وتناولت الحقيبة وقلت: «الرأي أن أتتبع أنابيب الماء التي مدها القوم من فجرة النبع إلى الضيعة.» وتوكلت على الله واستأنفت السير - أعني الصعود - وكنت ربما احتجت في بعض الطريق أن أفرق سيقان النبت لأرى إلى أين تجري هذه الأرادب، حتى لا أضل، وإذا بي في بعض هذه المرات أسمع صوتا يصرخ: «أوه.»
فصحت مستغربا: «إيه؟ من؟»
فقال الصوت - وكان ناعما رخصا: «أنا.»
فقلت: «أنت؟ مفهوم.»
وتذكرت صاحبنا أبا حية النميري وسيفه الخشبي الذي كان يسميه «لعاب المنية» وحكايته مع الكلب، فقلت مقتبسا - وما خير أن أقرأ الأدب القديم إذا لم أقتبس منه: «اخرجي بالعفو عنك قبل أن أدخل بالعقوبة عليك.»
فسمعت رطانة سريعة لم أفهم منها سوى: «دخيلك.»
ثم برزت فتاة غضة بضة هيفاء غيداء رطبة حلوة، فقلت: «يا صباح الخير، يا صباح الخير.»
وتركت الحقيبة تسقط على الأرض، وأعنتها - أعني الفتاة لا الحقيبة - على الخروج من ألفاف الشجر الذي توشجت أغيصانه، والتبس بعضها ببعض - من غير أن تتمزق ثيابها.
وكانت - كما قلت - غضة بضة هيفاء غيداء، رطبة حلوة، وليس هذا وصفا، وإنما هو كلام ينبئ عن قوة الشعور، وكانت صغيرة السن - لا شك في ذلك - وإن كان جسمها يوهم أنها شارفت العشرين، فسألتها وأنا أجلسها أمامي: «ماذا تراها تصنع هنا في هذه البكرة المطلولة؟»
فقالت بسذاجة محببة: «مختبئة ... فارة.»
Page inconnue