكاهن وكان أقوى ثلاثتنا: وبعد؟
فقلت: حينما يتم النصر لماي يطالب الملك بإطلاق حرية الأديان.
وإذا بالكاهن يقول لي: خطة غير حكيمة؛ فقد يتمرد قواد الجيش على ماي إذا أمرهم بالزحف دون أمر فرعوني ...
ثم قطب حتى احتنق الدم بوجهه وقال لي: إنك تعمل لحساب مولاك يا نخت لا لحسابنا، فلا شك أنه بلغك نجاحنا في بث دعوتنا في الأقاليم، فقررت أن تحرمنا من جنودنا الموالين لنا ...
تلقيت الطعنة في غضب وغادرتهما موقنا بأن أحدا لا يشغل بإله إلا بمصلحته الذاتية، وأن مصر ضائعة بين أوغاد، وأن تبعة خرابها تقع على الجميع ما بين موالين للملك والمعارضين له لا على إخناتون وحده، بل لعله أنقى المذنبين ضميرا وأصفاهم نية. لقد لعب به الدهاة، ورسموا له خطة ماكرة ليحققوا في رحابه جشعهم، ثم ليرثوا ملكه عقب السقوط الحتمي، ولكنه صدق كذبتهم وآمن بها، وتفجرت من إيمانه قوة لم يعمل أحد حسابها، فاجتاحتهم فترة من الزمن، وغزت القلوب بسحر عجيب، حتى ارتطمت بصخرة الواقع الحادة القاسية، فانجلت عن مأساة وخراب ودموع، ثم لاذ الانتهازيون الجشعون بقارب النجاة في آخر لحظة، تاركين ضحيتهم الأعجوبة يغرق وحده وهو لا يصدق أن إلهه المزعوم قد تخلى عنه حقا. ومزق الجميع أقنعتهم، وعلى رأسهم آي ونفرتيتي، واختلفت مصائرهم، ولكن لم ينل أحدهم جزاءه الحق، باستثناء المارق المسكين، ولدرجة ما نفرتيتي التي لم يقبل الكهنة توبتها الزائفة، أما مصر فقد تحملت أخطاء الجميع، وتعددت في جسدها الجراح ...
وصمت الوزير طويلا ثم تمتم في أسى عميق: هذه هي قصة الخداع والبراءة والحزن الأبدي ...
بنتو
كان طبيب إخناتون الخاص، وما زال يشغل نفس الوظيفة في قصر توت عنخ آمون، في الستين من عمره، نبيل المظهر، وينبض به عرق نوبي. وقد زرته في قصره الأنيق في وسط طيبة، وجدته هادئ الطبع، خافت الصوت، جم النشاط، متأنقا في ملبسه. مضى يتكلم في استسلام لتيار الذكريات قائلا: مهما قيل عن إخناتون الذي يعرف اليوم بالمارق فإن ذكراه تدفئ القلب بالحب، وتتحدى الذاكرة بعجائبها، هل حقا عاش ذلك الرجل بيننا؟ ... هل حقا كرس حياته للحب؟ وهل حقا خلف وراءه هذه العواصف من الحقد والكراهية؟ وكلما تذكرته تذكرت معه القلق الذي أثاره في قلوب القريبين منه والبعيدين منذ صباه المبكر. كانت الملكة العظمة تيى تسألني: ما سر ضعفه يا بنتو؟
شد ما حيرني ذلك السؤال! لم يكن به مرض، ولكنه كان نحيلا هزيلا شاحب اللون، لا يمكن أن يصمد لمرض أو حادث، بخلاف شقيقه تحتمس القوي الجميل، ولم يحب الألعاب الرياضية ولا الطعام الجيد. وكنت أصلي إلى تحوت إله العلم وأقول له: «تعال إلي أرشدني؛ فإني خادم في دارك.» ولم ينفع معه عصير الأعشاب المباركة برقية إيزيس، ولا تمائم تحوت كاتب رسائل الآلهة. وبلغ الخوف غايته عندما مسه المرض في الخماسين، وجر معه أخاه تحتمس فرقدا في حجرة واحدة. وقالت لي الملكة تيى: بهما إمساك، وانظر في صفرة وجهيهما ...
ففحصتهما وقلت: بالقلب حرارة، وفي البطن انتفاخ، لا بد من شراب يفرغ الأمعاء، ثم انقعوا جعة حلوة مع دقيق جاف لمدة ليلة واحدة ليأكلا منه أربعة أيام.
قبل أن تنتهي الأيام مات تحتمس القوي، ونجا الضعيف من كل سوء. ودار الصبي في جميع أنحاء القصر يبحث عن شقيقه وقلبه يتقطع من الحزن. وكلما رآني رماني بنظرة احتجاج ويقول: تركت أخي للموت!
ونظر إلى أبيه وقال معاتبا: عندما أصير فرعون سأقتل الموت!
وسألني يوما بحرارة: ألا يمكن أن يرجع تحتمس يوما واحدا؟!
فقلت له: صل للآلهة التي أنقذت روحك، أما الموت فلا رجعة منه، وكلنا سنموت. فسألني بحدة: لماذا؟
فقلت له ملاطفا: ردد الأغنية التي كنت تترنم بها مع أخيك الراحل:
أولئك الذين يتحدث الناس بكلامهم،
أين ديارهم الآن؟
كأنها لم تكن.
افرح حتى تنسى قلبك؛
فإن أوزوريس لا يسمع العويل،
ولا ينقذ الصراخ إنسانا من عالم الأموات.
وصاحبه الحزن زمنا طويلا حتى خيل إلي أنه فاق أمه في حزنه على أخيه. ومرة وأنا أتعهده بالرعاية الطبية سألني: لم هذا الجهد كله طالما أننا كلنا سنموت؟
فابتسمت وواصلت عملي، فرجع يسأل: لم تبتسم كأنك لن تموت؟
فقلت له متهربا من مطاردته: سل معلمك آي.
فقال باستهانة: إنه لا يعرف أكثر مما تعرف.
وكان نضج حديثه مع هزاله وحداثته مما يهز النفس من أعماقها. وقد تابعت مغامراته الروحية بنظر ثاقب مسربل بالإعجاب الذي لا حد له، وقلت لنفسي إن هذا الغلام ذو موهبة غامضة خارقة تستعصي على الإدراك، مثير للقلاقل، متحدية للقوى المتربصة به، فماذا يخبئ له الغيب إذا جلس يوما على عرش أجداده؟ وكان نشاطه - مع ضعفه - مما يبعث على الذهول. كان ينام قليلا، يتعبد كثيرا كأنه كاهن، ويقرأ كثيرا كأنه حكيم، ولا يمل من طرح الأسئلة والنقاش. وضاق به الملك أبوه، فقال بمرارة: أثبت أنه جدير بأي كرسي إلا كرسي العرش!
ويوما لاحظت أنه يسترق من أبيه نظرة لم أرتح لها، فقلت له: إنك تدرك كثيرا من الأشياء، ولكنك لم تدرك عظمة أبيك بعد.
فقال بعصبية: ساءني منظره وهو يلتهم الطعام.
كان ينفر من أصحاب الشهوات المسيطرة. وكنت أتصور أن سلامة الجسم هي أساس لسلامة الروح، فأثبت لي أن العكس صحيح أيضا، وأن قوة الروح قد تمد الجسم الضعيف بقوة تفوق إمكاناته. ولا أنسى قوله لي مداعبا: إنك تهتم بالجسم كأنه كل شيء بينا القوة الحقيقية تكمن في الروح، هي الخالدة أما الجسم فهو بناء مهلهل قذر سيئ الأخلاق، سرعان ما يتقوض عقب قرصة حشرة!
وهتف وكأنه نسي وجودي تماما: لا أدري ماذا أريد، ولكني مليء بالرغبة، ألا ما أحزن الليل الطويل!
وكان يقبع في الظلمة منتظرا الشروق، ثم يتلقى النور فيتألق بالفرح، حتى تلقى يوما مع دفقة النور صوت الإله الواحد، وعصف الرعب بقلب طيبة المطمئن. وقلت لنفسي: إنه ليس نسمة من نسائم الربيع، ولكنه عاصفة من عواصف الشتاء!
واستدعاني الملك والملكة، وسألتني تيى: ما معنى هذا الصوت يا بنتو؟
فقلت بحيرة: لعل آي الحكيم أقدر على الإجابة مني يا مولاتي.
فقال الملك بضجر: إنها تسألك كطبيب.
فقلت بإخلاص: لا أعرف عقلا أنضج من عقله يا مولاي.
فسألني بحدة: أهو يعبث بنا؟
فقلت بإخلاص: إنه صادق وأمين. - يبدو أنك لا تملك تفسيرا لذلك. - هذا حق يا مولاي.
فسألني مقطبا: أأنت مؤمن بسلامة عقله؟ - أجل يا مولاي. - ألا يحتمل أن يصدر صوت عن قوة شريرة؟
فقلت بصدق: العبرة بما يدعو إليه.
فهتف غاضبا: العبرة بما سيرسل علينا من زوابع.
وجاء زواجه من نفرتيتي مبشرا بآمال كثيرة، فأمل والداه كما أملنا نحن أن الزواج سيعقل من اندفاعه ويرده إلى الاتزان والرؤية العملية، ولكن الزوجة كانت كاهنة، فانطلقا في طريقهما حتى نهايته لا توقفهما قوة فوق الأرض. ومات أمنحتب الثالث وخلفه صاحب الرسالة، وشعر الجميع بدنو المعركة، وتوترت الأعصاب لأقصى حد. ودعاني الملك فيمن دعا من رجاله، وخيرني بين الإيمان بدينه وبين ممارستي لحياتي كيفما أشاء بعيدا عن بلاطه، ولم أتردد في الاختيار، فأعلنت بين يديه إيماني بالإله الواحد. لم يكن في وسعي الانفصال عنه أو الاستهانة بجاذبيته الفائقة، كما أنني أحببت إلهه واعتبرته فيما بيني وبين نفسي كبير الآلهة مع حفاظي على إيماني القديم بسائر الآلهة، خاصة تحوت إله العلم الذي أداوي المرض بتمائمه وتعاويذه. وتعاقبت الأحداث كما عرفت، ومضى الرجال يشيدون للإله الجديد مدينته، وانتقلنا إليها في جمع زاخر ونحن نردد الأناشيد، واستخف الفرح الملك فهتف ووجهه يطفح بالبشر: ها نحن ضيوفك يا إلهي في مدينتك الطاهرة التي لم تلوث بعبادة إله زائف ...
واستقبلنا عهدا سعيدا تمنينا معه الخلود على الأرض، وجعلت أقارن كل صباح بين ما يلقى علينا في المعبد وبين طقوس الآلهة القديمة وأشعار كتاب الموتى، فلم يخامرني شك في أن دفقات من نور صاف تملأ أرواحنا بخمر إلهية صافية.
وعرض لنا أول عارض من كدر بوفاة الأميرة المحبوبة ميكيتاتون، وقد توسل إلي قائلا: بنتو، أنقذ محبوبة قلبي.
ولما لفظت الجميلة أنفاسها أجهش في البكاء كما نفرتيتي وأكثر، وعاتب إلهه عتابا تجاوز حد الصبر، حتى قال مري رع الكاهن الأكبر: لا تغضب الإله بدموعك يا مولاي.
فانفجر مولولا، من الحزن أو الندم أو كليهما معا. وهتفت نفرتيتي: ما هو إلا سحر كهنة آمون!
وكانت تردد ذلك القول كلما أنجبت بنتا، وضاعت فرصة جديدة لإنجاب ولي العهد. وكان هو يشاركها الألم، ويحزن لحزنها، فسألني مرة: أليس لديك من نصيحة تجدي لإنجاب ذكر؟
فقلت له: أبذل جهدي يا مولاي.
فسألني: أتؤمن بسحر الكهنة؟
فقلت كارها: لا يجوز الاستهانة به.
فتفكر مليا ثم قال لي واجما: لينتصرن الإله الواحد، ويملأن الكون بأفراحه، ولكننا نحن البشر لن نخلو من أحزاننا الصغيرة.
لذلك كان سرعان ما يعبر جسر الحزن لينغمس في نور الحقيقة. ولما تتابعت كربات الأزمات في الداخل والخارج، أرسل إلي كاهن آمون الأكبر رسولا سريا، ذكرني بعهد طلبي العلم في معبد آمون، ثم طرح علي هذا السؤال: أيمكن الركون إليك لإنقاذ الوطن من الخراب الذي يتهدده؟
فأدركت من توي أنه يطالبني كطبيب باغتيال الملك؛ ولذلك قلت له بنبرة حاسمة: مهنتي تأبى الخيانة.
اجتمعت بمحو رئيس الشرطة، وطلبت منه مزيدا من مراقبة الطهاة، هذا والأمور تمضي من سيئ إلى أسوأ.
وسكت الطبيب بنتو وقتا ينشد شيئا من الراحة في خضم الذكريات المرهقة، فتذكرت ما سمعت من أقوال متضاربة عن حياة إخناتون الجنسية، ورجحت ألا يعرض الرجل لها، فسألته عنها مدفوعا بحب استطلاع لا يقاوم. وعند ذاك قال: كان جسمه يجمع بين خواص الذكر والأنثى، كذلك قسمات وجهه، ولكنه كان رجلا قادرا على الحب والإنجاب.
ارتعشت شفتاي بسؤال مضطرم، وترددت طويلا، ثم استجمعت شجاعتي وسألته: هل ترامى إليك ما قيل عن علاقته بأمه؟
فتجهم وجهه وأجاب: وسمعت مثلما سمعت أنت، ولكني أعتقد أنه محض افتراء! وتريث ووجهه يزداد تجهما ثم قال: المسألة أنه كان إنسانا فاق سموه أي إنسان، يبشر بمملكة إلهية لا تتوافق مع طبيعة البشر، فأشعر كل فرد بتفاهته، وتحداه باستفزاز لا قبل له به، فانهالوا عليه بالغضب البائس والحقد الحيواني ...
فسألته متشجعا بسماحته: وما رأيك في نفرتيتي؟ - ملكة عظمى بكل جدارة. - وكيف تفسر انفصالها عنه؟ - لدي تفسير واحد، هي أنها لم تصمد للضربات المنهالة فأصيبت بانهيار، فهربت بمرضها مغلوبة على أمرها.
ثم واصل حديثه قائلا: وبلغت المأساة ختامها الأسود بصدور قرار التخلي عنه، وقد استأذنت حور محب في السماح لي بالبقاء إلى جانبه بوصفي طبيبه الخاص، فأخبرني بأن الكهنة قرروا إرسال طبيب من لدنهم! ولكنه سمح لي بفحصه إذا شئت قبل الرحيل. وذهبت من فوري إلى القصر الذي لم يبق به إلا نفر من العبيد، ومجموعة للحراسة اختارها أعداؤه. وجدته في خلوته وحيدا وكان يصلي، مغردا بصوته الحنون:
إنك جميل، إنك عظيم.
بك يفرح قلب الإنسان،
وتخضر الأشجار والأعشاب،
وترفرف الطيور،
وتقفز الحملان.
خلقت ملايين الأشبال.
إنك في قلبي،
وليس هناك من يعرفك
غير ابنك إخناتون.
ولما فرغ من صلاته نظر نحوي باسما، فغضضت بصري دامع العينين. سألني: كيف تيسر لك أن تجيء يا بنتو؟
فقلت بصوت متهدج: سمح لي بأن أفحص مولاي قبل الرحيل.
فقال في هدوء: إني في خير حال يا بنتو.
فقلت بأسى: جميع الأوفياء أكرهوا على الذهاب.
فقال باسما: أعرف من ذهب باختياره ومن ذهب على رغمه.
فانحنيت حتى لثمت يده وأنا أقول: يعز علي أن تبقى وحدك.
فقال بهدوء: لست وحدي يا ضعيف الإيمان.
ثم بقوة منعشة: يتصورون أن الهزيمة حلت بي وبإلهي، ولكن إلهي لا يخون ولا يقبل الهزيمة.
وغادرته متورم العينين من البكاء وأنا على يقين من أن الطبيب المنتدب ليحل محلي سيزهق باغتياله أنبل روح حلت بجسد بشري. وغصت في وحدة لم أخرج من وحشتها حتى الساعة ...
نفرتيتي
سمح لي بدخول أخت آتون بإذن خاص من القائد حور محب. مراكز الحراسة المتقاربة تمتد بطول شاطئها على النيل. اخترقت نصف المدينة الشمالي ما بين المرسى وحتى قصر الملكة السجينة، يتقدمني جندي من جنود الحراسة. وطيلة مسيرتي تلقيت من الذكريات تيارا مفعما بالزبد واللآلئ، متلاطما بين العبر والدهشة، تحلق فوقه غربان الفناء. اختفت أرض الشوارع العملاقة تحت ركام الأتربة، ونثار أوراق الأشجار الجافة، وخليط من الأخشاب التي نزعتها العواصف من النوافذ والأبواب. البوابات الكبيرة مغلقة كالجفون المسدلة على أعين باكية، وجفت الحدائق فتلاشت خضرتها وألوانها، ولم يبق منها إلا جذوع خشنة ضامرة كالجثث المحنطة وجواسق متداعية وأسوار منهارة، يخيم فوقها صمت ثقيل مكتوم الزفرات، وفي الوسط مجموعة هائلة من الأنقاض هي ما تخلف عن معبد الإله الواحد المتهدم الذي تجاوبت في أركانه أعذب الألحان المقدسة. اخترقت الكآبة والوحشة والخوف تطل من أعينها نظرات الحقد والانتقام، ويطبعها بطابعه الموت بملامحه الرهيبة الأبدية. كان الوقت عصرا ونحن نقبل على قصر الملكة في أقصى الشمال، وقد تبدى شامخا بأبعاده، مضيئا بحديقته الغناء، حزينا بنوافذه المغلقة عدا نافذة واحدة خفق لمرآها قلبي. وكان الخريف يتوسط عمره، والفيضان محتفظا بفيض من فتوته، والماء ضاربا إلى الاحمرار الداكن، فامتلأت منه بحيرة القصر الصناعية. خفق قلبي وأنا أقترب من ختام رحلتي، وكأنني لم أقم بمغامرتي المثيرة إلا من أجل لقاء هذه السيدة الوحيدة.
ووجدتني في حجرة صغيرة أنيقة، زخرفت جدرانها بالكلمات المقدسة، في صدرها كرسي من الآبنوس يقوم على أربعة أسود من الذهب، وبين يديه يقع كرسي من الآبنوس ذو مقبضين من الذهب الخالص. وجاد الزمان بالرؤية، فرأيت السيدة العجيبة مقبلة في ثوب أبيض فضفاض، رشيقة جميلة عظيمة، لا ينحني ظهرها تحت وطأة أربعين عاما مثقلة بالمحن وسوء المآل. جلست وأشارت إلي بالجلوس، وطالعتني بعينين ساجيتين تنداح في جمالهما الملالة. بدأت بالثناء على أبي ثم سألتني بمرارة: كيف وجدت مدينة النور؟
فغضضت بصري المفتون بجمالها ولذت بالصمت، فأنشأت تقول: لقد سمعت الكثير عنه وعني، فاستمع الآن إلى صوت الحقيقة ... شببت وترعرعت مليئة بحب الحقيقة والدنيا، منتفعة بحكمة أبي آي. لم أشعر بفقد أمي في عامي الأول لما وجدته عند تي من حنان قلب كبير، فكانت لي أما لا زوجة أب، ووهبتني طفولة سعيدة. ولم تتبدل عواطفها بمولد أختي موت نجمت بفضل حكمتها، ونشأنا أختين متحابتين، وإن جنى علي تفوقي بعد ذلك ما يجني من إثارة للغيرة والحسد، وإن لم يستفحل ذلك بيننا إلا فيما بعد. وظلت تي على حنانها لا تفرق بيننا، على الأقل في الظاهر، فشكرت لها ذلك، وكافأتها عليه في حينه فاخترتها مربية للملكة، وأنزلتها بمنزلة الأميرات. وذات يوم جاءنا أبي برجل مبارك ممن يقرءون الغيب، فنظر في طالع الأختين، وقال: هاتان البنتان ستجلسان على عرش مصر.
فدهش أبي وسأله: الاثنتان؟!
فأجابه بيقين على مسمع منا: الاثنتان.
وتحيرنا طويلا بين الإيمان بالرجل وغرابة نبوءته، حتى قلت ضاحكة: قد تجلس إحدانا ثم تخلفها الأخرى.
ولم ترتح تي إلى ما يشير إليه قولي من معنى، فقالت بحزم: لننس هذه النبوءة وندع المصير للآلهة!
وصممنا على نسيانها، ولكنها كانت تلوح في أفق الخيال بين الحين والحين، حتى جاءت الحوادث ففجرتها تفجيرا. وسمعت عن إخناتون أول ما سمعت عن طريق أبي بعد أن اختير معلما له. كان ينوه في مجالسنا العائلية بعقله ونضجه المبكر. ومرة قال عنه: يا له من شخص مثير، إنه ينتقد الآلهة والكهنة، ولم يعد يؤمن إلا بآتون! وبخلاف أمي وأختي وجدت صدى لما يقول في نفسي؛ إذ كنت أعشق آتون أيضا، وأعجب بمجاله الشامل للسماء والأرض على حين تقبع الآلهة في ظلام المعابد؛ لذلك قلت ببراءة: معه الحق كل الحق يا أبي.
فأسخط قولي أمي وأختي، أما أبي فقال باسما: نحن نعدك لتكوني زوجة لا كاهنة.
لكنني خلقت لأكون كاهنة مع حبي للأمومة والمجد الدنيوي! ولما نقل إلينا أبي أول نبأ عن الإله الجديد، الواحد الذي لا إله غيره، زلزلنا بعنف، وثارت العواطف لأقصى حد، وتعرض ولي العهد لقارص الكلمات. وسألته أمي: ما رأي الملك والملكة؟
فقال آي واجما: ثمة أزمة في القصر لم يشهد لها مثيلا من قبل.
وقالت أمي بإشفاق: أخشى أن يوجه إليك لوم بوصفك معلمه.
فقال بأسى: لكنهما أدرى بابنهما، وبأنه لا ينساق وراء أحد مهما جل شأنه.
فقالت موت نجمت: إنه مجنون، وسيفقد عرشه، أليس للعرش وريث آخر؟
فقال أبي: ليس له سوى أخت كبرى عليلة ...
وفي أثناء الحوار كنت أموج بعواطف عنيفة حتى خفت أن يغمى علي. تمثل لي ولي العهد أسطورة ذات جاذبية لا تقاوم، لكنني ترددت عن اتخاذ قرار، ووقعت في العذاب. وذات مساء سمعت خفية أبي وهو يتلو وحده نشيدا من أناشيد الأمير:
إنك جميل، إنك عظيم.
بك يفرح قلب الإنسان،
وتخضر الأشجار والأعشاب،
وترفرف الطيور،
وتقفز الحملان.
فحفظته وأنا في نشوة مسكرة، ورحت أردده وقلبي يتفتح له ويمتلئ برحيقه. انجذبت إليه انجذاب الفراشة إلى النور، وتقرر مصيري بأن أكون الفراشة التي تنجذب إلى النور حتى يهلكها. وغزاني الإيمان بقوة ولطف في موكب مغرد بالأهازيج، واهبا الطمأنينة والسلام. وهمست: يا إلهي الواحد، إني مؤمنة بك، إلى الأبد.
وأظهرت نفسي لأبي وأخذت أردد النشيد، فرمقني مقطبا وهو يتساءل: تسترقين السمع؟
فتجاوزت عتابه وسألته: ما رأيك يا أبي في الصوت الذي سمعه؟
فأجاب ببرود: لا أدري.
فسألته بجرأة: أيحتمل أن يكون كاذبا؟
فصمت مليا ثم قال: إنه لا يكذب أبدا. - إذن فهو صوت حقيقي!
فبدا مترددا ومشفقا، ولكنه قال: ربما كان حلما ما سمع!
فقلت بنبرة تسليم واعتراف: أبي، إني مؤمنة بالإله الواحد!
فتغير لونه وهتف: حذار يا نفرتيتي، احتفظي بسرك في قلبك حتى أقتلعه منه!
ودعينا كما تعلم للمشاركة في حفل عيد الجلوس. وقالت لنا تي: يجب أن يراكما أنبل شباب مصر وأنتما في أجمل زينة.
غير أنني كنت متلهفة على رؤية شخص واحد؛ ذلك الذي هداني إلى نور الحقيقة. وفي البهو العظيم رأيت أفرادا قدر لي أن أخوض معهم بحر الحياة بحلوه ومره، مثل حور محب وناخت وبك وماي وغيرهم، ولكن قلبي لم ير في الواقع إلا مولاي. وأعترف لك بأن منظره صدمني صدمة غير متوقعة. تصورته تمثالا من نور، ولكني وجدته نحيلا متهافتا مخيبا للأحلام. وأفقت من هزيمتي العابرة بسرعة، تجاوزت المنظر المثير للرثاء إلى الروح الكامنة فيه، التي اختصها الإله بحبه ورسالته، وأعلنت لها فيما بيني وبين نفسي الولاء إلى الأبد. كان يجلس إلى يمين أبيه يتابع الرقص والغناء بعين فاترة. ولم تتحول عنه عيناي، ولعل كثيرين لاحظوا ذلك وفسروه بحسب أهوائهم، ثم أعادوا تفسيره على ضوء الحوادث التالية. ولن أنسى ما قالته لي موت نجمت فيما بعد وهي تعاني لدغة الغيرة: لقد حددت لك هدفا ونلته!
وتمنيت أن ينظر نحوي. وقد فعل. ألقى إلينا نظرة عابرة، فالتقت عينانا لأول مرة. وهم بأن يمضي بنظرته الملولة، ولكنه توقف فيما يشبه الدهشة. وكأنه بهر، أو تساءل عمن تكون تلك الفتاة التي تحدق فيه بنهم. وحانت مني التفاتة إلى الملكة العظمى تيى، فوجدتها تنظر نحوي كذلك، فاضطرب فؤادي أيما اضطراب، وحلقت أحلامي في آفاق بعيدة، ولكنها لم تقترب في هيمانها من الواقع الذي جاءت به الأحداث. ورجعنا إلى قصرنا وصدورنا تجيش بآمال غامضة، وموت نجمت غارقة في كآبتها. ولما خلت إلي في غرفتي قالت بانفعال: توكد ظني!
فسألتها عما تعني، فقالت: إنه مريض ومجنون!
فعرفت بالبداهة من تعني، فقلت: لقد رأيت مظهره، ولكنك لم تخبري قلبه.
وقال لنا أبي في اليوم التالي: الملكة تيى دعت نفرتيتي لمقابلتها.
وهز الخبر الأسرة هزة عنيفة، وتبادلنا نظرات متسائلة. أما أبي فقال: لا شك أن وراء ذلك شيئا من الرضا أو الإعجاب ...
وقالت تي بمباهاة: أتنبأ بأنها ستضمك إلى حاشيتها الخاصة.
وذهبت برفقة أبي. وقادوني إلى استراحة الملكة المطلة على الحديقة الداخلية. سجدت بين يديها، ثم أذنت لي بالجلوس على أريكة إلى يمين مجلسها. وجعلت تتفحصني غير عابئة بحساسيتي، ثم سألتني: اسمك نفرتيتي؟
فأجبت بإحناءة من رأسي، فقالت بلطف: اسم على مسمى!
فشعرت بالفرح يشتعل في وجنتي. - ما عمرك؟ - ستة عشر عاما. - تبدين أنضج من ذلك!
ثم فيما يشبه الدعابة: لماذا دعوتك في ظنك؟
فألهمت أن أجيب: لخبر هو فوق ما أستحق.
فابتسمت قائلة: إجابة حسنة، ماذا حصلت من العلم؟ - القراءة والكتابة والحساب والشعر والتاريخ والدين، بالإضافة إلى الثقافة المنزلية. - وما رأيك في مصر؟ - سيدة الدنيا، وملكها ملك الملوك.
وباهتمام سألت: من إلهك المفضل؟
فقلت مضطرة إلى إخفاء الحقيقة: آتون يا مولاتي. - وآمون؟ - هو مشيد الإمبراطورية، أما آتون فهو الذي يطوف بها كل يوم! - لا سلطان على ما ينبض به القلب، ولكن يجب الإقرار بأن آمون هو كبير الآلهة.
فقلت بتسليم: هو كذلك يا مولاتي. - بصراحة، هل ذاق قلبك الحب؟
فقلت دون تردد: كلا يا مولاتي. - ألم يتقدم أحد لخطبتك؟ - كثيرون، ولكن أبي لم يجد في أيهم الكفاءة.
وتفرست في وجهي مليا ثم سألتني: ما شعورك بصراحة عما يقال عن انحراف ولي العهد عن آمون؟
ولأول مرة تجمد لساني فلم أنبس، فقالت بنبرة ملكة: أجيبيني بصراحة!
فأسعفني دهائي فقلت: مهما يكن من أمر قلبه فيجب المحافظة على التقاليد المرعية بين العرش والكهنة.
فابتسمت في ارتياح وقالت: إجابة حسنة.
ثم اعتدلت فيما يشبه الدلال وسألت: حدثيني عن فتى أحلامك، كيف تودين أن يكون؟
فتريثت في ارتباك ثم تمتمت: أن تكون له قوة المحارب وروح الكاهن.
فقالت ضاحكة: إنك طموحة جدا. من تفضلين إذا خيرت؟ - أفضل صاحب الروح. - حقا؟ - أجل يا مولاتي. - لست كغيرك من البنات. - لا دنيا عندي بلا دين. - وهل دين بلا دنيا؟
فتراجعت قائلة: ولا دين بلا دنيا.
وصمتت طويلا وأنا أكتم انفعالاتي المتصاعدة، ثم سألتني: أرأيت ولي العهد؟ - في حفل عيد الجلوس يا مولاتي.
فسألت بصوت غريب: وكيف ترينه؟ - إنه يتفرد بقوة خفية تميزه عن سائر الشباب ...
ففاجأتني متسائلة: أعني كزوج؟
وخرست من هول المفاجأة حتى كررت السؤال، فقلت بصوت متهدج: لا تسعفني الكلمات يا مولاتي. - ألم يساورك حلم يوما بأن تصيري ملكة؟ - أحلامي جزء من قلبي المتواضع. - ألا يفتنك العرش؟ - إنه في سماء لا ترتفع إليها أحلامي.
فصمتت قليلا ثم قالت: اخترتك زوجة لابني ولي العهد.
فأغمضت عيني من شدة التأثر، ثم قلت عندما استرددت قدرتي: ولكنه لا يعرفني ولا يهتم بي.
فقالت باعتزاز: ولكنه يرضخ لمشيئتي عن حب راسخ ...
ثم مواصلة الحديث بجلال: يهمني في المقام الأول أن أجد له شريكة مناسبة، ولما رأيتك ألهمني حدسي بأنك الشريكة المطلوبة، وإني أومن بالحدس إيماني بالعقل.
فأخرسني التأثر الشديد عن التفوه بأي كلمة، واستمرت هي تقول: ولكن الملكة خلقت للواجب قبل كل شيء. ما رأيك في ذلك؟ - أرجو أن أكون كما تودين يا مولاتي.
فقالت بصوت نافذ: عديني بالتعاون معي دون قيد أو شرط.
فقلت وأنا لا أقدر مسئولية قولي: إني أعدك بذلك. - وأنا مطمئنة إلى شرف كلمتك.
كاد الامتنان يشلني عن التفكير، ولكن ما إن غادرت محضرها حتى شعرت بأنني أرسف في أغلالها، وبأنها قوة لا يمكن الاستهانة بها، وبأنها رقيب يرصدني من الداخل والخارج معا. وتذكرت ولي العهد، فأيقنت من أن جلاله مهما جل فإنه لن يسوغه لي كزوج، وأنني سأدفع ثمن المجد غاليا. وذهلت الأسرة للخبر وثملت به. أجل، يمكن تصور أثره في أعماق قلب موت نجمت، ويمكن تصور مشاركة تي لابنتها في عواطفها الخفية، ولكن الحظ تدفق تلك المرة كالسيل ليغمر الجميع بفيضه وإن تفاوتت الدرجات. وإن يكن وعدني بالعرش فقد رفعهم إلى مقام الأسرة المالكة؛ من أجل ذلك أقبلوا علي يسدون إلي القبلات وأطيب الدعوات. وتذكرت النبوءة وكيف تحققت بمعجزة، فهل تتحقق أيضا لموت نجمت؟ وساورني قلق. ولعل موت نجمت تذكرت ذلك أيضا فشحذت صبرها ونواياها، ولكنني صممت على طرد المخاوف. ودعاني أبي إلى حجرته، وقال لي بحنان: اليوم تسعد أمك في قبرها.
فقلت بأسى: لعلها.
فسألني باسما: كيف تشعرين؟
فأجبت بصدق: الحقيقة تفوق أي خيال. - لا يستطيع الحظ أن يهب فرصة للسعادة أقوى من ذلك.
فتساءلت: هل أضمن السعادة حقا يا أبي؟
فقال بحنان: العرش يهب المجد، أما السعادة فرهن بحكمة القلب.
فقلت بتأثر شديد: ما أصدقك يا أبي!
فقال بعطف: سأصلي من أجل نجاحك وسعادتك.
وتمت مراسيم الزواج بسرعة غير عادية، واحتفل به في القصر احتفالا يليق بعظمة الملك أمنحتب الثالث وولعه بمتع الحياة. ومضت بي تي إلى الحجرة المذهبة، وهمست في أذني بكلماتها المفيدة، وأجلستني على السرير الذهبي في ثوب شفاف يتجلى تحته جسمي العاري. ولاح في الباب ولي العهد والمشاعل في الأركان تزهر. نزع شملته عن وزرة شفافة، وأقبل نحوي في خفة يطل من عينيه الشغف العذب. أوقفني فوق السرير، وضم ساقي إلى صدره، وهمس في أذني: أنت شمس حياتي.
وكان ينعم روحي بنوره، أما جسدي فقد تقلص وانكمش أمام منظره الغريب. وراح يقول بصراحة عجيبة: أحببتك في عيد الجلوس، هرولت إلى أمي وصارحتها برغبتي في الزواج منك.
وضحك بسرور، ثم واصل حديثه: أنكرت علي رغبتي في الزواج من فتاة لا يجري في عروقها الدم الملكي، فقلت لها: «وأنت كذلك يا أمي.» فتظاهرت بالغضب، ولكنها استدعتك إلى مقابلتها، ثم زفت إلي موافقتها ...
وتذكرت ما ادعت من أنها صاحبة الفكرة وداريت ابتسامة. وكان علي أن أتكلم، وأن أقول قولا صادقا، فقلت: لقد آمنت بإلهك وبك من قبل أن أراك.
فهتف بحبور: على لسان آي، أليس كذلك؟ إنك أول من آمن يا نفرتيتي. فقلت وأنا أدفع عن نفسي اللحظة الحرجة ما استطعت: سأكون أول من يترنم بنشيد الإله في معبده. - أعدك بذلك.
ثم لثم شفتي وهمس: ولكن عليك أن تنجبي وريثا لعرش الإله!
وتلاشت مشاعري القدسية، فلم يبق محلها سوى الحياء والضيق. ومضت الحياة بنا كزوجين ومؤمنين. أما عن حياتي الروحية فقد تلقيت منه مددا لا يفنى أترع قلبي بالنور، حتى توقعت أن يكلمني الإله كما يكلمه، وأن يكرم نصف رمزه بما يكرم به نصفه الآخر. أما جسمي فكان يتجلد في كآبة وصمت. وحلت به الثمرة، فتوعكت صحتي وتغير لوني، وعبث القادم بي، عبث برشاقة جسمي الجميل. وكان مولاي يعيش في الحقيقة، ويكرس ذاته للحقيقة، ويتحدى كافة القوى من أجل الحقيقة، ولا يمقت رذيلة كما يمقت الكذب والكاذبين، فساءلت نفسي في قلق كيف أجيبه لو خطر له يوما أن يسألني «أتحبينني يا نفرتيتي؟» لن أجد الشجاعة للكذب عليه. وفضلا عن ذلك فقد تعلمت منه أن أحب الحقيقة وأن أكره الكذب. وأعددت إجابة على سؤاله المحتمل، وهي أن أقول له: سيجيء الحب في وقته، فمعذرة؛ لأنني أكره الكذب مثلك.
وهي إجابة ربما تلاشت معها أحلامي، وأقصتني عن المجد والنور، ولكنه لم يطرح ذلك السؤال قط، فظل من هذه الناحية على غموضه وظللت على قلقي. ويوما استدعتني الملكة تيى إلى استراحتها، وراحت تتفحص جسدي باسمة ثم قالت: اعتني بنفسك؛ ففي بطنك تدب حياة ستنضم عاجلا إلى تاريخ هذا الوطن.
فلمست في قولها إشارة إلى انتظار ولي العهد، فقلت: صلي من أجلي يا مولاتي.
فقالت بثقة: أمامك عمر طويل.
فقلت بإشفاق: لا حيلة لي في ذلك.
فقالت محذرة: لا تسلطي الخوف على فكرك.
فقلت كالمشتكية: لن أسأل عما ليس في طوق البشر.
فهمست: الملكة ليست كسائر البشر!
إنها تحطم وسائل دفاعي. امرأة قوية وداهية وجديرة بما يصفها أبي به من عظمة، وزوجي يحبها لدرجة مثيرة، وهي تعتبره ملكها وحدها حتى بعد زواجه. وشعرت أنني ما زلت أرسف في أغلالها. ومضت أنباء الإله الجديد تتسرب إلى الكهنة، ومضى الجو يكفهر. وفي تلك الفترة من حياتنا عرفت مدى قوة زوجي المستترة وراء ضعفه الجسدي، لمست صلابة روحه، وقوة تصميمه، وعنف شجاعته، وصموده أمام التحديات. قال لي مرة: إن أحجار الأهرام مجتمعة لا تستطيع أن تثنيني عن هدفي.
فقلت له متأثرة بحماسه: إني معك في جميع الأحوال.
فهتف: لن يخذلنا إلهنا.
حتى أبوه وأمه لم يستطيعا أن يزحزحاه عن موقفه. ودعتني تيى إلى لقاء في يوم أعتبره من أخطر أيام حياتي. سألتني: هل شغلك الحمل عن أحزان طيبة؟
فقلت لها وأنا أتوثب لمعركة: أحزان طيبة هي أحزاننا.
فتساءلت بدهاء: ألم تؤثر فيه كلماتك الطيبة؟
فقلت بجرأة: كلمات إلهه هي الأقوى.
فقالت بتوجس: ولكنك لا تبدين حزينة أو قلقة.
فهويت على أغلالي قائلة: إني مؤمنة بما يقول يا مولاتي.
بذلك التصريح أعلنت أن حبي للإله أقوى من حبي للعرش، وحررت نفسي. واتسعت عيناها النجلاوان وتساءلت: آمنت حقا بالإله الجديد؟ - نعم يا مولاتي. - لكن ذلك يعني إنكار آلهة مصر؟
فقلت بحرارة: إنه واحد لا شريك له.
فتساءلت بنبرة غاضبة: أليس من حق الآخرين أن يعبدوا آلهتهم؟ - إنه لا يتعرض للآخرين. - لكنه سيكون يوما الملك الخادم لجميع الآلهة. - نحن لا نخدم إلا إلها واحدا.
فهتفت: ألا تقدرين عواقب هذا التمرد؟
فقلت بثقة صادقة: إلهنا لن يخذلنا أبدا.
فسألتني بغيظ ومرارة: ألم تعديني بالتعاون دون قيد أو شرط؟
فقلت برقة: إنك مولاتي، ولكنه الإله فوق كل شيء.
ورجعت إلى جناحي دامعة العينين، مجهولة المصير، ولكن مطمئنة القلب. وسرعان ما صدر الأمر للأمير للقيام على رأس البعثة المشهورة لزيارة الإمبراطورية. وقيل وقتها إنه أريد بها ترويض ولي العهد وتعريفه بواقع إمبراطوريته؛ لعله يرجع عن غيه! ولكني شعرت أيضا بأن تيى شرعت تعاقبني بحرماني من زوجي في وقت أوشكت فيه على الوضع. ولما ذهب ألقي بي في خضم تجربة جديدة ما تصورتها قط. ماذا حدث في تلك الأيام؟ انطفأ نور الدنيا، ولم تعد الشمس تسكب إلا ظلاما. وغزتني وحدة مخيفة خانقة، لم يخفف منها ملازمة مربيتي تي ولا غناء الجواري ورقصهن، واحتوتني الكآبة ودثرتني بكفنها.
افتقدت مولاي في كل ركن من أركان جناحي، وفي كل ساعة من يومي. لم أتخيل أنه كان يشغل ذلك الحيز كله من حياتي، واكتشفت أنه سر حياتي وكنز سعادتي، لا كمعلم فحسب، ولكن كزوج وحبيب أيضا. وبكيت ندما على عماي وجهلي، وتلهفت على رجعته لألقي بقلبي تحت قدميه. وحدث في القصر ما سرى عنه بعض همومه؛ فقد جاءني المخاض، كما جاء الملكة تيى، في وقت واحد تقريبا، فأنجبت أنا ميريتاتون وأنجبت الملكة توءمين هما سمنخ رع وتوت عنخ آمون. ولما عرفت بأنني رزقت أنثى ركبني الهم والحزن، وتوكد لي بأن مركزي يزداد ضعفا أمام امرأة القصر القوية. وترامت إلي همسات الحريم بأن لعنة الكهنة قد حلت بي، وأنني لن أنجب ذكرا ما حييت.
وفي تلك الأثناء جاءت تادوخيبا ابنة ملك ميتاني لتلعب دورها في طيبة. وكان الملك أمنحتب الثالث قد سمع بجمالها، فطلب الزواج منها دعما لأواصر الصداقة بينه وبين ميتاني. وكانت تيى تدرك بواعث زوجها الحقيقية، ولكنها كانت دائما تسلط عقل الملكة العظمى على عواطف زوجها، وتهيمن بقوة خارقة على الغيرة مكرسة جل وقتها للحكم. وجاءت تادوخيبا تشق طريق طيبة في موكب فخم تتبعها ثلاثمائة جارية. تسليت بسماع الأنباء وأنا غارقة في وحدتي وأحزاني، وحدثتني تي عن موكب الأميرة الصغيرة وجمالها، وختمت حديثها بقولها: ولكن لا تعلو على شمسنا شمس في الوجود!
وذاع في جنبات القصر أن الملك العجوز الذي أخذ المرض يكدره قد هام بالعروس الجديدة التي في عمر أحفاده، وأنه غرق في بحر العسل، ولكن باله لم يصف طويلا؛ إذ جاءت التقارير عن رحلة ولي العهد لتعصف بأمنه وسعادته. ودعيت للاجتماع بالملك والملكة، فهالني أول ما هالني ما حل بالملك من ضعف نتيجة لإفراطه في الحب واللهو. رغم ذلك بدا غاضبا شرسا، وجعل يهتف: يا له من فتى طائش.
فقالت تيى: يمكن أن نسترد هيبتنا بعرض لجيش الدفاع في أنحاء الإمبراطورية!
فقال لها ساخرا: لقد بدد الأحمق مدخره الموروث من الإجلال، ولن يسترده مهما فعلنا.
فتساءلت بعد تردد: ألا يجوز أن يأسرهم بلطف أخلاقه؟
فهتف بي: ما أنت إلا حمقاء مثله.
وقالت لي المرأة الداهية: كان بوسعك أن تعقليه!
فقلت لها وأنا أداري انفعالي: هيهات أن أقدر على ما تعجزين عنه يا مولاتي!
فقالت متمادية في تحديها لي: ولكنك تشجعينه وأنت راضية!
فلوح أمنحتب الثالث بيده مهددا وقال: سأخيره حال عودته بين الطاعة وبين الحرمان من ولاية العهد!
ورجعت إلى أحزاني مشفية على اليأس، ولكن تي أيقظتني في صباح اليوم التالي، ثم همست في أذني: مات الملك يا مولاتي.
وثقل قلبي بالحزن، وجعلت أتساءل: ترى هل نفذ الملك وعيده قبل وفاته؟ وهل يمكن أن تضحي تيى بابنها المعبود؟! وفي الفترة التي حمل فيها الجثمان إلى دار التحنيط استدعتني الملكة، وقالت لي وهي ترمقني من خلال عينيها الحمراوين من أثر البكاء: اعلمي أن الكهنة اقترحوا علي المناداة بسمنخ رع أو توت عنخ آمون ملكا على أن أتولى الوصاية على العرش.
لم أشك في تلك اللحظة في أنها أنزلت بي عقابها بكل ثقله وعنفه، فقلت مستسلمة لقدري: قرارك دائما يصدر عن حكمة، وإني به راضية!
فتساءلت بقسوة: أتنطقين عن صدق؟
فأجبت بهدوء اليأس: وماذا أملك سوى ذلك؟
فقالت بحدة: غلب الحب الحكمة، فرفضت الاقتراح!
فتنفست بعد غرق، وأعياني الكلام، فسألتني ساخرة: سعيدة؟
فقلت بأمانة: نعم يا مولاتي؛ فإني أمقت الكذب! - هل تعدينني بالدفاع عن العقل والتقاليد؟
فقلت وأنا أتمزق: لا أستطيع يا مولاتي!
فنفخت مغيظة محنقة، وهتفت: إنك تستحقين العقاب، ولكنك جديرة بالإعجاب أيضا، فلتواجها مصيركما بحكمتكما، ولتكن مشيئة الآلهة!
وصرفتني مكفهرة الوجه، فعدت إلى جناحي سعيدة رغم الحداد، وانهلت بالقبل على وجه ميريتاتون الصغير. وما لبث حبيبي أن رجع من رحلته بقامته الطويلة النحيلة وأنسه المبدد للظلمات، فهرعت إليه وعانقته بكل قوة حبي، وتفرس في وجهي وقتا ثم قال بطمأنينة: أخيرا جاء الحب يا نفرتيتي!
فأذهلني قوله وعزاني، وقلت متلعثمة: إني أحبك من قبل أن تراك عيناي.
فقال باسما: ولكنك لم تحبيني كزوج إلا هذه المرة!
فأذهلتني قدرته على قراءة القلوب فلم أنبس. ومثل أمام جثة أبيه قبل الدفن، ورجع إلي بأثر البكاء في عينيه، ثم قال كالمعتذر: الموت يهزني حقا، ثم إنني لم أحبه كما يجب!
وجلسنا على العرش في جو مليء بالتربص والتحدي، وسرعان ما تجلت قوة حبيبي الكامنة كأعظم ما تكون القوة. وبدأ بعرض دينه على رجاله، فأعلنوا إيمانهم به. ولم أشك أنا في صدقهم قياسا على نفسي، ولكن الأحداث أثبتت أن أكثرهم لم يكونوا صادقين، أو أن إيمانهم لم يبلغ درجة التضحية بالنفس، باستثناء مري رع الكاهن الأكبر. ولا أشك اليوم في أن بصيرته الصافية لم تخدع بهم، وأنها نفذت إلى أغوار قلوبهم، ولكنه كان يؤمن دائما بأن الحب كفيل بهداية الجميع في النهاية، وأنهم سيعبرون مرحلة الإيمان السطحي إلى الإيمان الحقيقي عندما يأزف الوقت، وكما فعلت أنا في علاقتي الزوجية به، بل أقول أكثر من ذلك بأن نفرا منهم اقتنعوا بعدم أهليته للعرش، فحلموا بأن يخلفوه في ذروة الأزمة، منهم حور محب، بل منهم أبي آي نفسه. وليس الحدس مرجعي الوحيد في تصوري هذا، ولكني استخرجته بفطنة من بعض المواقف، أو فيما عرض من حوار مثير في أيام الهزيمة؛ لذلك أراحني جدا اختيار الكهنة لتوت عنخ آمون دونهم، وإن كنت أشك في أنهم يئسوا حقا من تحقيق أحلامهم بطريقة أو بأخرى. على أي حال بدأ حكمنا في ذلك الجو المتوتر، ولكننا كنا سعداء رغم كل شيء، وأخذت ميريتاتون تحبو على حين تكونت ثمرة جديدة في بطني نتيجة للحب الكامل هذه المرة. ولم يعرف امرأة غيري رغم أنه ورث حريم أبيه كما تقضي التقاليد، وفيه الميتانية الجميلة تادوخيبا.
وزارتنا الملكة الوالدة تيى، فتوقعت متاعب من نوع ما. وصح ظني، فقالت لابنها على مسمع مني: أيها الملك، إنك تهمل الحريم ...
فقال زوجي ضاحكا: إني موحد في الحب كما في الدين!
فقالت بجدية: ولكنك مطالب بالعدل. ولا تنس تادوخيبا ابنة صديقنا توشراتا؛ فهي تستحق الرعاية إكراما لأبيها ...
ونظرت نحوي فزاغ عنها بصري وأنا في غاية الضيق، فقالت بدهاء: نفرتيتي تثبت كل يوم أنها جديرة بالعرش؛ فلعلها توافقني على رأيي ...
فواظبت على صمتي كاظمة غيظي، على حين راحت تتحدث عن واجبات الملكة. ولم أستطع أن أقهر رغبتي في زيارة الحريم؛ في الظاهر للتعارف، وفي الحقيقة لرؤية الأميرة الجميلة. ووجدتها جميلة حقا، ولكن ثقتي بنفسي لم تتزعزع، وتبادلنا كلمتين للمجاملة، وافترقنا عدوتين سافرتين. وفي اليوم التالي جالست زوجي في جوسق بالحديقة؛ وإذا بي أسأله: ماذا تنوي بالنسبة للحريم؟
فأجابني ببساطة: لا رغبة لي فيه!
فقلت باحتجاج: ولكن الملكة الوالدة لا تكترث للرغبات!
فقال بغموض: إنها مولعة بالتقاليد!
فقلت بوضوح: أما أنت فإنك عدو التقاليد الأول.
فضحك بسرور وقال: صدقت يا حبيبتي!
وأظن أنه في ذلك الوقت تمت المقابلة المثيرة بيني وبين كاهن آمون الأكبر، تمت بناء على طلبه وبوساطة أبي. وقال لي: مولاتي، لعلك تعلمين بما جئت من أجله؟
فقلت له دون مواربة: إني مصغية إليك أيها الكاهن الأكبر.
فقال برجاء: ليعبد الملك ما يشاء من الآلهة، ولكن لجميع الآلهة، وعلى رأسها آمون، حق في الرعاية.
فقلت: إننا لا نتعرض بسوء لأي إله.
فقال برقة: إنني أطمح إلى دفاع الملكة عنا عند الضرورة!
فقلت بصدق: لا أستطيع أن أعد إلا بما يسعني الوفاء به.
فقال بأسى: كان أبوك واحدا منا، وبيني وبينه صداقة لا تنفصم عراها.
فقلت: يسرني أن أسمع ذلك.
وذهب الرجل ولا شك عندي في أنه أضمر لي عداوة ثابتة. وكرس الملك حياته كلها لرسالته، داعيا للحب بالحب، نافيا العنف والقهر والعقاب، مخففا الضرائب عن الفقراء، حتى آمن الجميع بأن عهدا جديدا من الخير يحل بأرض مصر. وجاءني المخاض فولدت ابنتي الثانية سيكيتاتون، فخاب رجائي للمرة الثانية في إنجاب ولي للعهد. وكثر الحديث عن سحر الكهنة، ولكن زوجي أحب المولودة من أول نظرة، وقال لي مواسيا: سيجيء ولي العهد في حينه لا قبل ذلك.
وكمل تشييد معبد جديد لإلهنا الواحد في طيبة، وذهبنا في موكب لافتتاحه، وإذا بالكهنة يجمعون أذنابا لهم، فتظاهروا في طريق الملك وهتفوا لآمون. واستاء القصر لذاك التحدي السافر، وسهر الملك في الشرفة مغتما على غير العادة، وراح يخاطب طيبة قائلا: طيبة، يا مدينة الشر والأشرار، يا مثوى الإله الكاذب والكهنة الفاسقين، لا أريدك بعد اليوم يا طيبة !
وأمره الإله ببناء مدينة جديدة له، ونفذ الأمر، فرحل بك على رأس ثمانين ألفا من المهندسين والعمال لتشييد مدينة الإله الواحد، وعشنا في أثناء ذلك هانئين بسعادتنا الشخصية يتربص بنا جو عدائي شديد التوتر. وأنجبت أنحس ياتون ونفر آتون مسلمة أمري لإلهي خالق الإناث والذكور. وفي الوقت المناسب انتقلنا إلى المدينة الجديدة مصطحبين معنا سمنخ رع وتوت عنخ آمون، أما الملكة تيى فأصرت على البقاء في طيبة على كثب من كهنة آمون كي لا يقطع آخر خيط بين العرش والمعابد.
ولما وجدتني في مدينة النور أخت آتون المتجلية في وحدة هندسية متناسقة استخفني السرور، فهتفت في نشوة وبراءة: ما أجمل الجمال! ما أعذب روحك يا إلهي!
وافتتحت المدينة بالصلاة في المعبد، وشدوت بنشيد الإله بصوت لم تسمع المعابد أعذب منه، ثم ألقى الملك موعظته الأولى الشاملة، ورسم مري رع كاهنا أكبر. وجرى نهر الحياة حاملا إلينا بركات السعادة والنصر، حتى رجع إلي يوما من خلوته يلوح في وجهه الجد والتصميم، وقال لي: أمرني إلهي بأن يعبد وحده في البلاد!
وفي الحال أدركت خطورة ما ينطوي عليه ذلك الأمر، فتساءلت: والآلهة الأخرى؟
فقال بثبات وعيناه تومضان: سأصدر أمري بإغلاق معابدها ومصادرة أوقافها.
وران علي صمت حتى تساءل: لا تبدين سعيدة يا نفرتيتي؟
فقلت بعجلة: إنك تتحدى كهنة البلاد أجمعين.
فقال ببساطة وثقة: إني على ذلك لقادر.
فقلت بعد تردد: ألا يسوقك ذلك لاستعمال العنف وأنت رجل الحب والسلام؟ - لن ألجأ إلى العنف ما حييت! - وإذا تصدوا لأمرك بالمقاومة؟ - سأوزع الأوقاف على الفقراء، ولن أتعرض لمتمرد بسوء قانعا بدعوة شعبي إلى عبادة الإله الواحد وهجر معابد الشرك.
فانكشف عني الغم، وقبلته وأنا أقول: لن يتخلى عنك إلهك.
وصدر الأمر، وحدث ما لم أتوقعه، فنفذ بهدوء شامل، بفضل الإله، وبقوة العرش المهيمنة على النفوس، وازددنا ثقة بغير حدود. وفي العصاري كنا ننطلق في عربتنا الملكية بلا حرس نجوب شوارع أخت آتون الواسعة، تحف بنا الجماهير المتحمسة والنخيل والصفصاف وأشجار البلخ، محطمين حواجز الوهم بين العرش والناس، نكاد نعرف الناس جميعا بملامحهم وحرفهم والبعض بأسمائهم، وحل الحب حقا محل الخوف القديم، وتغنى الجميع بأعذب الألحان القدسية. وهمس أبي في أذني مرة: أخشى أن تبددوا هيبة الملك.
فقلت له وأنا أضحك: نحن نعيش في الحقيقة يا أبي ...
وغزونا البلاد برحلاتنا المقدسة داعين لعبادة الواحد الأحد، وأذهلنا الخصوم والأصدقاء بانتقالنا الدائم من نصر إلى نصر، ولم نكترث لما أفضى به إلينا محو رئيس الشرطة من أنباء عن نشاط الكهنة السري ومحاولتهم الدائبة لتأليب الناس علينا. ولم يعد سلوك مولاي يدهش أحدا لانغماسه الكلي في عالمه المقدس، أما أنا فأدهشت الكثيرين حتى سلموا بأنني لغز لا يحل؛ إذ كيف أهيم مثله في عالمه القدسي رغم وعيي الكامل بواقع الشئون الإدارية والمالية للبلاد؟! فلعلهم لم يصدقوا أنني كنت صنوه في الإيمان والحماس للرسالة، وكنت أشاركه الحياة في الحقيقة، وأصدق كل كلمة تصدر عن لسانه الصادق الذي لم يكذب قط. وقال لي ونحن ننتشي بذروة الفوز: عندما تتطهر الأنفس من أدرانها ستحظى الآذان جميعا بسماع الصوت الإلهي، ويعيشون في الحقيقة!
ذلك كان حلمه؛ أن يعيش الناس أجمعون في الحقيقة.
ورجعنا من رحلاتنا الموفقة، فوجدنا ميكيتاتون طريحة الفراش تطالعنا بوجه آخر لم نره ولم نعرفه. وجثا إخناتون إلى جانب فراشها وراح يصلي، وانتحيت بالطبيب بنتو من أقصى الحجرة، وقلت له: البنت تموت يا بنتو.
فأجابني بأسى: قد بذلت ما في وسعي!
فقلت في حنق وقهر: إنهم يريدون بسحرهم أن يحرموه من أحب الكائنات إلى قلبه ...
وسمعته يهمس بحرارة مخاطبا إلهه: لا تفجعني فيها يا إلهي، إني أحبها ولا أطيق الحياة بدونها ... إنها أنضج من عمرها، وستكرس حياتها لخدمتك ...
لكن روحها مضت تتسرب رويدا من قبضة حبنا حتى تركتنا متسامية للنجوم. وانكببنا عليها نبكي ونولول مستسلمين لطغيان الحزن. وجعل يخاطب إلهه: لماذا يا إلهي؟ لماذا تمتحن إيماني بشدة لا داعي لها؟ لماذا تصارحني بقسوة بأنني ما زلت بعيدا عن معرفتك، لماذا تعاملني بعنف وأنت الرحمة، وبجفاء وأنت الحبيب، وبغضب وأنا المطيع ، وبغموض وأنت النور، لماذا إذن كسوتها بهذا الجمال ومنحتها هذا الذكاء؟ ولماذا جعلتنا نحبها كل الحب ونعدها لخدمتك في معبدك؟
وانتشلتنا من حزننا أحزان جديدة شملت داخل البلاد وخارجها مما علمتها بالتفصيل كما ذكرت لي. ولعل أتعس الناس هم الذين يتداوون من حزنهم بحزن أشد. وقابلنا الوزير ناخت، وعرض علينا الصورة بحذافيرها. ولا أنكر أن عزيمتي اجتاحتها الكآبة وخامرني القلق، أما مولاي فقد صمد أمام العاصفة كأنه الهرم الأكبر، وقال بثقة لا حد لها: لن يخذلني إلهي، ولن أحيد عن الحب قيد ذرة رمل.
وعدتني قوته الخارقة فانتعشت روحي قاهرة جميع الهواجس والوساوس، وندمت على ضعفي العابر. ولما ساءت الحال أكثر جاءتنا الملكة الوالدة تيى، واجتمعت بنا بعد أن استقبلت رجالنا في قصرها بجنوب أخت آتون، وبدأت حديثها قائلة: السماء مليئة بالغيوم.
ونقلت بيننا عينيها اللتين أحاط بهما الكبر وقالت: أخذت العهد من رجالك بالوفاء لك في جميع الظروف والأحوال.
فسألتها: ترى هل داخلك الشك فيهم؟
فقالت لي بعتاب: المحن تطالبنا بالتماس اليقين ...
فقال إخناتون: إلهي لا يبالي بالمحن!
فقالت بحدة: بل عما قليل ستنفجر الفتن.
فقال بثقة: لن يتخلى عني إلهي أبدا. - لا أملك الحق في التحدث باسم الآلهة؛ إنهم أكبر من ذلك، وإني أصغر من ذلك، ولكني أعرف ما يجري في دنيا الناس.
فقال بأسى: أمي، إنك غير مؤمنة ... - لا تتحدث عما بيني وبين الغيب، حدثني كملك وأصغ إلي كملكة، أقول لك تحرك قبل فوات الأوان، لديك جيش الحدود بقيادة ماي فمره بالزحف على الإمبراطورية، ولديك قوات الحرس والشرطة فمرها بضرب الفساد والمفسدين، أسرع قبل أن يتهاوى عرشك أنقاضا ...
فقال بحدة: لن آمر بسفك نقطة دماء واحدة.
فقالت في أسى عميق: لا تجعلني أندم على تمسكي لك بالعرش.
فهتف: لا يهمني العرش إلا باعتباره الوسيلة لخدمة الإله!
فنظرت إلي تيى وقالت: تكلمي أيتها الملكة؛ فلعلي لم أخترك إلا من أجل هذه الساعة ...
فقلت بحماس لا يقل عن حماس مولاي: لن يخذلنا إلهنا يا أماه.
فاكفهر وجهها المتغضن، وقالت بغضب: استحكم الجنون وانتصر القدر.
وغادرت تيى أخت آتون حزينة مريضة، ولم يمتد بها العمر في طيبة إلا أياما ثم فاضت روحها الكسيرة. ولم تمض أيام حتى طلب آي وناخت وحور محب مقابلة الملك، فاستقبلناهم في الحال. ولما نظر إخناتون في وجوههم قال باسما: لم تجيئوا لخير.
فقال آي: جئنا يا مولاي مدفوعين بولائنا للعرش والوطن والإمبراطورية!
تساءل إخناتون: وماذا عن إيمانكم بخالق كل شيء؟
فقال آي: ما زلنا نؤمن به، ولكننا مسئولون عن دنيانا يا مولاي ...
فقال إخناتون: لا قيمة لهذه المسئولية إذا لم تنبع من ذلك الإيمان ...
وعند ذاك قال ناخت: العدو يتوغل في الإمبراطورية، والولايات أعلنت تمردها في البلاد، ونحن في الواقع محصورون في أخت آتون ...
فقال الملك بإصرار: لن يتخلى عني إلهي؛ وبالتالي لن أتخلى عن رسالته!
وهنا قال حور محب: سوف تفرض الحرب الأهلية نفسها علينا!
فقال إخناتون: لن تقوم حرب أهلية.
فتساءل حور محب: هل نترك حتى نذبح كالأغنام؟
فقال الملك: سألقى الجيش المهاجم وحدي بلا سلاح.
فقال حور محب بحزم: سيقتلونك ثم يقتلوننا، وطالما أنك مستمسك بديانتك فتنح عن العرش وتفرغ لها ...
فقال بوضوح: لن أتنحى عن عرش الإله؛ فهي الخيانة!
ثم نظر في وجوههم وقال: إني أعفيكم من الولاء لي.
فقال حور محب: سنترك لجلالتكم مهلة للتدبر.
وذهبوا مخلفين وراءهم إنذارا نهائيا. وما كنت أتصور أن يلقى فرعون مثل هذا الهوان، وتساءلت في حيرة بالغة: حتى متى يضن علينا إلهنا بالنصر؟ وعجبت لإيمان حبيبي الراسخ، واقتنعت بأنني ما زلت دونه بمراحل بخلاف ما كنت أعتقد.
وجاء حور محب لمقابلتي على انفراد، وقال لي: افعلي شيئا، افعلي ما بوسعك، سيقتل حتما إذا أصر على موقفه، بل قد يقتل بيد أحد رجاله! عليك أن تفعلي شيئا قبل فوات الفرصة ...
وتخايل لعيني شبح الموت والهزيمة، تسلل وهن إلى إرادتي، وشيء من الشك إلى عقيدتي، وتساءلت في حيرة معذبة: كيف أنقذ حبيبي من الموت؟! وخطر لي أنني إذا هجرته فلعل ثقته بنفسه تتزعزع فيذعن لمشيئة رجاله ، ويتنحى عن العرش. أجل سيؤمن بأنني خنته كالآخرين، ولكنني لم أكن أملك وسيلة أخرى. هكذا أقدمت على هجر حبيبي وقصري، فلذت بقصري الخاص في شمال أخت آتون باكية العينين، دامية القلب. وزارتني أختي موت نجمت، وأخبرتني بأن الملك مصر على عناده، وأنهم وجدوا الحل في إخلاء المدينة وإعلان ولائهم للفرعون الجديد؛ وبذلك تنعدم دواعي الحرب الأهلية، ثم سألتني بخبث: متى ترحلين إلى طيبة؟
وكنت أقرأ أفكارها بوضوح، فقلت بخشونة: لقد تحققت نبوءة، وآن للنبوءة الأخرى أن تتحقق، فاذهبي بسلام، أما أنا فسأبقى إلى جانب زوجي وإلهي ...
وغمرتني أيام مثقلة بالتعاسة اقتلعت من قلبي جميع ذكريات السعادة الماضية، فكأنني لم أذق للسعادة طعما على مدى عمري. قبعت في قوقعة الشعور بالإثم، أرقب من نافذتي مدينة النور وأهلها يبادرون إلى هجرها قبل أن تحيق بهم اللعنة. ترامى إلي هديرهم وبكاؤهم، وصراخ أطفالهم، ونباح كلابهم، ورأيت تياراتهم لا تنقطع ماضية في طوابير، حاملة ما خف من متاعهم، مندفعين نحو النيل أو الشمال أو الجنوب، وأغلقت النوافذ والأبواب، تابعتهم نظراتي الحائرة حتى آخر حي، ثم رأيت الوحشة تحل محلهم في المساكن والحدائق والشوارع، وتطوق الأشجار، ورأيت الفناء يحلق في الجو مرسلا نذره الساخرة، فهتفت من قلبي الجريح: أخت آتون ... يا مدينة النور ... يا مدينة الوحدة القاتلة ... قاسمينا الحظ والمصير ... أين التراتيل والألحان ... أين قبلات النصر والحب ... أين أنت يا إلهي الواحد ... لم تخليت عن المخلصين؟!
خلت المدينة، وأخذت تلفظ أنفاسها ساعة بعد أخرى. لم يبق من أهلها إلا سجينان، حبيبي وأنا، ونفر من حرس الأعداء. ترى فيم يفكر، وكيف يراني، وإلام آل إيمانه؟ وقررت أن أذهب إليه لنتكاشف ونصفي الحساب، ولكني منعت من مغادرة القصر، وحيل بيني وبين مراسلته، فأدركت أنه لم يبق لي إلا انتظار الموت في السجن، وكذلك حبيبي ومولاي. وسعيت إلى إرسال رسائل بمطالبي البسيطة والمشروعة إلى الملك الجديد أو أبي آي أو القائد حور محب، ولكن رئيس الحراس قال لي بحزم وخشونة: إنك ممنوعة من أي اتصال بالخارج.
فتصبرت على أيام الوحدة والحزن بلا أمل، وغفلت عن معالم الزمن غارقة في تأملات حزينة وصلوات متواصلة، حتى استرددت إيماني خالصا بإلهي رغم كل شيء، بل وآمنت بأن النصر النهائي سيكون له وإن طال الانتظار. وكبر علي أن أتصور أن حبيبي الذي عرفته أكثر من أي إنسان يمكن أن ييئس أو ينهزم أو يفقد ثقته في إلهه الذي خصه بمناجاته دون الناس جميعا. لقد فقد العرش والأتباع والمجد الدنيوي، ولكنه ظل ولا شك هائما في الحقيقة مطلعا على الأبدية، سعيدا بين يدي إلهه لا يجد وحدة ولا وحشة، منغمسا في الأنس والرضا والحب.
ولذلك فعندما جاءني رئيس الحرس وقال بصوته الجاف: أذن لي أن أبلغك بأن الملك المارق قد فارق الحياة بعد مرض طويل، وأن بعثة ملكية قامت بتحنيطه ودفنه تبعا للمراسم الفرعونية.
لم أصدق كلمة مما قيل. حبيبي لم يمرض مرضا أفضى به إلى الموت. لعلهم اغتالوه ليؤمنوا نصرهم الزائف، ففارق الدنيا المارقة ليستقر في قلب الخلود، وسوف ألحق به ذات يوم ليطلع على براءتي، ويمنحني عفوه، ويجلسني إلى جانبه على عرش الحقيقة. •••
وتلاشى الصوت العذب بعد الجهد، ولبثت مولاتي صامتة حزينة جليلة تتحدى المحن. ودعتها بكل إكبار، وانصرفت على رغمي مفعم القلب بأريج الجمال الفاتن والذكريات الآسرة. •••
ولما رجعت إلى سايس استقبلني أبي بشوق، وراح يسألني عن رحلتي وأجيبه، وامتد الحوار بيننا أياما وتشعب، وقلت له كل شيء تقريبا، ولكني أخفيت عنه أمرين.
ولعي المتزايد بالأناشيد.
وحبي العميق لتلك السيدة الجميلة.
Page inconnue